قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: قراءة في رواية (التي تعد السلالم) لهدى حمد

نوازع وأهواء المرأة موضوعا للرواية؟

توطئة: يفرض تحويل المعنى الآفاقي في جملة متواليات النص الروائي، تعددا أفعاليا، كنواة انحراف المعنى الأفعالي إلى مستوى صفات موضوعة ذاتية لها دلالاتها الضمنية الموغلة في أهواء الأنا التأليفية عبر مساحة تشكيل المعلن من الأحوال في صوغ مواطن العلاقة السردية ضمن مرتكزات تدريجية في معنى (المنتج الزمني). ولو تعاملنا من جهة ما مع مؤشرات الأفعال والأحداث والزمكانية في محتوى المتصدر الروائي من جهتي (زمن الحكاية ـ زمن الخطاب) لوجدنا ثمة ذلك الامتداد داخل الاحساس القرائي بأن الرواية تنازع حضورها بين (الذات ـ منظورها). لعلنا ونحن نقرأ أحداث تجربة رواية العمانية هدى حمد عبر روايتها (التي تعد السلالم) لما تأخرنا في القول كون هذه الرواية يتم إنتاجها بمؤشرات خاصة من (حالات امرأة) والتي تندفع فيها شتى متعلقات زمن الذات كلفة واحدة في خطية نزوعها الذاتي والموضوعي:فهل بإمكاننا عد رواية هدى حمد تحت سياق المصنف كونها رواية سير ذاتية يتباين من عندها المغاير والمختلف في تجربة الرواية السير ذاتية شكلا وموضوعا ودلالة؟

- الخلفية الشخوصية بين وساوس الخاصية ومسرود الأنا المهيمن

إن المسار التشخيصي لرواية (التي تعد السلالم) مؤسسا على فرضية المرأة المتحفزة في جنسها المرتهن بأقصى حالات (السطوة ـ الهيمنة ـ الرقيب ـ الإسراف في العنصر الفئوي) وكم من هذه النماذج ما عاينا لمثلها في الدراما الخليجية التلفزيونية، والآن تواجهنا محمولاتها في مستوى الظاهر من الأدب الروائي استكمالا في تصيير تأريخ سطوة الطبقات النبيلة في نوعها الذي انتخبته لذاتها ـ قناعا غاشيا ـ بالقسوة واحباط العاملين لديهم في منازلهم بصفة (الشغالة؟!) أو في نظرهم تلك الأجساد الهشة التي خلقت لخدمتهم وإذلالهم بطرائق موجبة: (بين خروج دارشين السيريلانكية المفاجىء من بيتي ودخول فانيش الأثيوبية إليه، لاأدري ما الذي حصل لي - كنت كمن يقع في شرك الفوضى، في شماتة الغبار - كنت في ركض مستمر للأختباء في الزوايا الأكثر نظافة ونقاء وأمانا. /ص9)

1ــ تواصيف من الكيفية الذواتية العلائقية:

يمكننا تعيين بصورة أو بأخرى بأن موضوعة الرواية قد حلت في الذات الشخوصية الساردة ــ زهية ــ المتمكنة من وصف مثيرات قلقها الاكتئابي القادم من تداعيات الأوساخ والقذارة التي لم تحسن الشغالة السيريلانكية التي فرت بجلدها من عملها، وذلك نظرا لكون صاحبة المنزل لم تنفك عنها كرقيبا وراصدا راح يتابع أدق خطواتها، بدءا من تنظيف الأطباق وحتى إزالة غبار الزجاج وتلميع الأرضية البيت. وبالإضافة إلى كل هذه الأعمال ينتظر هذه المسكينة الشغالة تحمل مزاجية الشخصية زهية المغالية إطلاقا في عوالم منظفاتها وسوائل مطهراتها التي شكلت في المقصد السردي عملية كفائية ذاتية تجاوزت حدود المعقول إلى حالة من حالات سادية صاحبة المنزل التي تلتذ في رؤية مخططاتها الحجوبية بينها وبين الخادمة، توقيرا لها ولجنسها السيادي الذي وضعت له منظومة ايدلوجيات قاهرة من مما تسميه (السجن المربعي؟!) ومهما تحدثنا طويلا عن حالات ومواقف هذه الشخصية، لربما افلتنا جوانبا هامة وعديدة من وقائع الحرب النفسية التي تدير زمهمها الشخصية زهية إزاء الخادمات اللاتي عملن تحت سيطرتها كصاحبة المنزل. وعند الإمعان الوحداتي في مسرود الأفعال الوصفية، ننتبه إلى أن هذه السيدة المتزوجة من رجل يدعى عامر، حنون، وطيب القلب، وقد أنجبى يوسف وراية. نتعرف أيضا على أن للسيدة زهية هواية الرسم على الجدران والملابس، خصوصا تلك الأنواع من الأحجبة التي يطلق عليها في الخليج (الشيل) فيما كان الزوج عامر يمارس فعل الكتابة الروائية حول سيرة حياة والده العماني حمدان وأمه الأثيوبية التي افترق عنها منذ صغره. ورغم أن السيدة امرأة ذا حساسية شديدة ومأهولة من نظرتها وإحساسها بدونية هذه الطبقات، غير إنها عاشت مع عامر حياة متماسكة ترفل بجمال حضور يوسف وراية وبعض صديقاتها العمانيات. ولو أيضا راجعنا سياق حياة طفولة زهية، لعثرنا عليها مضطربة البال والحال من خلال ممارسات الأب القامعة، فكانت زهية عند طفولتها تضرب وتسب وتضطهد من قبل سلطة ذلك الأب والأم التي لا تتذكر منها سوى كشوفات من العلاقة اللاودية بين البنت وأمها: (فأنا لم أنس بعد وجه المرأة السمينة والمبرقعة وخدعة التمر، عندما دخلت الزطية بيتنا بعينيها الخبيثتين وطلب مني أن أحضر لها التمر إلى مجلس النساء - بخفة وحسن نية أخذت لها التمر، فأغلقت الباب الخلفي، ونبشت عدتها، وأكلني الخوف، صرخت أنادي أمي فلم أجدها.. صرخت وصرخت ولم يستجيب لي أحد. /ص24 الرواية) يتعالق هذا الحادث في ذاكرة الشخصية زهية، وخصوصا وأن الأمر من طرف أمها كاد أن يتكرر مع البنت راية وهي ما تزال وليدا في لفافة القماط، فقد اقترحت علينا عليها أمها الذهاب وإياها مع الوليدة إلى العيادة لغرض ثقب حلق الأذن ولأجل عملية الاقتصاص الختانية في موضع عضو الوليدة. طبعا هذا الأمر ما كان يولد كابوسا بدوره في ذاكرة زهية، فكيف لها قبوله على أن يجرى لطفلتها. يتبين أيضا أن عمليات إقامة الختان للبنت لا تشمل كل الدول العربية، ولا أريد الخوض قليلا في هذا الموضوع خوفا من الخروج عن سياق دراستنا للرواية.

2 ــ ما قبل الرواية: وقائع وتداعيات:

هناك آليات من المصاحبات المتضمنة في مراحل زمن (ما قبل الرواية) أي أنها قد لا تحدث في سياق حاضر من مادة المسرود المباشر، بل أنها تجد لذاتها مكانا في حدود الاسترجاع أو الاستعادة الذاكراتية من قبل الشخصية زهية. وبناء على هذا الشأن ومنه نتعرف على علامات اخبارية واردة من خلال الوعي الداخلي للشخصية زهية وهي تنقل لنا أسباب رفض عائلتها بالزواج من عامر، وقد نقلت لنا تلك الجمل الصادرة من الوعي الذاكراتي بطريقة المسرود، كيف كان فعل الاستحالة في عدم قبول عامرا كزوجا: (لم يسامحني أبي، بالرغم من أنه زوجني بموافقته، خوفا على سمعته من دخول أبنته الراشدة إلى المحاكم... أقسم أمام أمي وأخوتي أنه لن يسامحني مدى الحياة. /ص21 الرواية) من هنا كانت حتمية الأب الرافضة لتزويج بنته إلى عامر أبن تلك المرأة الأثيوبية التي فارقته منذ ولادته، ولكن الشخصية حمدان والد عامر رغم كل ما تقدمه له زوجته اللاحقة جوخة من خدمات ورباطة جأش مثلى، لا تفارق ذاكرته تلك المرأة الأفريقية التي تدعى (بي سورا).

3 ــ العامل الحلمي وميراث رؤيا الذاكرة المعادلة:

تتصرف القابلية المعتقدية لدى الشخصية زهية دورا بالغا في بث الدلالات في الجسد الروائي، وتتوجه هذه الجملة من الارسالات المعتقدية عاملا حاسما في استيعاب جل واردات وشاردات الأحلام المنامية في بناء سلوكياتها ووعيها، ولا أقول أن من جهتي رجما بأن الروائية ترزح تحت عبء مثل هكذا معتقدات، بقدر ما أعزز دور موضوعة الرواية في ترسيخ مثل هذا الدور من بلاغة رؤيا الأحلام: (أنا امرأة تصدق أحلامها كثيرا. حدقت المرأة الغامضة التي زارتني مرتين في الحلم ولم أتبين وجهها.. وضعت المرأة اللامرئية في المرة الأولى بنتا جميلة بين ذراعي وقالت لي: صلي على النبي وشلي راية. /ص25 الرواية) وعلى ما يبدو أن هذه الزائرة الطيفية قد عاودت زيارتها مجددا عندما أنجبت زهية يوسف. وعلى هذا النحو نعاين أن حقيقة الشخصية زهية تشكل بذاتها ذلك الخليط الغريب الذي يحددها تارة بـ (امرأة جلادة) وتارة أخرى تلك المرأة التي لم تحتط حدود أحلامها ومعتقداتها القبلية، وزيادة على هذا وذاك كونها امرأة متغطرسة لا تلاقي منها الخادمات سوى ذلك العلو المفعم بالحس الطبقي المفارق والغارق. ولم تكد تقدم الخادمة الجديدة الأثيوبية إلى دار زهية وزوجها، حتى باشرتها بطرائقها الحكرية والمتعالية، على حين غرة كان زوجها عامر على العكس منها تماما، فهو كان بدوره يعامل - فانيش - بكل اللياقة والفراسة الودية، لدرجة إنه غدا يدعمها بالكتب والروايات، ما جعل هذا الأمر زهية تثور ثائرتها الضمنية في قرارتها المتغطرسة: (أتابع كل صغيرة وكبيرة إلى أن ينمو الحقد في صدورهن، فلا مجال لخطأ صغير.. لا مجال لهفوة عابرة، كل واحدة تدخل بيتي تعي اللحظة الأولى أن بقاءها لن يطول.. يقول لي عامر دائما: خليهن يتنفسن ؟لكن لا أحد يتنفس خارج المربع. /ص28 الرواية) ورغم كل هذه المقادير التقتيرية والمحافظة من قبل الشخصية زهية على حياة منزلها وحياتها الزوجية، راحت تفتقد خادمتها السابقة السيريلانكية دارشين في كل أوقاتها الحيوية التي كانت تروق كثيرا لزهية: (احتملت دارشين ثورات غضبي.. احتملت صوتي المرتفع.. احتملت صداعي النصفي وضيقي ـــ شاهدتها بأم عيني تقطع البصل دونما قفازات.. رفعت رأسها وأنا أشتمها.. وضعت عينيها في عيني لأول مرة منذ تسع سنوات، لدرجة أني خفضت رأسي، ارتبكت نبرة صوتي وهي تقول بعربيتها المكسرة: مدام. خلاص؟. / ص31 الرواية) تشير متواليات الرواية من جهة الموضوعة، ثمة تفاصيل حياتية تجمعها زهية بعامر وصديقاتها والرسم على الشيل، أو عن حكاية العم حمدان وذاكرته المعلقة عن زوجته الأفريقية.

ــ تعليق القراءة:

بأختصار شديد أن مشروع رواية (التي تعد السلالم) من الروايات الخاصة بالأدب الاجتماعي الخليجي، حيث لا يشغلها سوى هموم وقضايا من البداهة والعابرية والاخبارية وأحيانا الانشائية التصويرية. ربما أنا شخصيا عندما قرأت رواية (التي تعد السلالم) ولم أغب عن أدب المرأة الخليجية في روايات كمثال بثينة العيسى وأخريات من كاتبات السرد، لو لا أن مستوى هدى حمد يتجاوز مستوى رواية بثينة العيسى بمراحل كثيرة (فنية ــ تقنية ــ جمالية) ولكن المشكلة تبقى في روايات الأدب النسوي الخليجي مكررا في موضوعة وعقدة (الخادمة ـــ الطباخ ـــ الحب الخرافي ـــ الفتاة المضطهدة ـــ سلطة الأب الجبار أو الأخ الأكبر) كل هذه المحاور هي من التكرار والمط في تفاصيل الرواية الخليجية، كما الحال مع أفلام والدراما الهندية عندما تتحول أتفه الأسباب إلى موضوعة روائية أو درامية مضخمة ودون أي اعتبار للتفرد والفردية في صناعة الفن الروائي، مجرد امرأة تشكو من واقع نفساني ــ اكتئابي، يجعلها تنظر إلى ما دون مستواها، بأقصى درجات التحقير والاستخفاف والعنصرية. ولربما قد لا تعلم الكاتبة (هدى حمد) بأن معطيات موضوعة روايتها هذه تشكل علامة سلبية في حقها كونها أديبة عمانية، أما في ما يتعلق بباقي أحداث الرواية، وذلك الرسم لذاتها دون شعورها الحسي والزمني، فما هو إلا ذلك الترميز المعادل بأن الشخصية زهية تتجاوز وتصعد السلالم الزمنية والنفسية ضمن مواقع إحباط وتحفيز تجربتها العمرية والسلوكية إزاء واقعها القديم والجديد عبر رؤيتها الخارجية والداخلية من كينونة الذات بذاتها، وعندما ننظر إلى الرواية في شكلها الكلي والجزئي والكيفي النوعي والاحداثي والأفعالي، لا نجد فيها سوى معادلات موضوعية دالة على كون هواجس المرأة فيها هو المدلول الروائي عبر مواقعها الشخوصية ومنظورها عبر أزمنة وأمكنة تراتبية في أحوالها وخطوطها البنائية الأكثر ذاتية وغورا في الانطباع السير ذاتي والبيئي من عوالم دلالات موضوعة روائية اتخذت من الذات الأنثوية محورا لتشعبات نوازعها وأمزجتها وعاطفتها النفسية المضطربة، ولعل الكاتبة في خاتمة روايتها تصل إلى حدود مضمونية باردة دلاليا وموضوعيا ونمطيا: (دمعت عينا فانيش. قالت لي إنها المرة الأولى التي تدخل فيها إلى السينما في حياتها كلها. كانت عاجزة عن شكري. شاهدت انفعالاتها.. فرحها الجديد ـــ وعندما تحركت طاقة الكلام لديها وتحرر صوتها، تذكرت ما كتبته في دفتر مذكراتها - أنا أشبهك يا باي، أروض نمور أفكاري قبل أن تلتهمني.. أروض هشاشة روحي.. أروض أسبابا أكثر جدارة لأعيش. /ص272 الرواية) على هذا النحو من تحولات السرد والمحكي في الرواية ونوازع شخصيتها المشاركة، تتشكل لنا منظومة سحب خيوط الخاتمة الروائية كمحصلة خطابية راحت تتبنى التحيينات الذاتية في مساحة صوت المسرود، لتقدم للقارىء ونصها ذلك المعنى النوازعي المستحضر في مبنى ومتن صياغة الأفعال والأحوال الروائية بطريقة الوقائع المنطلقة من أشكال وبنيات مخيلة المرأة في محافل وحداتها الحكائية الذاتية في الكتابة. ولعل أهم خصيصة تلفت الانتباه في تجربة رواية هدى حمد، كونها تشييد الرواية كحكاية ذاتية في نمذجتها النسقية والموضوعية، إذ لا تتعدى عملية حكي امرأة عن حياتها النوازعية في التذكر والتشخيص، فالسرد فيها يبدأ بأخبار وتواصيف امرأة عن حالاتها اليومية وعن حكاية زوجها عامر أبن تلك المرأة الأفريقية، وصولا إلى مهاراتها في تـأسيس جمهوريتها الفئوية مع عذابات الخدم المساكين، على حين غرة تلعب تلك المرأة التي تود الانتحار، بما يقارب المعادلة الذاتية والنفسانية من وجودها الزمني والعمري وذلك ما بدا يشكل في مكنون ذاتها ترويجا لصراعها النفسي مع (الماقبل - المابعد) وأخيرا إلى استقرارها فوق فراشها إلى جانب زوجها: (نام عامر يديه حول خاصرتي وضمني إليه، شعرت بنبضات قلبه المتصاعدة - نام عامر ملتصقا بي كعادته. لم أتحرك بقيت أرقب السقف والأفكار تأخذني يمينا وشمالا.. سكنتني الطمأنينة فأغلقت عيني ونمت. /ص273 الرواية: الخاتمة) وإذا شأنا القول الأخير حول رؤية هدى حمد في منظور موضوعاتها الروائية وآلياتها البنائية والأسلوبية، فلا ننكر ما للروائية من جدارة البناء والأسلوب في مستوى نصها، وبالموازاة من ذلك فنحن لا نغبط من مجرى موضوعة الرواية، خصوصا وأن مغامرة الذات في محاور تجربتها، أنطلقت من أولية فضاء (البيت -الزوجة - الأم)، فما يخمن أن تكون عليه حالات الموضوعة سوى سرد نوازع وأهواء امرأة أتخذت من ذاتها موضوعا للرواية أولا وأخيرا.

***

حيدر عبد الرضا 

في المثقف اليوم