دراسات وبحوث

الإمام علي ..القوة والمثال (2) / ميثم الجنابي

 

ليس للتاريخ معنى دون مآسيه الكبرى. فهي التي تعطي له مذاقه الخاص في الوعي النقدي والضمير المخلص. كما أنها المحك الحقيقي لمآثر الوجدان فيه والأسلوب النزيه لرؤية خباياه. فالتاريخ هو الخميرة الوحيدة التي لا تفسدها الحذلقة المبتذلة. كما انه الكيان الوحيد، الذي يخترق الجميع بوعي أو دون وعي، ليكّون الأساس الخفي لوجودنا الحالي. وفي حصيلته ما هو إلا فعل أسلافنا. وإذا كان الوعي العادي عادة ما يتلمّس ذلك في ذكرياته المفرحة والمحزنة، فأن حقيقته تكمن في قدرته على شحذ وعي الذات بمختلف أصنافه وأشكاله. لكنه حالما يتأسى الوعي والضمير في موقفهما من مكونات التاريخ الجوهرية فانه يكف آنذاك عن أن يكون وعياً عادياً. وبالقدر الذي يمكنه أن ينتج وعيا نقديا عقليا وعقلانيا حرا، فانه يمكن أن يؤدي إلى إنتاج مختلف الأشكال المضادة، بما في ذلك اندماجه "الحي" بنسيج الولع الأسطوري. ومن الصعب إسباغ صفة واحد وموحدة عن هذه العملية الشائكة من تداخل الماضي والحاضر في العقل والضمير والأفعال، بسبب تباين مصالح ورؤية القوى المتصارعة. وفيما بين كل هذه المكونات عادة ما يتبلور مضمون استيعابنا لما يمكن دعوته بحقائق التاريخ وهوية المستقبل. فإذا كان الوعي المنطقي قادرا على تجزئة ما لا يتجزأ في الواقع، فإن السحرية الخلابة للشخصية العلوية (في التاريخ الإسلامي) ترتقي إلى مصاف الحدس، بفعل ما فيها من تجربة نموذجية تمثل الحالة المأساوية المحصورة بين قوة المثال وخرب الواقع. وهو الشيء الذي أعطى لهذه الشخصية طابع الاستقامة الصعبة، التي كان وما يزال يكمن فيها سرّ الانكسار المتنوع لوعي مكانته وحقيقته عند الأسلاف والإخلاف. وبغض النظر عن أن هذه الاستقامة الصعبة تبقى لحد ما من إبداع الخيال الأخلاقي، وتجريد الوعي المنطقي في مواقفهم من وقائع التاريخ الفعلية، إلا أنها تحفل مع ذلك بكل المكونات الفعلية لمعاناة الحق.

من هنا انعدام المعنى العميق والسليم للبحث في شخصية الإمام علي عما يمكن دعوته بهوية المطلق. فمن السهل الإفراط في تعظيمه، كما إن من السهل التفريط في مآثره. لاسيما وانه نفسه قد أشار إليها، عندما أكد مرة على ضرورة التمسك بالاستقامة المعتدلة. وإذا كانت هذه الصياغة تبدو في ظاهرها زهيدة، وفي بساطتها غاية في الابتذال، فلأنها الأصعب بلوغاً والأكثر تعقيدا. فالتاريخ لا يمهل مبدعيه الفرصة الخالصة لتأمل ما يجري، كما انه لا يتركهم هملا أمام معاناة الألغاز والتحير فيها وبها. ومن العبث البحث فيما وراء التاريخ عما يمكنه أن يكون يداً محركة أو عبرة إلهية. فإذا كان للتاريخ بعدا دراميا خاصا، فان ذلك لا يعني أن أناسه ممثلين على مسارحه. وإلا لاستلزم ذلك مادة مسبقة قابلة للتأمل والتصنيف. فالمنظور الجبري والغائي لا يفعل هنا إلا على استثارة تناقضات الخلف، أي التناقضات التي يستحيل حلها بمعايير العقل والمنطق. وإذا كان بإمكان هذه التناقضات والتصورات المستنبطة منها أن تكون مصدراً للتأمل الأخلاقي والروحي، فإنها لا تفعل في نهاية المطاف إلا على حرق مقدماتها لكي تتمتع بلذة الوجود والاستمرار فيه.

غير أن هذا المنطق يفقد الشخصيات الكبرى والتاريخ على السواء من معاني الوجدان الصادق والعبرة الأخلاقية السياسية. وليس مصادفة ألا يؤدي حماس "غلاة" الشيعة إلا إلى صياغة صورة أسطورية فاحشة في الكثير من مقوماتها وغاياتها عما بدا لهم مقدساً في شخصية الإمام علي بن أبي طالب. فقد وجدت فيه الفرقة الخطابية، "كيانا صامتا" هو الوجه الباطن للنبي محمد بوصفه "كيانا ناطقا"(1). ذلك يعني أن الخطابية حولت الإمام علي إلى كيان باطني لمحمد الظاهري(2). بينما وجدت المنصورية (المغيرية)(3) في آل محمد سماء، وفي الشيعة أرضا(4). في حين وجد بعض غلاة الامامية أن روح القدس كانت في النبي محمد ثم انتقلت إلى علي ثم إلى الأئمة(5). أما السبأية فقد طرحت فكرة المهدي المنتظر على مثال وشخصية الإمام علي، معتبرة إياه حياً لم يمت وانه سيرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة ليملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً(6). هذه المغالاة التي أدت بالشيعة المعتدلة أيضاً إلى اعتبارها نموذجاً لا يمكن قبوله بغض النظر عن المحبة المفرطة للإمام علي(7).

وإذا كانت هذه الصيغة الإسلامية الغالية قد وجدت في الإمام علي ملاذها الأخير، فلأنها تحسست في حياته واستمعت في مماته أنغام الروح الأخلاقي. وفي غلوها هذا كان يكمن سر ابتعادها عن حقيقة مفاهيمه العملية. وهو الشيء الذي نعثر عليه في رد فعله الأول، كما نراه في العبارة المنسوبة إليه:"هلك فيّ رجلان، محب غال ومبغض قال".

وسواء صحّت الآراء المنتشرة في كتب التاريخ والسير والملل والنحل عن عبد الله بن سبأ أم لا، وعما إذا أراد علي بن أبي طالب قتله لغلّوه فيه أم لا، فإن مما لاشك فيه هو بروز ظاهرة الغلاة، بوصفها جزءا عضويا في منظومات التقييم والممارسة السياسية التي أحاطت الإمام علي بهالة من التقديس(8). وبالتالي لا يعني إبراز هويته "اليهودية" بوصفها مصدرا من مصادر الغلو في الإمام علي بن أبي طالب ومصدره النوراني، سوى الصيغة العقادية والدعائية الراغبة في إدراجه ضمن قائمة الغلاة الخارجين عن الإسلام(9). فالنوبختي، على سبيل المثال، ينقل لنا رد عبد الله بن سبأ على سماعه خبر موت الإمام علي بعبارة:"لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة، وأقمت على قتله سبعين عدلاً، لعلمنا انه لم يمت، ولم يقتل، ولا يموت حتى يملك الأرض!"(10).

غير أن الغلو الشيعي، شأن كل غلو، هو حصيلة تداخل مقدمات تاريخية عديدة من أهمها الاجتماعية والسياسية والفكرية. ولعب دوراً هائلاً في استثارة ظاهرة الغلو في الثقافة الإسلامية اللاحقة. وإذا كانت الفكرة المنسوبة للإمام علي عن انه "سيهلك فيه رجلان محب غال ومبغض قال" هي التعبير الأول عن الموقف المناهض للغلو، فإن التقييم العلمي العقائدي للظاهرة لم يكتمل إلا في وقت متأخر. وهو اكتمال نسبي بسبب كونه ظل، حتى في أفضل الأحوال، جزء من معترك المذاهب. وليس مصادفة أن تصل إحدى مدارس علم الملل والنحل الإسلامي إلى إدراج اغلب فرق الشيعة في الغلاة، وبالتالي إخراجها من حضرة الإسلام. وهو غلو "سني" لم يكن بدوره معزولا عن التأثير المباشر وغير المباشر لتقاليد الأموية واستبدادها السياسي.

فالغلو الشديد فيما ينسب لابن سبأ من فكرة ترفض الاعتراف بموت علي حتى في حالة رؤيته إياه بأم عينيه، وشهادة أناس لا يشك في صحة شهادتهم، وعلمه انه لم يقتل ولن يموت حتى يملك الأرض، هو النتاج "الطبيعي" للحالة غير الطبيعية التي تحسسها البعض مع صعود الأموية! إن هذه الصياغة المعاندة واتهامها المشاكس لأدلة السمع والبصر لم تكن معزولة عن تقاليد الماضي والمضامين الثقافية للعبارة. فالتعامل مع عبارات الماضي ومضامينها الثقافية لابد وأن يؤدي إلى سوء الفهم في حالة النظر إليها في ضوء التفكير المعاصر ومنطقه المجرد، تماماً بالقدر الذي لم يخلِّص أصحاب الماضي من سوء النية ترشيحهم لكل ما قيل ويقال من خلال مصفاة العقائدية الضيقة.

فالتاريخ ليس ثوباً مبللاً بخرافات من يرتديه. وبالتالي لا يستلزم تأمل بياضه الناصع سوى عصره بقوة أكبر! فالتاريخ بالقدر الذي يمثل استمرارية الأفعال الإنسانية الدرامية، فانه يمثل أيضاً الميدان الواسع لاحتراب الرموز العميقة. وهو الشيء الذي يعطي للفعل معنى يتجاوز كيانه الوجودي. ومن ثم لا تعني الصيغة اللاعقلانية فيه أحيانا سوى الأسلوب المناسب للبحث عن المعنى التسامي والإعلان الجريء عن حشرجة الروح الأخلاقي والعاطفة الملتهبة في البحث عن منفذ خارج إطار العلاقات الواقعية وتناسب القوى. ومن العبث البحث في ذلك عن سذاجة الموقف. وليس مصادفة ألا يجري فهم هذه المواقف في ثقافة الإسلام إلا بمفاهيم العقائد وأحكامها، إي أنها رفضت مشاطرة ما يمس عقائد الإسلام الإيمانية الكبرى وأبقت على كل ما له صلة بالسياسة ومبادئ الحق. وهو الأمر الذي يجعل من الضروري النظر إلى الصيغ اللغوية لآراء الغلاة الشيعة بوصفها جزء من تقاليد التعبير اللاعقلانية والوجدان المتطرف عن الحقيقة والواجب. وفي هذا يكمن سر اندفاع تصوراتها إلى أقصى درجاته من أجل اختزال غياب الواقع "الحقيقي". فإذا كانت الحقيقة معقولة، فان احتواء تحسسها المتطرف لابد وان يجري في مستوى اللامعقول.

لقد تناول الغلاة ودافعوا عما كان ينبغي للوجدان والضمير أن يصوراه. وأعلنوا آراءهم بجرأة لا تهاون فيها مع أشد العقائد تحديداً للمبادئ الكبرى. وسواء اتفق ذلك ما ما أقرّه الإمام علي أم لا، فان لموقفهم منه مقدماتها التي لا ينبغي البحث عن أسسها ومصادرها النهائية في شخصية الإمام علي فقط. فقد كانت هذه التصورات انعكاساً معقداً لتداخل العقائد الإسلامية، وردود الفعل السياسية، ومحاولة استشراف البعد الأعمق للذات الإسلامية الناشئة في أشد أشكالها ومستوياتها المتطرفة بحثاً عن المثال الحق(11). وإذا كان هذا المثال قد وجد شخصه في الإمام علي بن أبي طالب، فلأنه هو الممثل الحق لهذه العقائد في مرحلة انعطاف الإسلام الكبير. وهو السبب الذي جعل من غلو الفرقة المغيرية (المنصورية) ، تعبيرا وتأويلا لآية "الأمانة"،القائلة، بأن محمداً هو أول المخلوقات بين الناس، كما في الآية (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين). وهي الآية التي جرى وضعها في سلسلة الخلق القائمة في إرسال الله محمداً إلى الناس كافة وهو ظلّ، ثم عرض على السموات أن يمنعن علياً بن أبي طالب فأبين، ثم على الأرض والجبال فأبين، ثم على الناس كافة كلهم فقام عمر بن الخطاب إلى أبي بكر فأمره أن يتحمل منعه وان يغدر به ففعل ذلك أبو بكر(12). إننا نقف هنا أمام تأويل سياسي غالي يخلو من الأبعاد الفلسفية الباطنية، رغم انه يحتوي على طاقتها الكامنة. بعبارة أخرى، من العبث البحث في هذا التأويل عن باطنية فلسفية، وذلك لأنه كان مجرد أحد نماذج التأويل السياسي من خلال وضعه "ميتافيزيقية الأزل" في حدود سقيفة بني ساعدة. وإذا كانت هذه الصيغة في مظهرها إفقارا للقرآن، فإنها تحتوي في باطنها على أغناء للجدل السياسي، برفعه من مصاف المباشرة والدقة اللغوية إلى مجاز الروح الميتافيزيقي. وهو الشيء الذي نعثر عليه في هواجس وبواعث وغايات الغلو الشيعي آنذاك. مما حدد بدوره موقعه الدرامي الذي لم يدمِ مشاعره كونه طريد الجميع بما في ذلك ممن هو عل استعداد للتضحية من أجله، مازال ذلك يلبي دعوة البقاء الحية التي وجدوا شعلتها في الإمام علي. وعندما سيردد الإمام الصادق كلمات "عمى القلوب" على أولئك الغلاة، فانه يكون قد أدرك حقيقة سبق للإمام علي وان أشار إليها عندما قال بان من أحب شيئاً أعشى بصره. وإذ بقيت هذه القوى في طلائها التاريخي هامشية المعنى، فلأنها شكلت الإطار الجميل للصورة الواقعية التي سترسمها ذهنية وخيال القوى المختلفة في مجرى صراعها من اجل تحديد موقعه وهويته في كيان الأمة الإسلامية.

ولم يكن بإمكان هذه الصورة أن ترتسم في ملامحها الكبرى بمعزل عن الصراع السياسي ومتطلباته المباشرة. وإذا كان الانهماك العجول هو الصفة المميزة لمراحل الإسلام الأولى في تحديد شخصه السياسي، فلأن السياسة كانت آنذاك الحلبة التي وضعته أمام مرأى الجميع. مما حول حياته وموته إلى مصدر ضروري أعطى لمبادئ السياسة وقيمها وأساليبها معنى يتجاوز حدودها المباشرة. وبهذا يكون قد أشرك في كل واحد سياسية الساسة وعقائدية العقائديين وحماس الجماهير، إي كل تلك المكونات المؤثرة والمتأثرة التي تصنع في تفاعلها خليط النظرية والتشويش، والانضباط والفوضى. وإذا كانت الخلافات الأولى في الأمة الإسلامية بعد موت النبي محمد هي خلافات سياسية من أجل السلطة، فإنها ظلت لاحقا الهاجس الخفي وراء كل التنظير الفكري ومعالم انضباطه الظاهري في تعاليم الإسلام ومبادئه الكبرى. ومن الممكن ملاحظة ذلك في مفهوم الرفض والروافض وصيرورتهما السياسية الفكرية، بوصفها القوة التي أكثر ما استثارها الرفض لإبعاد الإمام علي عن سدة الحكم(13). وبغضّ النظر عن كل الافتراءات التي ستوجهها التقاليد "السنية" المعارضة لرافضية الشيعة، بما في ذلك اتهامها بمختلف أصناف الابتعاد عن الإسلام، فإنها ظلت في حصيلتها العامة التيار الذي حاول تمثيل خط الدفاع السياسي عن أولوية الإمام علي وأحقية أحفاده في السلطة السياسية (الخلافة).

وقد أشار أصحاب علم الملل والنحل بدقة بالغة إلى أن الإمامة كانت مصدر الخلافات الأساسية الكبرى في بداية الخلافة. فعندما أشار الشهرستاني (ت-548هـ)، على سبيل المثال، إلى انه ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سلّ على الإمامة، فانه يكون بذلك قد دقق حقيقة وطبيعة العلاقة بين الإسلام والسياسة. وهي علاقة جرى صهرها في الخلافة من خلال توحيد فعالية المنطق السياسي في الدين، والدين في السياسة، أي في البؤرة التي تمحور حولها صراع الفرق منذ بدايات نشوئها. وقد سبق للنوبختي، أن أشار إلى هذه القضية، عندما كتب قائلاً "إن كل فرق الأمة اختلفت في الإمامة في كل عصر، ووقت كل إمام بعد وفاته، وفي عصر حياته"(14). فإذا كانت قضية السلطة (الإمامة)، هي مثار خلاف في كل عصر وزمن كل سلطان وإمام، فان مصادرها الأولى كان لابد لها من أن تستثير ذاكرة الأجيال من أجل مقارنة ذاتها ووعي نفسها على محك يقينها القديم والجديد.

وفي هذه العملية أصبح الرجوع إلى الخلافات الأولى أسلوب وعي الذات والمصدر الملهم لاستثارة وتجديد موقع الشخصية العلوية، بفعل حضورها الدائم في بؤرة هذه الخلافات. وفيما لو استثنينا الإسهاب والإطناب اللاحقين اللذين ستضفيهما كتب الملل والنحل على استيعابها لتسلسل الخلافات القائمة وراء نشوء الفرق الإسلامية، فان مما لاشك فيه هو اتفاقها على أن الشقاق الأول كان على السلطة ومن أجلها. ولعل الأقرب إلى الدقة هنا الصيغة التي ينقلها النوبختي والأشعري، وبالأخص الأول منهما، عندما أكد على أن اختلاف الفرق بعد موت النبي محمد كان على ثلاث، الشيعة وهم شيعة علي، وفرقة ادعت الإمرة والسلطان (الأنصار وأتباع سعد بن عبادة) والفرقة التي مالت إلى بيعة أبي بكر. وإذا كانت الاختلافات اللاحقة قد جرت بالصيغة التي كان بالإمكان إخمادها، كما هو الحال بالنسبة لحركة الردة، فإن الخلافات الأعمق قد توسعت وتعمقت بعد مبايعة الإمام علي وبداية الحروب الأهلية الطاحنة التي أنهت مرحلة كبرى في تطور الإسلام، بانتقاله مع موت الإمام علي من نظام الخلافة الإسلامية (الشورى) إلى نظام الملوكية الإسلامية (الوراثة). لقد أدى صعود الإمام علي بن أبي طالب إلى سدة الحكم ومقتله البطولي إلى أن يصبح مصدراً آخر لانشقاقات متنوعة المستويات شقت لنفسها الطريق إلى ميدان التقييم السياسي الفكري والروحي الأخلاقي لشخصه. وهو الشيء الذي يفسر اشتراك الجميع في تأمل التجربة العلوية والحكم عليها. بحيث ألزم موته أيضا الجميع على خوض معارك التقييم.

 

.................

الهوامش

1)الخطابية. إحدى فرق الغلاة الشيعية. ويرتبط أسمها بشخصية أبي الخطاب محمد بن زينب الأجدع الاسدي، المتوفي عام 143 للهجرة. وهو كوفي الأصل. تبلورت شخصيته وأفكار ومواقفه وأحداث نشاطه ومقتله في النصف الأول من القرن الثاني الهجري. وقد تمثل تقاليد التشيع المتمرد. من هنا يمكن فهم المغزى الرمزي في العبارة المنسوبة إليه كونه من الملائكة وهو حجة على البشر في الأرض. فهي الذروة التي يبلغها الوعي المتحرر من سلطة الأفراد والنصوص والسلطة. فعندما يبلغ المرء درجة "الملائكة"، أي الجوهر الحر الخالص عندها لا يكون بحاجة إلى "دليل" غير دليل حجة الإنسان على الإنسان، أو حجة الإنسان على نفسه. إننا نقف أمام فكرة إنسانية ذات أبعاد تحررية. وذلك لأنها تزيل فكرة الخلافة المنوية بإرجاع النبوة والإمامة إلى مصدر النور "الإلهي"، أي المعرفة والقيم الأخلاقية. من هنا يمكن فهم المضمون الحقيقي لعبارته القائلة، بأننا "أبناء الله وأحباءه"، بمعنى قدرة البشر واستعداهم لبلوغ حالة البنوة الروحية لله حالما يرتقون في سلم التطهير الروحي والرقي المعرفي. وضمن هذا السياق يمكن فهم مصدر الاتهامات التي ألصقت بالخطابية من جانب مختلف الفرق، وبالأخص ما يتعلق بمواقفها فيما أطلق عليه عبارة "المحرمات الإسلامية"، أي غلوها الفكري والسياسي. فالغلو الأخلاقي وجدان وعنفوان محكوم بقيم العدالة والحق والإخلاص لها. والخطابية احد النماذج الأولية من نوعها في التاريخ الفكري والسياسي الإسلامي التي جعلت من أحكامها الحرة على التاريخ جزء من تاريخ الروح الحر. فقد وجدت في أبي بكر وعمر وعثمان "كفارا" بسبب ما أسمته بإخراجهم "عليا من الإمامة في عصرهم". ذلك يعني أنهم تعاملوا مع أحداث التاريخ بمفاهيم ومبادئ الفكرة السياسية الحرة وليس بقواعد التقاليد التي جعلت من تسلسل الشخصيات حلقات في تسلسل الفضيلة. وبالتالي لم يكن غلوه في الإمام علي سوى الوجه الديني اللاهوتي والباطني لغلوهم السياسي الأخلاقي النبيل.

2) الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، بيروت، دار إحياء التراث(ب-ت)ط3، ص10.

3) المنصورية (المغيرية)- وهي إحدى فرق الغلاة الشيعية التي تنسب لمؤسسها أبي منصور المغيرة بن سعيد العجلي (قتل عام 119، ويقال 121). أجمعت اغلب الفرق على تكفيره واتهامه بالزندقة والخروج على الإسلام. وهي اتهامات ذات مصادر مرتبطة من الناحية التاريخية والفكرية بالسلطة الأموية. وهي في الاغلب تسير في نفس الاتهامات الموجهة ضد مختلف تيارات التشيع الإنسانية، كما نراها على سبيل المثال في الموقف من الاتجاه الاثني عشرية (الامامية)، والإسماعيلية والعلوية (النصيرية) والدرزية وكثير غيرها. غير انه حالما نلقي نظرة فاحصة على آراءه من حيث وحدتها الداخلية وغاياتها الفعلية القائمة وراء رمزية العبارة، فإننا نستطيع رؤية وقوفه ضمن إطار وكينونة الرؤية الإنسانية الخالصة. فقد كانت آراء المغيرة بن سعيد "المتطرفة" تسير ضمن تقاليد الاجتهاد الفردي الحر في عرض الأفكار وتأسيس القيم ونقد تجارب الماضي والحاضر. وهو اجتهاد يصب في نهاية المطاف في مصب الحرية الفكرية وتخليصها من إسار العقائد والمذاهب المقدسة. وبالتالي تحويل الشخصيات إلى جزء من تاريخ البشر. وضمن هذا السياق يمكن فهم فكرة التأويل وجوهريتها التي ساهمت في أنسنة الأفكار المجردة وإنزال الله من ميتافيزيقا المذاهب والعقائد إلى عالم الإنسان ومعاناته. وقد سار في مواقفه وآراء واشتراكه الفعلي في معارضة السلطة ضمن تقاليد الروح الكوفي المتمرد، أي تمثل تقاليد الشهادة الحسينية وحركة التوابين والمختارية والوصفاء وغيرها. وقتل في ولاية العراق من جانب الأموي الشرس يوسف بن عمر.

4) الأشعري: مقالات الإسلاميين، ص9.

5) الأشعري: مقالات الإسلاميين، ص14.

6) الأشعري: مقالات الإسلاميين، ص15. سوف لن أتطرق هنا إلى الجدل القديم والحديث حول هوية عبد الله بن سبأ. وفيما إذا كان فردا واقعيا أو صورة مختلقة أريد بها تشويه صورة الشيعة وإبراز غلوها أو مصادرها اليهودية النصرانية. وهو جدل قد يمتلك أهمية علمية وتاريخية، غير انه لا يغير من حقيقة وجود وانتعاش ظاهرة الغلو والغلاة، التي لا علاقة جوهرية لها بفكر وسلوك الإمام علي. وذلك لان ظاهرة الغلو هي نتاج مرحلة متأخرة نسبيا على موت الإمام علي. بمعنى أنها نتاج معقد لتداخل الإشكاليات النظرية والتاريخ السياسي الذي تلازم مع تحول الخلافة إلى ملوكية، أي الانتقال من خلافة "الراشدين" إلى الأموية. مما أعطى لفكرة الغلو وتقاليدها الخاصة طابعا دراميا حادا تحسست بطريقتها الخاصة مآسي العصر. ذلك يعني أن الغلو كان يعكس في أسلوبه نفسية وذهنية الانعزال والتطرف المشبع بوحي الحق والحقيقة الذاتية في مواجهة "الانحراف العام" للإرادة والأمة والوقوف ضده وضدهم.

7) إذا كان التشيع يحتوي على اكبر عدد من التيارات الفكرية والسياسية "المتطرفة"، فلانة كان أسلوب المواجهة الشاملة للعنف الأموي الشامل في بداية الأمر، والسلطة بشكل عام في وقت لاحق. وهو غلو كان محكوما من ألفه إلى يائه بسيادة وجوهرية الحق وفكرة العدالة فيه. من هنا تحوله إلى ميدان ومرتع القوى الإنسانية المتحيرة والحائرة والحرة. وهو التيار الذي صبغ الإسلام والثقافة الإسلامية عموما بمسحة الروحانية المتسامية، شأنه شأن التصوف. وقد كان كلاهما يمثلان دجلة وفرات التاريخ السياسي والروحي في سريانهما صوب بحار المطلق. ومن ثم ليست النزعات والتيارات والفرق المتطرفة سوى القوى الراديكالية التي كانت تقف في حالات عديدة على ضفاف المجرى العام للإبداع الفطري العقلي والإنساني الذي طبع تقاليد التشيع الفلسفي (والصوفي أيضا). وهو السبب الذي يفسر حيوية التيارات الغالية وقيمتها بالنسبة لترسيخ أسس الاعتدال والعقلانية والنزعة الإنسانية في التشيع. وفي هذا أيضا يكمن النقد المتنوع لفرق الغلاة الشيعية من جانب التيارات المعتدلة الكبرى للتشيع العلوي.

8) لقد وقف الإسلام منذ البداية بالضد من الغلو. ويحتوي القرآن على آيات عديدة هاجمت غلو اليهود والنصارى في أنبيائهم. بل يمكننا القول، بان الإسلام هو دين الاعتدال. وهو اعتدال وجد تعبيره في فكرة وقيم الوسط، التي رفعها إلى مصاف المرجعية الكبرى بما في ذلك بالنسبة للجماعة والأمة.

9) إن اغلب الاتهامات ونماذجها الأولية التي طبعت في وقت لاحق صيغ وكليشات الاتهامات (التي مازالت سائدة فيما يسمى في السوط "السني") هي من صنع الجاهلية الأموية واستبدادها السياسي. بعبارة أخرى، إن اغلب ما قيل ويقال بهذا الصدد كان من تأليف ووضع مرتزقة الأموية السياسية.

10) النوبختي: فرق الشيعة، النجف، 1355هجرية، ص23.

11) وسوف يظهر هذا البعد السياسي للذات الأخلاقية في مواقف الشيعة من بيعة الحسن بن علي لمعاوية بن أبي سفيان. فقد وجدوا فيها جبناً سياسياً وموقفاً لا يمكن الاتفاق معه. لهذا خاطبه سليمان بن صرد سيد أهل العراق ورأسهم حالما دخل عليه بعبارة: السلام عليك يا مذّل المؤمنين! فهو لم يقتنع شأن الأغلبية بحجج الحسن وبآرائه الجبرية وانهياره السياسي المغلف بعبارة الموافقة على البيعة من اجل حقن دماء المسلمين (انظر ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، ج1 ص241- 242.( وقد أورد النوبختي بهذا الصدد أيضاً نموذجاً "متطرفا" عن ردود الفعل التي أثارها سلوك الحسن من معاوية. فقد دفع ذلك بعضهم وبالأخص برجل يقال له الجراح بن سنان إلى أن يأخذ بلجام دابة الحسن ويكلمه قائلاً: الله أكبر! أشركت كما أشرك أبوك من قبل!! وطعنه بمعول في أصل فخذه فقطع الفخذ إلى العظم. وهي الحالة وأمثالها التي أدت بالحسن، كما يقول النوبختي، إلى أن ينعزل ويكظم غيظه متجرعاً لريقه على الشجى والأذى من أهل دعوته حتى توفي (انظر النوبختي، فرق الشيعة، ص24.)

12) الأشعري: مقالات الإسلاميين، ص8.

13) إن الأمم لا تشتري ألقابها، لأنها جزء من صيرورتها التاريخية، تماما كما هو الحال بالنسبة لأسماء موطنها وبلدانها. فإذا كانت أسماء البلدان والدول هي الصيغة التي تلتقي فيها مصادفات التاريخ والوعي، فإن ألقابها هي نتاج معاناتها الروحية. ومن ثم هي احد مظاهر حلها لإشكاليات وجودها الطبيعي والماوراطبيعي على مستوى الدولة والثقافة. فالعراق يحتمل الاشتقاق والاختلاف في التفسير والتأويل دون أن يفقده شيئا أو يضيف إليه. في حين يختلف الحال بالنسبة لألقابه، لأنها تتحمل كمية ونوعية جهاده الثقافي ومصيره التاريخي. وليس مصادفة أن يتحمل العراق ويحمل ألقابا عديدة تعكس في اختلافها وتنوعها هاجس الخلاف في صيرورته التاريخية، والوحدة في كينونته الثقافية. وهي المفارقة التي وجدت تعبيرها في وحدة الهوية والاتهام، حالما يجري الحديث عنه. فهو البلد الوحيد الذي تراكمت فيه وحدة الشك والرفض والتحدي. وليس مصادفة أن يحصل العراقيون من بين مكونات الكينونة العربية الثقافية على لقب "أهل الأهواء"! فهي الصيغة الملطفة للقب "الروافض". بمعنى انه البلد الوحيد الذي تحول الرفض الفكري والسياسي فيه إلى صفة مميزة لجهاده الثقافي ومن ثم تكونه التاريخي. وهو السر الذي جعله ارض "الروافض". فقد ظهرت أغلب إن لم يكن جميع حركات الرفض (الروافض) في العراق من حيث تأسيسها للفكرة واجتهادها وكفاحها وتضحيتها. وهي الصفة التي طبعت سلوك الأغلبية بما في ذلك اشد التيارات الإسلامية جمودا وسلفية كما هو الحال بالنسبة للحنبلية. وهي مواقف لم تكن معزولة عن تقاليد الرفض المتسامية التي ميزت العراق وتقاليده الثقافية والروحية.

14) النوبختي: فرق الشيعة، ص2.

 

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

 

............................

 

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2290 الجمعة 30 / 11 / 2012)

 

في المثقف اليوم