قراءات نقدية

سوران محمد: الخطاب الشعري المعاصر

سوران محمدأفتشُ وبسريّة

عن دواءٍ ناجعٍ للعصافير ِ

التي أصيبتْ بالصممِ فجأةً

لحظةَ مرّتْ فوقَ أعشاشها

طبولُ الحرب ِ

كي تتناولَ إفطارها بهدوءٍ

على سطحِ الدارْ

- رياض ناصر نوري-

ان الشعر والنقد مكتملان للبعض في سبيل نجاح عملية الانتاج عند الشاعر، اذ ان الكم الهائل من الانتاج الشعري اليومي بحاجة الی قراءات متأنية ومعاصرة لسبر أغوارها والقيام ببناء جسر الوصل بين الشاعر والمتلقي، خاصة في زمن هيمنة الحاسوب والثورة التقنية السريعة وانتشار المواقع التواصل الاجتماعي بين أيدي الناس في شتى ارجاء المعمورة، وليس المقصود هنا بالنقد مفهومه الكلاسيكي، اذ ان الفرق بين النقد والإنتقاد واضح وبسيط وكما قيل فالنقد " يحلل العمل الفني أو الأدبي ويركز على إيجابياته وسلبياته بينما الإنتقاد لا يركز سوى على السلبيات وهذا طبعا مرفوض في مجال النقد"، ناهيك عن ان النقد الحديث يستفيد من نظريات أدبية وعلمية حديثة شتى وقد تخطى تلك القوالب الاسمنتية التي وضعتها القراءات التقليدية من القيام بالتحليل حسب الذوق فقط ثم الحكم عليها، في حين ان هنالك عوامل متداخلة شتی توءثر في النص وتنشط نبضه وتغنيه ثم تساعد على ولادته سليما، بل سيشارك القاريء المعاصر مشاركة فعالة في كتابة الشعر عن طريق قدرة استيعابه وقراءاته المتنوعة للنصوص والاحاطة بأبعاده الدلالية وقيمها الجمالية.

لاشك ان معظم نصوص 'عالم الثقافة' هي نصوص ابداعية بنوع من الأنواع وشکل من الأشكال، وهذا ما جعلنا نعتاد على تصفح نصوصه ومتابعة شعرائه على مدار أيام الاسبوع، حيث يأتون بكل جديد ويسطرون أبياتهم من قلوب صادقة مليئة بالابداع والابتكار والالهام ويتداولون مواضيع حية وبليغة نابعة من واقعنا المأساوي الشعري بحد ذاته، بل نحتاج احيانا الى الوقوف على نص ما لأيام عدة كي نستنبط من دلالاته القوية شيئا تروي ظمأ أنفسنا وتشعرنا بلذة روحية نادرة في لحظة خاصة ما. هنا سيكون بمقدور الشاعر التخطي نحو عالم الشهرة الايجابية دون کلل أو ملل، هنا تحت هذا السقف المشترك نتقاسم همومنا وآمالنا وبلاغتنا من خلال خطاب النصوص ومكنوناتها المتنوعة، نتحدث مع الآخرين عن طريق الرموز والاستعارات والاشارات والكيس يفهم مالم يقوله النص مباشرة.

يقول الشاعر الدنماركي المعاصر نيلس هاو: "ان القصيدة الجيدة هي منحة، ولا داعي أبداً أن يتم إغتصاب الأفكار وكتابة قصائد بلا أدنى إحساس كما يفعل البعض، اذا القصيدة الجيدة هي غامضة!، لها حياتها الخاصة، المستقلة بالطبع على مؤلفها، بمجرد كتابتها فإنها تنتمي إلى كل شخص، وهذا هو التحدي الأعظم لكل شاعر".

بل احيانا يصل الشعر الی مستوى بحيث يقوم بالعلاج النفسي لحالات الاكتئاب والارق الذي يصيب الانسان، وبمجرد اخراج ما في نفس الشاعر سيشعر بالهدوء والطمأنينة فيما بعد، کمـا يمكن أن ينتقد الشعر الواقع من خلال صوره ويٶدي دور مقال صحفي ساخر، لكن من الصعب أن تملأ السياسة أو الصحافة مکان الشعر أو يقوم بدوره، وعلی سبيل المثال  کما تقول الشاعرة الجريئة والصحفية المتمكنة نداء يونس في مقطع شعري:

الحزن ابن الغانية هذا

عليك أن تدفع له إتاوه

كي لا يوقظ الألم الذي خدرته بالخداع

هنا نتسائل أنفسنا مع الشاعرة : من أين أتى مصطلح (إتاوه) الى داخل هذا الشعر وأکمل صورته البليغة اذا لم يكن موجودا على أرض الواقع أو في الواقع الاداري والسياسي المفروض الذي تعيشه الشاعرة! وكما نعلم جميعا بأن الرشاوي والاتاوات والمحسوبية وجهة قبيحة تمثل الفساد في المجتمعات المتآکلة، لكن من الجهة الاخرى وعن طريق هذا الانتقاد والسخرية ‘Satire’ تخدع الشاعرة النزعة الحزينة داخل الذات كي لا توقظ الالم من جديد، لأن الامور اذا خرجت من تحت السيطرة واصبحت ظاهرة استعمال الاتاوات نوعا من الروتين اليومي في مجالات الحياة المختلفة عندئذ تحصل الطامـة الكبری، مع ان الاصل في الكون هي النزاهة والنزاکة، لكننا نتعامل مع هذا الخطاب الشعري كثورة وحلا في نفس الوقت للواقع الفاسد الذي أدى الى شل كل حركة بناءة داخل المجتمع وقتل روح الوطنية في المواطنين وتسبب في خلق صدمات غير متوقعة عند الفرد الواعي وانتشار الاكتئاب والهموم بين الناس..

في حين ان هذه الفئة الاصيلة من الشعراء لا يستطيعون ترك القراءة ولا القلم، ويجدون فيها الانس وضالتهم، حتى وان يکن باهضا دفع ثمن هذه الكلمات والمواقف الانسانية الجريئة، کما يقول شاعرنا الفاضل عبد الغني المخلافي:

أكتب – يعني أنني أعيش

أنقطع – يعني

أنني أموت.

القراءة حبلي السري،

والكتابة رئتي،

ودونهما أفقد توازني

ولی نفس المنوال نتابع ونراقب مع الشاعرة نور الهدی الشعبان هذه الثورة الشعرية الطليعية التي تجمع بين الاصالة والابداع من جهة وأرسال الرسالة الشعرية الخالدة من جهة أخرى، وان الشاعر کما نعلم ککائن اجتماعي هو ابن بيئته لا يمکنه غض البصر عن ما يجري من حوله من تطورات وتقلبات وانعکاسات، بل هو يريد ان يكون لە يد الطولى وکلمة الفصل كي يترك بصمته على الاحداث ويكون شاهدا حيا للتأريخ بحذافيره، وهم المثقفون الرواد الذين يوجهون الجماهير نحو الافضل وينبهونهم بمستقبلهم عن طريق تنبٶاتهم الصادقة وصدق كلماتهم البليغة الابتكارية، في زمن ظهور فوضى الخلاق عن طريق ايديولجيات تولد ميتة وعندئذ لا يكون لقهوتنا أي مذاق وطعم يذكر، لا اللون لون القهوة ولا الريحة ريحة القهوة الاصيلة، فأنتبهوا أيها الناس من العواصف القادمة والقساوة التي زرعت في قلوب الجلاوذة:

 ايديولوجيا تخرج من ضلوعي الميتة،

 راقصة تعزف الضوضا

.

غجرية سرقت سمرة قهوتي

هجرت كواكب لغتي ..

ف ذاب سكر المأوى على جبهة الأعوام

.

السيل قادم ..

والشتاء يقسو على الصباحات

المريضة

وهذا الحماس للشعر والتفاعل معە يجعلنا ان نبحر معا علی موجات كلمات شعرية جميلة ورقيقة لـلشاعرة: سميرة عيد للبحث عن ما فقدناه من الحرية والكرامة، عن بصيص أمل وضوء ساطع ينير الصدور قبل الاوطان، نقتفي أثر بتلات وردة ونعطر أنفسنا بها، نتزين بجمال البراءة والصفاء الوجداني كي نسترجع دورنا الريادي بين الامم في عصر التفارقات والتناقضات والاحاديث الفظاظة، هذا هو مبدء الشاعرة التي تسكن في اعماقها السكينة والحب والامل:

أبحر ُكما الحرّية باحثةً عن

أغنيات الشّمس في صدور

الورد، أقلّب بتلاتِها

وأسكنُها، أستحمُّ بعطرها

وأوقظ بنشوتي الفصاحةَ

والبيانَ،

أحاول ُ أن ألمس َبها

الزّمن. .. أعصر عمري،

أرسل فيه وجعي،

وأكتشفُ البراءة.

و ما تٶکده كلمات طالب هماش في الضياع والتيه الذي يراودنا منذ زمن ليس بقصير خير برهان على ما أسلفنا ذكره، مع ان هذه الرٶية ‌ليست تشاءوما وانذارا بأيام نحسات، بل هذه هي حقيقة واقعة  نستنبطه من واقعنا الأليم والذي تحول فيه الثوابت الی متغيرات يتحکم بها المصالح والتفرق والجهل واللامبالاة، هذه ليست بحسرات الشاعر وحده، بل حصيلة مرة جعلت  الابصار تعمى وغشيت الاخرى من جراء هول المآسي، وعن طريق استعمال البحر يستعير الشاعر هنا مفرداتە وصوره التعبيرية لتدوين رسالته المشفرة والتعبير عن ما وصل اليه من قراءات زمنه المعاصر الكئيب:

آهٍ من هذا البحرِ الضائعِ

أرخى كلَّ ضفائرهِ الزرقاءِ على عينيهِ

وغطَّ حزيناً ..

وأنا فوق الشاطىءِ أقرأُ في الأمواجِ

ضياعي وبقيَّةَ أعواميْ .

 ومن ثم تكتمل سهام الدغاري الصورة لطالب هماش وتذكرنا بأصابع وأيادي وأرجل مبتورة، بمشاجب الأسلحة التي نحن بغنى عنها، نحن نريد القرطاسيـة والقلم وأدوات البناء كي نبني جمهورية الشعر السلمي وتفتح حضنها للجميع دون أي فارق عرقي أو مذهبي، وسنشارك جنبا الی جنب الشاعرة انسانيتنا مع الجميع بالالفة والتعاون، حتى وان لم نملك تلك اللحظات الجميلة في واقعنا الحياتي الا اننا نلتقي بها داخل عالم هذه القصيدة المليئة بالانفعال والانشطار والانصهار، عالم جميل وبريء بعيد عن الدمار والطمع والوحشية، يا ليت فئة الساسة قرأوها واتعضوا منها قبل ان تفوتنا فرصة العمر القصير دون ايجاد يوم سعيد فيه!:

أحاول أن أقبض على التقاويم بأصابعٍ مبتورة

وأن أفوز ولو بيوم واحد.

أعلقه على مشجب الذاكرة

أعنونه –بيوم سعيد–

كلنا نبحث عن هذا الوطن المفقود كي نعيد سعادتنا وهويتنا فيه ونستلهم قوتنا المعنوية منه، هذا ما تبحث عنه حنان حمود مع سهام وطالب والآخرين، ليس الأوطان الملطخة بالدماء والسماسرة والسفاحين والمتاجرة وهدر الكرامة، تلك الاوطان المعوجة تسکن فينا، ونحن نريد ان نسكن في أوطان لها معاني تعيد الحق لأهله ويشعر الفرد فيه بالطمأنينة والالفة والمواطنة، كي نعيد مجرى التأريخ الی نصابه نحن بحاجة الی ثورة معرفية لا موقع فيها للكسول المتعجرف، الجاهل الذي يدافع عن الحق بلسانه ويقف ضده بسيفه، بالروح الايجابية نغلب السذاجة والانانية ونوقف عملية هدر وبيع الاوطان للجبابرة، فلنقل كلمتنا الفصل مع حنان ونبني وطنا لضياعنا، نوقد شمعة مضيئة بدلا من ان نلعن الظلام:

 وطن نسكن فيه

ضاق ذرعاً لا تتململ

اصمتْ لا تُزعج الفاسدين

القانون يتمرمغ

^^^^

وطن نسكن فيه

امشِ حافي القدمين

دماء رخصت

تسيل على الطريق

**

وطن نسكن فيه

لا تمتْ مرفوع الرأس

القبر لا يعنيه رأساً مرفوع

**

وطن نسكن فيه

ثمار حلمك اقطفها

رغم فجاجتها

البيع في سوق النخّاسين

اذا لا نستجيب لنداء القدرو ولن نبحث عن الحقيقة ونضحي من اجلها، فلا يكون مسقبلنا احسن من حاضرنا، هاهو الاستاذ زيد الطهراوي يلقي الضوء على استنتاج رهيب من خلال تجربته مع صديقه داخل مجتمعه، حيث نلاحظ في نثره اشارة خطيرة في القصة الحزينة التي يقصها علينا، فلنتركز معه ونلاحظ الاوقات العصيبة التي تنعکس المعايير وتختلط الامور على الناس وتتشتت أمورهم، حينها يتعامل القوم مع النزيه العادل بخشونة وعدم الاحترام ويرونه نشازا، بل يمكرون مكر الليل والنهار لجره الی مستنقع الرذائل والخبث ومن ثم اسقاطه والمشي به في طرق الاعوجاج الی ان يكون على شاکلتهم- عندئذ يسمونه فاضلا وقورا، فلن يأتي استاذنا زيد بهذا المثل من لاشيء، وانها ليست اساطير وكوابيس وخرافات وضرب من خيال، بل مستمدة جذورها من واقع اليم يراه الشاعر الخبير بأم عينه.

 اذا ما هو الحل؟ هنا يجاوبنا الشاعر: بأن تشخيص المرض يعتبر بمثابة نصف علاج، والنصف الباقي يبقی على الاكاديميين والمتخصصين والعقول النابغة التي تقود الامم المتحضرة الی آفاق الرقي والتألق ثم سائر الشعب، ولكي نرجع المكانة للشاعر لنا ان نتسائل مع بهاء طاهر: "إن صح أن الشعراء هم ضمير الأمة، فما مصير الأمة التى تنسى شعراءها؟" ثم يقول الاستاذ زيد في نصه:

في هذا المجتمع حين تنمو الأفكار السقيمة يصبح البريء شريراً والخبيث خيِّرا

متى سيكفون عن محاربة البريء؟

ومتى سينظف البريء ثيابه فيرجع بريئاً نظيفاً

قد نلتمس الأعذار لذلك الفتى الذي ضعف فغمس قلبه في الأوحال

ولكننا لن نلتمس الأعذار لمجتمع ينزع الطهر من قلوب أفراده نزعاً وإن لم ينزعوه فليس لهم إلا الذل والبوار

اذا هب الريح بما لا تشتهي السفن ولن نتحرك ساکنا ونقبل بفرض ارادة جنرالات الحرب علينا وكلنا نلقي باللوم على الاخر،هنا ستحدث الاسوء وسنغرق جميعا في وحل الانقضاء والذوبان، ويغرب نور الحياة عن بصائرنا ولا نرى الا عتمة، عندئذ ستنزعج الشاعرة المينا علي حسن منا، عندما تفقد روحها الحورية وذراعها الطير ووجها الغيمة وجسدها السماء، وتتفرد بوحدتها لأنها لا ترى احدا على شاکلتها أو تقف معها في نضالها الدءوب، فهي لا تجد احدا يشبهها في النقاء والصفاء والنزاهة، هذه الروءيا ليس بيأس بل انما حقيقة مرة لن تحمد عقباها اذا وقعت، وبلا ادنى شك لها اسبابها ومسبباتها، لكن الشاعرة هنا ليست بقائد أو رئيس تأمر ويطبق، بل هي كأنسانة ملهمة تحذر وتوءشر، ولو ان الكثير منا نشارکها في الرأي لكنها هي سباقة حينما ارادت وبجرئة شعرية أن تضع النقاط على الحروف، تنتقد وتوصف حالنا بنقطة واقفة على منتصف صفحةٍ بلا سطور، وهكذا من منظور الشاعرة ستذهب الجهود هباء منثورا اذا لن نصغي الى صوت الضميـر الذي مازال حيا في جوفنا ونسترد الحقوق من الطغاة ونعطيها للمظلومين ويكون الضعيف فينا أعز الناس علينا:

لا أجدُ ما يشبهني

أُكرّر نفسي.

لا أفعل شيئاً

مثل نقطة واقفة على منتصف صفحةٍ بلا سطور.

لا ألتفتُ إلى الوراء

لا أنتظر مستقبلاً

ممتلئاً بالأحداث.

نحن في هذه الحياة محاربون

لا نقتني لأنفسنا شيئاً

سوى الذي يفرضه قائد الحرب.

منغمسون بما لا نحبّ

لي روح حورية

وذراع طير

ووجه غيمة

وجسد كالسماء.

ليس لي مكان إقامة

في الختام وبمعزل عن الخطاب الشعري أود أن أشير الی اللغة الفنية الراقية والتقنية العالية الجودة التي استعملتها الشاعرة المرموقة مها رستم في قصيدتها (حيرة) ولا أخفي اعجابي بهذه التحفة النادرة والجميلة، فهي لغة مبطنة داخل اللغة الظاهرة، وهي ذات معنى تٶدي بنا الی معاني آخری واستباطات متعددة، وتنشطر على الدوام، وهي مفتاح يفك طلاسم شفرات عدة، هنا تعطي الشاعرة لغة للأشياء ومكونات الطبيعة كي تعبر عن ما تخالج في صدر الشاعرة وهذه القصيدة بحاجة الى دراسة مطولة لأعطائها الحق الكافي، فالصباح والظل والجدار والعورة و...ليست الا اشارات واحالات الى اشخاص او ربما وقائع أو حالات نظمها وألفها الشاعرة بأروع شكل تتناسب وتتجاذب کل کلمات مع البعض لتكملة الصورة الاجمالية للمشهد الشعري هنا مع انها تراها من نافذة الحيرة وبشيء من الشكوك والاستغراب، لکنها کلها صور ابتكارية جذابة ونادرة ودلالات متينة ورصينة تحتاج الی من يفك شفراتها، ليس من وسع وسعة كل شاعر الاتيان بهذا الجو المشحون بالمشاعر والصور المتجددة والتكاثف الايحائي وفي محاولة ناجحة هي اعطت صفات الانسان کالنظر للحزن والمعاندة للجدول، عيون للوقت، أذرع للظلم ... وهذا يدل على مهارة الشاعرة وقوة الخيال عندها لابتكار هذا المشهد الشعري واللوحة الفنية من تلك المصطلحات الشعرية المركبة والموجودة في متناول الجميع، وعلى نفس الشاكلة تأتي بتعابيرها التصويرية للجمادات والحيوانات بل تتجول في الكون الواسع لأعطاء البيان قوة وجرعة اضافية الى المعنى والمقصود المكتوم داخل نفس الشاعرة، ونحن نمر بـ: وحل الاوجاع، أنياب الغبار، مضجع الهوی، حقائب الحنين، حراب المسافات، أحشاء أفراح، جوع الحيرة، قارعة ندم...الخ.

 هنا للحيرة جسد ولغة، وهي ليست وحدها الحاضر يوجعها والماضي يشتتها ويبعثر ترتيب أفكارها بل تشارکها الرأي المينا علي حسن حين تقول: (مثل نقطة واقفة على منتصف صفحةٍ بلا سطور. لا ألتفتُ إلى الوراء. لا أنتظر مستقبلاً).. نعم هذا صحيح، فان الدنيا بذاتها لها نغمة حزينة في أعماقها ولايمكن لأصحاب المشاعر الرقيقة والاحاسيس المرهفة تجنبها وهذا ما يٶكده فيدريكو غارسيا لوركا عندما قال:

 (آه يا لها من أحزان عميقةٍ ‏لا يمكن تجنبها .. ‏تلك الأصوات المتوجعة ‏التي يغنيها الشعراء).

واليكم قصيدة مها بأكملها واترككم مع التلذذ بأستعاراتها ولا اعرف في النتيجة هل تتفقون مع ما ذهبت اليه أم لاء؟:

 

يهطل الصباح بنداه على رموش نافذتي الحيرة

تاركأ ظله عاريا

يبحث عن جدار مجنون

يستر عورة خيباته

أفكر لا أعلم بماذا أفكر ؟

بحل تآكلت مفاصل عقله

وهو يجادل ربوة حالمة

وجدول يعاند نهرا فيقع

مغشيا عليه عند منحدر الضوء

**

أحتار كيف ينام الحزن بعين واحدة

في عالم مقعر يهذي بضجيج بطون خاوية

تُحمَلُ على نعش الظل بكتفين ممزقي الأوتار

وألسنة الوعود تتزاحم في ظرف تلتهمه أنياب الغبار

شرود يقض مضجع الهوى

يتسلل خلسة عن عيون الوقت

يسلك دروب الامس التعيسة

يغوص في وحل الأوجاع

**

حيرة

تقض مضجع الصباح

كلما امتدت نحوه أذرع الظلم الآثمة

والداء يضيق الخناق على أرواحنا

التي تتخبط في عشواء شباكه أسيرة مسلوبة الفرح

**

حيرة أنا

كيف أحزم حقائب الحنين

وأمضي أمدّ أشرعة المبررات والمسوّغات الهزيلة

فتمزقها حراب المسافات المهملة

ولا أحظى بفتات لقاء

فأعود أتجرع الغصات

واحدة تلو الأخرى

وداء الفراق ينقض على مهجتي

ينهش أحشاء أفراحها

بأنيابه المدماة

وينهي ميلاد ذكرى

كانت بالأمس تتمختر بخاطري

وعطر حضورها يهيج حلو مشاعري

وأجنحة المنى ترفرف كلما ساقتك

ريح الصبا الى احضان مخيلتي

**

واليوم جوع الحيرة ينهشني

ويرميني جثة ممزقة الرؤى

على قارعة ندم يغوص

بأحلام الماضي

حتى الرمق الأخير من الفوضى

**

حيرة تمص خفقات أضلاعي وترميها في

يم وجع دون مقود أو طوق نجاة

متخم قلبي من ذرات هذه الحياة المتناثرة

وعيشها الهزيل يكفّن آمالي ويبتر أحلامي

بحفنة من صديد يحاول صد غائلتها المتآمرة

دون سلاح ولا حتى وتر

**

حيرة أنا

وسؤال مجنون ينخر في ذاكرتي

هل يموت الحلم رجما ؟

بموجة غضب حبلى بالأسى

كيف يموت وينتهي في القلب مولده

وفي الوجود عبق الياسمين ودفقه العاطر

وسنا الضياء يكحل ناظري

ورفيف أجنحة المنى

الوليد ينساب في عروقي

يضخ دمي

احتار في أمري

ربما أكون على مرمى سنبلة من الخير

ولكن الحاضر يوجعني

والماضي يشتتني

ويبعثر ترتيب أفكاري

ويأخذني بعيدا في سراديب

حكاياه الطينية البريئة

ويردني الى غدي اليتيم ..

***

سوران محمد

 

 

في المثقف اليوم