قراءات نقدية

جمعة عبدالله: أشجار سعد ياسين يوسف تحلّق عميقاً في فضاءات الوطن والمرأة والجمال.!!

جمعة عبد اللهيحمل الشّاعرسعد ياسين يوسف لقب (شاعر الأشجار) بكل اقتدار وهوغني عن التعريف في اسلوبيته الشّعريّة وخصوصيتة في كتابة قصيدة النَّثر التي يحلق بها عالياً وعميقاً برمزيّة الأشجار، والشَّجرة، بالمفردة العميقة الواسعة بلا حدود، في أسلوبه الفكريّ والفلسفيّ الذي ينطلق منه متمثلاً الشجرة كأصل للكون والوجود وحياة الإنسان، ورمزيتها العميقة للأرض والوطن.

عند شاعرنا كلّ شيءٍ ينطلق من جذور الشَّجرة وأغصانها وأوراقها،ويسلتهم منها ما يخص الوجع الإنساني والحياة بكلّ تبعياتها وعتباتها، بما فيها الفرح والحزن، وبسمات النُّور و بسمات الظّلام، حتى الدّموع والحزن والقلق الإنساني من المعاناة والشّقاء والمأساة والملهاة، أي أنها تحمل كلّ شيء، ومنها ينطلق كلّ شيء برؤية انزياحية ثرّة على خلفية العمق الفلسفيّ والفكريّ والجماليّ الذي يكتنزه الشّاعر.

أنَّ الشَّجرة التي خلقها الله واختار لها أرض سومر وطين أور مستقراً، هي حامية الحياة والوجود والاتجاهات الأربعة، وهي مكسوة بجلد العراق وثوبه، ولا يمكن للجسد العراقي أن يكون بدونها، كما هي الحياة والوجود، ومن هذا المنطلق ينطلق شاعرالاشجار (سعد ياسين يوسف) من عمق رؤيتة لرمزيّة جذور الشَّجرة ومدى رسوخها وعمقها، وتحليقها عميقاً في الارض ، لأن الشجرة لاتعلو وتحلق عاليا ً إلا بعد أنْ تترسخ جذورها عميقاً في الأرض وكذلك الإنسان لا يعلو ولا يحلّق لو أنقطعت جذورهُ عن أرضه ووطنه .

فشجرة الوطن  راسخة الجذور رغم الأهوال والمحن والشّدائد، وفصول الخريف الجاثمة على شجرة سومر وأور ورغم العواصف والرّعود والزّوابع السّوداء، فهي صامدة ولا تنحني ابداً، تنهض من دمها ورمادها، ومن السّحب الدّخانية التي تخنقها، والتي تطارد نوارس الحرية في ساحة التّحرير وتحت نصب جواد سليم !!. ورغم الغزوات الوحشية من الإرهاب والإرهابيين. ولم تخيفها الغيوم السَّوداء ولم ترعبها رصاصات القناص الملثم و جرذان داعش بكلّ ما في عقولهم الظلاميّة.

ورغم كلّ الأحزان فالشَّجرة منتصبة القامة راسخة تحلّق عميقاً في تربة أرضها وطينها وسمائها. فهي تتحمل العناء والقسوة في ملحمة الحزن ونزيف الدِّماء، التي تتوالى عليها بدون انقطاع، هذه هي الملحمة العراقية في شجرة الله التي اختارها في العراق، وهذه مضامين قصائد المجموعة الشّعرية (الأشجار تحلّق عميقاً) في فلسفتها الفكريّة العميقة.

إنَّ قصائد المجموعة الشّعريّة تتناول الشّجرة الكبيرة (العراق) وكذلك الشّجرة الصَّغيرة (العائلة) وبعض من السّيرة الحياتيّة للّشاعر وأصل شجرة الشّاعرمن طينة الفراتين، من قلب قارورة أور لذلك فأنها تكتسب تاريخاً حضاريّاً واسطوريّاً شامخاً، لهذا ترفع رأسها بشموخ إلى السَّماء. رغم ملحمة الحزن والدِّماء التي تتوالى عليها، منذ أكثر من ألف عام وعام، فهي تتجلّد على المصائب والشّدائد، على السّحب الدخانيّة ونزيف الدِّماء والغزاة المتوحشين الذين يغتالون العصافير المسالمة، الباحثة عن أعشاشها وعن وطنها في أرض سومر وأور ليكون خيمة لهم تحت الشّمس. رغم الذّبح وفصول الخريف الثّقيلة.

2719 الاشجار تحلق عميقا سعيد ياسين

لذلك يتوجه الشّاعر إلى الله تعالى بالسؤال، إلى متى يستمر الذّبح والدِّماء؟. إلى متى تستمر غيوم الحزن تخنق أوراق شجرة الوطن؟ إلى متى يظلّ صوت الرَّصاص يلعلع ويتجول القناص بحرية ليصطاد الباحثين عن الوطن؟.

".... أنَّى التفتتْ...

وأنَّى رأسُها ارتفع

تشيرُ للذَّبيحِ

للحجرِ الّذي لم يستقمْ

إلَّا بذبحِ العصافيرِ الّتي

جرَّدَها الخريفُ

من دفءِ نسْغِها الصَّاعدِ

فهوتْ ناشرةً أجنحةَ اللَّهفةِ...

يُسحرُها النَّبضُ؟!!

ربّاه!!!

كم من الدَّمِ يلزمُ هذهِ الأرضَ

لتَغسِلَ عَتَمةَ الحزن ِ

عن وجهِها،

ظلامَ ألفِ عامٍ

وعام...؟؟؟!!!

ألا تكفي ابتساماتُ الدَّمِ

في صدورِهم

حين تعروا للرَّصاصِ

الباحثِ عن وطنٍ فيهِم

في رحلتِهم الأزليّة ِ

للبحث ِعن وطن....؟؟!!!! "

(من قصيدة / عطر أور)

ينبعث الدّخان حول الشّجرة وتنهال الهروات والرّصاص يلاحق نوارس الحرية. لانهم كشفوا عن غنائم وسرقات اللّصوص، الذين أغتصبوا الوطن ليكون طابو لهم ، الجنّة لهم والجحيم لغيرهم، اكتنزوا الذّهب والدّولار على حساب معاناة الأغلبية السّاحقة، لنوارس الحرية أشاروا بأصابع الاتهام لأنهم كشفوا وكر اللّصوص ، وتجار الدَّم والزّيف والغدر وخيانة الشَّعب، فكان نصيب النّوارس العنف الدَّموي، ورصاص القناص في ساحة التَّحرير، وتحت (نصب جواد سليم)، وليمتلئ المكان بسحب الدّخان والقنابل الدّخانيّة التي أخترقت الجماجم، لكي يسكتوا صوت الحقّ والحرية والمطالبة بالخبز والأمان. المطالبة بوطن تتسع خيمته للجميع.

" حفيفُ الأشجارِ الّذي

أخفاهُ الدُّخانُ في ساحةِ التَّحريرِ

صارَ صرخةً

حينما أدركَ أنَّ الهراواتِ

الّتي انهالتْ على رأسهِ  كانتْ

مِنْ خشبِها

***

لكلٍّ جنَّتُهُ

قالها ذلكَ اللّصُّ "المسلفن"

وهو يضعُ حباتِ العنبِ

بفمِ خليلتهِ العاريةِ في حديقةِ بيتهِ

في "المنطقةِ الخضراءِ"

بينما اخترقتْ قنبلةُ الدُّخانِ

رأسَ صديقي الواقفِ منتظراً

رغيفَ الخبزِ تحتَ ظِلالِ نُصبِ

جوادِ سليم...!!! "

(من قصيدة / أوراق من شجرة التحرير)

وفي قصيدة ( مِقصُ أبي) تنبثق حياة العائلة، عيشها ،ومسيرتها، من مِقص الأب الحنون، الذي يملأ حياة العائلة بالدفء والحبّ والحنان ، يعرج مع طلوع الشَّمس ويعود في أطراف المساء. محملاً بعشرة من أرغفة الخبز لعائلته، ينسى نفسه ولا ينساهم من حصة الأرغفة، لا ينام إلا بعد تفقدهم واحداً واحدا. يزرع الأمل والنّور في مسار حياتهم تحت الشّمس وتحت خيمة الوطن ليكونوا فسائل خير للّشجرة الكبيرة المباركة.

" مُذْ أمسكَ بمِقَصِّ حياتهِ

الّذي كادَ أنْ يُطبقَ على غُصنه ِ

وهو يقصُّ لنا قَصَصَ التَّكوينِ

لنغفوَ قبلَ الموقدِ

نَحلُم بالبحرِ المنشقِّ،

بالرُّطبِ المتساقطِ.

يتفقدُ عَنَّا الجمرَ، الأغطية َ

سقفَ الغرفةِ لو أثقلهُ مزاحُ المطرِ....

يقايضُ بردَنا بسِترتهِ...

حينَ يشحُّ غطاءُ الدفءِ

وعندَ الفجرِ...

يَعرُجُ صوبَ الشَّمسِ

ليقصَّ لنا...

من ثوبِها الذهبي أرغفةً

ويَعدَّ الأقراصَ العشرةَ

كَي لا ينسى أحداً مِنّا،

وكثيراً ما كانَ...

ينسى نفسَه.!!!

بمِقَصِّ اللَّهفةِ...

قصَّ خيوطَ  ظِلالِ الحزنِ،

وشذَّبَ كفلاحٍ ماهر

أغصانَ السَّنواتِ لتعلو

هالةُ ضوءٍ تتبعهُ.... "

(من قصيدة / مقص أبي)

وتتجلى المرأة العراقيّة الشّهمة والشّجاعة،التي ضربت مثلاً رائعاً في الجسارة والبطولة في مجموعته بقصيدة (طوعة ) التي تغنت بعراقيّة وأصالة  (عليه خلف الجبوري) (أم قصي) وهي امرأة عراقيّة من ناحية العلم بتكريت، أنقذت حياة عشرين شاباً عراقياً من مذبحة سبايكر، التي نفذتها عصابات داعش الإرهابية، وآوتهم سبعة عشر يوماً وأوصلتهم الى مكان آمن ليعودوا سالمين الى أهلهم وذويهم. لذلك لقبت ب (طوعة العصر) نسبة إلى طوعة بطلة الكوفة التي آوت سفير الإمام الحسين مسلم بن عقيل، لحمايته من بطش عبيدالله بن زياد في اطار واقعة كربلاء.

" طَوعة..

الغصنُ، شجرة ُالله

سقاها نهرهُ

قبلَ أنْ يمرَّ براياتٍ

......  .....

تحزُّ حبلَ وريدٍ

شُدَّ بعرشِ اللهِ..

وتزفُّ المغدورينَ

على دكَّة ِموت.

طَوعة...

كسرتْ كلَّ نصال ِ

سكاكينِ الحزِّ بخضرتِها.

وظلَّلتِ العشرين َ نبيّاً

تحتَ ضفائرِها

سبعَ عشرة قيامة ً

وهيَ تُنصتُ لحفيفِ ملائكةٍ،

رفيفِ قلوبٍ،

حَدَقاتِ عيونٍ،

نسماتِ دعاءٍ،

تحطُّ على جدرانِ البيتِ...

قالَ النَّخلُ :

إنَّ النُّورَ العابقَ ليلاً

من باحةِ ذاك البيتِ

يطرقُ بابَ سماواتِ المحنةِ

أنِ انفَرِجي..

طوعة....

رحمُ العذراء ِ

غارُ حراء

"العلمُ" الصَّاعدُ صوبَ اللهِ

بالبشرى يومَ اسْوَدَّتْ

كلُّ وجوهِ الأبوابِ

فكانتْ جنحَ اللهِ وخيمتَهُ "

(من قصيدة / طوعة)

كما تتجلى المرأة في هذه المجموعة بشجرة الأم الطّيبة، فمع أول صرخة للوليد، يضيء وجهها بالحبور والبهجة، لتحتضنه على صدرها الرَّحيم، فتنتشر أنوار الفرح، لهذا النَّورس الجديد للعائلة، والذي جاء ببركة الله والأمّ الحنون، وهو بشارة خير وأمل للشّجرة الصّغيرة (العائلة) والشَّجرة الكبيرة الوطن.

" معَ أوّلِ صرخةٍ

وأوّلِ إبصارٍ للنورِ

كانتْ خضرتُك تُربّت على صدري

- أنْ لا تخفْ....

وكلَّما أدلهمَّ ليلٌ

أضاءتْ أغصانُ شجرتِكِ قناديلَ

البهجةِ

فتنطلق الكركراتُ....

ناعمةً بيضاءَ

مثل رفيفِ نوارسِ شطِّ العمارةِ

حتى علتْ وجهي سَحابَة ُ

الحريق*... في غفلةٍ منكِ

وحينَ رفعتِ يديكِ إلى السَّماء

زمجرَ الأفقُ بالبريقِ

وبصوتٍ راعدٍ

قالَ للشَّمسِ: أنْ أشرقي على مُحياهُ

وكمثلِ معجزةٍ نَضَى الغيمُ ثوبَهُ

فانتشرَ الضِّياءُ....."

(من قصيدة / شجرتها... إلى أمي)

لقد استطاع شاعرنا هنا أن يرسم ملحمة التجذّر برؤية جمالية وفكرية وفلسفية مدهشة ليحلق بنا عميقاً إلى عوالم الدَّهشة والجمال والفكر والارتقاء بالصّورة الشّعريّة إلى آفاقها الرحبة .

 

* أسم الكتاب: الأشجار تحلق عميقاً

* المؤلف: د. سعد ياسين يوسف

* الطبعة الاولى: عام 2021

* الاخراج الفني والطباعة: دار أمل الجديدة. سورية / دمشق.

***

جمعة عبدالله

 

 

في المثقف اليوم