قراءات نقدية

محمد المحسن: قراءة تأملية في قصة: السفير للروائي والقاص التونسي المحسن بن هنية

محمد المحسنمن المعروف أن السيطرة الفنية على أبعاد الشكل فى الفن مسألة فى غاية الأهمية والصعوبة لا يستطيعها غير فنان قادر على السيطرة على أدوات فنه خاصة فى فن مرهف مراوغ كفن القصة القصيرة، ومن الطبيعى أن ثمة أعمالا قصصية يحتل فيها الشكل البنائى حيزا يخل بالعلاقة بين الشكل والمضمون أوـ بتعبير أدق يخل بالنسب الدلالية لمكونات الشكل الفنى غير أن هذا الخلل لا يجعل العمل الفنى شكليا فقط، وإنما يخل بأحد مقومات بنية الشكل، وهو الانسجام الجمالى لمكونات الشكل، وهذا الخلل هو دليل حسى على اضطراب المضمون لدى القاص أو قل اضطراب التجربة لديه فهى مشوشة لم تتبلور وضبابية لم تتحدد، وهذا يؤكد أن (شكل القصة أو القصيدة مرتبط أصلا بالوظيفة التى تشكل من أجلها مادام قد كتب لقارىءفى مجتمع قائم الآن أو سيقوم فى المستقبل، وهذا التواشج بين الشكل والوظيفة يؤكد على أن الاهتمام بالشكل ليس مجانيا وإنما هو تعبير عن مدى الاهتمام بمدى قدرة المبدع على تحقيق أغراضه) (1)

هنا أريد أن أشير إلى أن مفهوم الشكل ليس على معنى الوعاء المجرد الذى ينصب فيه المضمون بل الشكل هو التعبير والبناء معا والقدرة على ـ توتير الجدل ـ إن صح التعبير بين العناصر الجمالية الشكلية لخلق الدلالات الإنسانية للقصة وذلك من خلال الاستجابة سواء ـ لدى الكاتب أو القارئ ـ لمفاهيم التوازن والوحدة والاستمرار فى بنية الشكل نفسه بمعنى أن يتحقق فى النص هذا التوازن بين العناصر الجمالية التى تتفاعل من خلال وحدة انطباع إنسانى ما فى كافة مكونات الشكل القصصى، وعندما يتجادل الرمز وما له من محددات فنية مع الشكل القصصى وما له من محددات جمالية، يصير الشكل الرمزى للقصة ذا دلالة خاصة (فالشكل ليس الرموز وإنما هو التعبير الكلى بالرموز.. فليس المخطط الهندسى للقصيدة ـ أو القصة ـ هو شكل القصيدة أو القصة ـ بل الشكل فى العمل الأدبى التعبير البنائى وليس المخطط الهندسى)(2)

فإذا انتقلنا إلى المجموعة القصصية (أحوال) للروائي والقاص التونسي المحسن بن هنية وجدنا القاص فى قصة (السفير) يدخلنا إلى عالم الطفولة العذبة الذى يظل أفق ابتسام على مدى عمرنا كله،والكاتب يبنى قصته من مواد الواقع الحسية من حكايا الجدة:” “حضرت الجدّة لم تتغيّر كما هي تحنو على حفيدتها. أنا الذي تغيّر.. فأصبحت طفلا يتوسّد ركبة الجدّة. أصابعها تبحث عن فريسة تختبئ في شعري.

وهي تقول: ”علّي إسمو بالصّاد و مشى يصطاد لقاها هي… لحقوا خوه جابوها حيّة..”

هكذا تفعل معنا قبل كلّ حكاية. تختبر مدى قدرتنا على الفهم والتأويل. فتطرح لغزا كهذا. فإن توصّلنا إلى حلّه حكت لنا حكاية. أو تحجم عن الحكي ولكن قليلا ما تفعل”. جميع هذه المفردات التى تشكل أفق الطفولة تنير وتسطع لدى الكاتب الذي يتركنا منفتحين على إيحاءات جمة ودلالات خصبة، أو هو يتركنا فى مفترق طرق جمالى ـ إن صح التعبير ـ ولنا أن نسلك طريقنا الجمالى حيث شئنا فى الفهم والإدراك ، وهذا من ميزات الرمز الكبرى التى يختلف بها عن كافة صور المجاز فى التشبيه والاستعارة والكناية، وإذا رجعنا إلى المنهجيات اللسانية فى تحليل الخطاب الأدبى وجدنا ما يساعد على التمييز بين بنائية الرمز وبنائية الصور الجمالية الجمالية الأخرى (فالفارق الأساسى بين الرمز والاستعارة يكمن فى الوظيفة التى يسبغها كل منها على التمثل الذهنى الذى يطابق المدلول الشائع للكلمة المستعملة وهذا يمكن أن ندعوه بلفظة (صورة) ففى البناء الرمزى، يكون إدراك الصورة ضروريا لفهم المعلومة المنطقية التى تتضمنها المقولة .على العكس من ذلك البته انتقال المعلومة وفهمها فى الاستعارة وجود هذا الوسيط… وفى حين يتوجب فهم الصورة الرمزية فهما عقلانيا لكى يتم تفسير المرسلة، لاتدخل الصورة الاستعارية فى البناء العقلانى للمقولة ذلك لأن المضمون الإعلامى لهذه الأخيرة يستخرج دون اللجوء إلى التمثل العقلانى (3)

وهذا يعنى أن علمنا المسبق بالمواضعات اللغوية والاجتماعية لرمز (البراءة) له توجيه أساسى فى مدى وعينا بالدلالات الحسية التى جسدها السرد فى القصة، حيث تتجسد البراءة فىالعذوبة والطلاقة والبساطة، ويدفع بنا الكاتب (المحسن بن هنية) إلى أعماق إنسانية أخرى للبراءة لينتقل الرمز إلى أبعاد كونية أكثر عمقا واتساعا، فتصير البراءة بذلك اتحاد المخلوقات بالمخلوقات، واستدماج الذات الإنساية الصافية..”حضرت الجدّة لم تتغيّر كما هي تحنو على حفيدتها. أنا الذي تغيّر.. فأصبحت طفلا يتوسّد ركبة الجدّة. أصابعها تبحث عن فريسة تختبئ في شعري. وهي تقول: ”علّي إسمو بالصّاد و مشى يصطاد لقاها هي… لحقوا خوه جابوها حيّة..”

هكذا تفعل معنا قبل كلّ حكاية. تختبر مدى قدرتنا على الفهم والتأويل. فتطرح لغزا كهذا. فإن توصّلنا إلى حلّه حكت لنا حكاية. أو تحجم عن الحكي ولكن قليلا ما تفعل.

” كان سلطان برّ العرب من سلالة سلاطين هذا يخلف هذا الابن يخلف الأب. أمّا إذا كان للسّلطان أكثر من ولد.

-إمّا أن يقتل الأخ أخاه حتى ينفرد بالسّلطة بعد حرب ظروس أو تقسّم البلاد والعباد والمدن والمواني والمطارات فتصبح السّلطة ذا حريم واسع وأمّا إذا أنجب أكثر من اثنين فبلاد العرب واسعة وقابلة للتّقسيم فما العيب وهم أمة واحدة أن يصبح فوق كل ّبيت علم، فيحتلّون كراسي في مجلس الأمم.

توقّفت جدّتي لعلّها تستردّ أنفاسها أو توشّي الحكاية بالتّشويق لتزيد بذلك لهفتنا ورغبتنا في معرفة تطوّرات الأحداث…”

مأ أرغب فيه..؟

أرغب قبل الحديث عن الشّخصيّة في المنجز القصصيّ السّياسيّ العربيّ (قصة-السفير-للروائي والقاص التونسي المحسن بن هنية-نموذجا)، في توضيح مرادي بإيجاز من ثلاثة مصطلحات أساسيّة، هي: السّياسة والشّخصيّة والقصّة.

مصطلح (السّياسة) مصطلح واسع في الواقع الحقيقيّ غير الفنّيّ، يشمل القرارات المتحكِّمة بقضايا المجتمع، من الطّعام والزّواج والتّعليم إلى الصِّناعة والاقتصاد. فأمور المجتمع تخضع كلّها للقرار السّياسيّ الذي يصنعه الحاكم لضبط حياة المحكومين. وهذا ما أشار إليه بأسلوب فني الكاتب-بن هنية- ولكنّني، في التّحليل الفنّيّ للنّصوص المتخيَّلة، سأكتفي بقضيّة واحدة، هي قضيّة العلاقة بين المحكوم والحاكم، وخصوصاً أسلوب الحاكم العربيّ، صانع القرار، ومُنفِّذه، وعلاقات أعوانه بالنّاس. وليس المقصود بالسّياسة هنا وفي الواقع الخارجيّ الحقيقيّ (علم السّياسة)، ولا (الفلسفة السّياسيّة)؛ لأنّ علم السّياسة يعني النُّظم السّياسيّة الهادفة إلى تحديد المبادئ العامّة، والمناهج العلميّة المستخدمة في الوصول إلى التّعميمات الخاصّة بالحياة السّياسيّة. في حين تعني الفلسفة السياسيّة دراسة الأفكار السّياسية، وتأمُّل منظومة قيمها وأبعادها الزّمنيّة.

أمّا مصطلح القصّة فأقصد به النّصوص الإبداعيّة التّخييليّة الحكائيّة التي رصدت علاقة المحكوم بالحاكم وأعوانه، ولن أهتمّ بالقصص الوعظيّة غير التّخييليّة؛ لأنّ الإبداع القصصيّ شرط لتجسيد الإمتاع والإقناع والتّأثير؛ أي أنّ السّياسة في المنجز القصصيّ السّياسيّ، في حدود الحديث الرّاهن، هي التّعبير الأدبيّ الإبداعيّ عن طبيعة الحُكْم وأسلوبه وتجلّياته كلّها في المجتمع العربيّ.

أمّا الشّخصيّة فأقصد بها ما صنعته لغة القاص على هيئة الإنسان القادر على ابتداع الحدث القصصيّ والتّفاعل معه، وتجسيد فكرته، وقد أبدع (للأمانة) المحسن بن هنية في هكذا أسلوب فني سردي. هذه الشخصيّة الفنّيّة التي صنعها القاصّ-بن هنية- باللّغة تختلف عن الإنسان في الواقع الخارجيّ الحقيقيّ في أنّها معروضة من جانب واحد ضيِّق مناسب للحدث أو الفكرة التي يرغب القاصّ في التّعبير عنها، وليست معروضة من جوانبها كلّها. أمّا متعلّقاتها، كالاسم والصِّفات الجسديّة والأخلاقيّة، التي تحاكي الإنسان في الواقع الخارجيّ المحيط بالقاصّ وقرّائه فالغرض منها إيهام المتلقّي بأنّه يقرأ شيئاً حقيقيّاً عن إنسان حقيقيّ…

في هذا السياق نقرأ شذرات من قصة-السفير- للمحسن بن هنية”رأيت أنّ الأمر تجاوز مجرّد الحكاية وتجاوز ذهنية النّائم فاستفقت غاضبا مذعورا أدرت زرّ جهاز التلفزيون فهجم الظّلام على الغرفة فتطايرت الصّور والخيالات. فلا سفير ولا سلطان ولا حتى أنفاس جدّتي أو صوت أنديرة غاندي إلا ّبعض الدّفء في أحضان السّرير وأفكار شاردة تدور في ذهني أدفعها حينا فتعاودني آخر لتنفجّر في شكل أسئلة حارقة ومحيّرة. فاستنجت بمنجد الطلاّب حتى أحدّد جذور و مصدر كلمة “سلطة” فقرأت:

“السُّلطَةُ” هي “المُلك والقُدرة” ثم بحثت عن الجذر فلم أجد جذرا واضحا فاكتفيت بهذا النّعت “سَلطَ”..كان سليطا. وفي أُخرى أسلّطُ، سلّط عليه و أطلق له القدرةَ و القهرَ” و أرى أيضا، “تسلّط”أي صار مُسلّطا عليه.

و عند الصّباح مررت بالمقهى ووددت أن أسرد على مسامعي بعض ممن أعرف كوابيس حكاية السّفير والسّلطان فكانت دهشتي أكبر عندما رأيت هؤلاء المعارف كل يبتعد عنّي ويُشيح بوجهه مدبر وعندما أمسكت أحدهم من كتفه تأفّف منّي و ردّ عليّ وكأنّه لا يعرفني من قبل.

-.. تجنّبني يا هذا…إنّ للجدران مسامع وعيون.”

ما أريد أن أقول؟

أردت القول:

لقد جابهت الشّخصيّات في المنجز القصصيّ السّياسيّ السّلطة مكتفيةً بالإيحاء الرّمزيّ بأنّها ظالمة قاهرة مستبدّة (يتجلى هذا الأمر في قصة السفير لبن هنية)، وكأنّها كانت تدعو بشكل غير مباشر إلى سلطة ديمقراطيّة يعيش النّاس فيها بحرّيّة، ويتمتَّعون بالكرامة الإنسانيّة. وهذه هي الحدود التي تقف الشّخصيّة القصصيّة عندها، ولا تجاوزها إلى تحديد ماهيّة السّلطة بدلاً من تعميم شخصيّتها الاعتباريّة التي تمسّ كلّ سلطة ولا تحدِّد سلطة معيَّنة، أو تُحدِّد المكان والزّمان القصصيّين بدلاً من تجريدهما، هرباً من التّخصيص الذي يقود إلى المساءلة.

أعتقد، أيضاً، (وهذا الرأي يخصني) أنّ القاصّين العرب لم يتّعظوا من إخفاق تجاربهم في زعزعة السّلطة في ثمانينيّات القرن العشرين وتسعينيّاته، أو قيادتها إلى سياسة حكيمة عمادها الحرّيّة وحقوق الإنسان. وليس السّبب في ذلك أنّ صوت منجزهم القصصيّ السّياسيّ كان ضعيفاً، ولكنّ السّبب هو أنّ بنية السّلطة كانت من الصَّوَّان، بحيث تكسرت عليها الرّموز الشَّفيفة وغير الشّفيفة، والتّفصيلات القصصيّة السّاخرة وغير السَّاخرة. أو قُلْ إنّ السّلطة العربيّة لم تكترث بالنّقد الرّمزيّ مادام بعيداً عن تسميتها، وعن الإشارة إليها مباشرة. وعلى الرّغم من أنّ الاقتراب الرّوائيّ العربيّ كان أكثر غزارة وتفصيلاً وإيلاماً للسّلطة بتقديمه ما أصبح يُعرَف في الدّراسات النّقديّة بروايات السّجن السّياسي(4)، فإنّ الاقتراب الرّمزيّ التّعبيريّ بقي العلامة البارزة للمنجز القصصيّ السّياسيّ العربيّ. ويُخيَّل إليَّ أنّ القصّة القصيرة جدّاً التي ازدهرت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين (القاص التونسي المحسن بن هنية أبرز روادها)، كانت أكثر بلاغة في أثناء اقترابها من قضايا السّياسة، وفي أثناء ترسيخها الرّمز على أنّه الوسيلة الفضلى في نقد العلاقة السّياسيّة الشّائكة داخل المجتمع العربيّ. يُضاف إلى ذلك كلّه أنّ المرء يدعو لعبد اللّه العروي بالخير؛ لأنّه طرح في وقت مبكِّر من حياته الفكريّة مسألة (هويّة الحاكم)، دون أن يسمعه أحد؛ لأنّ العرب كانوا في خمسينيّات القرن العشرين وستينياته مشغولين بالدّعوة إلى التّحرُّر من التّبعيّة للغرب، فقبلوا حُكْم العسكر دون أن يفكِّروا بأبعاد هذا القبول وتبعاته. وللسّبب نفسه يتساءل بعض المفكِّرين العرب الآن عمّا إذا كان الحاضر، حاضر الثّورات العربيّة، الذي يُهدَّم بكلّ هذا العنف والقسوة، قادراً على أن يُحرِّرنا من أغلال التّقديس للبطل والعسكر والغرب..

قبعتي.. أيها المبدع التونسي المحسن بن هنية..

ولنا عودة إلى قصتك-اللذيذة-عبر مقاربة أخرى مستفيضة..

 

محمد المحسن

 ........................

المصادر والمراجع:

1) فؤاد دوّارة: نجيب محفوظ من القومية إلى العالمية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1989، ص 243

2) فاضل السباعي: حزن حتى الموت، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1975.

3) عبد الرحمن مجيد الربيعي: الشاطئ الآخر، قراءة في كتاب القصة العربية، الدار العربية للكتاب، ليبيا/ تونس، 1983، ص 167

4). انظر حول هذا الموضوع:

– نزيه أبو نضال: أدب السجون، دار الحداثة، بيروت 1981

– سمر روحي الفيصل (د): السجن السياسي في الرواية العربية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1983 (صدرت الطبعة الثانية عام 1994 عن دار جروس برس، طرابلس/ لبنان)

– طه وادي (د): الرواية السياسية، دار النشر للجامعات المصرية، القاهرة 1996

  

 

في المثقف اليوم