قراءات نقدية

قصي الشيخ عسكر: فلسفة التطهير في أدب د. علي القاسمي.. قصة الآنسة جميلة

قصي الشيخ عسكريعرف أرسطو المأساة في كتابه فن الشعر بأنها (محاكاة فعل نبيل تام تثير فينا عاطفتي الخوف والشفقة وتدعونا إلى التطهير من آثارهما). إنّ مسألة التطهير تتجلى فيها علامتان اثنتان هما العقاب والدافع الأخلاقي، والمتتبع لقصة السيرة عند الدكتور علي القاسمي سواء الآنسة جميلة أم غيرها من قصص السيرة يجد أن التطهير والمبدأ الأخلاقي عنده متلازمان لكنه لا يصوغ نهايته بصورة مباشرة لأن المباشرة تفقد النص الأدبيّ جماليته.

ففي منهجه الأدبي العام يلتقي مع المسرح اليوناني القديم ويتوازى مع التعريف الأرسطي، فهل انتهت قصة الآنسة جميلة نهاية مأساوية، لرفع اللبس أقول إن مصطلح مأساة لايعني أن تكون نهاية المسرحية اليونانية القديمة حزينة أو تنتهي بالموت لأن المأساة عندهم قد تنتهي بالموت أو لا وكلمة مأساة تعني أن يكون الفعل الدرامي جادا وليس كوميديا وهذا ماعبّر عنه أرسطو بكلمة نبيل. ولو تجاوزنا العصر اليوناني ومسرحيات أثنا إلى العراق ولتكن الفترة من عام 155 إلى 1973 يمكن أن نتساءل ماذا نجد على الساحة الأدبية العراقية؟ الدكتور القاسمي من مواليد عام 1945 وأنا ولدت عام 1951 وقد فتحنا أعيننا على سيل من الكتب التي تملأ الشوارع على الأرصفة وفي العربات والمكتبات منها ماهو قادم من لبنان روايات وقصص روسية لتولستوي وغوركي وغيرهما من الكتاب الروس وكتب فلسفة ومسرح تقدم من مصر هو بحر من كتب منبعه بيروت والقاهرة وكان المسرح اليوناني والرواية الروسية تجذبنا نحن الشباب محبي الأدب وقد انعكس ذلك على مستوى تفكيرنا وطريقة معالجتنا لأدبنا وفنّ القصة عندنا. ومن خلال متابعتي لأدب الدكتور القاسمي وجدت أن هناك سمات مشتركة عنده وتيار فن القصة والرواية الروسية التي تعنى بالجانب الأخلاقي فالمجتمع الروسي يحمل ثقافة أرثودكسية ورثها من قبل الثورة الاشتراكية وفي ذلك العصر تجلت الغاية النبيلة في كتاباتهم.

في قصة الآنسة جميلة نجد اثر فن الأدب الروسي في مسألة التطهير التي يتقنها د القاسمي فيعلن عنها منذ البداية الفتاة تنفرد عن المجتمع الحاضر لتتأمل، هذا تطهير سام متدفق الحيوية انفصال إيجابي لكنها على الرغم من سموها تخالف أمها التي تتحدث عن خبرة وتجربة فتصرّ على رأيها في الزواج من شخص يبدو أنه يدمن على السكر ولا يعنى بالموسيقى الراقية التي تندرج تحت عنوان الطرب الأندلسي جميلة سعت إلى الخير والجمال عندما اختارت الموسيقى والشرف والعفة وسط عالم ماديّ.

و(أنا كارنينا) سعت للخير حينن استقلت القاطرة في سفر طويل لتكون واسطة خير بين زوج وزوجته إنها مسألة إصلاح ذات البين بغض النظر عما إذا كان الزوج خائنا أم لا.

لقد توسع الكاتب القاسمي في مشاهد السعي الى الخير في أكثر من مشهد ولجأ إلى التاريخ والتراث ومنها ماقدمه هو شخصيا من مساعدة للفتاة1.

و(أنا كارنينا) ارتكبت خطيئة حين خانت زوجها

و(جميلة) في قصة السيرة أخطأت بإصرارها على الزواج من ذلك الشخص المشبوه. أنا كارنينا انتحرت لتدخل في مرحلة التطهير وجميلة طلبت الطلاق وحصلت عليه وهذا أيضا تطهير لأن الخطأ إذا كان متعمدا يكون خطيئة عقابها الموت أما إذا كان مجرد خطأ وإن كان فادحا فعقابه أخف من الموت لذلك قام أودب وفقأ عينيه بيديه عقابا له لأنه قتل أباه وتزوّج أمه. فهو لم يقترف القتل عمدا ولم يتزوج أمه وهو يعلم لكن لا بد من العقاب وإن كان الخطأ صدر عن غير عمد. .

أما مسألة الخوف والشفقة فقد أثارتها القصة في قضية التاريخ بصورة غير مباشرة لقد جعلنا الكاتب نشفق على هؤلاء العرب القادمين من الأندلس والذين تجمعوا في تلك المدينة مثلما جعلنا تولستوي في الحرب والسلام نشفق على المجموع الذي اكتوى بالحرب أو مثلما جعلتنا القصة الروسية التي تحدثت عن أم حجزت ابنها مع الدجاج في البيت خوفا عليه من أن يقتل في الحرب لكننا نجده حين انتهت الحرب معتوها يكاكي مثل الدجاج وهو المصير ذاته الذي لقيه هؤلاء الأندلسيون الذين فقدوا مع الزمن هويتهم2.

مع ذلك أرى أنا شخصيا أن في عامل الشفقة بعض الأثرة أو مانسمية على وفق الخطأ الشائع (أنانية) وإن تدخلت مسألة الشفقة في التطهير لأنك حين تسمع على سبيل المثال أن شخصا ما دهمته سيارة فأول ماينصرف ذهنك إلى أقرب الناس إليك وتشيع في نفسك بعض الراحة حين تعلم أنه ليس هو. لقد اشفقت لكن بعد أن تأكدت تماما أنك لست المشمول بالمأساة أو من تخصّهم ممن تحب مع ذلك تبقى قضية الشفقة جوهرا نبيلا. لقد تعاملنا حسب هذه النظرية مع نهاية قصة بطلة جميلة فقد جعلنا الكاتب نشفق عليها لأن قضية الطلاق لا تخصنا نحن ولا تخص أية من قريباتنا فهي بعيدة عنا أما لماذا نشفق فإن في الشفقة جانبا إنسانيا خيرا أكثر مما فيها من الاثرة

وحين نتتبع قضية التطهير في قصة الآنسة جميلة وارتباطها بالضمائر نجد:

ضمير الغائبة هي: واقفةً وحيدةً في الطرف الأقصى من الجنينة بالقرب من مجرى النبع؛

كان رأسها مرفوعاً قليلاً، وعيناها غائرتين في السماء كما لو كانت تنشد شيئا من المدائح النبوية مع أيقاع موسيقى الآلة

ضمير الغائب هو السلبي : الزوج المدمن مسألة التطهير يتركها المؤلف للقارئ أي العقاب الذي ينتظره وكأن احتقار القارئ له هو العقاب والتطهير.

ضمير الغائب الجمع كما في النازحين من الأندلس إلى المغرب كما لو أن الغربة طهرتهم : ويمتزج جمالُ أهلِها بشموخِ التحدي والإباء

ضمير المتكلم أي السارد الذي يدفع بعمليّة التطهير إلى الذروة حين يدفع مبلغ سفر البطلة بعد طلاقها ثم يرفض أن يأخذ المبلغ ويعدّه هدية لابنها وفي ذلك إشارة إلى الجيل الجديد ومسألة الخلاص3.

إنّ هناك الكثير من أعمال الدكتور القاسمي التي تجلّى فيها مبدأ التطهير لكنه طرح مسألة الأخلاق بصورة فنية غير مباشرة وهذا هو المهم في الأدب. إن لنا الحق في أن نقرأ عملا فنّيّا نستفيد منه به تتطهر أرواحنا وإِلّا كنّا نسمع محاضرة في التاريخ أو ننصت إلى خطبة جمعة أو نصغي إلى نصيحة من آبائنا، والخلاصة إن الدكتور القاسمي في قصص السيرة التي كتبها وأبدع فيها استفاد من تجربتين هما الأدب الروسي وأخلاقياته ومن التجربة الروائية الأوربية كونه اختص في الأدب الإتكليزي ودرس في الجامعة الأمريكية لذلك لم يكن ليطرح الجانب الأخلاقي طرحا مباشرا بشكل وعظ وإرشاد بل جرى ذلك ضمن سياق القصة التي امتازت بفنيتها ومستوى لغتها وسردها الجميل.

 

قصي الشيخ عسكر

...........................

1- مثل ذلك حدث للكاتب حين حاول مرافقة استاذته في الجامعة الأمريكية ليتعلم منها بعرض مساعدته عليها ليستفيد ويفيد زملاءه الطلبة في الجامعة الأمريكية بالتالي مادام الامر ذا مصلحة فإن صاحب السيرة حصل على درجة اقل من جميع زملائه وهنا تتجلى مسألة التطهير

2- يتجلّى مبدأ التطهير الذي ورثه الروس عن أدبهم  في التزامهم سواء زمن القصيرية أم الشيوعية أم الآن في حمايتهم للفرد والمؤسسة التي يقيمنها فبم تجرؤ إسرائيل على ضرب السدّ العالي لكون الخبراء الروس كانوا يحموته وقد شعر الإيرانيون بعد ثورتهم أن مفاعلهم النووي يمكن أن يتعض للتدمير فانتقلوا إلى الروس الذين تبنوه وأرسلوا أكثر من 200 خبير في حين أن العراق أخطأ خطأ كبيرا في اعتماده على الفرنسيين في بناء مفاعله النووي الذي دمرته إسرايل.

3- يمكن للقارئ الكريم أن يطلع على مبدأ التطهير في قصة أخرى وذلك حين يحصل على علامات في الامتحان أقل من الطلبة الآخرين (بيدَ أنّي في تلك الليلة، فكَّرتُ طويلاً في الموضوع، وأنا في سريري. وكما يقول المثل الفرنسي، " الليل يأتي بالنصيحة" La nuit porte conseil     ، وتفهَّمتُ موقف الأستاذة ودوافعها، ولكلِّ فائدةٍ ثمن، وقد دفعتُ ثمنَ صحبتي المفيدة المتمِّيزة معها. ولم يبقَ أيُّ غضب في أعماق نفسي واختفى، كما يختفي ضبٌّ في جُحْرٍ بعيدِ الغور.

ومساء يوم السبت التالي، ذهبتُ إلى شقَّة الدكتورة سيرليَن كالعادة، لاصطحابها إلى العشاء في أحد مطاعم منطقة "الروشة" على البحر. وهناك ومع الابتسامات المتبادلة، سألتُها عن الأماكن اللبنانية أو السورية التي تودُّ زيارتَها أثناء أيام العطلة القصيرة بين الفصليْن)

 

 

 

 

في المثقف اليوم