قراءات نقدية

صادق السامرائي: من وحي "الساعة"!!

صادق السامرائيقصص الدكتور علي القاسمي تعيدني إلى تلك المتعة الإبداعية التي كانت تمنحها عوالم القصة القصيرة، وما تثيره من إنثيالات تتهاطل كأنها شلالات أفكار، وتحليقات رؤى في فضاءات الخيال الرحيب، ووجدتني أستحضر تلك الأحاسيس الفياضة والتفاعلات الخلابة، فأمسكتُ القلم وكتبت:

1

عندما توقفتُ لأول مرة أمام "برج خليفة" في دبي، شعرت أن فيه لمسة عراقية، إذ بدى وكأنه الملوية، وقد شطروها من الأعلى إلى الأسفل لثلاثة أجزاء، وأعادوا توصيلها أو تجسيرها ببعضها!!

وعندما قرأت قصة "الساعة" حضرني "جلجامش"، وكأنه هو الذي أوحى بفكرتها،  إحترت في هذا الحضور والموضوع يتصل بالساعة.

فهل كان جلجامش يطارد الوقت، ويسابق الزمن، ويغلبه، ليتحرر من إرادة الأرض وجذبها لما عليها؟

والأغرب من ذلك حضرت رواية "الشيخ والبحر" لهمنغواي، فما الذي إستدعاها للحضور؟!

فالبشر مهووس بالوقت منذ الأزل، وأظن أولى مخترعاته كانت "الساعة" بأنواعها البدائية، فالوقت يسري في كيانه ويدري بأنه سيتوقف عن الجريان، وسيُدحس في فم ترابي يهضمه ويتمثله ويُطعم غيره به.

في هذه القصة تداعيات قدحتها فكرة الساعة أو الإهتمام بجمع الساعات، لكنه تصوير لحالة واقعة في الحياة غير معقولة ومهوّلة، من باب التقرب للفكرة، التي يُراد التعبير عنها، مما يدل على مهارة إبداعية وخبرة تفاعلية ما بين الفكرة والكلمات والصورة المتصلة بهما.

فمطاردة الوقت ديدن المخلوقات التي يسري في كيانها تيار الحياة، فكل موجود حي يعرف بأنه لا يدوم، وفي أعماق ذاته يريد أن يبقى ويتواصل فوق التراب.

وكل مخلوق يبقى بالتناسل، وبطل القصة وحيد، لم يتناسل مما يعني أنه قد ناهض طبع الحياة، وعاكس قوانين البقاء، وعاش وهْمَ الإنتصار على الوقت، وهو سيف يقطع كل موجود، ولا يوجد مَن يقطع الوقت أو يرديه قتيلا.

فالموجودات يقتلها الوقت، ويسحقها بسنابكه، ومهما حاولت الخروج من قبضته، فأنه سيساهم في إنهاء وجودها بأسرع مما يجب.

ولهذا فأن موضوع الوقت يكاد يكون مغيَّبا، أو منكورا كالموت، ولا فرق بين الحالتين، فإذا تصورنا بأننا سنموت في أية لحظة، فأن الوقت بأجزائه يحمل الموت ويقربنا إلى شفا حفرة الختام!!

2

الوقت مهملٌ في واقعنا ولا قيمة له ولا معنى، ونحن من أكثر المجتمعات لا نتقيد بالوقت، ونحسبه مخدرا أو منوما لوجودنا، ونتمتع بالرقاد ولا نريد الإستفاقة أو اليقظة، والدليل أننا نجعل من أيامنا ويلات وأحزان وسفك دماء، وتصارعات نهرب منها إلى الإندحار في مغارات الوقت حتى نتعفن ونزداد وجيعا وإضطرابا!!

3

حوار مؤلم بين الأمة بجوهرها الأصيل، وأبنائها الذين يجهلونها، ويتفاعلون مع حقيقتها بسذاجة فاقعة!!

ثيمة القصة تصلح لقصة طويلة، أكثر منها لقصة قصيرة، لكن براعة كاتبها تمكنت من تكثيف هذا الكم من الأفكار والرموز والحالات، في سردية مركزة تحتاج لكتاب لشرحها، إذ يمكنها أن تكون رواية بحجم رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ !!

وبطل القصة ربما يمثل الأمة الموسوسة بما مضى وما إنقضى، أي أنها تمارس السلوك العبثي الذي أوصلها إلى متاهات التبعية والهوان.

4

بطل القصة مصاب بالوسوسة الشديدة التي نجم عنها إضطرابات سلوكية سميت بالغرائبية، وهذه الوسوسة المَرضية تسببت بتفاعلات صارمة، أدت إلى موته المبكر، لشعوره بالإختناق، فالغرق في يَمِّ الوقت أشد وطأة وعذابا من الغرق في أي شيئ آخر.

أن يغرق الإنسان في دوامات الوقت، يعني أنه ميت لا محالة، لأنه سيستنفر ما فيه من طاقات حياة حتى تنضب جعبته، فيسقط متهالكا، وقد تسجّى بدوامة دقائق ولحظات تسري على جسده الهامد الذي ينتظره فم التراب!!

5

العمل المتصل المتواصل المركَّز المبدع الطامح لإستحضار الجديد الأصيل المتميز، هو الأسلوب الحضاري الإدراكي الإنساني للتعامل مع الوقت، وليست الوسوسة الخالية من الإنجاز، والمجردة من عناصر الإنتصار والتفاعل الخالد، المؤكد على أن المخلوق قد مَرقَ في ساعة الوجود الضوئية، ونحتَ له أثرا فريدا في دائرة الصيرورة المفرغة، التي تتمازج فيها المخلوقات بآليات زمنية معقدة عصية على الإستكناه والوعي!!

6

الساعة نبض كوني يتفاعل مع إيقاعات وجودنا ويسترسل في دنيانا، متوائما مع الكوامن الفعّالة التي تديم الحياة وتشير إلى الموجود على أنه حي.

فالوقت بهذا المعنى يساوي الحياة، وكل حياة ذات مواسم وإيقاعات خلقية!!

........

ولا توجد ساعة ترمز لتلك التي إبتكرها أجدادنا في بغداد، وساحات مدننا وميادينها تخلو منها، لكنها موجودة في عدد من الميادين الأوربية، وهي ساعتنا البغدادية!!

7

الوقت يعني العمل، فالعمل يمنح الوقت المعنى والقيمة وعندما ينتفي العمل فأن الوقت لا وجود له، وهذه رسالة جلجامش ومن قبله للأجيال، فالوقت العمل والدين العمل!!

والقصة كان ينقصها أن تبرز أهمية الإنتصار على الوقت، بالعمل الذي يمنح المخلوق قدرة تجاوز حدوده الزمنية والعيش في أزمان قادمة.

فالذاهبون منذ آلاف السنين وحاضرون في عصرنا، هم من المنتصرين على الزمن بالعمل الجاد المجتهد،  الذي أطلق قدراتهم الإبداعية الأصيلة، فما إستطاع الزمن إخضاعها لسطوته.

8

المخلوقات مرهونة بالليل والنهار، وهذا التعاقب الدوراني حتّمَ على البشر منذ البدء أن يتعرَّف على ما نسميه الوقت، وفي كل مخلوق ساعة بايولوجية بموجبها تتحدد نشاطاته، فالمخلوقات بأنواعها تتدبر أمورها وفقا لدقات ساعاتها الكامنة فيها.

ويشذ عنها بعض البشر المعاصرالذي إضمحلت ساعته البايولوجية، لإبتكار الساعة بأنواعها كمقياس للوقت الذي يرسم محطات سلوكه.

9

يبدو أن العجوز الأصم ربما يرمز لحالة لا تسمع ولا تعتبر، وتجيد تنفيذ ما يمليه عليها الآخرون، الذين يرمز لهم بطل القصة، الذي تحركه دقات ساعاته المهووس بها، ومن شدة ما هُم عليه سيباغتهم الأفول الحتمي الذي تمليه إرادة التمام، وكأن البطل يتبادل الأدوار وفقا للحالة التي يكون فيها ويتمثلها.

فالقوي الفاعل فينا إن لم تتجدد الدماء في عروق وجوده، سيصاب بأمراض الخثرة الدموية، التي لا محالة ستعوقه وتحدد حركته ومن ثم تقتله.

10

التعبير الجامد الكونكريتي عن معنى الوقت، يتجلى في هذا النص، فالوقت وفقا للمفهوم الجلجامشي، الإنتصار عليه يكون بالعمل الجاد والإجتهاد وتقديم أروع ما فينا من الطاقات والقدرات!!

وفي القصة يتجلى التفاعل المَرَضي مع الوقت، والذي ينتهي بدوران نضيب في دوامات المطاردة الوهمية للحظات الفاعلة في الحياة، وكأن البطل يريد الإمساك بخيط دخان، فما معنى أن تعرف كم من الوقت يستغرق إحتساؤك لفنجان قهوة؟!

وما فائدة أن ترشدكَ دقات الساعة عما يجب أن تقوم به، فهل أن البطل تحول إلى روبوت تحركه نوابض الساعات بأنواعها؟

11

من وجهة نظر طبية، البطل مصاب بما يسمى

Chronophobia or Chronomania

كرونو: الوقت

فوبيا: الخوف

مانيا: الهوس

ويمكن القول أنها وسوسة مَرضية بالوقت وسرعته، ومحاولة إستثمار أية لحظة منه، ويتميز أصحابه بدقة المواعيد، ومثلما وصفت سلوكيات بطل القصة، وكأن الكاتب يرسم صورة حية لمريض بالوسوسة الوقتية.

والعديد من البحوث تشير إلى أن التحفز الوقتي أو اليقظة الوقتية، كما ترجمها بطل القصة تزيد القلق والتوتر، وتؤثر على الصحة العامة وتسرع بالموت، فكأن المصاب يحاول أن يقبض على الوقت لكن الوقت يقبض روحه.

ذلك أن ما يقوم به يتسبب بإطلاق الكورتزون بنسب عالية، مما يؤدي إلى زيادة الإصابة بأمراض تختصر وقت الحياة.

12

القراءة الأخرى للقصة، تظهر بعض العقبات والتعثرات التي أعاقت صب الفكرة بقالب العبارة المناسبة، اللازمة لسبكها بإطار يخرجها من دائرة محاولة التعبير الأمثل عنها.

فالرمزية فيها معقدة، وفكرة الحياة والموت وما قبلها وبينها وبعدها، ليس من السهل تجسيدها في قصة قصيرة وبطل واحد، إنها تحتاج لرواية بأبطال وعدة أدوار، وإن كانت ملحمة جلجامش فد سبرت أغوار الفكرة وتمثلتها بأحداث وشخوص ومكابدات، فأن الترجمة المعاصرة لذات الفكرة بحاجة إلى إبداع ملحمي فائق التقنيات والإخراج.

وبسبب حجم الفكرة ودويها العاصف في أرجاء الأعماق البشرية، فأن الذي يريد أن يسبر أغوارها ويكتشف معانيها، سيبذل جهدا خارقا، قد لا يطيقه الإنسان لوحده.

ومع ذلك فأن القصة إرتقت بتقنياتها إلى الإقتراب من تمثلها وتقديمها بأسلوب ممتع، ومحفز على التواصل والتساؤل والإنجذاب، ولهذا تجدني أكتب عنها وأتأملها.

وفي الختام تحية إبداع لليراع المتألق، الذي تجرّأ أن يتناول فكرة بهذا الحجم المطلق.

 وما تقدم قراءة مغايرة، تحتمل الصواب والخطأ معا، ربما ستمنح النص بعدا إدراكيا آخر، وأرجو المعذرة لبعض التكرار المقصود فيها!!

 

د. صادق السامرائي

16\8\2021

..................

للاطلاع

علي القاسمي: الساعة

 

في المثقف اليوم