دراسات وبحوث

علاقة الفلسفة والكلام في علم الموسوعات الإسلامي (1-2) / ميثم الجنابي

وكان ينبغي لها أن تختمر في ثقافة الخلافة كجزء عضوي منها، لكي يجري إفرازها كتيار فكري وصنف علمي مستقل. ولم يعن ذلك أنها كانت شيئا مجهولا لا علاقة له بالبحث عن معضلات الفكر والوجود عند أولئك الذين "احترفوا" البحث عن الحقيقة.

فقد دخلت الفلسفة ميادين الوعي الاجتماعي منذ المراحل الأولى لنشوء الفكر الإسلامي. ولا ضرورة لربط دخولها هذا ببدايات الترجمة والتأليف "بالطريقة اليونانية"، واتخاذها دليلا ومؤشرا على طبيعة موقعها في الحضارة الإسلامية. وذلك لان هذا النمط الفلسفي ليس إلا صيغة جديدة واستمرار طبيعيا "لحب الحكمة"، الذي ميز الثقافة الإسلامية منذ بدايتها. ولا يغير من الأمر شيئا، واقع انعكاسها النظري المتناقض في تصورات وأحكام المتكلمين والفقهاء والمؤرخين. فالنظر إليها باعتبارها حبا للحكمة وعلما من "علوم الأوائل" ومظهرا من مظاهر الزندقة، يعكس اختلاف المواقف منها وليس موقعها الفعلي في صرح الوعي النظري ونسيج العالم الروحي للخلافة. حقيقة إن هناك ترابطا وثيقا بين الجانبين. ومن الناحية التاريخية ـ الثقافية لم يكن هذا الاختلاف في المواقف منها شذوذا خاصا بالثقافة الإسلامية، بقدر ما انه كان يعبّر عن الحالة المميزة لكل الثقافات الأصيلة منذ أن نشأت الفلسفة كعلم مستقل وحتى الآن.

ومن الممكن فهم خصوصية هذه المواقف في الثقافة الإسلامية على أساس تعددية مناهلها الفكرية وفعالية تطورها الخاص. فقد أثرت الفلسفة، كما هو معلوم، ليس على المتكلمين والفقهاء فقط، بل وعلى الشعراء والأدباء، وأئمة النحو واللغة. وأبدعت الثقافة الإسلامية فلاسفتها "الإغريق" وفلاسفتها "المسلمين". وإذا كان اختلاف المواقف منها في مختلف الميادين شيئا طبيعيا، فإن انعكاسه في علم الملل والنحل عّبر أساسا عن طبيعة الموقف الثقافي منها.

وقبل أن يحكم عليها أو لها كان ينبغي للفلسفة أن تختمر في ميادين الوعي الاجتماعي. وحتى في حالة الإقرار بالغرابة النسبية للفلسفة باعتبارها علما من "علوم الأوائل"، فإن الوعي التاريخي الإسلامي أفلح في التحرر من ربط نفسه بسلالة الأديان التوحيدية فقط. إذ لم تكن هذه الأديان بالنسبة له اكثر من خلفية مستترة عادة ما كان يجري تأويلها بمفاهيم التجارب الإسلامية وأذواقها. ولم يكن ذلك معزولا عن الرموز الفكرية التي بلورتها الآيات القرآنية في سعيها نحو تمثل وتمثيل "الصراط المستقيم" للتوحيد. أما الثقافة الإسلامية اللاحقة فإنها لم تجد رادعا يزجرها من نقل ما أنتجه الأوائل باعتباره جزءا من الحكمة. وبهذا المعنى، شكلت الصراعات الفكرية حول الفلسفة وموقعها استمرارا إيجابيا للأفكار القرآنية التي سبق وأن وصفتها "الجاهلية" "بأساطير الأولين". فما سطره الأوائل لم يعد رذيلة وخرافة!

وتعامل علم الملل والنحل الإسلامي باعتباره جزءا من هذا الوعي الجديد مع علوم الأوائل في إطار تجاربه الثقافية. وفي هذا يكمن سر عدم اهتمامه بقضايا "الزندقة" و"البدع". وإذا كانت هذه القضايا جزءا لا تتجزأ من اهتمامه، فليس لأنه أراد تصنيع خاتم التكفير، بل لأنها كانت جزءا من اجتهاده في استعراض آراء الفرق واختلافها وكذلك تحديد قربها وبعدها عن "السنة". وهي اجتهادات كانت تنبع من أسس الأصالة الثقافية ومساعيها الواعية لفهم النفس والآخرين بما في ذلك من خلال دفاعها المتنوع عن الإسلام. وينطبق هذا على مواقفه من الفلسفة. لاسيما وان هذه المواقف تبلورت من خلال استيعاب ما أسميته بتعدد المناهل الفكرية وفاعلية تطورها وصراعها الداخلي.

وظهرت هذه المواقف للمرة الأولى بصورتها التاريخية والثقافية والفكرية في علم الكلام، ولاحقا في علم الملل والنحل ذاته. فقد نشأ علم الملل والنحل أولا بوصفه علما عن "فرق الإسلام" المفترقة. وبما أن هذه الفرق هي فرق الكلام الإسلامي، لهذا كان من الصعب إدراك موقع الفلسفة في علم الملل والنحل دون الإحاطة بطبيعة العلاقة القائمة بين الكلام والفلسفة. إذ لم يكن تحديد هويتها في صرح الوعي الكلامي ـ اللاهوتي والديني ـ العقائدي والثقافي ـ التاريخي معزولا عن العمران الإسلامي نفسه.

فقد كان العمران الإسلامي ميدان تجلي الذات الثقافية، التي تصعب رؤية حقيقة حلولها للقضايا "الخالدة" بمعزل عن إدراك معاناتها الذاتية الملتفة حول إشكالياتها الكبرى في مجالات وجودها الطبيعي والماوراطبيعي. وهي معاناة تراكمت في الثقافة نفسها باعتبارها الصيغة الواقعية والمجردة للصراع والهدنة، والقتال المباشر والانزواء التام، أي لكل الإمكانات الكامنة بين القوى المتصارعة وعوالم إثارتها للسؤال والجواب، والهموم وعدم المبالاة، والشك واليقين. وإذا كانت ملامح الصعود الإسلامي في القرنين الأولين للهجرة قد شحذت قوة العقل الانتقادية، فإنها ساهمت أيضا في تعميق محتواه الأخلاقي. وليس مصادفة أن يرافق نشوء الكلام مواجهات الدين والدنيا، والإيمان والإسلام، والبدعة والتقليد، والعقل والنقل. إذ لم تكتف الثقافة الإسلامية الناشئة بتضحيات "النفس المطمئنة"، بل وشعرت بالحاجة إلى هواجس و"تلبيسات" و"وسوسات" العقل. ومع أن هذا المسار المتناقض لم تكن مستقيما، إلا انه كان ملازما لكل علوم الإسلام بدء من اللغة والأدب وانتهاء بالحديث والفقه والكلام والتصوف.

فمن الناحية التاريخية والثقافية لم يكن دخول العرب في فلك حضارات البحر المتوسط مصادفة، بل فعلا ضروريا ملازما للفتح الإسلامي. وشكل بهذا المعنى مقدمة الانطلاقة الجديدة، التي سيجري النظر إليها لاحقا على أنها اكتشاف "للأنا المنسية". والقضية هنا ليست فقط في وحدة الانتماء الثقافي العريقة للمنطقة، بل وفي مقدمات الثقافة الإسلامية نفسها، التي جعلت من مبدأ الوحدة الإنسانية والسعي نحو توحيدها أسلوب مد الصلة الخفية بين الوسيلة والغاية الإسلامية. ومن الصعب الآن القول بأنه جرى آنذاك وعي هذه الظاهرة بتلك "الدقة" المميزة لأساليب الاحتكام المتعالي والمتحذلق لاصطناعية الإيديولوجيات المعاصرة، إلا أنه جرى عموما ضمن المسار الآنف الذكر.

وفي هذا كان يكمن موقف الثقافة الإسلامية من الفلسفة. وليس مصادفة أن يرد الحسن بن سهل عن سبب جعله كلام الأوائل حجة، قائلا: "لأنه مر على الأسماع قبلنا. فلو كان زللا لما تأدى مستحسنا لنا". وهو موقف يجمع في ذاته أسلوب النظرة النقدية لتجارب الماضي والتمثل المباشر وغير المباشر لإبداع الآخرين المختمر في استحسان التاريخ  له. ولا يعني استحسان التاريخ هنا سوى امتحان الإبداع الثقافي للماضي أمام الزمن الدائم في "معقول" و"منقول" الأمم. والمقصود المباشر بذلك أمم الحضارات بشكل عام والمنطقة بشكل خاص، التي أصبح الرجوع إليها هو رجوع إلى النفس أيضا. وبغض النظر عن الأوهام "العلمية" في تتبع نشوء وتطور الفلسفة، فإن الكتب العربية ـ الإسلامية التي بحثت في هذا المجال، عادة ما تربطها بثقافة الإغريق، أما الرياضيات والهندسة واللغة فعادة ما تربطها بإبداع الحضارات المصرية والفينيقية والبابلية. وسواء أكان ناقل الحكمة إلى اليونان "أنبادوقلس" أو "فيثاغورس"، فإن الأول أخذ حكمته عن "لقمان الحكيم" بينما اختلف الثاني إلى "أصحاب سليمان بن داود"، ناقلا عنهم إنجازات العلم الهندسي وعلم الطبائع والعلم الإلهي. وبغض النظر عن ضعف هذا "التدقيق التاريخي"، إلا أنه يعكس ملامح النفسية للثقافة، التي كانت تتحسس انتماءها الخفي لتاريخ المنطقة وإنجازاتها الحضارية. وبالتالي ليست الفلسفة كيانا غريبا عنها، بل جزءا من تراثها المنصرم. ومن هنا فإن تمثلها وتمثيلها هو استجلاء جديد لها ونفض الغبار عن ماضي الحقيقة وحكمتها .

ومن الصعب توقع احتلال هذه الفكرة مكانتها "الساكنة" هذه في وعي مؤرخي وعلماء تلك المرحلة، دون مرورها في فلك التأملات الفكرية لموقع الفلسفة في نسيج الثقافة الإسلامية ذاتها، أي في مواجهات العقل الجدلي وبحثه عن يقين في اعتراك المذاهب. وبما ان هذه المذاهب والمشارب قد تجسدت تاريخيا في علم الكلام، لهذا تحول حينذاك إلى ميدان ومحك المبادئ الإسلامية الكبرى وقيمها العملية وكذلك علوم الأوائل والآواخر أيضا. وقد مر ذلك في البداية، شأن كل عملية تاريخية ثقافية كبرى، بمعارك القوى السياسية والفكرية ثم انتقل لاحقا إلى ميدان العقل النظري. آنذاك طوى الجدل بين جوانحه جميع الأفكار على أنها هويات مستقلة. مما أدى إلى أن يكون البحث عن الحقيقة كما هي، إن لم يكن حافزا علميا، فعلى الأقل مظهره الدائم. ولعل ظهور الفرق الكلامية المستقلة دليل حي على ذلك.

فقد خمّرت الثقافة الإسلامية بمستوياتها اللاهوتية والفلسفية المتعركة في ميادين الأديان (الملل) والمدارس الفلسفية (النحل) حصيلة "الزمن البائد" وإبداعاته النظرية. واتخذ ذلك في بداية الأمر صيغة الندية الدينية والسياسية. وحالما أفلحت في إثبات هويتها المعنوية و"المادية"، فإنها وقفت أمام حالة الافتراق المميزة للثقافات الأصيلة. وظهرت إلى السطح المسائل المتعلقة بكيفية التعامل مع القيم الإنسانية "للعدو المقهور"، وبالأخص حالما تكون هذه القيم منظومات فكرية وروحية.

فمن الناحية التاريخية لم يكن الهلال الخصيب واقعا جغرافيا، بقدر ما هو عملية خصبة في ظهورها واضمحلالها الدائمة. وسواء جرى وعي هذه العلاقة الساحرة بمعايير الدين أو الدنيا، بمعايير الطبيعة وما وراء الطبيعة، بمعايير الجبر أو الاختيار، فإن تطور الوعي اللاحق قد أجبره على الوقوف أمام معضلة القضاء والقدر باعتبارها جزءا من معترك المواجهات الفعلية.

وبغض النظر عن اختلاف إجابات المسلمين عنها، إلا أنها سارت في البداية ضمن اتجاه "البرهنة" على واقع النجاح الفعلي. وسواء جرى الإقرار بأولوية القضاء والقدر أو بجبروت الإرادة الفاعلة، فإنهما اشتركا في تأمل النجاح الباهر للإسلام المنتصر. لهذا كان من السهل بالنسبة للأجيال الأولى أن تنظر باستعلاء متفائل ومباشر لعظمة الهلال الخصيب الذائبة في أديانه ومنظوماته الفكرية، باعتبارها شيئا ضعيف المناعة أمام قوة الفكرة الإسلامية البسيطة التي جسدتها عبارة "الله أكبر!". والتطور اللاحق فقط هو الذي قلمّ "كبرياء" الله لينزله إلى معارك الأنا الأخلاقية والمعرفية. حينذاك لم يعد يربط هذه الأنا بعوالم السياسة والعسكرة شيئا غير خيوط الأبدية وأسئلتها الباحثة عن يقين في كل ما له علاقة بالإنسان.

وليس من مهمتي الآن البحث في جميع خلجات الثقافة من اجل توضيح ذلك، بقدر ما أن أشير فقط إلى واقع الاستنفار والجدل الدائم، الذي لم يعد يقلق في الغالب العقل العملي (الأخلاق) بقدر ما أخذ يعذب العقل النظري (المعرفة). وليس مصادفة أن يركز الشهرستاني على ما أسماه "بالشبهات" التي رافقت وجود الإنسان منذ الخليقة حتى زمنه، باعتبارها شبهات دائمة. أما حصره لها بسبع وتحديده إياها، فما هو في الواقع، سوى محاولة حصر المعضلات "الخالدة" المتعلقة بمعنى الوجود وقضايا الفكر والأخلاق الكبرى. ولم يكن العقل "الإبليسي"، الذي نسب الشهرستاني له هذه الشبهات سوى العقل النظري و"شيطان" الجدل المفحم وشكوك العقل المعرفي وقلق الروح المتسائل. فقد كان اغلب هذه "الشبهات" تشبه ما في اتجاه القدرية (المعتزلة) من مفاهيم ومواقف وأساليب في المعرفة والسلوك. وهو استنتاج نعثر على تعبيره غير المباشر في كلمات الشهرستاني التي صور فيها فكرة الاعتزال نفسها باعتبارها اعتزالا عن الحق، وذلك بسبب إثارتها "شبهة الأفعال". وقد جعل ذلك الشهرستاني يستنتج بأن السبب القائم وراء كل مدارس القدرية يقوم في "طلبها العلة في كل شيء". وبغض النظر عما في هذا الاستنتاج من غربلة متفحصة لتجارب "الانتقال" الإسلامية من ثقافة "العمل المباشر" إلى "مباشرة العقل"، إلا أنه صور بدقة بالغة واقع الأجيال الأولى من مثقفي الإسلام، الذين انهمكوا في التفكر والجدل الساخن والنقاش المضني. إذ لم يكن "طلب العلة في كل شيء" سوى الصيغة الأكثر تجريدية للبحث والجدل، الذي مثلته وتمثلته قدرية الإسلام الأولى والمعتزلة لاحقا. وقد كان ذلك بدوره "القدر الإسلامي" لمحاولات البحث عن الأسباب الجوهرية لمعضلات الوجود والفكر. وحالما سيطرت نفسية الجدل الباحث على عقول الناس، حينذاك لم يعد تقبل "الحقائق" بدون تمحيص شخصي. وتحول البحث عن علة الأشياء والجدل فيها إلى المفتاح الضروري لحل المسائل المثارة. وتضمن هذا بحد ذاته أيضا على تنظيم فكري للقضايا وحلولها. ونعثر على ذلك في كافة المسائل المثارة، مثل العلية في الخلق والحكمة في التكليف، وقضايا القضاء والقدر والجبر والاختيار وغيرها. ويشير هذا التحول إلى تركز الجدل وتمركزه في ميدان الوعي الأخلاقي. ومن الناحية التاريخية كان ذلك المقدمة الضرورية التي أوقفت سيل اليقين الظاهري الجارف بتحويل مساره صوب بحر التأمل المنطقي. وكانت هذه بدورها العملية الطبيعية لتعمق المعرفة في تجاربها الحياتية، التي عادة ما تتحول فيها عناصر السكون الورعة إلى ديناميكية الشبهات القلقة. بهذا المعنى، كانت حركة القدرية ومدارس الكلام السياسية الأولى التعبير غير المباشر عن مرحلة الانتقال من عالم الأسطورة إلى المنطق.

لقد أغرى العقل في "تلبيساته" روح الروح، وأخرجه من عالم التأمل الساكن والهموم الوجدانية الحية إلى عوالم البحث عن موتى "الأبد". وفي هذا يكمن السر الحقيقي القائم وراء تحول القدرية إلى "مجوس" الأمة الإسلامية. إذ لا يمكن إدغام هذا الواقع، من الناحية التاريخية، في شقشقة الاتهام ونزوع التكفير المذهبي المميز لعلم الكلام آنذاك. الأمر الذي جعل من الممكن تحول القدرية في وهم "السلفيين" المعاصرين لهم إلى حفاري قبور الجاهلية الفكرية.

***

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2121 الثلاثاء  15 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم