قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: مقاربة في عوالم شعر الشاعر علي الأمارة

حيدر عبدالرضاالعلاقة المونتاجية في وظيفة الأنموذج الشعري

الفصل الثاني ـ المبحث (5)


توطئة: يتضح ونحن نعاين تجربة أعمال الشاعر علي الأمارة، إلى أن مجالات وظائف قصيدته تتشارك وتتنافل مع مجالات خاصة من آليات وأدوات وتقانات سينمائية جاذبة الفعل القرائي نحو خصائص متميزة من نوعية مؤولات ذات غايات موضوعية دقيقة، على العكس مما نجده في حدود وتيرة المنجز الشعري التقليدي لدى الشعراء . فالشاعر كان أكثر تعضيدا في مسار اشتغالات دلالاته المتنية صعودا بها إلى ذلك الحضور الشعري المتمركز في حيز من تقانة (مونتاج العلاقة الشعرية) المبثوثة على هيئة مقصديات إيحائية لافتة في سياق اللقطة الشعرية المحفوفة بأجلى سمات الصنعة الشعرية المؤثرة .

ـ الحساسية الشعرية ومنظور الانعطافة اللقطاتية

أن عاملية الطبيعة الشعرية في مكونات قصيدة الشاعر، دائما هي ما تتشكل وتتلون وتختلج وفقا إلى ما تثيره علاقات الشكل الوظيفي والموضوعي في وظيفة النص، لذا وجدنا في نموذج قصيدة (مدينة .. بلا أمكنة) تضج بمحمولات الشكل الحواري ـ المونتاجي ـ اللقطاتي، استثمارا فريدا نحو خلق دوال صورية مدعومة بظاهر (الصيغة / الملمح / المسكوت عنه) فالأشياء في علاقات هذه اللقطات الشعرية، تعد بمثابة الطاقة الكامنة في الوعي الإمكاني، وما يستتبع هذا الوعي من التأثير في مجموعة الوظائف المونتاجية، التي ينظر من خلالها إلى الدلالة المضمرة في النص، على أنها الصورة المتعددة في العلاقة الواحدة من التكوين الموضوعي في محققات النص النوعية:

ـ ألو

ـ أهلا

ـ ألا نلتقي .. ؟

ـ أنا رجل بيتوتي

من البيت إلى النص

ومن النص إلى البيت

ـ ولكن بحق الصداقة ..

ـ أين نلتقي .. ؟ / ص6  قصيدة: مدينة .. بلا أمكنة

أن حوارية المقاطع المونتاجية، تتوفر على مساحة خاصة من الأسباب العلائقية المتعينة في حضور النص ـ امتدادا لها نحو الوظيفة القولية الممسرحة ضمن تواصلات خاصة مع الحال الفعلي للسارد الشعري، وبهذا المعنى تبدو وحدة الانتاج في القصيدة، وكأنها الظاهرة المخصوصة من الشاعر وإلى الشاعر نفسه، لكنها على صعيد اللقطة المنظورة تبدو لنا عبارة عن تشكلات في ظل شعرية مشهدية ضاغطة بإتجاه التجاوز والتخطي الذاتي، وهذا ما وجدناه في أحوال النص: (أنا ـ رجل ـ بيتوتي ـ البيت ـ النص) وبذلك يمكننا القول أن فاعلية الصفة الحوارية التخاطبية في مشهد اللقطة، لا يتوقف عند حدود الملفوظ فحسب، بل أنها حوارية تداخل نعاين من خلالها مواقع (الذات ـ الموضوع) اقترانا بذلك الانفتاح الوظيفي بأبعاد الذات الساردة:

نار جيل ونار أجيال

نتنفس الأحلام والترانيم

نسحب هواء المدينة النقي

دخانا

لكن الماء ..

ليس حميما ... دائما ... !

لا شك أن الانعطافة الدوالية الأخيرة، تظهر لنا مدى فعالية القطع اللقطاتي، المتجسد في جمل (لكن الماء .. ليس حميما) وبهذا الاعتبار القولي والدلالي تفصح لنا معادلات القطع المونتاجي مجالا داخل مساءلة كينونة (الماء) وهو ليس الماء في مادته العينية، بل إنه المستعار في أنتاج المعنى الآخر من اللفظ والكيفية الدلالية الأحوالية . أما الحال في موجهات اللقطة الثانية من النص والتي جاءت بعنوان منتظم (سجن نقرة السلمان):

السجن قفص صدري

ينشد فيه القلب

اسفار العزلة

ويؤرخ أبجدية البياض . / ص 15

أن طبيعة النسق البنائي والتشكيلي في هذه المقاطع، جاءت لنا بجملة استدلالات في الرؤية والمعادلة الموضوعية، وبقصدية مونتاجية واضحة ذات علاقة كامنة ما بين الموصوف والدلالة القطعية في جملة (أبجدية البياض) أو جملة التوحد مع الذات القطعية في (أسفار العزلة) إذ تمثل هذه المقاطع عينها من جهة هامة، تشكلات استعارية ذات أبعاد متمركزة في فواصل القطع الزمني (المونتاجي) بحيث يمكننا الاستدلال منها على روح الموازنة الشعرية المرهونة بقصدية قوة الدليل الموضوعي: (ليست ثمة جدران .. سوى الوهم .. حين تتوجك العراءات .. حلما)  إذ تتنازع الدوال ضمن وساطة مونتاجية فاعلة تواجهنا منها الاستجابة القرائية إلى رغبة في التأويل الموضوعي المتعدد عبر كيفية تراتيبية ساحرة في القول الشعري (سوفَ تتيهْ .. سوفَ تتيهْ.. وتصبحُ ملكَ الضلالةِ .. يصبحُ ماؤكَ جمراً .. ودمعكَ خمراً .. فهلْ تحتسيهْ ..إنها .. محنةُ المبتلى .. بأبيهْ ! . /ص19 قصيدة: الإرث) فخاصية التوليد المونتاجي الدلالي تكتمل ضمن حدود الذات الساردة، حيث تكتفي هذه الذات من محاولة تقديم طاقة لغوية مضاعفة في الاستجابة والتمثيل الصوري، فيما تشتغل بنية العنوان (الإرث) على ثنائية حضور ـ غياب، وصولا منهما إلى وضعية المثول داخل علاقة شعرية متحكمة بأبعاد الملفوظ بالزمن والمكان والموصوف ذاته، وقد يقترح فضاء الملفوظ حضورا بدلالة أفعال الإزاحة نحو مكامن خاصة من المشهد الشعري .

ـ الجمالي والتأثيري في قصيدة النموذج الشعري القصير .

أن مشروعية بناء النموذج الشعري القصير في عوالم شعر علي الأمارة، تتنامى من خلاله صياغات متوازية من علاقة البنية القصدية المحفوفة بأعلى مستويات شعرية الظل ـ التوقيعات، كما أن الترابط ما بين دوال هذا الشكل الشعري القصير، تحكمها مكاشفات البنية التفارقية المحكمة والمباغتة في مدى تصويريتها الإيحائية ذات الضربة الموضوعية الموفقة:

رياح واقفة

مدن متنقلة

نساء جميلات حدّ الرجولة

ساعات عاطلةٌ ملعقّةٌ

على حائط القلب .. / ص 35 قصيدة: تركات

يندفع الدال الشعري باتجاه رؤى تشكيلية تجمع ما بين زمن الأشياء المثقلة بانعكاسات وجودية ذاتية معطلة في تواصلاتها من الشاعر مع حركة الحياة والزمن، بالإضافة إلى ذلك تنحصر دلالات الأمكنة ضمن تحصيلات ذاتية منفردة في مجال تأملاتها المشهدية القصيرة .

ـ تعليق القراءة:

عند نهاية مبحثنا نرفد عتبة تعليق القراءة بهذا القول الآتي: أن مجالات الكتابة الشعرية في عوالم شعرية الشاعر علي الأمارة، تحكمها استراتيجية اللغة ذا الحساسية التصويرية المضاعفة، وقد تصل آليات النص الشعري إلى حد أستثمار تقانات متعددة من مجال الفنون الأخرى القولية والبصرية منها، بما يجعل من اللغة الشعرية في قصيدة الشاعر حمالة لأوجه فنية وأسلوبية ونوعية جادة وجديدة، وعلى هذا النحو وجدنا التقنية المونتاجية حاضرة ضمنا في أداة الوظيفة الشعرية في قصيدة الشاعر، إلى جانب توفر تصورات مثيرة من بنية النموذج الشعري القصير، الذي تعاملنا وإياه في مباحث سابقة على زمن هذا المبحث، غير أن تعاملنا هنا جاء في سياق آخر وموضوعة أخرى من أبعاد المقاربة المختلفة، وللشاعر مسارات مختلفة من الأداة والخصوصية والمنظور الشعري، كما أن أبعاد الواقعة الشعرية في أعماله إجمالا تتخطى الصور والموضوعات العارية والعابرة، بل أنها ملفوظات أخذت تتلمس طريقها الصعب والشاق للوصول نحو نقطة جوهرية من وجودية علاقات الأبعاد الدلالية القصوى من أسرار لغة الشعر والشعرية .

 

حيدر عبد الرضا

 

  

في المثقف اليوم