دراسات وبحوث

حقائق الظهور المبارك (2) .. الوراثة المهدوية وعصر الظهور / محمد تقي جون

فيجمعها على الخير بعد تشررها، ثم تنتهي الحياة مختتمة به، وذلك لقوله تعالى (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ). فالمهدوية وراثة الله (الخيّرة) وعباده الصالحين (الخيِّرين) للأرض بعد حكومات أنتجت مضاعفات الشر وأضعاف الشريرين المتناسلين.

 وهذه الوراثة تأتي نيابة عن (النبوة) أو (الرسالة) بأقصى انفتاحها، لأنه لا رسول ولا نبي بعد محمد (ص). فالمهدي (بديل مفوّض) مكان النبي الذي لا يمكن ظهوره، وهو (ناطق شرعي) عن الدين بأوسع إطلاقه، فهو لا يجمع (المسلمين) حسب، بل المؤمنين كلهم في الأديان السماوية كلها. ففي يوم الظهور العظيم لن يكون في الأرض غيره قائداً، فلا مندوبون ولا ممثلون للأديان الأخرى ولا مهدي سواه إذ تسقط كل دعوة ودعوى مهدوية تنادي بها الآن الأمم والأديان كلها. وهذا اقتضى أن يكون المهدي المنتظر المفوض الشرعي عنها جميعاً.

وإذ يحمل الإمام المهدي راية دين الله (الإسلام الأصل)، فانه سيعيد ويوحد الأديان كلها فيه (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). والإسلام الجامع هو ملة إبراهيم التي ترجع إليها الديانات السماوية كلها: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، وهكذا ستكون المهدوية وراثة الله والقيادة الإسلامية الموحدة التي ينضوي تحتها كل (مؤمن بالله) في الأرض وهؤلاء هم (الورثة الصالحون).

وهذه الوراثة المهدوية هي المعبر عنها بـ(العاقبة للمتقين)، فهي إرادة الله بالحسم والنصر (النهائي) كما في قوله تعالى: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)؛ (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)؛ (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). وعلى هذا الأساس فالمهدوية لا تخص فئة أو ديناً بل هي أمل كل البشر في السعادة والحياة المثلى والكشف عن النتيجة الصحيحة التي على البشر إدراكها والبحث عنها تخلصاً من المتاهات الكثيرة التي اكتنفت وتكتنف الحياة على الأرض.

وان الوعي المفترض أن تكون عليه البشرية قبل الظهور لا يعني تغير أو تغيير الطبيعة الإنسانية وقتل الشر بشكل نهائي كما يشي به ما جاء من وصف الحياة وقتئذ (تقع الأمَنَة على أهل الأرض حتى ترعى الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان مع الحيات لا تضرهم..."، بل هو تغير الوعي دون الطبيعة كالفرق بين الإنسان البدائي وإنسان العصور الوسطى، وإنسان هذه العصور والإنسان في العصر الحديث.  فقد حدث رقيّ في الوعي مع استمرار الطبيعة البشرية على ما هي عليه منذ آدم (الإنسان الأول) إلى اليوم وتستمر إلى آخر إنسان يعيش على سطح الأرض. وهذا المفهوم ينسجم مع القانون العام للحياة منذ يومها الأول، وهو يقتضي أن الشرّ موجود أصلاً والخير يجيء بعده ليحجّمه ويجمّده دون إزالته فيستمران معاً متضادين متصارعين حتى تقوم الساعة. وبالتالي فان زمن الظهور سيخفف الوعي فيه الكثير من الشرور ولكن يبقى ثمة شر كافٍ لقتل المصلح نفسه (المهدي). وهذا يعني أيضاً استمرار الشر إلى ما بعد المهدي.

وان الذي يجعلنا متأكدين من أن الرقيّ البشري (المثالي) حاصل قبل الظهور لا محالة هو إن المجتمعات المغرقة في (الفوضى الدينية) هي مجتمعات راقية جداً في العقل، بل تحكمها عادات خلقية محترمة تجعلها في رقيها وانضباطها تفوق المجتمعات الإسلامية أحياناً، وهي اغلب مجتمعات العالم الأول الغربي والشرقي مثل أمريكا ودول أوربا واليابان، وهذه الرقعة ستكون ضمن الرقعة المهدوية (فاحتلال المهدي القسطنطينية يعني رمزاً الهيمنة على الجهة الأخرى من العالم) فتكون هذه المجتمعات جزءا لا يتجزأ من الدولة العالمية المهدوية (ويكون الناس أمة واحدة) كما كانوا (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)،  ولا يمكن تغافل أمر هذه الشعوب ودراسة حالها قبل وبعد الظهور.

وهذه المجتمعات إنما حكّمت العقل والمنطق وانفردت بفرضيات العلم وفارقت السماء وخالفت ديانتها (المسيحية واليهودية) لتسنّ قوانين ارتضاها منطق العقل ومنعها منطق تلك الديانات كالزنا واللواط والخمر والقمار والربا وكل الفواحش ما ظهر وما بطن. وهذا يؤشر أن تلك الشعوب استفتت العقل في عزلة عن الدين فأباح لها تلك المحرمات من وجهة نظر علمية صرفة، وبالتالي فهي اشتغلت على العقل فقط. وقد قادها العقل إلى (صواب عقلي) لا يقره الدين ويعده جهلا فاحشاً (رأس الحكمة خشية الله). وهي لم تهذب ما توصل إليه العقل بقوانين الله الثابتة (في كل الأديان) فتوجه العقل بالدين لتحقيق (كمال الفعل). ولكنهم لا يعدّون (محض فساق) أو (أعداء الله بالكامل) لأنهم حققوا الغاية الثانية من خلقهم: فقد خلق الله الإنسان لغايتين هما (العبادة وعمار الأرض) فتركوا واحدة واشتغلوا بكل قوة بواحدة فصاروا عدل المسلمين في وقتنا الحاضر فهم اشتغلوا على العبادة أو نادوا بها في الأقل ولم يوفقوا كثيرا في عمار الأرض.  وفي هذه الحالة لا نتوقع أن يسقط الله عليهم (كسفاً من السماء) أو (يخسف بهم الأرض أجمعين). بل هم موئل البشرية الآن في أمور جسام عظام؛ فأسرار العلم والتكنولوجيا والحضارة الجديدة لديهم دون سواهم، وقد حققوا ما يجعلنا نظن أن الله راهن عليهم وليس على سواهم الملائكة حين قالت له: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) فهم المستحوذ في العلم والأدب ومظاهر الحياة كلها. اذاً ليس من خيار في عودة هؤلاء إلى الدين مرافقاً للعقل في تفكيرهم وتجاربهم، وقد بدت في الآونة الأخيرة إرهاصات من ذلك. وبهذا سيدخلون في مخاضات مختلفة تدفعهم إلى الحالة المثالية التي نوهنا عنها قبلا وهو (وعي الظهور).. وهذا يجعلنا نقترح أن يكون الظهور الأحمد بعد قرون طويلة وليس في قرون قليلة مقبلة. وقد ورد في القرآن ما يؤكد كدح الإنسان وسيره الطويل مثقلا بأخطائه ليلاقي الهداية في نهاية المطاف بقوله (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ).

وحري بالمسلمين أن يتحدوا في موضوع المهدي لأنهم سيتحدون به عندما يظهر، وهو قائد عام يجمع المؤمنين ليتسلم مفاتيح الأرض بعد تداول طويل من الناس كان في أكثره غير مرضٍ لله، إذ أساء كل مالك ومتسلط ونسي أن الأرض ليست ملكاً حقيقياً إلا لله وحده، وإذا ملّكها الله أو ملّك منها بعض الناس فعليه أن يقيم فيها ما أقامه الله (سبحانه) من سنّة الحق وميزان العدالة منذ بسط الله الأرض ورفع فوقها السماء (وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ *  أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ). 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2274 الثلاثاء 13 / 11 / 2012)


في المثقف اليوم