دراسات وبحوث

الإمام علي .. القوة والمثال (3) / ميثم الجنابي

بينما استثار موته في فكر الجماعة المتحاربة مختلف النوازع في تصوير وتفسير "تاريخ" السلطة الإسلامية وموقعه فيها. وبالتالي تأثيره المباشر في تكوين ملامح الفرق الإسلامية الأولى. لهذا لم يتعد تقييمها له في البداية ميدان الأحكام السياسية بفعل أهميتها في مصيره وصيرورة التشيع السياسي والمذهبي. فأوائل "الحشوية" أو "أهل الحديث" حسب عبارة النوبختي، قد قالوا في الإمامة أن النبي محمد مات ولم يستخلف على دينه من يقوم مقامه في جمع كلمة المسلمين. وبهذا المعنى يكون النبي قد جوّز هذا الفعل لكل إمام بعده. فالتصورات والنظرات اللاحقة في هذا الاتجاه فرزت مفاهيم الاجتهاد والرأي، أي الإقرار بإمكانية الاجتهاد في تنصيب الإمام، وبالتالي نظرت إلى سلسلة "خلافة الراشدين" على أنها مسار حق. وفيها أيضا كانت تكمن إمكانية القول بان موقع الإمام علي هو الموقع الحق في تسلسله التاريخي في الخلافة(1).

وبغض النظر عن واقعية هذه الصيغة وعقلانيتها المباشرة، إلا أنها تفتقر إلى أسلوب التعامل الوجداني العميق مع ظاهرة الصراع، وذلك بسبب بقائها أسيرة تصوراتها المباشرة عن الوحدة والجماعة. لقد أعجبها حب الوحدة وأعماها عن رؤية التباين والبحث فيه عن مصدر سمّوها. مما أدى بدوره إلى صياغة أسلوب آخر للسموّ من خلال ما يمكن دعوته، بالاستقامة الورعة التي بررت عمل الجميع في مقولات الاجتهاد، وأدانت الاتهام الموجه ضدهم من منطلق الورع الإسلامي. وهي النتيجة التي يمكن بإمكانها بلوغ هذا الشأو دون المرور بتعرجات الروح السياسي وإفراز الجبن والتضحية، أي كل ما يتطابق من الناحية التاريخية مع ظهور وتبلور الملامح العامة لتيارات المرجئة والخوارج. فإذا كانت مادة المرجئة، كما يقول النوبختي، هي بقايا الفرق المشتتة، التي كانت في البداية مع طلحة والزبير ولاحقا مع الأموية (معاوية)، أي كل أولئك الذين يشكلون "السواد الأعظم وأتباع الملوك وأعوان كل من غلب"(2)، فإن مادة الخوارج هم أولئك الذين لم يدفعهم للخروج عليه (علي) إلا حبّهم إياه. وهي محبة لم تبن على أساس العاطفة المباشرة، بل على أساس الحق. من هنا إثارتها دخان الاختناق بعد إصابتها بعطب الاحتراق، الذي يصعب تلافيه دون إخماده أو الاختناق به.

وفيما لو تجاوزنا مجازية العبارة المذكورة أعلاه، فان من الصعب فهم مواقف الخوارج المتقلبة من الحب العارم والدفاع المفرط عن الإمام علي حتى المواجهة والصراع الدموي ضده خارج إطار تمثلهم الخاص للإسلام المحمدي. فقد مثلت الخوارج النموذج الرفيع للتذوق العربي "الجاهلي" في إيمانه العميق بالإسلام العملي. من هنا احتكامهم لكلمة الوفاء بالعهد باعتبارها نصا، وتمسكهم بالعمل باعتباره قرآناً.

إذ لم تكن مواقف الخوارج من الإمام علي نتاجا لعقائديتهم الدينية، بقدر ما هي نتاج لمبادئهم الأخلاقية. مما حدد بدوره طبيعة موقفهم من الإمام علي. لهذا نرى الأشعث بن قيس، الذي استجاب لخديعة رفع المصاحف على الرماح في صفّين واعتبره إنصافا لعلي، يهدده بالقوت نفسه، بأنه في حالة عدم قبوله بالتحكيم، فانه "لا وفاء معه ولا مرمى بسهم ولا حجر". بمعنى انه في حالة عدم الاحتكام إلى السلم والقرآن، فانه سوف لن يساهم وأتباعه في إسناده بحروبه مع معاوية. لقد طالبوه بالتمسك بما يريدون بوصفه شرط استمرار وفائهم له. بينما سلك الخوارج سلوكاً مغايراً تماما. فبعد أن استجاب الإمام علي للصلح قام إليه القراء ومنهم عبد الله بن وهب الراسبي في أناس كثير قد "اخترطوا سيوفهم ووضعوها على عواتقهم فقالوا له: اتق الله، فانك قد أعطيت العهد وأخذته منا. لنفنين أنفسنا أو لنفنين عدونا أو يفيء إلى أمر الله. وإنا نراك قد ركبت إلى أمر فيه الفرقة والمعصية لله والذل في الدنيا، فانهض بنا إلى عدونا فلنحاكمه إلى الله بسيوفنا، حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين. لا حكومة الناس"(3). لقد كان موقفهم هنا على طرف نقيض من سابقيهم. فهم قد ربطوا في كل واحد القول والعمل. فإذا كان هو الإمام وقد أخذ منهم العهد وأعطوه إياه، فانه ملزم بالقيام والقتال حتى النهاية. وإذا كان التهاون مع أعدائه هو نكوص عن الحق، ومعصية لله، وذل في الدنيا، حسب عبارة الراسبي، فانه ملزم بالنهوض من أجل محاكمتهم إلى الله بسيوفهم. مما حدد في نهاية المطاف موقفهم الشهير من انه "لا حكم إلا لله". ولم يعن ذلك امتهاناً بعقول الناس وإرادتهم! على العكس! إذ لم تعن روح الكلمات الخوارجية في جوهرها آنذاك سوى التعبير المناسب عن روح الحق. وقد أدرك الإمام علي هذه الحقيقة عندما شدد في موقفه منهم على أن من دعا إلى الحق ولم يدركه ليس كمن طلب الباطل. وان إبعاد الخوارج للرجال هو في الواقع الصيغة الظاهرية عن ضرورة الرجوع إلى القرآن. فالقرآن في نظرهم هو التعبير الكامل عن الحق، والحق في العمل. لهذا وضعوا العمل في مقدمة الإيمان وطالبوا بتهذيبه الدائم من خلال القول (التوبة) والعمل (الجهاد).

وحالما تحولت هذه المفاهيم والقيم إلى مبادئ جوهرية في الممارسة، فإنه كان لابد وان تكتسح في تيارها كل من لا يشاطرهم إياها. فقد تمثل الخوارج ومثلوا في صميم تفكيرهم وأفعالهم الأولى النموذج النبوي المحمدي، أو الصيغة الحية الفعالة لوحدة التوبة والجهاد. وحالما يلتقي قطبا هذين الكيانين، فمن الصعب توقع هوادة النفس وطمأنينة العواطف الأخلاقية دون شعور التضحية والانتقام المتسامي، أي كل ما سيجد تعبيره في الموقف من الإمام علي وتقيمه العملي(4).

فالخوارج التي استبسلت في الدفاع عنه وجدت في سلوكه السياسي خروجاً عما يلزمها البقاء معه. وأدى هذا الاحتكام الواعي لاستحكام الكتاب (القرآن) إلى إبداع الدراما التي اتخذت في مظاهرها صيغة الشبه المحير من ممارسة المعسكر الأموي السفياني – العاصي(5). لكن إذا كان المعسكر الأموي قد اتخذ من القرآن ذريعة لتلافي الهزيمة، ومن الذريعة أسلوباً ماكراً للسياسة، ومن السياسة أداة لاستلام السلطة، ومن السلطة غاية للهيمنة وما تؤدي إليه من نتائج متضاربة لا تحصى، فإن الخوارج لم ترفع مصاحفَ، بل دعت إلى القرآن بالفعل. لهذا خاطب حرقوص بن زهير الإمام علي في معركة النهروان قائلاً:"يا ابن أبي طالب لا نريد بقتالك إلا وجه الله والدار الآخرة"(6). وهو موقف له أساسه المتين في تقييم النفس والمعارضة (الإمام علي). لهذا اشتركوا مع الإمام علي في الصفات الجوهرية مثل الدعوة للحق، وأهملوا متطلبات السياسة العملية ولم يعيروا اهتماماً جدياً لها كما هو الحال بالنسبة للقوى المعارضة الأخرى.

فالمعارضة السياسية عادة ما تصاب في مواقفها وأعمالها بازدواجية الظاهر والباطن. مع ما يترتب عليه من خلع حلّة الرذائل الشخصية عبر تقديمها "هدية" لأعدائها. بينما لم تعان الخوارج من مأزق الصراع الداخلي مازال الله واليوم الآخر هو هاجسها العميق. مما جعلها تنظر إلى الإمام علي نظرتها إلى رجل مسلم لم يف بوعده تجاههم، ولهذا استحق قتالهم. وقد كان هذا التقييم الواقعي مبنياً لا على متطلبات السياسة وغاياتها المباشرة، بل على أساس متانة الخلق العقائدي المتسامي. وبهذا المعنى فانه كان يتضمّن في ذاته آفاقاً سياسية فعالة. فإذا كانت هذه الآراء لم تجد في بداية الأمر سوى ضرورة إزالة أئمة الجور بقوة السلاح، فإنها ستشق لنفسها الطريق لاحقاً في فكرة إمكانية اختيار الإمام من كل جنس وطائفة بغضّ النظر عن أصله وفصله، وفكرة إمكانية الاستغناء عن الإمام والعمل في ما بينهم بكتاب الله كما هو الحال بالنسبة لفرقة النجدات. وقد تضمنت هذه الأفكار المتبلورة في مجرى الصراع مع الإمام علي تقييماً مناهضاً لشخصه مبنياً على أساس تعميق "الأنا الفرقية"، باعتبارها "أنا الحق" الإسلامي. مما أدى لاحقا إلى إحداث نتيجتين في حالة النظر إليهما من زاوية علاقتهما بتقييم شخصية الإمام علي بن أبي طالب. الأولى وتقوم في نظرتها المعترفة بإمامته قبل قبول الحكم ونزعها عنه بعدها، وما ترتب عليه من دعوتهم إياه بالتوبة والرجوع إلى الإسلام الحق. أما الثانية فتقوم في تقييم ذاتها المناهضة له. من هنا نظرتها بما في ذلك لابن ملجم على انه فارس الحق، وإلى فعله في قتل الإمام علي على انه أسلوب بلوغ الرضا الإلهي. فقد رثاه الخوارج بشعر منه:

يا ضـربة من منيب ما أراد بها    إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

أنـــــــي لأذكـره يـوما فاحســبه    أوفـــى البـرية عــند اللـه ميــزانا

بينما سيجرى النظر إلى فعل ابن ملجم على انه تمثل كامل وتجلٍّ رفيع للآية (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله)(7). وحالما تغلّفت الوحدة المتحركة للعقائدية الأخلاقية بالإيديولوجية السياسية، فانه كان لابد لها من أن تبدع صورها العديدة في تقييم المعارضة. ففي موقفها من الإمام علي استندت إلى الآية القائلة (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو الدّ الخصام)(8). وهو تأويل محكوم بواقع المواجهة. بمعنى انه لا يستند إلى شعور العداوة، كما انه لا علاقة جوهرية له بفكر الخوارج وتاريخ شخصياته الكبرى. فقد بقي هؤلاء يكنون له في أعماقهم عميق الاحترام. وفي الإطار العام يمكن القول بأنهم نظروا إليه نظرتهم إلى رجل منهم يستحق لقب الإمامة وموقع الإمام مازال متمسكاً بالقرآن والسّنة (النبوية). إذ لم تعترف الخوارج في يوم ما بشرط جوهري في الإمامة غير هذا.

أما المرجئة فإنها كانت في الإطار العام (فيما لو استثنينا انتفاضة الأشعث ضد الحجاج، وابن المهلب ضد يزيد الثاني والحارث بن سريج ضد السلطة الأموية). بعبارة أخرى أنها اقرب ما تكون إلى ممثل الموازنة الإيمانية (القلبية) للروح الجهادي العملي المميز للخوارج. وهي الصفة التي نعثر عليها في آرائهم عن الإيمان ومعضلاته العديدة بما في ذلك مواقفهم من تأخير العمل. حيث كانت هذه الفكرة من حيث الجوهر الصيغة الأولية والظاهرية التي رد بها المرجئة على الطابع المباشر لفكرة الخوارج وحماسة روحهم المجاهد. فاهتمام المرجئة الأساسي بقضايا الإيمان والضمير قد أعاق إمكانيات الحكم المتسرّع على الأشخاص والحركات. ذلك يعني أن المرجئة مثّلت وعبّرت عن العملية الطبيعية التي تتواكب مع تزاحم المعارف وصراعها الفكري السياسي المباشر.

إن بحثها في خبايا الروح والإيمان قد" أنقذها" من مهمات تقييم الأفراد. لهذا لم تنهمك في تشريح أعماق الإنسان على أساس قواعد بسيطة مباشرة يمكن من خلالها تحديد ما إذا كانت أعماله كبيرة أم صغيرة، من أجل إنزال الحكم به. وقد لعثم ذلك ضميرها عن التسرع وعتعت لسانها عن النطق بتلك الصراحة والحدة المميزة للخوارج. وأبدع ذلك في تقاليدها قدرة التأقلم العميقة المحتوى. فهي بالقدر الذي خالفت الجميع، لم تعط فرصة مهاجمتها لأنها توالت المختلفين جميعاً من خلال إقرارها بإيمان كل أولئك الذين أقروا بظاهر الإيمان. وبالتالي إرجاء كل الأحكام النهائية بحقه لله. لهذا كان بإمكانها أن تنطق بتقييمات خجولة وصريحة، لكنها لم تنطق بأحكام التكفير. وليس مصادفة ألا ينبغ من بينهم من يهتم بتاريخ السياسة والفرق الإسلامية، بينما نراهم يتفوقون في الفقه. واكتفوا في مواقفهم من الإمام علي بالقول بأنه كان محقاً بالإمامة والتحكيم، وان المخطئون هم أولئك الذين لم يحتكموا إلى كتاب الله. أما هذا البرود الظاهري في الموقف من الدراما الخطيرة للتاريخ الإسلامي، فانه لم يكن وليد الصدفة. انه عبّر عن تجمّع عناصر الوعي الاجتماعي الأخلاقي والسياسي العقائدي الجديد الذي أخذ يخضع لمجهره كل دقائق الوقائع المتداولة والمتحركة لتفحّص العقل والضمير.

غير أن هذا التعامل الذي ميز سلوك المرجئة لم يكن خاصا بهم فقط. وذلك لان غلبة عناصر العقل أو الوجدان، العقيدة أو الضمير، هو الذي حدد في الأغلب أسلوب ومضمون الموقف من مختلف القضايا الاجتماعية، بما في ذلك موقفها من شخصية الإمام علي وتقييم مصيره وتأثيره في حياة الإسلام والخلافة. فقد كان هذا التأثير شديداً في مصير الحركات الفكرية السياسية وكيفية تحديد موقعها ومسببات ظهورها إلى الدرجة التي جعلت من "اعتزال" عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة عن المساهمة في حروب علي ضد خصومه مقدمة لمدارس المعتزلة ككل(9). ومن الصعب إدراج الأولى في الثانية أو ظهور الثانية من الأولى، إلا أن الذاكرة التاريخية في سعيها للمقارنة قد أسقطت اعتزال الماضي على فعل الاعتزال المعتزلي اللاحق.

لقد كان بإمكان اعتزال الصراع العسكري الأول أن يصنع شعور السمو الأخلاقي والورع الديني. غير أن المادة التاريخية الملموسة عن "الاعتزال" الأول، أي عدم المشاركة إلى جانب علي في حروبه مع طلحة والزبير وعائشة، كان مبنياً على أسس من الصعب إدراجها في مفاهيم الورع. فإلحاح عمار بن ياسر على استدراجهم وإقناعهم للمساهمة في حروب علي بن أبي طالب قد باءت بالفشل، مما دفع الإمام علي لأن يقول له في نهاية المطاف:"دع هؤلاء الرهط. أما ابن عمر فضعيف، وأما سعد فحسود، وذنبي إلى محمد بن مسلمة إني قتلت أخاه يوم خيبر - رحب اليهودي"(10). أما مضمون هذا "الاعتزال" فسوف يبرز لاحقاً في سلوكهم وسلوك آبائهم وأحفادهم(11). غير أن هذا "الاعتزال" قد نجح في إرساء إمكانية المحايدة وبالتالي النظر إلى شخصيات الصراع وحوافزها بمنظار محايد(12).

 إن حياد "المعتزلة" تجاه هذا الصراع هو الذي ولّد في حالات عديدة إمكانية المقاربة وانطباع التشابه بينهم وبين "اعتزال" الأوائل. أما في الواقع فإن من الصعب المطابقة بين مواقفهما من شخصية الإمام علي. فالمعتزلة التي تحولت قضية الصراع بين علي وخصومه إلى إحدى أهم قضاياها الفكرية الخفية، لم تتعامل مع أطرافه بتقاليد السياسة ونفسية المصالح المتنافرة. وإذا كانت قضايا الاعتزال الأساسية ومبادئه الكبرى تتقاسمها في آن واحد ميادين الميتافيزيقيا الإلهية والاجتماع والأخلاق، فإن تاريخ الصراع السياسي للأمة بقي متجذراً بين كل أسطر الفكر المعتزلي .

لقد دفع الاعتزال، الذي أكثر ما كان يثيره البحث عن علل الأشياء، بالعقل إلى أقصى ما استطاع في إطار الكلام الإسلامي آنذاك. وحالما وقف أمام مهمة تأمل تجربة الأمة الاجتماعية السياسية، فانه لم يتقبّل وقائع الصراع ونتائجه على أنها شيء قابل للتقديس أو الرفض المذهبي. لقد أخضعوا التاريخ كالأشياء إلى مبضع العقل. لهذا كان بإمكانهم أن يقولوا بأننا لا ندري أن كان عثمان قتل ظالماً أو مظلوماً كما فعل أبو الهذيل العلاف (ت-235هـ)، أو أن يقولوا عن صراع علي مع طلحة والزبير وعائشة أنهم يعرفون بان أحد الجانبين مصيب والآخر مخطئ. من هنا إنزالهم منزلة المتلاعنين الذين يعلمون أن أحدهم مخطئ، ولكنهم لا يعلمون من هو المخطئ على التحديد كما هو الحال عند العلاف وعند معمّر بن عباد السلمي (ت- 220هـ)(13). في حين اعتبروا معاوية بن أبي سفيان هو المخطئ، كما هو الحال أيضاً عند العلاف ومعمر السلمي، بينما قال النظّام (ت- 231هـ)، بان عليا كان مصيباً في تحكيم الحكمين وانه إنما حكّم لما خاف على عسكره الفساد، وكان الأمر عنده واضحاً فنظر للمسلمين بتآلفهم. وإنما أمرهما أن يحكما بكتاب الله فخالفا. فهما المخطئان وعلي مصيب(14). أما في قتاله مع طلحة والزبير فانه كان على حق وأعداؤه على خطأ(15). وقد شاطر بشر بن المعتمر (ت-210هـ) هذه الآراء. بينما اعتبر عباد بن سلمان، إن علياً لم يحكم وأنكر التحكيم وانه لم يكن بين طلحة والزبير وعلي حرب وقتال(16). وفي الوقت الذي اعتبر عباد بن سلمان بأنه لا يجوز أن يكون بعد الإمام علي إمام انطلاقاً من أن إجماعهم على جواز الإمامة في عصر "خلافة الراشدين" واختلافهم حول جوازها أو عدم جوازها بعدها، أي بما أن الأمة لا تجتمع على شيء تختلف في مثله، لهذا لا يجوز أن يكون بعد علي إمام(17). بينما نرى أبو بكر الأصم لا يدرج علي بن أبي طالب في الأئمة. واعتبر الأئمة فقط كل من أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية وذلك لأنه لم يجتمع على علي في حين اجْتُمِعَ على الآخرين(18). أما في موقفه من التحكيم فانه يؤكد على انه إن كان تحكيم علي لأجل المصلحة فانه على خطأ، وان كان لأجل تلافي القتال للإصلاح بين الفريقين فهو على صواب. لهذا اعتبر الأصمّ سلوك أبو موسى الأشعري في خلعه الإمام علي حتى يجتمع الناس على إمام سلوكاً صحيحا(19). وضمن هذا السياق من التفكير والتقييم قدم أيضا مواقفه من معركة الجمل(20). ومع ذلك يلزم القول بأن الأصم، شأن الكثير من المعتزلة لم يجدوا بالإمامة والإمام ضرورة لازمة. لهذا قال بأنه لو تكافّ الناس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام(21).

إن هذا التباين والخلاف العميق في الأحكام المباشرة للمعتزلة حول القضايا التي أفرزها الوعي الاجتماعي السياسي للخلافة في مواقفه من إمامة علي وصراعه لا تنفي القاعدة الخفية للفكر المعتزلي القائمة على أساس جدلية العقل وحريته في اتخاذ أحكامه المبنية لا على أساس القناعات العقائدية والولاء المذهبي. وليس مصادفة أن تستولي على أحكامهم فكرة "الجهل" بأحكام الأفضلية والأحقية عن القضايا المذهبية المثيرة للجدل. والقضية هنا ليست فقط في أنهم ابتعدوا عن ظروف وملابسات الصراعات الأولى، أو برغبتهم في التخلص من ثقل ما بدا لهم جزء من الماضي، بقدر ما انه كان نتيجة لمنطق العقل الباحث عن يقين عقلي في التفسير، وعن علة نهائية في الظواهر.

فحالما أصبحت الأحداث التاريخية، وبالأخص ما كان مرتبطا منها بقضية الخلافة والإمامة جزء من الأحكام العقلانية، فإنها تكون قد تحولت إلى جزء من براهينها. مما جعل من المقدمات المجردة نفسها مصدراً لاستنتاجات غاية في التباين والتعارض. وهو الشيء الذي يمكن رؤيته بوضوح فيما لو أجرينا مقارنة بين آراء عباد بن سلمان والأصم. فإذا كانت فكرة الإجماع المجردة هي التي تقوم في مقدمة أحكامهما، فان الأول يتوصل إلى صحة إمامة علي ونفيها عن معاوية، بينما توصل الثاني إلى ما يعاكسها. وقد أدت هذه الأحكام بحصيلتها العامة إلى سيطرة مبدأ الاجتهاد، الذي لم يعد جزء من العقلانية المعتزلية فحسب، بل وجزء من نشاط القوى واحترابها. مع ما ترتب عليه من إعطاء الحق المتساوي لمعارك علي ومناوئيه باعتبار أن كلاً منهم اجتهد بقدر استطاعته .

وإذا كان هذا الاستنتاج يتعارض في الكثير من جوانبه مع الوقائع التاريخية، فانه يكشف في الوقت نفسه عن صيرورة نفسية ثقافية جديدة يقوم فحواها في الابتعاد عن ضيق الأفق المذهبي للفرق. وذلك لان القضايا الأكثر جوهرية بالنسبة لم تعد خلافات الماضي، بل المبادئ الجديدة التي بني على أساسها الاعتزال نفسه. بعبارة أخرى، إن عقلانية المعتزلة قد سعت لانتزاع خلافيات الجدل العقيم واجتراره لمعضلات لا تصنع غير استثارة التعصب. إن هذه الإضافة الجوهرية لمكونات الثقافة الإسلامية قد شكلت دون شك أحد العناصر التي تمثلها الفكر الصوفي في موقفه من قضية الخلافة وخلافاتها الأولى وموقع الإمام علي فيها.

فقد أذابت المتصوفة العنصر العقلاني للمعتزلة في بوتقتها الأخلاقية. لهذا لم تنهمك في جدل الفرق، بل بحثت عما يمكنه أن يشكل نموذجاً قابلا للاحتذاء في مظاهره وعلماً من أعلام الإشارة إلى حقائقها. وهي حالة لها أسسها وصورها في المحاكاة الدائمة بين حقائق التصوف وشخصيات الإسلام الكبرى (والعادية أيضا). وضمن هذا الإطار يمكن القول بان لهذه العلاقة مستوياتها العديدة. فمنها ما له علاقة بالجذور الإسلامية للتصوف، وبتراث الماضي، وبالثقافة الإسلامية واللغوية للتصوف، وبعلاقة الطريقة والشريعة. وما وراء كل ذلك تقف العملية غير المتناهية للسمو الصوفي. ذلك يعني أن هذه العلاقة (أو العلائق) لا تجعل من شخصيات الإسلام الكبرى مجرد نماذج عابرة، بقدر ما أنها تذوبها في مواقف الصوفي وسلوكه ومساعيه صوب الحقائق الخالدة من خلال المادة "الثقافية" في مختلف جوانبها، بما في ذلك من خلال "خلفاء" الإسلام الأوائل. وقد حدد ذلك اختلاف طبيعة المواقف الصوفية من جدل الفرق وخلافات المذاهب حول الأفضلية الشخصية والحق والباطل السياسيين. لقد بحث المتصوفة عن "التسامي المعقول" في سلوك أصحاب الرسول، باعتبارهم أعلاماً من أعلامها، ووجدوا في أعمالهم وأقوالهم إشارات لحقائق. لهذا نرى الطوسي (ت- 378هـ) يفرد في كتاب (اللمع) ما اسماه بكتاب الصحابة، مصوراً إياهم على أنهم "كالنجوم التي أقسم القرآن بها، لأنها علائم الاقتداء بالاهتداء بهم"(22).

 ومن الممكن الإشارة هنا إلى إحدى الصيغ النموذجية، التي لا تعكس بالضرورة مواقف جميع المتصوفة، لكنها تعبّر عن معالم عميقة الجذور لها صفة عمومية في الفكر الصوفي ككل. فقد أجاب الشبلي (ت-334هـ) عندما سئل عن خُمس الإبل قائلاً: شاة في الواجب. أما عندنا فكلها لله! وعندما سئل عن مستنده في ذلك، أجاب بأنه استند إلى ممارسة أبي بكر حيث خرج عن ماله لله ورسوله. ثم أضاف قائلاً "إن من خرج عن ماله فإمامه أبو بكر، ومن خرج عن بعض ماله فإمامه عمر، ومن أخذ لله وأعطى لله وجمع لله ومنع لله فإمامه عثمان، ومن ترك الدنيا لأهلها فإمامه علي. وكل علم لا يؤدي إلى ترك الدنيا فليس بعلم"(23). إن هذا التقييم العام الذي أعطى له السراج الطوسي في (اللمع) مسحة أدق وأقصر في مجرى استعراضه ذكر علي بن أبي طالب، من أن لعلي "الكثير من الأحوال والأخلاق والأفعال التي يتعلق بها أرباب العقول وأهل الإشارات وأهل المواجيد من الصوفية. فمن ترك الدنيا كلها وخرج من جميع ما يملك وجلس على بساط الفقر والتجريد بلا علاقة فإمامه أبو بكر الصديق، ومن خرج من بعضها وترك البعض لعياله ولصلة الرحم وأداء الحقوق فإمامه فيها عمر بن الخطاب، ومن جمع لله ومنع لله وأعطى لله وأنفق لله فإمامه عثمان بن عفان، ومن لا يحوم حول الدنيا وان جمعت عليه من غير طلبه رفضها وهرب منها فإمامه في ذلك علي بن أبي طالب"(24). الأمر الذي جعل من شخصية الإمام علي بن أبي طالب في تقاليد الصوفية الأولى نموذجا للشخصية المتمكنة من العلم اللدني(25). وان له "خصوصية من بين جميع أصحاب رسول الله بمعاني جليلة وإشارات لطيفة وألفاظ مفردة وعبارة وبيان للتوحيد والمعرفة والإيمان وغير ذلك من خصال شريفة تعلَّق وتخلَّق بها أهل الحقائق من الصوفية"(26). ومن الممكن الإتيان بصيغ وكلمات عديدة تصبّ كلها في إطار الكشف عن الدور الذي لعبه الإمام علي في كينونة التصوف ووحدة الطريقة والحقيقة فيه. إذ أذابته الصوفية في طرقها. وليس مصادفة أن يقول الشبلي، بأن أي علم لا يؤدي إلى ترك الدنيا (أي سلوك الإمام علي)، فهو ليس بعلم(27).

 

.....................

الهوامش

1) الأشعري: مقالات الإسلاميين، ص294.

2) النوبختي: فرق الشيعة، ص6.

3) ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، ج1، ص190.

4) إن هذا الالتقاء الجميل بين التوبة والجهاد هو أحد السبائك المعقدة للروح الأخلاقي العملي الذي عادة ما يصنع قسوة التضحية الأخلاقية من خلال إرجاع معالم الرأفة إلى الفعل الجهادي. وقد قدم الشهرستاني مثال عروة بن جرير، الذي طرح آراءه بجرأة يحسد عليها أمام زياد بن أبيه حول عثمان وعلي وسب معاوية (الخليفة) سباً قبيحاً. وعندما سأله رأيه به، أجابه: أولك لزنية وآخرتك لدعوة وأنت فيما بينهما عاص ربك! عندها قتله زياد. وحالما استفسر من مولى عروة عنه، فانه وصفه بعبارة وجيزة تقول: ما أتيته بطعام في نهار قط، ولا فرشت له فراشاً في ليل قط!

5) المقصود به سلوك معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص.

6) البغدادي: الفرق بين الفرق، بيروت، 1985، ص54.

7) القرآن: سورة البقرة، الآية 207.

8) القرآن: سورة البقرة، الآية 204.

9) ليس من مهمة هذا البحث تناول هذه المسألة شأن كل المسائل الأخرى المتعلقة بظهور الفرق الإسلامية وكيفية إدراك موقعها في ثقافة التقييم، التي أبدع علم الملل والنحل الإسلامي الكثير من نماذجها.

10) ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، ج1، ص80..

11) إن المهمة الأساسية هنا تقوم في الكشف عن أن هذا "الاعتزال" كان في حوافزه وغاياته مجرد رد فعل لقناعات لا صلة لها مباشرة بالاجتهاد والورع. أما استمرارها اللاحق فقد كان غاية في التباين والاختلاف. فقد ندم عبد الله بن عمر. ومن الممكن العثور على ذلك في مواقفه العديدة من سياسة معاوية بن أبي سفيان . في حين سلك سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة كل منهما طريقه الخاص. ذلك يعني أن "الاعتزال" هنا لم يستند إلى بؤرة أو مبادئ ثابتة ومحددة المعالم بحيث يمكن اعتباره اعتزالاً بالمعنى المتعارف عليه .

12) النوبختي من بين أوائل أصحاب علم الملل والنحل المسلمين، الذين أشاروا إلى تباين أنواع "الاعتزال". فقد نظر إلى سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد على أنهم أسلاف المعتزلة.(النوبختي: فرق الشيعة، ص5). في حين وجد في فعل الاعتزال الذي ميز موقف الأحنف بن قيس التميمي القائل "اعتزلوا الفتنة أصحّ لكم" على انه "اعتزال لا على الدين ولكن على طلب السلامة من القتل" (المصدر السابق، ص5). ذلك يعني انه وجد في الاعتزال الأول فعلا ذا صلة بالدين، بينما الثاني بالموقف الحياتي، أي أن للأول علاقة بالسياسة من خلال الدين، بينما الثاني شكل من أشكال الجبن السياسي أو الحياتي. وبغض النظر عن جدلية هذه الأحكام، إلا أنها تبقى سليمة من حيث محاولتها وضع فوارق بين أنواع الاعتزال. وفيما لو شئنا الدقة، فان أول من قيّم "الاعتزال" الأول على حقيقته كما هو الإمام علي عندما قال بان أحدهم "لم ينصر الحق ولم يخذل الباطل" (نهج البلاغة، ج4 ص63.)

13) الأشعري: مقالات الإسلاميين، ص 457.

14) الأشعري: مقالات الإسلاميين، ص453.  

15) الأشعري: مقالات الإسلاميين، ص456.  

16) الأشعري: مقالات الإسلاميين، ص458.  

17) الأشعري: مقالات الإسلاميين، ص467.  

18) الأشعري: مقالات الإسلاميين، ص456.  

19) الأشعري: مقالات الإسلاميين، ص453.  

20) الأشعري: مقالات الإسلاميين، ص457.  

21) الأشعري: مقالات الإسلاميين، ص460.  

22) سراج الدين الطوسي: اللمع في التصوف، ليدن، 1914، ص120.

23) البرنسي المغربي: قواعد التصوف، دمشق، 1968، ص21.

24) البرنسي المغربي: قواعد التصوف،ص122.

25) البرنسي المغربي: قواعد التصوف،ص129.

26) البرنسي المغربي: قواعد التصوف،ص129-130

27) ينبغي فهم هذه الفكرة ضمن سياق الرؤية الصوفية الخاصة، باعتبارها نتاجا من نتائج التجربة الصوفية، لكننا نعثر فيها أيضا على تراكم ما يمكن دعوته بالأبعاد النظرية للتصوف التي استمدت الكثير من صورها ونماذجها الروحية والأخلاقية العملية من شخصية الإمام علي بن أبي طالب. 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2293 الأثنين 03 / 12 / 2012)

في المثقف اليوم