دراسات وبحوث

الإمام علي .. القوة والمثال (1) / ميثم الجنابي

 

توطئة

لقد تلقيت على مدار السنوات الأخيرة الكثير من الرسائل والدعوات الشخصية للحصول أما على نسخة من كتابي (الإمام علي – القوة والمثال) او الإطلاع عليه عبر نشر بعض ما فيه. وقد طبع الكتاب حتى هذا اليوم ست مرات. إلا أن الصيغة الورقية تبقى في نهاية المطاف عاجزة عن الوصول إلى "الجميع". بينما تبقى الصيغة الالكترونية اقرب إلى الجميع وبمتناول أيديهم بغض النظر عن المكان. وبالتالي، فأن ما انشره هنا هو حلقات مأخوذة من الطبعة الأخيرة لكتاب (الإمام علي – القوة والمثال).

***

 

ليست هناك من شخصية كبرى في تاريخ الإسلام استطاعت أن تستثير خفايا الوعي والضمير وتضارب المشارب والتقييمات كشخصية الإمام علي بن أبي طالب. فهو يبدو في كيانه الواقعي لغزاً، وفي صورته التاريخية كياناً يصعب المسك به. وهنا تجدر الإشارة إلى انه لا يمكن الانسياق الكلي وراء لغزه الواقعي وكيانه التاريخي دون الوقوع في متاهات التبرير والتغرير، انطلاقا من أن الإمام علي هو الشخصية التي يصعب التعامل معها على أساس قواعد المنطق الصارمة أو الانتماء المذهبي. فكلاهما يضعفان البحث، وفي أفضل الأحوال لا يبقيان فيه على غير ما يريدانه منه. بينما حقيقة الإمام علي تقوم في ذاته القادرة على العطاء بوصفه القوة السارية في منطق الحقيقة التاريخية للعراق، ونموذج المثال الإنساني (الإسلامي). ومن هاذين المكونين تبلورت شخصيته في التاريخ والوعي والثقافة والروح. بمعنى تغلغلها في العقل والضمير والوجدان، في الباطن والظاهر، والحس والحدس. مما جعل منها على الدوام طاقة المتناقضات المغرية، شأن كل ما هو ملازم لوحدة الجمال والجلال في الحياة. ومن ثم فان أي خروج عن هذين المكونين في محاولة فهم شخصه وشخصيته لا يؤدي في نهاية المطاف إلا إلى جعله جزء من نفسية المذهبية الضيقة، أو حالة طارئة في ذهنية العقل السياسي الماكر. وكلاهما يتعارضان، مهما كانت حوافز هذا الخروج وغايته، مع حقيقة ما فيه سواء وضعنا ذلك بمعايير الرؤية التاريخية أو مقاييس الواجب الأخلاقي أو مرجعية الروح المتسامي.

فالإمام علي من الشخصيات، التي لا يلزم بالضرورة التعامل معها بمقولات الأحكام المجردة ومنطق السياسة المعاصرة وهمّ المصالح. فالتاريخ في شخصياته النبيلة أوسع وأعمق من أن يخضع لميزان تناقضاته المباشرة. كما أن التاريخ الإسلامي سوف لن يكون بمقدوره أن يتجاوز تلك الذروة التي يستطيع معها القول بان ما وراء علي يمكن أن يكون علياً آخر. وليس ذلك انتقاصاً من قدرة التاريخ على صنع شخصيات عظمى ونماذج رفيعة، بقدر ما يعني أن مجرد إقناع الذات واقتناعها بمحاكاة شخصه سوف تجعل من النفس كيانا مقلدا وفاقدا بالضرورة لبريقها الحيوي. وهو تقليد لا يعدو كونه افتعالا لما هو معدوم أو سار في سمو المرجعية الروحية. ومن ثم لا يفعل إلا على افتعال وحدة ظاهرية أولها تقليد وآخرها زيف، وما بينهما اصطناع سريع الزوال.

من هنا فان المهمة المطروحة أمامي الآن لا تقوم في إقناع القارئ بضرورة التشبّه بالإمام علي، بل باتخاذه "عبرة للآخرين"، كما قال هو مرة عن نفسه. وهي العبارة التي كانت تشكو في معاناتها الباطنة من ثقل  تواضعه المتسامي. فهو لم يقصد بذلك فرض مثاله الفردي على الآخرين، لأنه نفسه لم يجد مثالاً يستحق الإسلام له سوى الله! وهو موقف يشير إلى انه انتزع منذ البداية معالم التقليد الأعمى ونوازع التعصب المتلونة، التي أبى الصراع اللاحق إلا أن يغرسها في أفئدة قواه المتصارعة. وبهذا المعنى، فان التاريخ يكون قد حولّه إلى أحد المصادر المفرقّة للأمة. وسوف يشير الكثير من مؤرخي الفرق والمدارس الإسلامية إلى هذه الظاهرة في معرض جدالهم مع فرق الشيعة المختلفة، وبالأخص من أطلق عليهم تسمية الغلاة. غير أن هؤلاء المؤرخين لم ينظروا إلى الإمام علي أو يعتبروه سببا لهذه الخاتمة التي أدى إليها "منطق" التاريخ في أشكاله المثيرة للجدل والصراع. لقد أرادوا القول، بأن أية محاولة لوضعه بالضد من المكونات الشخصية الأخرى للإسلام سوف يحوله بالضرورة إلى مصدر للشقاق. وهو استنتاج سليم وحقيقة فكرية فيما لو جرى النظر إليها بمعايير "العقل الماكر" وأحكامه الجدلية في صراع الفرق.

فالقرآن نفسه وكذلك النبي محمد، بوصفه الشخصية المركزية للإسلام، قد تحولا لاحقا إلى مصدر الشقاق والخلافات الكبرى رغم دعوتهما الدائمة إلى توحيد الله ووحدة الأمة. كما لم تعق الوحدانية نفسها، من حيث كونها فكرة ومبدأ، من أن "تبدع" وتستثير صيغاً متنوعة من افتراق الأمة. إلا أن هذه العملية ذاتها أفلحت في استثارة المساعي الباحثة عن أسلوب النجاة، أو ما دعته تقاليد علم الملل والنحل (علم تاريخ الفرق الإسلامية والمدارس الفلسفية والأديان والعقائد) بمفهوم الجماعة والفرقة الناجية. إلا أن ما يميز جمالية التاريخ الأول للإسلام هو افتقاده لروح العزلة والخلاف بين الفرد والجماعة، أي بين المسلم والأمة على أساس الانتماء العقائدي للفرق. وقد أعطت هذه الميزة  للصراع المتراكم والمحتمل بين مكونات الأمة الناشئة قيمته الرفيعة. وفي هذا تكمن إحدى قيمه الخالدة التي تضع المرء في حال من الاحتكام الدائم أمام الضمير والقناعة الشخصية. مما يجعل لكل فعل قيمته الخاصة به. وهي قيمة عادة ما يحدد مضمونها وأثرها التاريخي كل من تعمق الوعي الاجتماعي ومستوى تمثلها في الأفعال. ومنهما تتبلور وتتراكم أهمية وفاعلية ما يمكن دعوته باللغز الدائم في الشخصية. وليست حقيقة هذا اللغز في الواقع سوى الوحدة الخفية والمثيرة للحس والعقل والحدس في محاولاتهم إدراك حقيقة الشخصية في تمثلها وتمثيلها للحق. وقد وعى الإمام علي هذه الحقيقة بصورة نموذجية، قد تكون الأرقى في تاريخ الإسلام، عندما قال في إحدى كلماته البليغة بان "الحق لا يعرف بالرجال، بل الرجال تعرف بالحق!"

وهي الفكرة التي تشكل من حيث الجوهر صلب الشخصية العلوية من حيث كونها نموذجا للمرجعية المتسامية في القول والفكر والفعل. إذ لا تعني أولوية الحق على الرجال سوى أولوية الحقيقة المتسامية، والمجردة من الرؤية الضيقة والمصالح العابرة. وهي الفكرة التي كانت تحتوي في أعماقها على مبدأ الواجب الأخلاقي (العملي) في التماهي الفردي معها. بمعنى تطبيقها على النفس بوصفه المحك الحقيقي للبرهنة على ما فيها من أبعاد غير متناهية. وهو تطبيق أعطى ويعطي لشخصية الإمام علي بعدا غير متناه في التاريخ والفكر والعقل والوجدان والحق والحقيقة. وهو تطابق صنع فيه هالة كونية وأبدية، بحيث تحول في الوعي الجمعي والفرداني المتسامي إلى نموذج تتجلى فيه وتتماهى حقيقة الوحدة الحية بين الخالد والعابر، والتاريخ والمعاصرة، والإلهي والبشري.

ومن وحدة المكونات المذكورة أعلاه كانت تتراكم النزعة الإنسانية بأبعادها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. بحيث أصبحت مع مرور الزمن موشور الصراع الفعلي بين مساعي الأفراد والجماعات والأمم للتكامل في "امة إسلامية"، أي في نموذج واقعي لفكرة الحق المعارضة لتقاليد وأشكال الخروج عليه. وهو الأمر الذي جعل منه خطا فاصلا بين قوتين وتقليدين وروحين وجسدين، ومن ثم خطا تقف على طرفيه وتتخطاه ما أطلقت عليه تقاليد الإسلام اسم قوى العدل والإحسان والإثم والعدوان. وهي الحالة التي تبدو كما لو أن القدر قد خطها في خطاه ومحياه، أي في اسمه وكنيته، وأثره ومآثره. فقد كان اسمه من العلو وكنيته أبو تراب. وفيما بينهما تراوح في غبراء العراق وسمائها صانعا سبيكة يصعب حدها بالكلمة والعبارة، لكنها جلية في مآثر كل من حاول الاقتراب من فكرته القائلة بأولوية الحق على الرجال، أي أولوية الفكرة المتسامية في حقائق الروح المبدع. وفيها ومن خلالها كان يمكن للفرد أن يكون "علويا"، أي متعاليا في سماء الفردانية الحقة بوصفه تجسيدا وتحقيقا للشخصية العلوية.

فالشخصية العلوية ليست صيرورة النسل والعمامة السوداء، بل الكينونة النموذجية لفردانية الاقتراب من معنى الحق الشامل. وهي الفكرة التي تعني في ظروف العراق الحالية، انه لا أحدا يمكنه أن يمثل الإمام علي والشيعة والتشيع، أكثر من الأفعال الواقعية والعقلانية الهادفة إلى تجسيد وتحقيق فكرة الحق. وهي الفكرة التي تستمد مقوماتها من فكرته الجوهرية عن أن الرجال بالحق وليس الحق بالرجال. بمعنى أولوية الحق من حيث كونه منظومة عامة للحقوق والالتزام الفعلي بها. لاسيما وانه الالتزام الذي صنع الشخصية العلوية، ودفنها في ارض العراق، ورفعها إلى مصاف المرجعية الروحية الخالدة. وفي كل ذلك تكمن مفارقة وجوده في التاريخ والعقل والوجدان. وهي مفارقة كان يتقاسمها تاريخه الشخصي وعقله الإسلامي ووجدانه العراقي. وهي مفارقة كانت وما تزال تختبئ وراء لغزه المثير في تاريخ العراق. وهو لغز لا يستظهر حقيقته غير مقياس الحق والحقيقة وتمثلها في الأقوال والأفعال.

وهو مقياس كان يستبطن معالم الإدراك الذاتي للإمام علي، بمعنى إدراك حقيقة ما فيه من حق. وهو إدراك يرتقي إلى حدس حقائق الوجود الكبرى، الذي جعل منه محط الأنظار والاعتبار، أي العقل والتأمل التاريخي لكل ما قام به وفعل. كما انه السر القائم وراء رفعه إلى مصاف المقدس، مع انه كان في كيانه وكينونته تجسيدا للفكرة القائلة، بان المقدس هو المجرد عن الابتذال.

لقد أدرك الإمام علي بفعل صفائه الوجداني التام، وإخلاصه الخالص لفكرة الحق، بان الخالد ليس كالعابر. وهو إدراك سوف يرفعه التفلسف الإسلامي لاحقا إلى مصاف العبارة المأثورة القائلة، بان "القديم لا يقاس بالمحدث!". وليس هناك من قديم في الإمام علي غير تمثله وتجسيده لفكرة الحق. وهو تجسيد كانت تستحيل معه إمكانية الغرور. وإلا لافترض ذلك منا القول بضعف حاله الأخلاقي. وهذا مستحيل! وإلا لاستلزم ذلك منا الإقرار بمرارة الحرية وظلام الشمس وما شابه ذلك من مقارنات هي عين الرذيلة. وهي مقارنات تحتمل الصياغة والبلاغة الفارغة، بوصفها بقايا وشظايا الكلمات المتطايرة والمتناثرة في عوالم الهزيمة والانكسار. وبالتالي لا علاقة جوهرية لها بعالم الحقائق والحق، بوصفه العالم الوحيد القادر على أن يضع المرء في مكانه التاريخي والروحي الفعلي. بمعنى وضعه في ذاكرة الماضي وأمل المستقبل وكمون الاستعداد الدائم في جهاد واجتهاد الأفراد والجماعات والأمم من اجل إحقاق الحق في العدل والمساواة.

وهو الأمر الذي يجعل من الضروري التحرر من وضعه بمقولات الحجج المذهبية وصور الكليشات العقائدية، لأنه أسلوب لا يفعل في الواقع إلا على إفساد تذوق أقواله وأفعاله. والشيء نفسه يمكن قوله عن محاولات تطويعه لخدمة مآرب السياسة العابرة، لأنه لا معنى لذلك! والقضية هنا ليست فقط في أن من غير الدقة حشره في مفاهيم اليسار واليمين، دع عنك مفاهيم الأصولية والاعتدال والراديكالية والثورية وما شابه ذلك. كما لا معنى لتقييده بمفاهيم دينية ضيقة من تشيع وتسنن، ومذهبية فرقية من إمامية (اثني عشرية وجعفرية) أو إسماعيلية وزيدية، لأن ذلك يعني حق الملكية فيه لجماعة دون أخرى، بينما كان هو في كلهّ تمثلا وتمثيلا لحقيقة الكلّ الإسلامي والإنساني. فهو لم يعمل بوحي القيم العقائدية الحالية، ولا بشعارات السياسة الحديثة، ولا بتقليدية المذاهب وانغلاقها المادي والمعنوي. لقد كان في كله تجسيدا حيا لما دعته تقاليد التصوف بالتخلّق بأخلاق الله. لهذا سوف لن أبحث فيه عما يمكنه أن يكون شيئا ما مؤيدا لغير ذاته. فهو الأسلوب الوحيد الذي يذلل كل المواقف الجزئية والأحكام الأيديولوجية التي لا تعتني بغير ما يشفي غليلها الذاتي وعطشها الأبدي للأوهام والإيهام من اجل الاستحكام بعقلية العوام الساذجة ووجدانهم الملهوف.

فالإمام علي من الشخصيات التي لا يلزم نحرها على مذبح المصالح العابرة. وقد أفلح الشريف الرضي لحد ما، عندما أعطى لما جمعه ونمّقه وأحصاه وأضفاه من كلام الإمام عنوان )نهج البلاغة). لقد شارك في مسعاه هذا ثقافة المرحلة في البحث عن بلاغة اللغة. ومن خلالها بلاغة الروح والأمل. وبغض النظر عن كل الحوافز القائمة وراء ما قام به وكذلك ظروف الصراع الفكري والسياسي والعقائدي والمذهبي والاجتماعي المحتدمة آنذاك، فان حقيقة "البلاغة" الواردة فيه لا تمثل في جوهرها نهجاً له، بقدر ما أنها تعكس، إن أمكن القول، بلاغة الروح العلوي. إذ أن (نهج البلاغة) من حيث كونه كتابا هو بيان عن بلاغة الروح وحركته الخالصة، أي بلاغة الروح في إخلاصها التام. وإذا كان علي بن أبي طالب هو نموذجها، فلأنه مثالها. الأمر الذي جعل ويجعل منه مرآة صافية لرؤية الماضي والمستقبل، ومثالاً للفعل الحاضر في وحدة تناقضاته المغرية.

أما الخلاصة التي يمكن التوصل إليها وخاتمة الموقف منه بهذا الصدد، فنها تقوم فيما يلي: إن  دعوى امتلاك ناصية الإدراك الكامل للمكونات الوجدانية للتاريخ العربي الإسلامي لا تؤدي إلا إلى محاصرة النفس بمعضلات لا يمكن حلّها دون الوقوع في تهافت منطقي وتناقضات أخلاقية لا تحصى. إذ سيكون من الملزم حينئذ إقناع الجميع بما لا يمكن الإشارة إليه. وذلك لأن المكونات الوجدانية الحية هي الخميرة التي لا تفترض شيئاً غير شعور الاضطراب والتفاعل. والإمام علي هو دون شك، أحد مكونات هذه الخميرة التي تفعل في الكيان العربي والإسلامي .

فقد أبدع في مجمل كيانه التاريخي والروحي ما يمكن دعوته بالإسلام العلوي، أو إسلام الحق. لهذا فهو ليس جزء من الماضي، بل الماضي كله. كما انه ليس الماضي كله، بل الماضي الحق. وبهذا المعنى يمكن النظر إليه باعتباره ممثل الوحدة الاجتماعية الحقة، مما يجعله خلواً من المذهبية الضيقة.

فالاستعانة المتطفلة بالماضي أياً كان مثالها لا تقلّ شراً عن الخيانة الدائمة له. وذلك بفعل جعلها الضمير رهينة الاحتراب الصغير والمصالح الزهيدة. بينما المهمة تقوم في الكشف عن "حقائق الباطن" التي مثلّها الإمام علي في حياته ومماته، وعن "روح المعاني" في أقواله وأفعاله. وبالتالي ضرورة إيجاد الصلة الفعلية ونموذجها الممكن بين قوة مثاله وشخصيته الواقعية، أي نفيها الحقيقي في الفعل المعاصر.

***

 

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

 

............................

 

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2287 الثلاثاء 27 / 11 / 2012)

 

في المثقف اليوم