دراسات وبحوث

مصطلح السعي في القرآن الكريم

مقدمة: يأتي هذا المقال في سياق العناية باللفظ القرآني، الذي يعد حجر الأساس في بناء التصورات الشرعية السليمة لقضايا الكون والاجتماع والإنسان،ذلك أن" ألفاظ القرآن هي لب كلام العرب وزبدته، وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم، وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم، وما عداها وعدا الألفاظ المتفرعات عنها والمشتقات منها هو بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة، وكالحثالة والتبن بالإضافة إلى لبوب الحنطة"1.

ولذلك كان تحصيل معاني الألفاظ القرآنية سبيلا لتجميع ما تناثر من أجزائها، وسببا لإدراك مضامينها ومفاهيمها الكلية.

وإن من أعظم المناهج المعينة على بلوغ هذه المنزلة السنية، منهج الدراسات المصطلحية التي نذر لها الشيخ العلاَّمة الدكتور الشاهد البوشيخي حياته، وأصَّل أصولها وقعد قواعدها في مجموعة من الدراسات والبحوث النظرية والتطبيقية2 .

وهذه المقالة تهتدي بمعالم هذه الدراسة، عساها تتذوق بعض أطايِبِ ثمارها، وهي بعنوان "مصطلح السعي في القرآن الكريم"؛ وهو موضوع في غاية الأهمية،لاسيما في هذا الزمان الذي أصبح حرَّاثُ الدنيا أكثر سعيا، وأشد نصبا من طلاب الآخرة.

 

المبحث الأول: دلالة السعي في اللغة ونصوص القرآن الكريم

المطلب الأول: تعريف السعي في اللغة:

سَعَى يسعى سَعْياً أي عدا، وكذا إذا عمل وكسب، وكل من ولي شيئا على قوم فهو سَاعٍ عليهم وأكثر ما يُقال ذلك في سُعَاةِ الصدقة، يقال سَعَى عليها أي عمل عليها، وهم السُّعَاةُ، و المسْعَاةُ واحدة المساعي في الكرم والجود، و سَعَى به إلى الوالي سِعَايَةً وشى به، و سَعَى المكاتَب في عتق رقبته سِعَايَةً أيضا و اسْتَسْعَيْتُ العبد في قيمته[1].

وقال الراغب الأصفهاني: " السعي المشى السريع، وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الأمر، خيرا كان أو شرا... وأكثرما يستعمل السعي في الأفعال المحمودة، قال الشاعر:

إن أجـز علقمة بن سعد سعيه * لا أجزه ببلاء يوم واحد

وقال تعالى: (فلما بلغ معه السعي) [الصافات/102] أي أدرك ما سعى في طلبه، وخص السعي فيما بين الصفا والمروة من المشى، والسعاية بالنميمة، وبأخذ الصدقة، وبكسب المكاتب لعتق رقبته، والمساعاة بالفجور، والمسعاة بطلب المكرمة، قال تعالى: (والذين سعوا في آياتنا معاجزين) [سبأ/5] أي اجتهدوا في أن يظهروا لنا عجزا فيما أنزلناه من الآيات"[2].

وقال الفيومي: "سَعَى الرجل على الصدقة (يَسْعَى) (سَعْيًا) عمل في أخذها من أربابها و (سَعَى) في مشيه هرول و (سَعَى) إلى الصلاة ذهب إليها على أي وجه كان، وأصل (السَّعْيِ) التصرف في كلّ عمل، وعليه قوله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى) [النجم/39]، أي إلا ما عمل[3].

وقال ابن منظور: "والسَّعْيُ عدْوٌ دون الشَّدِّ، سَعَى يَسْعَى سَعْياً، وفي الحديث (إذا أَتيتم الصَّلاةَ فلا تَأْتُوها وأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ ولكن ائْتُوها وعَلَيكُمُ السَّكِينَة، فما أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فَاتَكُمْ فأَتِمُّوا)، فالسَّعْيُ هنا العَدْوُ، سَعَى إذا عَدَا وسَعَى إذا مَشَى وسَعَى إذا عَمِلَ وسَعَى إذا قَصَد، وإذا كان بمعنى المُضِيِّ عُدِّيَ بإلى، وإذا كان بمعنى العَمَل عُدِّي باللام، والسَّعيُ القَصْدُ ...

قال الزجاج: السَّعْيُ والذَّهابُ بمعنى واحدٍ لأَنّك تقولُ للرجل هو يَسْعَى في الأَرض، وليس هذا باشْتِدادٍ، و أَصلُ السَّعْيِ في كلام العرب التصرُّف في كل عَمَلٍ، ومنه قوله تعالى (وأَنْ ليس للإنسانِ إلاَّ ما سَعَى)، معناه: إلاَّ مَا عَمِلَ،ومعنى قوله (فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ الله) فاقْصِدُوا.

والسَّعْيُ الكَسْبُ وكلُّ عملٍ من خير أَو شرٍّ سَعْي والفعلُ كالفِعْلِ، وفي التنزيل (لِتُجْزَى كلُّ نَفْسٍ بما تَسْعَى) [طه/15]، وسَعَى لهم وعليهم عَمِلَ لهم وكَسَبَ، وأَسْعَى غيرهَ: جَعَلَه يَسْعَى، وقد روي بيتُ أَبي خِراش: أَبْلِغ عَلِيّاً أَطالَ اللهُ ذُلَّهُمُ أَنَّ البُكَيْرَ الذي أَسْعَوْا به هَمَلُ

وقوله تعالى (فلما بَلَغَ معَه السَّعْيَ) [الصافات/102] أَي: أَدْرَك مَعَه العَمَل، وقال الفراء: أَطاقَ أَنْ يُعِينَه على عَمَله، قال: وكان إسمعيلُ يومئذٍ ابن ثلاث عشْرةَ سنةً...

وفي حديث عليّ كرم الله وجهه في ذَمّ الدنيا: من ساعاها فاتَتْهُ،أَي سابَقَها،وهي مُفاعَلَة من السَّعيِ كأَنها تَسْعَى ذاهِبةً عنه، وهو يَسْعَى مُجِدّاً في طَلَبِها، فكلُّ منهما يطلُبُ الغَلَبة في السَّعْي.

والسَّعْيُ يكون في الصلاحِ ويكون في الفساد قال الله عز وجل (إنما جزاءُ الذين يُحارِبون اللهَ ورسولَه ويَسْعَوْنَ في الأَرض فَساداً) [المائدة/]نصبَ قوله فساداً لأَنه مفعولٌ له، أَراد يَسْعَوْن في الأَرضِ للفساد، وكانت العرب تُسَمِّي أَصحابَ الحَمالاتِ لِحَقْنِ الدِّماءِ وإطْفاءِ النَّائِرةِ سُعاةً لسَعْيِهِم في صَلاحِ ذاتِ البَيْنِ، ومنه قول زهير:

سَعَى ساعِيَا غَيظِ بنِ مُرَّةَ بعدما تَبَزَّلَ ما بَيْنَ العَشيرَةِ بالدَّمِ

أَي سَعَيَا في الصلحِ وجمعِ ما تَحَمَّلا من دِياتِ القَتْلى، والعرب تُسَمِّي مآثر أَهلِ الشَّرَف والفضل مَساعِيَ، واحدتُها مَسْعاةٌ لسَعْيِهِم فيها كأَنها مَكاسِبُهُم وأَعمالُهم التي أَعْنَوْا فيها أَنفسَهم ...

ويقال لِعامِل الصَّدَقاتِ ساعٍ وجَمْعُه سُعاةٌ وسَعى المصَدِّقُ يَسْعَى سِعايةً إذا عَمِلَ على الصَّدقاتِ وأَخذها من أَغْنِيائِها وردّها في فُقَرائِها ..."[4]

يتبين من أقوال أهل اللغة السابق سردها أن الجذر اللغوي (س ع ي) يأتي بمعنيين أساسيين، وإليهما تؤول جميع المعاني الأخرى، وهما:

الأول: المشي السريع،دون بلوغ مرتبة العدو الذي يفيد الجري والإسراع،ولذلك قال الكفوي: " والمشي جنس الحركة المخصوصة، وإذا اشتد فهو سعي، وإذا زاد فهو عدْوٌ"[5].

والسعي والذهاب بمعنى واحد كما قرره الزجاج، وهو بمعنى المضي أيضا، ولذلك ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقرأ قوله تعالى (فاسعوا إلى ذكر الله) فامضوا[6] .

والثاني: التصرف في الأمر بجد واهتمام،وهو المعنى الذي ذكره الراغب والفيومي وحكاه ابن منظور عن الزجاج3.

فالسعي- إذن – تصرف يقصده صاحبه ويعتني به ويهتم به، ويجتهد فيه بحسب الامكان، فيدخل فيه جميع المعاني التي ذكرت عند اللغويين والمفسرين، كالقصد، والعمل، والكسب، والمبادرة...

 

المطلب الثاني: دلالة السعي في نصوص القرآن الكريم:

إن تأمل نصوص القرآن الكريم التي وردت فيها لفظة السعي ومشتقاتها يفيد أن هذه المادة وردت بكلا المعنيين اللغويين السابقين:

أ- المواضع التي وردت فيها مادة السعي بمعنى المشي السريع:

وردت لفظة السعي بمعنى المشي السريع في عدة مواضع منها:

قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى، قال يا قوم اتبعوا المرسلين) [يس/19]، وقوله تعالى (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى، قال يا موسى إن الملأ ياتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين) [القصص/19].

فالسعي في الآيتين بمعنى التعجل والمشي السريع، قال ابن جريج: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) قال: يعجل،ليس بالشدِّ1.

وهذا الرجل هو مومن آل فرعون، لما أحس بتآمر الملإ على موسى عليه السلام،أسرع إليه مشفقا عليه، ومحذرا له من كيدهم ومكرهم.

أما الرجل في آية يس فهو حبيب النجار الذي آمن برسل عيسى عليه السلام إلى مدينة أنطاكية، واتبعهم بعدما أيقن صدقهم؛ فلما بلغه همُّ قومه بقتل الرسل، جاء يسرع في مشيه لينصرهم على قومه،ويدعوهم إلى الإيمان؛فكان من شأنه ما ذكره الله في سياق سورة يس.

وقوله تعالى في شأن عصا موسى عليه السلام: (فإذا هي حية تسعى) [طه/20]،وقوله عن سحر السحرة (فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) [طه/ 65] قال القرطبي: " السعي: المشي بسرعة وخفة"2.

ومنها أيضا ما حكاه الله تعالى عن معجزة الطير التي ضربها لإبراهيم دليلا على قدرة الله على الإحياء والإماتة والبعث، وطريقا لليقين والطمأنينة؛ فبعد أن قطَّع الطيور وفرق أجزاءها على رؤوس الجبال،أمره الله أن يناديها، فإذا بها تجتمع وتلتئم ذواتها، وتأتي إلى إبراهيم عليه السلام سعيا، أي: مشيا سريعا على أرجلهن، قال تعالى: (فخذ أربعة منالطير فصرهن إليك،ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا، ثم ادعهن يأتينك سعيا) [البقرة/259].

وقيل إنها جاءت طيرانا، وليس يصح، لأنه لا يقال للطير إذا طار سعى، إلا إذا حُمل على معنى الاشتداد في تلك الحركة1.

والحكمة في المشي دون الطيران، كونه أبلغ في الحجة وأبعد من الشبهة، لأنها لو طارت لتوهم متوهم أنها غير تلك الطير، أو أن أرجلها غير سليمة2 .

ومنها قوله تعالى: (يوم ترى المومنين والمومنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) [الحديد/12]، فقد فسر السعي بمعنى المشي والمضي،قال الطبري: "يوم ترون المؤمنين والمؤمنات يسعى ثواب إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم تتطاير، ويعني بقوله: (يَسْعَى): يمضي"3.

وقال القرطبي: "أي يمضي على الصراط في قول الحسن، وهو الضياء الذي يمرون فيه"4.

اختلف المفسرون في معنى السعي الوارد في قوله تعالى: (فاسعوا إلى ذكر الله) 5[الجمعة/ ]، فذكروا في ذلك أقوالا ثلاثة:

الأول: إن معنى السعي هنا: العمل، وممن قال بذلك: عكرمة، والضحاك1، وهو قول جمهور العلماء2، ويدخل في هذا العمل: الاغتسال، وتغيير الثياب، ومس الطيب، والتبكير إليها3.

الثاني: السعي بالقلب والنية والخشوع، قال الحسن: "أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، وقد نُهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنيات والخشوع"4، وقال إسماعيل حقي: " وفى عبارة السعي إشارة إلى النهى عن التثاقل، وحث على الذهاب بصفاء قلبٍ وهمةٍ، لا بكسل نفسٍ وغمةٍ"5 .

الثالث: المشي على الأقدام، وممن قال بذلك: ابن عباس -رضي الله عنهما6.

وبالتأمل في هذه الأقوال الثلاثة نجدها متلازمة لأن العمل أعم من السعي، والسعي أخص، فلا تعارض بين أعم وأخص، والنية شرط في العمل، وقد قال قتادة – جمعا بين هذه الأقوال-: "والسعي يا ابن آدم أن تسعى بقلبك، وعملك، وهو المضي إليها"7، وأما الجري والاشتداد، فهو الذي أنكره الصحابة الأعلمون، والفقهاء الأقدمون8.

ب- المواضع التي وردت فيها مادة السعي بمعنى التصرف في الأمر بجد واهتمام:

وردت أغلب نصوص وسياقات مادة السعي على أصل التصرف في كل عمل والجد فيه، فبين بعضها أن سعي الإنسان متعدد ومختلف، وبه سيجازى وفق سنة الله تعالى في استخلاف العباد وابتلائهم في الحياة (الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) [الملك/2].

وفصَّل بعضها هذا السعي، فجعل منه سعيا مشكورا مهديا مرضيا، وآخرَ مكفورا ضالا مردودا.

فهذه مقامات ثلاث نبينها في المبحث الآتي:

 

المبحث الثاني: سعي العبد بين الشكران والكفران:

المطلب الأول: السعي مادة التكليف وأساس الجزاء:

سمى الله عز وجل عمل الناس في الدنيا سعيا، وقرر أنهم في هذا الكسب مختلفون ومتباينون، وفق ما يختاره و يجترحه كل واحد منهم، قال تعالى: (إن سعيكم لشتى) [اليل/4].

قال الإمام الطبري في شرح الآية: " إن عَمَلَكُمْ لمختلف أيها الناس، لأن منكم الكافر بربه، والعاصي له في أمره ونهيه، والمؤمن به، والمطيع له في أمره ونهيه...وعن قتادة، قوله: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) يقول: لمختلف"1.

وقال الامام الرازي: "هذاجواب القسم، فأقسم تعالى بهذه الأشياء، أن أعمال عباده لشتى أي مختلفة في الجزاء، وشتى جمع شتيت مثل مرضى ومريض، وإنما قيل للمختلف: شتى، لتباعد ما بين بعضه وبعضه، والشتات هو التباعد والافتراق، فكأنه قيل: إن عملكم لمتباعد بعضه من بعض، لأن بعضه ضلال وبعضه هدى، وبعضه يوجب الجِنان، وبعضه يوجب النيران، فشتان ما بينهما"2.

ثم إنه سبحانه وتعالى بيَّن هذا الاختلاف الوارد في الأعمال وجزائها، فقال عقب جواب القسم: (فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى،وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى) [ اليل/5-10].

والآية بيان للمراد من قول تعالى (لتجزى كل نفس بما تسعى) [طه/14]،ولقوله تعالى (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) [النجم/38]، أي: ما عمل من خير أو شر يراه يوم القيامة حاضرا ومدونا في صحائف الأعمال، فيتذكره بعدما نسيه، قال تعالى: (يوم يتذكر الانسان ماسعى) [النازعات /35 ]،

قال الامام الرازي: " يعني إذا رأى أعماله مدونة في كتابه تذكرها، وكان قد نسيها، كقوله: (أَحْصَـاهُ اللَّهُ وَنَسُوه) [المجادلة /6]"1.

 

المطلب الثاني: السعي المشكور: حقيقته وشروطه:

أولا: حقيقة السعي المشكور:

دلت نصوص كثيرة من مادة السعي أن ما يكسبه الساعي إما أن يكون مشكورا، وإما أن يكون مكفورا، فما حقيقة المقامين؟

قال الله تعالى: (إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا) [الانسان/22]، وقال سبحانه (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها، وهو مومن، فأوليك كان سعيهم مشكورا) [الاسراء/19]، قال الامام الطبري: " من أراد الآخرة وإياها طلب، ولها عمل عملها... و هو مؤمن مصدِّق بثواب الله، وعِظم جزائه على سعيه لها، غير مكذّب به تكذيب من أراد العاجلة، (فَأُولَئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ) يعني عملهم بطاعة الله (مَشْكُورًا)،وشكرُ الله إياهم على سعيهم ذلك حسنُ جزائه لهم على أعمالهم الصالحة، وتجاوزُه لهم عن سيِّئها برحمته.

...وعن قتادة، قوله (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) شكر الله لهم حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم"2.

قال الراغب: " وإذا وُصِف الله بالشكر فإنما يعنى به إنعامه على عباده، وجزاؤه بما أقاموه من العبادة"3.

وقد جاء السعي في آية الإسراء مطلقا وغير محدد، فبينته آية الأنبياء، وعينت مدلوله، وأنه من

جنس الصالحات، فقال تعالى: (فمن يعمل من الصالحات وهو مومن فلا كفران لسعيه، وإنا له

كاتبون) [الأنبياء/93].

ويدخل في هذا السعي طاعة الله في أمره ونهيه،والإقرار بوحدانيته، والتصديق بوعده ووعيده، والبراءة من كل الأنداد والآلهة الأخرى .

وقوله تعالى: (من الصالحات) من للتبعيض لا للجنس، إذ لاقدرة للمكلف أن يأتي بجميع الطاعات فرضها ونفلها1، فمن اجتهد في الإتيان بما يستطيع من جنس هذه الطاعات، فلا كفران لسعيه، أي " لاجحود لعمله، ولايضيع جزاؤه، ولايغطى"2، لأن أصل الكفر في اللغة الستر والتغطية3.

والكفران مثل في حرمان الثواب، والشكر مثل في إعطائه4 .

وقد وعد الله الساعي إلى الخيرات بكتابة سعيه صغيره وكبيره، قليله وكثيره، وإثابته عليه (وإنا له كاتبون)، أي: "لعمله حافظون، نظيره (أَني لا أُضيع عمل عامل منكم) [ آل عمران/195]" 5؛ وفي ذلك مزيد اعتناء واهتمام بالسعي المشكور، وتحفيز على تحصيل أسبابه.

إن المقابلة بين الأسيقة التي تبين حال مريد العاجلة، وشأن مريد الآجلة، توضح بجلاء أن السعي المشكور هو الجنة، أو يشكر بالجنة، لأن مريد العاجلة يجازى بجهنم يصلاها مذموما مدحورا، فالمناسِب أن يكافَأ مريدُ الآجلة أو الساعي للآخرة بالجنة، وهذا بيّن من قوله تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها مانشاء لمن نريد، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مومن فأولئك كان سعيهم مشكورا) [ الإسراء/ 18-19]، ومثله قول الله عز وجل: (إن هذا كان لكم جزاء، وكان سعيكم مشكورا) [الانسان/22]، وذلك بعد سياق الحديث عن الجنة وما أعده الله فيها للمومنين من النعيم المقيم ؛ فالسعي يشكر ويجزى بالجنة.

 

ثانيا: شروط السعي المشكور:

بالنظر في الآيات السابقة الواردة في معرض الحديث عن السعي، يتبين أن له شرائط ثلاثة يلزم توفرها مجتمعة ليصير مشكورا وهي:

vالشرط الأول: أن يريد بعمله الآخرة أي ثواب الآخرة، فإنه إن لم تحصل هذه الإرادة، وهذه النية لم ينتفع بذلك العمل لقوله تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى) [النجم / 39]، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات" ولأن المقصود من الأعمال استنارة القلب بمعرفة الله تعالى ومحبته، وهذا لا يحصل إلا إن نوى بعمله عبودية الله تعالى وطلب طاعته.

والشرط الثاني: قوله: (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا)، وذلك هو أن يكون العمل الذي يُتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة من الأعمال التي بها يُنال ثواب الآخرة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان من باب القُرَب والطاعات.

والشرط الثالث: قوله تعالى: (وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، وهذا الشرط معتبر، لأن الشرط في كون أعمال البر موجبة للثواب تقدُّم الإيمان، فإذا لم يوجد الشرط لم يحصل المشروط، ثم إنه تعالى أخبر أن عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكوراً والعمل مبروراً 1.

والله سبحانه وتعالى إذا قبل العمل شكره، فإذا شكره أثاب عليه بالجزيل، إذ هو سبحانه ذو الفضل العظيم2.

 

المطلب الثالث: السعي المكفو: صوره وأسابه:

يلزم في السعي ليُشكر ويُحمد، أن تجتمع فيه شروط ثلاث هي: الإخلاص لله وابتغاء الآخرة، وتحري العمل الصالح الذي شرعه الله لعباده،وبينه لهم رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون هذا العمل صادرا من مومن يخشى الله ويرجو ثوابه.

فإذا اختل شرط منها عُدَّ السعي مكفورا، وحشر صاحبه مع الأخسرين أعمالا (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) [الكهف/99].

وإذا كان فعل سعى يتعدى بحرف (إلى) للدلالة على الخير والأمر المحمود، فإنه إذا عُدي بحرف (في) كان المسعى إليه مذموما وعملا من أعمال الشر والفساد، وهذا ماسنتتبعه في نصوص السعي المكفور الواردة في القرآن الكريم:

 

المسألة الأولى: صور السعي المكفور في القرآن الكريم:

أولا: السعي بالمعاجزة في آيات الله:

قال الله تعالى في سياق الحديث عن الساعة، وبيان جزاء العاملين فيها: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أولئك لهم مغفرة ورزق كريم، والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم) [سبأ/4-5]، وقال أيضا: (والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون) [سبأ/ 38].

قال الامام الرازي: " لما بيَّن حال المؤمنين يوم القيامة، بيَّن حال الكافرين، وقوله (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِى ءايَاتِنَا)، أي بالإبطال، ويكون معناه الذين كذَّبوا بآياتنا، وحينئذٍ يكون هذا في مقابلة ما تقدم، لأن قوله تعالى (ءامَنُواْ) معناه صدقوا، وهذا معناه كذبوا، فإن قيل من أين عُلم كون سعيهم في الإبطال مع أن المذكور مطلق السعي؟ فنقول: فُهِم من قوله تعالى مُعَاجِزِينَ، وذلك لأنه حالٌ، معناه سعوا فيها وهم يريدون التعجيز، وبالسعي في التقرير والتبليغ لا يكون الساعي معاجزاً،لأن القرآن وآيات الله معجزةٌ في نفسها لا حاجة لها إلى أحد، وأما المكذِّب فهو آتٍ بإخفاء آيات بينات، فيحتاج إلى السعي العظيم والجد البليغ ليروِّج كذبه لعله يُعجِز المتمسكَ به، وقيل بأن المراد من قوله مُعَاجِزِينَ أي ظانين أنهم يفوتون الله، وعلى هذا يكون كون الساعي ساعياً بالباطل فيغاية الظهور، ولهم عذاب في مقابلة لهم رزق"1.

واختلف المفسرون في مفهوم السعي بالتعجيز في آيات الله:

- فقال الطبري: "معناه: عملوا في حججنا فصدوا عن اتباع رسولنا والإقرار بكتابنا الذي

أنزلناه"2. ونقل عن ابن عباس أنه قرأها معاجزين بالألف، وقال: مشاقين3، وعن قتادة قال: كذبوا بآيات الله فظنوا أنهم يُعجزون الله، وعن مجاهد أنه قرأ الآية (مُعجِّزين) بتشديد الجيم بغير ألف وقال: مُبَطِّئين، يبطئون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم4.

وبعد عرض هذه الأقوال، قال الطبري – جمعا بينها -: "والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، متقاربتا المعنى; وذلك أن من عجز عن آيات الله، فقد عاجز الله، ومن معاجزة الله التعجيز عن آيات الله، والعمل بمعاصيه وخلاف أمره، وكان من صفة القوم الذين أنزل الله هذه الآيات فيهم، أنهم كانوا يبطِّئون الناس عن الإيمان بالله، واتباع رسوله، ويغالبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحسبون أنهم يعجزونه ويغلبونه، وقد ضمِن الله له نصره عليهم، فكان ذلك معاجزتهم الله. فإذ كان ذلك كذلك، فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب الصواب في ذلك"1.

- وشرح القرطبي معنى السعي بالمعاجزة في آيات الله بعبارات تنحو منحى الامام الطبري،فقال: " سعوا في إبطال آياتنا، مغالبين مشاقين"2، ونقل عن عبد الله بن الزبير أنه قال: "مثبطين عن الإسلام" 3.

وهذه الأقوال تتكامل فيما بينها، وتندرج ضمن اختلاف التنوع الذي يعبر فيه كل مفسر عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى4 .

والظاهر أن الامام الطبري حينما اختار في شرح السعي بالمعاجزة في آيات الله معنى الصد عن اتباع الرسول والإقرار بالكتاب المنزل، قد انتزعه من سياق سورة سبأ، في قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ماهذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم، وقالوا إن هذا إلا إفك مفترى،وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين) [سبأ/43]، ولذلك قال الامام الرازي: " اجتهدوا في ردها والتكذيب بها حيث سموها سحراوشعراً وأساطير الأولين، ويقال لمن بذل جهده في أمر إنه سعى فيه توسعاً من حيث بلغ في بذل الجهد النهاية،كما إذا بلغ الماشي نهاية طاقته فيقال له سعى، وذكر الآيات وأراد التكذيب بها مجازاً "1.

ومن النماذج التي ترد في سياق التعجيز في آيات الله، قصة فرعون الذي قابل آيات الله البينة ومعجزات موسى الظاهرة، بالصدود والإعراض والاستقواء بجمعه وملئه وسحرته، فقال تعالى يحكي حاله: (هل أتاك حديث موسى، إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى، إذهب إلى فرعون إنه طغى، فقل هل لك إلى أن تزكى،وأهديك إلى ربك فتخشى، فأراه الآية الكبرى، فكذب وعصى، ثم أدبر يسعى، فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) [النازعات/15- 26].

قال الطبري: " وقوله: (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى) يقول: ثم ولَّى مُعرضا عما دعاه إليه موسى من طاعته ربَّه، وخشيته وتوحيده. (يَسْعَى) يقول: يعمل في معصية الله، وفيما يُسخطه عليه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل... فعن مجاهد، قوله: (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى) قال: يعمل بالفساد"2.

أما القرطبي فقد حكى ثلاثة أقوال في شرح معنى السعي في هذه الآية،فقال: "يسعى، أي يعمل بالفساد في الأرض. وقيل: يعمل في نكاية موسى. وقيل: أدبر يسعى هاربا من الحية"3 .

أما الرازي فذكر فيه وجوها ثلاثة تقارب ماذكره القرطبي فقال: " وفيه وجوه أحدها: أنه لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً يسعى يسرع في مشيه، قال الحسن: كان رجلاً طياشاً خفيفاً، وثانيها: تولى عن موسى يسعى ويجتهد في مكايدته، وثالثها: أن يكون المعنى ثم أقبل يسعى،كما يقال فلان أقبل يفعل كذا بمعنى أنشأ يفعل، فوضع أدبر موضع أقبل لئلا يوصف بالإقبال"4 .

ولا يخفى أن جميع المعاني التي ذكرها أئمة التفسير واردة وتتسع لهاعبارة السعي، وهي تندرج ضمن ماسلف ذكره من أن المفسرين رحمهم الله ينوعون عباراتهم، والمسمى واحد، وقد يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه1.

وبمقارنة موارد قصة فرعون وموسى عليه الصلاة والسلام في القرآن الكريم، يتضح بجلاء أن سعي فرعون كان عملا في معصية الله، وكان نكاية بموسى ومكايدة له،وكان هروبا ورعبا من العصا الثعبان: قال الله تعالى: (فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى) [طه/59]،وحكى عنه قولَه لسحرته (فأجمعوا كيدكم ثم آتوا صفا، وقد أفلح اليوم من استعلى) [طه/63]، وقال الله تعالى يحكي قوله للملإ: (قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تامرون؟ قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين، ياتوك بكل سحار عليم) [الشعراء/33-36 ]،

وقال تعالى أيضا: (وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري، فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى، وإني لأظنه من الكاذبين، واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون) [القصص/38-39]، وقال كذلك: (فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم، وما كيد الكافرين إلا في ضلال، وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه، إني أخاف أن يبدل دينكم و أن يظهر في الارض الفساد) [غافر/25- 26].

أما الارتعاب و الهروب من العصا بعدما صارت ثعبانا، فهو مما تقبله العقول، لأن الإنسان جبل في العادة على الخوف من خوارق الأمور، لاسيما وفرعون رجل طياش كما حكى الحسن ذلك2 .

 

ثانيا: السعي بالفساد في الأرض وتخريب المساجد:

من الأسيقة الواردة في بيان السعي المكفور قول الله سبحانه وتعالى (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد) [البقرة/202-203]، وقوله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها، أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين، لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) [البقرة/ 113].

وإذا أردنا أن نُجمِل معاني السعي في السياقين، أمكن القول بأن السعي في الآية الأولى يرجع إلى العمل في إفساد ما به قوام حياة الناس وعيشهم، وذلك هو إهلاك الحرث والنسل، و أنه في الآية الثانية يحمل على إفساد مابه يقوم دين الناس وتعبدهم، وذلك هو تخريب المساجد ومنع ذكر الله فيها.

وقد اختلف المفسرون في تحديد المعنيِّ بالآية الأولى، كما اختلفوا في تعيين المسجد المقصود بالتخريب في الآية الثانية، وتفاصيل أقوالهم مبثوثة في مظانها، وليس المقام يسنح بالتفصيل1.

لكن من المفيد أن نستحضر في التعليق على الآيتين الملاحظات الآتية:

قال الامام الرازي: " قوله سعى في الأرض، أي اجتهد في إيقاع القتال،وأصل السعي هو المشي بسرعة، ولكنه مستعار لإيقاع الفتنة والتخريب بين الناس"2 .

السعي بالفساد في الأرض يشمل العمل بالمعاصي وقطع الطريق وإفسادها3، ويتسع لمعاني التحيل وإرادة الدوائر بالإسلام4،وإتلاف الأموال وقطع الأرحام، وإلقاء الشبه في قلوب المسلمين5. وقد وصف الله بعضا من بني إسرائيل أنهم (يسعون في الأرض فسادا) [المائدة/ ]، أي أنهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت، وهو من جنس الفساد المذكور.

قوله تعالى: (ويهلك الحرث والنسل)،في سياق الحديث عن السعي بالفساد في الأرض، يمكن اعتباره تفصيلا بعد إجمال، وعطفا للبيان: فقد ذكر الله تعالى الموصوف بصفة السعي بالفساد في الأرض، ولم يخصِّصه ببعض المعاني دون بعض، ثم بعد ذلك ذكر أنه يهلك الحرث والنسل،أي يحرق الزرع ويقتل الحمُر،كما كان يصنع الأخنس بن شريق الذي ترجح بعض الروايات أن فيه نزلت الآية السابقة6.

قال الامام الرازي: " قوله (ويهلك الحرث والنسل) من الألفاظ الفصيحة جدا الدالة مع اختصارها على المبالغة الكثيرة" 1.

ومما يشاكل هذا المعنى ما وصف به الله تعالى المحاربين إذ قال (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أويصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) [المائدة/]. ومعلوم أن االمحارب قد يقتل، وقد يأخذ المال، وقد يخيف ويروِّع الآمنين... وهذا كله من جنس الفساد الممقوت عند الله .

رغم أن الآية نزلت لسبب أو أسباب خاصة، إلا أنها صارت عامة لجميع الناس، فمن عمل مثل عمل هذا الذي وصفته الآية، استوجب تلك اللعنة والعقوبة.

من الأعمال الممقوتة التي تستوجب الخزي والعذاب العظيم،السعي في تخريب المساجد، وقد قال تعالى (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) .

وتخريب المسجد قد يكون حقيقيا بهدمها وتنجيسها وسفك دماء من يردها، كما فعل بختننصَّر ببيت المقدس على ماحكاه القرطبي، وقد يكون مجازا بتعطيلها عن الصلاة وإظهار شعائر الإسلام فيها، قال الرازي: "السعي في تخريب المسجد قد يكون لوجهين،أحدهما: منع المصلين والمتعبدين والمتعهدينله من دخوله، فيكون ذلك تخريبا، والثاني: بالهدم والتخريب"2

اختلفت أقوال العلماء في تعيين المسجد الذي طاله التخريب، ومُنِع ذكرُ اسم الله فيه، أهو بيت المقدس؟ أم بيت الله الحرام؟

وأيا كان ترجيح المفسرين، إلا أن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع (مساجد الله)، فتخصيصها ببعض المساجد دون بعض تحكُّم، وقد قال الطبري: " إن كل مانعٍ مصليا في مسجدٍ لله - فرضا كانت صلاته فيه أو تطوعا-، وكل ساعٍ في إخرابه فهو من المعتدين الظالمين" 3.

تخريب المساجد مثال يقاس عليه كل اعتداء على شعائر الله،وانتهاك لحرماته، فيدخل في

ذلك: محاولات المس بقدسية القرآن الكريم، والإساءة إلى شخصية النبي عليه الصلاة والسلام، والتهجم على الحجاب الشرعي، وانتقاص الأحكام الشرعية المنصوصة...

قال الإمام الرازي: "إذا كان الساعي في تخريب المساجد في أعظم درجات الفسق، وجب أن يكون الساعي في عمارته في أعظم درجات الإيمان"1.

وفي هذا دعوة إلى تعظيم قدر المساجد، وتخويلها المنزلة المنيفة التي تستحقها بيوت الله، سواء بالإنفاق على بنائها وعمارتها،وتأهيل القيِّمين عليها، أو في تيسير سبيل من يقصدها للصلاة والذكر وطلب العلم النافع، بدل من إغلاقها مباشرة عقب إنهاء الفرائض، كما هو حال كثير من مساجد العالم الإسلامي.

 

المسألة الثانية: أسباب خسران السعي وضلاله:

أخبر الحق سبحانه وتعالى أن صنفا من العاملين سيحبط عمله، ويضل سعيه في الحياة الدنيا، ويبوء بجهنم خالدا فيها وبيس المصير: قال تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) [الكهف/ 99- 100]. والآيات مسوقة مساق التوبيخ لقوم " أتعبوا أنفسهم في عمل يبتغون به ربحا وفضلا فنالوا به عَطَبا وهلاكا ولم يدركوا طلبا، كالمشتري سلعة يرجو بها فضلا وربحا، فخاب رجاؤه، وخسر بيعه، ووكس في الذي رجا فضله"2.

وإنما وبخت الآيات هذا الصنف من البشر لأنهم: "لم يكن عملهم الذي عملوه في حياتهم الدنيا على هدى واستقامة، بل كان على جور وضلالة، وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به، بل على كفر منهم به، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا: يقول: وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون"3.

قال الكيا الهراسي: " والذي يوجب إحباط السعي إما فساد الاعتقاد أو المراءاة، والمراد هنا الكفر"4.

والمعنى أن سعي هؤلاء قد ضل وحبط وكُفِر، لأنه اختلت فيه شروط السعي المشكور التي سبق ذكرها في مبحث سابق، ولذلك قال تعالى: (ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزؤا) [ الكهف/ 101].

 

خلاصات واسنتاجات عامة:

بعد هذا التتبع لمادة السعي في معاجم اللغة ونصوص القرآن الكريم، نخلص إلى النتائج الآتية:

أولا: يستعمل السعي بمعنيين هما: المشي السريع، والعمل الذي يهتم به صاحبه ويجتهد فيه.

فالسعي ليس مرادفا للعمل، بل هو عمل مخصوص يقصده صاحبه ويعتني به ليترتب عليه ثواب أو عقاب1.

ثانيا: إذا كان السعي بمعنى المضِيِّ عُدِّيَ بحرف (إلى)، وإن كان المسعى خيرا وأمرا محمودا – وهو أكثر استعمالاته - عُدِّي (باللام) وإن كان مذموما وعملا من أعمال الشر والفساد عُدي بحرف (في) .وقد قال أبو هلال العسكري: " إن مما تدرك به الفروق بين المعاني وأشباهها جهة الحروف التي تعدى بها الأفعال"2 .

ثالثا: يجازى الإنسان يوم القيامة بسعيه، خيره وشره، ويلحق بذلك ما نتج من آثار لسعيه و ما كان سببا فيه بكسبه.

رابعا: يُشكر السعي إذا استجمع ثلاث شروط: الإخلاص لله وابتغاء الآخرة، وتحري العمل الصالح الذي شرعه الله لعباده، وبينه لهم رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون هذا العمل صادرا من مومن يخشى الله ويرجو ثوابه.

خامسا: من محبطات السعي: فساد الاعتقاد، والمراءاة.

سادسا: مقت الله تعالى كل سعي في الفساد، سواء عاد ضرره على ما به قوام تديُّن الناس، أوعلى ما هو أصل معاشهم وحياتهم.

سابعا: للسعي سن معتبر، مفهوم من قوله تعالى: (فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك، فانظر ماذا ترى) [الصافات/102]، وهو سن التصرف والعمل والكسب، وفيه يبدأ الأب بتكليف الولد بعزائم الأمور كما فعل إبراهيم عليه السلام مع الذبيح.

ثامنا: إن مما يحز في القلوب أن غير المسلمين أكثر سعيا، والأصل أن يكون المسلم الذي يرجو لقاء ربه، ويتمنى دخول الجنان، أعظم سعيا، وأوسع حيلة، وقد قال تعالى: (إن تكونوا تالمون فإنهم يالمون كما تالمون، وترجون من الله ما لايرجون) [النساء/ 103]، وقال تعالى مبينا نشاط وفعالية المؤمن في حدها الأدنى (فإن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) [الأنفال/67]، وإن كان هذا في سياق الحديث عن الجهاد والقتال، إلا أن الجدية والفعالية في السعي لأداء الأمانة، وعمارة الكون تكون مطلوبة من باب أولى.

وفي الختم نتذرع إلى المولى الشكور أن يجعل سعينا وسعي كل مومن مشكورا، والحمد لله رب العالمين.

 

...........................

لائحة المصادر والمراجع:

القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.

1 – أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي،،دار الكتب العلمية،بيروت لبنان، الطبعة الثالثة 1424هـ -2003م، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلق عليه محمد عبد القادر عطا.

2 - أحكام القرآن، لأبي الحسن على بن محمد المعروف بالكيا هراسي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ،تحقيق: موسى محمد على ـ عزت عبده عطية .

3 – أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشيخ العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع،إشراف بكر بن عبد الله أبو زيد، وقف مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية.

-4 التبيان في أقسام القرآن، لمحمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله المعروف بابن قيم الجوزية، دار الفكر.

5– تفسير البحر المحيط، لمحمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي، دار الكتب العلمية - لبنان/ بيروت الطبعة الأولى 1422 هـ - 2001 م،تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ علي محمد معوض.

6-تفسير روح البيان،إسماعيل حقي بن مصطفى الإستانبولي الحنفي الخلوتي، دار إحياء التراث العربى.

7- تفسير الطبري جامع البيان عن تأويل آي القرآن،لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري،دارهجر- القاهرة، الطبعة الأولى 1422هـ -2001 م، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي،بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر.

8- تفسير الفخر الرازي المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتح الغيب،للإمام محمد الرازي فخر الدين، دار الفكر لبنان بيروت، الطبعة الأولى 1401 هـ - 1981م.

9 - تفسير القرآن العظيم مسندا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين،للإمام الحافظ أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة - الرياض، تحقيق: أسعد محمد الطيب، إعداد مركز الدراسات والبحوث بمكتبة نزار الباز.

10- تفسير الكشف والبيان، لأبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري، دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان – الطبعة: الأولى 1422 هـ - 2002 م، تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي.

11–الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي،مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1427هـ - 2006 م، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي.

12- زاد المسير في علم التفسير، للإمام أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي،المكتب الإسلامي لصاحبه زهير الشاويش، بيروت، الطبعة الثالثة1404هـ -1984م .

13- الفروق في اللغة، لأبي هلال العسكري، منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت،الطبعة الخامسة 1403هـ - 1983 م، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة.

14- الكليات، لأبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، مؤسسة الرسالة - بيروت - 1419هـ - 1998م.تحقيق: عدنان درويش - محمد المصري.

15- لسان العرب،محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري،الناشر: دار صادر - بيروت

الطبعة الأولى.

16- مجموعة الفتاوى، لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني،دار الوفاء للطباعة والنشر،المنصورة- مصر،الطبعة الأولى 1417هـ - 1997م، اعتنى بها وخرج أحاديثها: عامر الجزار و أنور الباز.

17- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي،دار الكتب العلمية - لبنان -الطبعة الأولى 1413هـ - 1993م، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد.

18- مختار الصحاح،للشيخ محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، المكتبة العصرية،صيدا

بيروت، الطبعة الأولى1416 هـ - 1996 م.

19- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، للعلامة أحمد بن محمد بن علي المقرئ الفيومي، الطبعة الخامسة بالمطبعة الأميرية بالقاهرة 1922 .

20- مفردات ألفاظ القرآن،للعلامة الراغب الأصفهاني،دار القلم دمشق،الطبعة الرابعة 1420هـ - 2009 م،تحقيق صفوان عدنان داوودي.

1مفردات ألفاظ القرآن، ص 55

2منها: "نظرات في المصطلح والمنهج " و "نحو معجم تاريخي للمصطلحات القرآنية المعرفة" و "مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبيين للجاحظ" و"مصطلحات النقد العربي لدى الشعراء الجاهليين والإسلاميين: قضايا ونماذج".

[1]مختار الصحاح ص148

[2]مفردات ألفاظ القرآن ص411

[3]المصباح المنير 1/ 377

[4]لسان العرب 14/384 ومابعدها

[5]"الكليات: معجم في المصطلحات والفروق اللغوية" لأبي البقاء الكفوي،ص 377 .

[6]وقرأ كبراء من الصحابة والتابعين: فامضوا بدل (فَاسْعَوْاْ)، وينبغي أن يحمل على التفسير من حيث أنه لا يراد بالسعي هنا الإسراع في المشي، ففسروه بالمضي، ولا يكون قرآناً لمخالفته سواد ما أجمع عليه المسلمون، (البحر المحيط: 8/265)

3يفهم من صنيع الراغب الأصفهاني أنه جعل المشي السريع معنا حقيقيا للسعي، والجد في الأمر معنا مجازيا له، لأن منهجه في المفردات البدء بالمعاني الحقيقية،ثم إردافها بالمعاني المجازية.

1 جامع البيان،للطبري ج18/200 (تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي)

2 الجامع لأحكام القرآن ج 14/49، و ص100 (تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي)

 

1 أنظر الجامع لأحكام القرآن 4/314

2تفسير الكشف والبيان للثعلبي 2/257

3جامع البيان 22/ 399

4الجامع لأحكام القرآن 20/245،وللعلماء أقوال في تحديد مقدار هذا النور الذي يسعى بين أيدي المومنين وبأيمانهم، منها قول ابن مسعود: "يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورًا على إبهامه يطفأ مرة ويقدُ مرة"، وقول قتادة: " ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "مِنَ المُؤْمِنِينَ مَنْ يُضِيءُ نُورُهُ مِنَ المَدينَةِ إلى عَدَنَ أبْينَ فَصَنْعاءَ، فَدُونَ ذلكَ، حتى إنَّ مِنَ المُؤْمِنينَ مَنْ لا يُضِيء نُورُهُ إلا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ". أنظر جامع البيان22/397- 398.

5وروي عن ابن مسعود أنه قرأ "فامضوا إلى ذكر الله" وقال: لو كانت " فَاسعَوْا " لسعيت حتى يسقط ردائي،ولم يصح عنه، لأن السند غير متصل ؛ و إبراهيم النخعي لم يسمع من عبدالله بن مسعود شيئا"،الجامع لأحكام القرآن20/467.

1 أنظر جامع البيان22/641 .

2أنظر أحكام القرآن لابن العربي4/248 .

3أنظر الجامع لأحكام القرآن 20/465 .

4 أنظر تفسير ابن أبي حاتم10/3356.

5 تفسير روح البيان، لإسماعيل حقي: ج 9/512 .

6 زاد المسير8/264.

7أنظر جامع البيان 22/ 637، وانظر أضواء البيان للشنقيطي: ج 8/280.

8أحكام القرآن لابن العربي4/248 .

1جامع البيان 24/460

2مفاتيح الغيب،للرازي31/199 (الطبعة الأولى 1401ه /1981م، دار الفكر،بيروت لبنان)

1مفاتيح الغيب 31/51 .

2جامع البيان 14/537

3المفردات،ص 462

1الجامع لأحكام القرآن 14/284

2المصدر نفسه 14/284

3 أنظر المفردات للراغب، ص714.

4أنظر مفاتيح الغيب 22/ 220 .

5 الجامع لأحكام القرآن 14/285

1مفاتيح الغيب 20/180-181 .

2الجامع لأحكام القرآن21/485 .

1 مفاتيح الغيب 25/243 .

2 جامع البيان 16/600.

3المصدر نفسه16/ 601.

4 المصدر نفسه16/601.

1جامع البيان 16/602.

2 الجامع لأحكام القرآن14/422.

3 المصدر نفسه14/422 .

4 راجع الفتاوى الكبرى، لابن تيمية ج13/178 .

1 مفاتيح الغيب 23/48 .

2 جامع البيان 24/83

3 الجامع لأحكام القرآن 22/55

4 مفاتيح الغيب 31/43 .

1 أنظر الفتاوى الكبرى، لابن تيمية،ج13/180

2راجعه في الصفحة 15

1يراجع: (جامع البيان3/571 ومابعدها)، (الجامع لأحكام القرآن3/381 ومابعدها، وج2/320ومابعدها) .

2 مفاتيح الغيب 5/217 .

3جامع البيان3/581، الجامع لأحكام القرآن3/384

4المحرر الوجيز، لابن عطية،ج1/280 .

5 مفاتيح الغيب 5/217

6 أنظرجامع البيان للطبري: 3/584

1 مفاتيح الغيب 5/218 .

2 المصدر نفسه 4/11 .

3 جامع البيان2/446

1 مفاتيح الغيب 4/13 .

2 جامع البيان 15/423.

3 المصدر نفسه 15/428 .

4أحكام القرآن للكيا الهراسي،ج 4/268، وانظرالجامع لأحكام القرآن 13/392 .

1 أنظر التبيان في أقسام القرآنابن قيم الجوزية، ص7

2راجع " الفروق في اللغة" لأبي هلال العسكري،ص 17 .

في المثقف اليوم