قراءات نقدية

عاطف الدرابسة: قراءةٌ نقديَّةٌ في مجموعة القس جوزيف إيليا الشعرية

عاطف الدرابسةما زلتُ مؤمناً أنَّ النصَّ الأدبي هو عمليةُ تواصلٍ مع الواقعِ، وتفاعلٍ مع الأنساقِ الاجتماعيةِ، والثقافيةِ السائدةِ، كما أنَّه في الوقتِ نفسِه عمليةُ تواصلٍ مع الأدبِ، ومع التاريخِ، ومع الدِّينِ، إنَّه باختصارٍ: عمليةُ تواصلٍ مع الوجودِ، وربَّما تكونُ مهمةُ الناقدِ هي الكشفُ عن أبعادِ هذا التواصلِ، وإعادةِ صياغةِ أنساقهِ فنياً، وفكرياً، وانفعالياً .

ولعلَّ مبدأَ التفاعلِ بين القارئ والنصِّ، والتواصلِ مع المبدعِ، هي التي تُمكِّن القارىء من إظهارِ المعنى إلى مقدِّمةِ الوعي، أو على الأقلِّ نحن لا نبحثُ في المعنى بقدرِ ما نبحثُ عن الوعي بالمعنى، أو على الأقلِّ تحليل استجابتنا نحنُ كنُقَّادٍ لما يثيره النَّص فينا .

فالنصوصُ الشِّعريةُ العظيمةُ هي المحرِّكُ الحقيقي للوعي، وبالتالي هي المحفِّزُ للإدراكِ، والكشفِ، والنصوصُ العظيمةُ هي التي تجبرُ الخيالَ أن يتحرَّكَ، أو أن يتخلَّلَ أنسجتَها اللغويةَ، فالنصُّ أشبهُ بخليةٍ حيةٍ قابلةٍ بفعلِ القراءةِ للتطورِ، والتجددِ، والتحولِ نحو أشكالِ أخرى .

تغمرني السعادةُ وأنا أقرأُ شعر القس جوزيف إيليا، وكذلك وأنا أستمع إليه، ولا أعرفُ لماذا تداعى إليَّ وأنا أقرأ ما لديَّ من شعرٍ أن أربطَ بين الموسيقى والشِّعر، ولا أعرفُ لماذا سيطرت عليَّ فكرةُ الصَّوت، وكان نبرُ الصوتِ وإيقاعه عندي أعلى، وظلُّ يُلحُّ عليَّ إلى نهايةِ المجموعة الشعرية، ويمكن أن أقولَ بثقةٍ أنَّ القسَّ هنا يُعلي من شأنِ النَّبر الموسيقي، لكن ليس على حسابِ اللغة، هذا الرَّبطُ العضويُّ بين الإيقاعِ الموسيقي، واللغةِ يثيرُ عند المُتلقي ما يعرف ب (الانفعالية)؛ أي أنه يستجيبُ انفعالياً للغةِ .

ففي النصِّ الأولِّ (قد غيَّرتنا الحربُ) لم تأتِ صيغةُ (مُتفاعلن) بوصفها تفعيلة، أو وحدة وزن وإنما جاءت وحدة موسيقية، ولعلَّ اللافتَ للنظرِ هنا أنَّ شغفَ القسِّ بالموسيقى، دفعه إلى استخدامِ (مُتْفاعلن) بثلاثِ وقفاتٍ، أي سببينِ خفيفينِ، ووتدٌ مجموع، وظهرت الصيغةُ الرئيسية (مُتَفاعلن) نادراً، وعلى استحياء .

إنَّ صيغةَ (مُتْفاعلن) تأخذكَ إلى إيقاعِ الرَّجَز، وكأنَّنا نرقصُ على إيقاعِ الحرب، فظهرَ المعجمُ الشعريُّ مُنسجماً مع هذا الإيقاع، فكان الحضورُ فعَّالاً للأفعالِ الحركيةِ : غيَّرتنا، اخرجي، تسرَّبلي، مزِّقي، لطمتْ، فامشي، واهربي، وابكي .. إلخ .

ولعلَّ الأمرَ اللافتَ للانتباه أنَّ هذه الحركةَ، كانت تؤولُ دائماً في نهايةِ كلِّ مقطعٍ إلى السُّكونِ، وكأنَّه يريدُ أن يدعوكَ كمُتلقٍ أن تقفَ عند نهايةِ كلِّ مقطعٍ، أو كأنَّه يريدكَ أن تُغنِّيه عند نهايةِ كلِّ مقطع : الغريبْ، النَّحيبْ؛ يطيبْ؛ اللَّهيبْ، للحبيبْ، ولن أدخلَ هنا في مضمونِ النَّصِّ، فهو قائمٌ على فكرةِ أنَّ الحربَ تُغيِّرُ الجميلَ، وتُغيِّرُ وجهَ الأرضِ، والإنسانِ والفنِّ، وإشكالية العلاقةِ بين الأخوةِ .

وفي قصيدتِه (فليسقطْ المكان) جاءت الوحدةُ الموسيقية (مُستفعلن)، بصيغِها (مُستعِلٌ - مُتْفعِلن) لتُحرِّر النصَّ من رتابته، لأنَّه يطرحُ فكرةَ المصيرِ والوجودِ، وإشكاليةَ الإنسانِ مع المكانِ، فالمكانُ قد تحوَّل إلى عدوٍّ، فلم يعُدْ صديقَنا، وتبدو علاقةُ الذَّاتِ بالمكانِ علاقةٌ إشكالية، باختصارٍ : صار المكانُ مُعادلاً موضوعيَّاً للموتِ، لذلك انتهى النصُّ بقوله :

سوف أهاجرُ إلى نفسي

وأبني قلعتي بألفِ ألفِ شُبَّاك .

وفي نصِّه الثالثِ (ورق)، تأتي الوحدةُ الموسيقيةُ (مُتفاعلن) ممزَّقة، ويأتي التٌَوزيعُ الطِّباعي مُمزَّقاً، ويتحوَّلُ الوجودُ لديه إلى ورقٍ، تاريخنا ورقٌ، وموروثنا ورقٌ، وفكرنا ورقٌ، فما أسهلَ أن يحترقَ هذا الورقُ، أو أن يتمزَّقَ هذا الورقُ، فنصبحَ بلا هويةٍ، ولا كينونةٍ، ولا وجود، لذلك أراد القسُّ أن يخبرنا بأنٌَنا عالمٌ هشٌّ ضعيفٌ بقوله :

فانظرْ

ولا تعجبْ إذا ما الكلُّ مُزِّقَ

واحترقْ ..

وفي نصِّه الرابعِ (قلمي)، لعلَّ المفارقةَ هنا تبدو في استحضارِ عنوانِ القلمِ، مقابلَ عنوانِ الورقِ في النصِّ السَّابقِ، وهنا سوفَ نلحظُ تحوُّلاً على مستوى البناءِ الإيقاعي، فالقسُّ هنا يستحضرُ إيقاعَ (فعولن)، وإيقاعَ (مجزوءِ المُتقارَب)، وإيقاعَ (فعولن) هنا إيقاعٌ مُتصارِعٌ، وإيقاعٌ راقصٌ، وإيقاعٌ مُنتظمٌ، فجاءت قصيدةُ (قلمي) على تضادٍّ مع قصيدةِ (ورق) . هناك الورقُ قابلٌ للاحتراقِ، والاشتعالِ، والتَّمزقِ، والفناءِ، غير أنَّ القلمَ هنا رمزٌ للثباتِ، والقوَّةِ :

أيَا قلمي لا تبالِ بما أقولُ

وكنْ شامخاً ودُمِ

والقلمُ هنا مُصاحبٌ لفظيٌّ عند القسِّ مع الدَّمِ، كأنَّ القلمَ قادرٌ أن يشعلَ ثورةً، وقادرٌ على إحداثِ التَّغييرِ، لكن يا عزيزي القسَّ :

هذا القلمُ حين يكتبُ على الورقِ، أخشى عليه أن يحترقَ، أو يتمزَّق، فليتَ القلمَ كان إزميلاً، لذلك لا تكتب على دفاترَ من ورقٍ، اكتبْ يا سيدي على الصَّخرِ ليخلدَ ما ينقشُه القلمُ .

وفي قصيدةِ (قالها أبي وأقولها)، نلحظُ تحوُّلاً مُدهشاً في الشَّكل، يطرحُ فيها إشكاليةَ الشَّكلِ، لا أقولُ بروحِ التَّمرد، أو بحدَّةٍ، أو احتجاجاً، أو ثورةً على قيودِ الشَّكل، أو على متطلباتِ النَّظمِ التقليديِّ، أو أنَّها جاءت ضدَّ البحرِ الشعريِّ، ولكن الأمرَ اللافتَ هنا أنَّ القسَّ يسعى إلى تجديدِ الشَّكلِ الشعريِّ بتقنياتٍ جديدةٍ، وإيقاعٍ جديدٍ، قائمٍ على توظيفِ وحدَتَين موسيقتَين (مُستفعِلن، وفاعلاتن) (ص 36)، أو بحرينِ صافيينِ متناوبينِ: (الرَّمل، والرَّجز) .

هذا التَّناوبُ بين البحرينِ، وبين الوحدتينِ الموسيقيتينِ جاء متناوباً مع الشَّكلِ، فجاءت القصيدةُ كأنَّها مسرحيَّةٌ لا قصةٌ، وبُنيتْ على حوارٍ مُتخيَّلٍ بين الابنِ وأبيه، وبين الماضي والحاضرِ، وفي هذا النصٌِ تظهرُ ثقافةُ القسِّ الواسعة، ويتجلَّى فكرهُ، وتوحُّده مع حاضره المأزوم، فأخذ موقفاً من التَّاريخِ، وأخذ موقفاً من الحاضرِ، واستشرفَ فيها المستقبلَ، وفي الوقتِ نفسِه كان الإيقاعُ طاغياً، والموسيقى طاغيةً، ونهاياتُ المقاطعِ طاغيةً : (فاكتئبْ، يلتهبْ، تغتربْ، ينسكبْ) . وفي عمليَّةٍ جراحيَّةٍ بسيطةٍ يُمكننا أن نكشفَ عن ولعِ القسِّ، وشغفِه بالموسيقى، أن نفصلَها على نصينِ : الأولِّ على الرَّملِ، والثاني على الرَّجز .

وفي قصيدتِه (أيُّها المَنسي) يفجؤنا القسُّ بموروثِه الإيقاعي، فالقراءةُ الأولى تسحرُكَ، وتوهمكَ أنَّكَ إزاءَ قصيدةِ نثرٍ، غير أنَّكَ إذا دخلتَ في تفاصيلِها ستُدهَشُ أنَّها تلتزمُ بإيقاعِ (التفعيلةِ الواحدةِ)، ولعلَّ الأمرَ الذي لفتَ انتباهي هنا هو وعي القسِّ بعللِ الإيقاعِ العربيِّ، وزِحافاته، وإنزياحاتِه:

أنتَ هنا مَنسيٌّ .. طيٌّ وقطعٌ .

(ص43) في السَّطر الرابعِ

 

وحدكَ تمشي في شوارعَ

خلتْ ممَّن عرفتَهم .. طيٌّ وخبن

ولفتَ انتباهي أيضاً استخدامَه للفاصلةِ الكبرى (فعلتن أو مُتَعلن) .

في المقطع الخامس : وكنتَ صادقاً .. خَبن

ثمَّ أيضاً يستخدمُ (مُتفعن)، ويستخدمُ القطعَ والخبنَ معاً، وحين يستخدمُ السَّببَ الثقيلَ مع الوتدِ المجموعِ، أو يستخدمُ عِلَّتينِ معاً، يجعلكَ تذهبُ إلى أنَّ هذه القصيدةَ نثرٌ، وهي قائمةٌ على وحدةِ التفعيلةِ، فقد استخدمَ كلَّ تحوُّلاتِ (مُستفعلن) .

ما زلتُ مؤمناً أنَّ النصَّ الأدبي هو عمليةُ تواصلٍ مع الواقعِ، وتفاعلٍ مع الأنساقِ الاجتماعيةِ، والثقافيةِ السائدةِ، كما أنَّه في الوقتِ نفسِه عمليةُ تواصلٍ مع الأدبِ، ومع التاريخِ، ومع الدِّينِ، إنَّه باختصارٍ : عمليةُ تواصلٍ مع الوجودِ، وربَّما تكونُ مهمةُ الناقدِ هي الكشفُ عن أبعادِ هذا التواصلِ، وإعادةِ صياغةِ أنساقهِ فنياً، وفكرياً، وانفعالياً .

ولعلَّ مبدأَ التفاعلِ بين القارئ والنصِّ، والتواصلِ مع المبدعِ، هي التي تُمكِّن القارىء من إظهارِ المعنى إلى مقدِّمةِ الوعي، أو على الأقلِّ نحن لا نبحثُ في المعنى بقدرِ ما نبحثُ عن الوعي بالمعنى، أو على الأقلِّ تحليل استجابتنا نحنُ كنُقَّادٍ لما يثيره النَّص فينا .

فالنصوصُ الشِّعريةُ العظيمةُ هي المحرِّكُ الحقيقي للوعي، وبالتالي هي المحفِّزُ للإدراكِ، والكشفِ، والنصوصُ العظيمةُ هي التي تجبرُ الخيالَ أن يتحرَّكَ، أو أن يتخلَّلَ أنسجتَها اللغويةَ، فالنصُّ أشبهُ بخليةٍ حيةٍ قابلةٍ بفعلِ القراءةِ للتطورِ، والتجددِ، والتحولِ نحو أشكالِ أخرى .

 

الكاتب والناقد د. عاطف الدرابسة - الأردن

 

 

في المثقف اليوم