قراءات نقدية

عبد الـمُجيب رحمون: كيف يصبح الموت حياةً.. وكيف يصير الأحياء أمواتا؟

صورة الأم في الرواية

ننطلق من هذه القراءة لروايتي: "امرأة" ل"آني إرنو Annie Ernaux "، و"الحضارة أمي" ل"إدريس الشرايبي" من مفهوم التأويل التقابلي ل"محمد بازي"، وغاية القول " في هذا المستوى من التقابل التأويلي، هو أن النصوص ترحل إلى بعضها البعض عبر اشتغال التأويل، ورحلتاه هاته إغناء لقراءتها" [ التأويلية العربية، ص: 304] حيث يستدعي هذا المفهوم حوار النصوص ومساجلتها لبعضها البعض، واستحضار للأنساق المشكلة للنص، ووضع "تجربة واحدة في صور مختلفة" ( نفسه، ص: 305).

رواية "امرأة" رواية قصيرة، تأبى المؤلفة تجنيسها ضمن الرواية بقولها " هي ليست بسيرة، ولا برواية، ولكنها تقع ضمن الأدب، والتاريخ، وعلم الاجتماع". يندرج هذا الرأي في إطار مكتسبات النظرية الأدبية الحديثة التي تستعلي على مفهوم التجنيس، لكن من جانب آخر يمكن للقارئ أن يصنف العمل مادام ملكيته انتقلت إليه ولم تعد بيد المؤلف، وبين حرية المؤلف، ورحابة فكر القارئ يتموقع النقد والتأويل.

تسبر الرواية أغوار نفس امرأة فقدت أمها التي خبل عقلها، بعد سنوات قضتها في دار المسنين، تصف الساردة  بلغة بسيطة؛ الأيام الأخيرة لأمها قبل الوفاة،  هذا الجزء من بنية الحكاية يتسم بالواقعية، وبمشاعر قوية تتقبل الموت، حيث تقوم بتشيــيع أمها إلى مثواها الأخير باطمئنان ورضى. إن هذه الواقعية عبر عنها العنوان بلفظ "امرأة" وليس "الأم". هل هي واقعية ؟ أم هي صورة لعلاقة الجفاء بين الأم وابنتها؟ أم هو تجسيد لواقع   أسري في المجتمع الغربي؟  أم يمكن اعتبار لفظ "امرأة" لفظا عاما يشمل النساء بمن فيهم "الساردة الحقيقية"؟،  هي أسئلة تتبنى مشروعيتها من نظرية القراءة التي تفرضها الأعمال الأدبية، لكن ما يهمنا هو كيف ستنتقل هذه المشاعر من وضع القوة إلى الضعف، وتأنيب الضمير الذي يبدو في الأسلوب التبريري التي تعتمده الساردة من حين لآخر عبر تقنية الاستذكار، والاسترجاع وهي تستعرض قسوة أمها، وحياتها الخاصة. لكن هذا التبرير لم يشفع  لها؛ حيث تحضر الأم بطيفها وصورتها الذهنية الخيالية، وتعم أرجاء البيت. الحكاية في مجملها تعبر عن وضعية  اجتماعية يرسخها المجتمع الغربي، و يدرك عواقبها مستقبلا، لذلك تساءلنا منذ البداية كيف يصبح الموت حياةً؛ حياة مقلقة؟ 

أما كيف يصير الأحياءُ أمواتا فقد عبرت عنه رواية "الحضارة أمي" لإدريس الشرايبي، ترجمها عن الفرنسية "سعيد بلمبخوت" 2014، هذه الرواية التي اختبأت وراء مفهوم التخييل الذاتي السيري، يكشف لنا السارد عبر مرحلتين: مرحلة  الطفولة من حياته برفقة والدته وأخيه، بحيث تتوجه بؤرة السرد نحو الأم البدوية، التي لا تحسن القراءة والكتابة، وتغفل الكثير من أشكال الحضارة التي أصبحت تظهر في البيت كالكهرباء والمذياع، والهاتف، حيث تعبر بعقل بريء وساذج عن استغرابها من طريقة اشتغال هذه الآلات. الزوج البرجوازي يحرص على توفير حياة مريحة وباذخة، دون أن يهتم  بكيان زوجته، تركيزه منصب على تجارته فقط. التقط الابن السارد هذا الوضع المختل  فأراد تحقيق توازن أسري عاطفي، فبدأ في تعليم أمه، وإدماجها في عالم الاختراعات، بأسلوب يجمع بين المرح والطرافة، وألقى عليها محبة غامرة لعلها تعوضها جفاء الأب. أما المرحلة الثانية فهي الغاية التي تطمح إليها الرواية، ورسالتها؛ فالأم البدوية ستصبح متعلمة، وشخصية بارزة، حققت ذاتها، وتسافر بين البلدان مدافعة عن حقوق المرأة، وفي نوع من التعاطف مع الأب، أو لنقل محاولة تحسين وتجميل صورة الرجل العربي، يكشف لنا السارد عن ندم الأب، وتثمينه لمواقف الإبن مع أمه.

الرواية بلا شك طرح مُضمر لأفكار النسوية خصوصاً وأن الكاتب ترعرع في فرنسا، وهو نقد موجه لهيمنة الرجل التاريخية والاجتماعية. والأجمل في هذا الطرح هو استعارة "الأم" بحمولتها الدلالية والتاريخية والاجتماعية والنفسية لهذه الحكاية الطريفة. أما رواية "امرأة" فعرَّت عن مفهوم الأمومة، وأظهرت قسوة المجتمع الغربي الذي انطلقت منه أفكار النسوية التحررية التي ناضلت بقوة من أجل مناهضة التمييز بين الجنسين، ونقض أركان الهيمنة الذكورية. في نهاية الرواية تذكر بألم وحسرة" آني إرنو-" الفائزة بجائزة "رينودو" عن عملها هذا سنة 1984، وجائزة "نوبل للآداب" سنة 2022- بموت أمها فتقول: إنها ماتت قبل "سيمون دي بوفوار" بثمانية أيام، وبموتها فقدت آخر رابط بيني وبين العالم الذي جئت منه". "سيمون دي بوفوار" الفيلسوفة الوجودية التي تقول:" لا نولد نساء بل نصير كذلك". لقد فشلت النسوية الغربية في الحفاظ على الخيط الروحي بين الأبناء والآباء، إلا ما ندر من الحالات التي نعدها من الاستثناءات، في حين رسخت الهوية الإسلامية، والذاكرة العربية مفهوم الأم في رواية "ادريس الشرايبي".

***

د. عبد الـمُجيب رحمون

في المثقف اليوم