دراسات وبحوث

جدلية الهوّية والمواطنة في مجتمع متعدّد الثقافات (1-3)

abdulhusan shaabanالمقدّمة: يشغل موضوع الهوّية والمواطنة حيّزاً غير قليل في الثقافة والفكر وفي دراسات علوم السياسة والقانون والاجتماع، خصوصاً في ظل الجدل الذي ارتفعت وتيرته منذ ما يزيد على ربع قرن من الزمان، سواءً على المستوى الداخلي أو الدولي، في إطار مجتمعات متعدّدة التكوينات والهوّيات أو في إطار احتدامات لمصالح دولية وإقليمية.

وكان لانهيار الأنظمة الشمولية، وبخاصة في أوروبا الشرقية أثره الكبير في احتدام الصراع بين "هوّيات كبرى وصغرى"، وهوّيات "تابعة ومتبوعة" وهوّيات "عليا ودنيا"، وهوّيات "قوية وضعيفة"، رغم ميلي إلى تسميتها "هوّيات فرعية" أي خاصة، وهوّيات "كلية" بمعنى عامة أو شاملة، الأمر الذي عرّض بعض الكيانات الكبرى (الدول المتعدّدة التكوينات) إلى التصدّع والتآكل، خصوصاً بتبلور بعض خصوصيات الهوّيات الفرعية، التي وجدت الفرصة مناسبة للتعبير عن كيانياتها بعد طول انتظار وكبت وشعور بالغبن والحرمان، ناهيك عن ضعف المواطنة بسبب سياسات الإقصاء والتمييز والتهميش.

وأدّى هذا المتغيَّر إلى انقسام دول وانفصال كيانات ظلّت " متّحدة" لسنوات طويلة أو هكذا بدت الصورة، ولعبت العولمة دوراً مهماً في تشجيع ذلك، وبخاصة إذا كانت الكيانات الكبرى عامل تحدٍّ للقوى المتنفذة والمتسيّدة في العلاقات الدولية، وهو ما وفّر ظروفاً موضوعية، وإنْ كانت لأغراض خاصة، لبروز الهوّيات الفرعية، وخصوصاً في ظل ارتفاع رصيد فكرة حقوق الإنسان ومبادئ المواطنة والمساواة، وهو ما كان غائباً في ظل الأنظمة الشمولية والاستبدادية.

وأصبح الإقرار بالتعددية والتنوّع الثقافي والقومي والديني واحترام حقوق الهوّيات الفرعية وخصوصياتها مسألة كونية، شجّعت "الأقليات" ونقصد بذلك المجموعات الثقافية في مجتمعات متعددة التكوينات الدينية والإثنية، على المطالبة بحقوقها وكيانياتها الخاصة، من خلال بيئة دولية داعمة وظروف مناسبة موضوعياً وذاتياً، ولذلك فإن جدل الهوّيات وصراعها أحياناً، ارتقى إلى مصاف نزاعات كبرى وحروب أهلية، وترك ندوباً وجراحات وحواجز تاريخية ونفسية، ازدادت حدّة وتنافراً في السنوات الأخيرة، على الرغم من وجودها في السابق، إلاّ أنها كانت غير منظورة في ظل الدولة المركزية "الصارمة" والنظام الشمولي، العمودي، ذو الصلاحيات التي تكاد تكون مطلقة، فالاتحاد السوفييتي السابق وحده إنقسم إلى 15 جمهورية لا تزال تداعياتها وآثارها تبرز بين الحين والآخر، ولعل الأزمة الأوكرانية حالياً ومشكلة جزيرة القرم ذات الكثافة السكانية من أصول روسية، ليست بعيدة عنها، إضافة إلى حروب جورجيا وجمهوريات آسيا السوفيتية السابقة.

أما يوغسلافيا السابقة فقد تمزّقت إلى 6 كيانات وجرت بينها حروب وصراعات وعمليات إبادة بعضها لم يندمل على صعيد العلاقات التاريخية بين مكوّناتها الدينية والإثنية والاجتماعية، أو تداخلاتها الدولية،ناهيك عن هدر حقوق الإنسان كما حصل في كوسوفو، إضافة إلى البوسنة والهرسك. وانقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى كيانين بطريقة مخملية، هما جمهورية التشيك (تشيخيا) وجمهورية سلوفاكيا)، والسودان انفصل جنوبه باستفتاء شعبي العام 2010 بعد احترابات طويلة استنزفت موارد البلد وطاقاته منذ العام 1956 حين نال السودان استقلاله، وتشكّل إقليم تيمور الشرقية بقرار دولي بانفصاله عن أندونيسيا لاعتبارات تتعلق بالهوّية أيضاً وارتباطها بالمواطنة وهكذا .

ولعلّ الحديث عن أكثر من "عراق" أصبح مبحثاً يكاد يكون دائماً على طاولة التشريح الدولي منذ عقود من الزمان، سواءً بحكم الأمر الواقع في إطار مشاريع جديدة، كان قد جرى تسويقها تحت عناوين مختلفة، أو امتداداً لمشاريع قديمة، وهذه وتلك اتخذت مبرّرات جديدة باسم " الواقعية السياسية" أو لإنهاء العنف، أو مبرّرات سياسية قومية أو طائفية.

وتستهدف جميع تلك المشاريع إلى تقريب فكرة التقسيم حتى من خلال رسم صورة متخيّلة عن الوضع العراقي أمنياً، سواءً للتخلص من النظام السابق أو ما بعد الإطاحة به، مثل مشروع جوزيف بايدن، (نائب الرئيس الأمريكي باراك أوباما) أو قبله تساؤل غراهام فولر (من مؤسسة راند Rand الأمريكية المقرّبة من الـCIA) حول: هل يبقى العراق موحداً حتى العام 2002؟ أو قبلها ما تم ترويجه خلال الحرب العراقية- الإيرانية، لاسيّما في سنواتها الأخيرة حول تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات شيعية وسنية وكردية، وهو ما راود بعض السياسيين الطموحين، ولكن القصيري النظر لاحقاً، والذي جاء دور الحديث عنها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003 ويتجدد الأمر على نحو كثيف منذ احتلال تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" للموصل في 10 حزيران (يونيو) 2014 وتمدّدها لعدد من المحافظات، بحيث سيطرت على نحو ثلث الأراضي العراقية، إضافة إلى ما يزيد عن ثلث الأراضي السورية.

إن ما طرحه فولر من تساؤل بعد غزو الكويت وفرض الحصار الدولي على العراق منذ العام 1992 له أكثر من دلالة، لاسيّما بعد احتلال العراق، ومن ثم انفجار العنف والتطهير الطائفي والمذهبي والإثني، الأمر الذي انعكس على الهوّية والمواطنة في العراق، خصوصاً بعد احتدام المشهد السياسي عقب تفجيرات مرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء العام 2006.

والأمر مطروح اليوم بحدّة في سوريا من جانب الأوساط الدولية المتنفّذة بغض النظر عن أهداف حركة الاحتجاج والمطالب الشعبية العادلة والمشروعة التي ابتدأت سلمية في 15 آذار (مارس) العام 2011، والتي دخلت عليها عناصر مختلفة، بما فيها قوى إرهابية مثل "تنظيم القاعدة" وأخواتها، سواءً تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بحيث تحوّل الصراع عنفياً ودموياً، وبدت الحرب التي تستمر منذ ذلك التاريخ وحتى كتابة هذا البحث وكأنها مصارعة على الطريقة الرومانية، لا تنتهي الاّ بمقتل أحد الفريقين المتصارعين، ووصل الآخر درجة من الإعياء تقترب من الموت.

يستهدف الباحث من مناقشة هذه الإشكاليات الفكرية والسياسية تقريبها إلى الواقع، بعيداً عن الأدلجة والنظرة المسبقة، وسيقسّم البحث إلى قسمين الأول يبحث في الهوّية والثاني سيبحث في المواطنة.

 

القسم الأول – في الهوّية

1- الهوّية والثقافة

تعتبر الهوّية موضوع جدل في الأدب السياسي، خصوصاً بجانبه الفكري والاجتماعي والثقافي [1]، وقد احتدم هذا الجدل إلى حدود كبيرة بعد انهيار النظام الاشتراكي العالمي وتحلّل المنظومة السوفيتية، الأمر الذي دفع شعوباً وأمما وجماعات لتخوض صراعاً حاداً باسم الدين أحياناً وباسم القومية أو اللغة في أحيان أخرى، وفي كل الأحوال كانت الخصوصية أمراً ملازماً لكل حديث عن الهوّية، إذْ سرعان ما طفحت كيانات وكتل على السطح بعد طول كبت وشعور بالتمييز، في مجتمعات كانت الصورة الواحدية تطغى عليها.

لعلّ واحداً من أسباب "انتعاش" مسألة الهوّية إذا جاز التعبير هو تفكّك الأنظمة الشمولية، وشعور بعض الكيانات الخاصة "بالانعتاق" وتطلّعها ليكون لها شكلاً من أشكال الاستقلالية والخصوصية التي تجمعها وتعطيها كيانها الخاص، لاسيّما بعد تهميش وإلغاء ومحاولات صهر بمزاعم شتى، الأمر الذي قد يكون وراء اندفاع الكيانات والهوّيات الفرعية، الجزئية، في البحث عن طريق جديدة لتحقيق ذاتها والتشبّث بخصوصياتها بعد طول "عداء" أو شعور "بالاستصغار" أو "فوقية" و"استعلاء" عانت منه، وقد تسبّب الفعل ومن ثم ردّ الفعل، في خلق فتن ونشوب حروب أهلية وتهجير قسري وإبادات، تارة بحجة الحفاظ على الهوّية التي يُراد اختراقها، لاسيّما الهوّيات الكبرى، وتارة بزعم تحقيق الهوّية والتمسّك بها، لاسيّما للهوّيات الفرعية، التي يراد تذويبها أو إخضاعها![2]

وإذا كانت تحدّيات الهوّية داخلياً أساساً مستمراً لاحتدام الجدال والسجال والصراع، فإن التحدّيات الخارجية لم تكن بعيدة عن ذلك، خصوصاً تداخلاتها وتأثيراتها المختلفة، حيث ظلّ الموقف من الحقوق والحريات، وبخاصة من مبدأ المساواة التامة والمواطنة الكاملة، وهما ركنان أساسيان من أركان الدولة العصرية، هو العامل الحاسم في الاحتدام والصراع والتناحر أحياناً، وذلك ما استثمره العنصر الخارجي في إثارة النعرات وتأليب البعض على البعض الآخر، والتدخّل بحجة حماية هذا الفريق أو ذاك، لاسيّما للكيانات الفرعية، خصوصاً إذا شكّلت الكيانات الأساسية ذات الصفات العامة، عنصر تحدٍّ للقوى المتنفّذة والمتسيّدة في العلاقات الدولية، التي بإمكانها التأثير عليها، وذلك بالعزف على هذا الوتر الحسّاس للهوّيات الفرعية، التي ستضعف الكيانات الكبرى، وهو ما يمكن أن نطلق عليه " كلام حق يراد به باطل"!، لاسيّما إذا تعرّضت وحدة الدولة للتمزّق والمجتمع للتشظي!.[3]

ولكن هل يمكن الحديث عن هوية ثابتة أو متكاملة أو دون تغيير، باعتبارها معطىً ساكناً وسرمدياً، حتى وإن كانت بعض عناصر الهوّية قابلة للثبات مثل الدين أو اللغة؟ أم أن الهوّية بشكل عام تخضع لنوع من التغيير في الفهم أولاً وفي التفسير ثانياً، وحتى لو بقيت الأصول قائمة، فان بعض عناصر الهوّية مثل العادات والفنون، فإنها تتطوّر وتكون أكثر عرضة للتغيير حذفاً أو إضافة، لاسيّما علاقتها مع الثقافات والهوّيات الأخرى، تأصيلاً أو استعارة، وهذه لا تأتي دفعة واحدة بالطبع، بل تتم عملية التحوّل بصورة تدرّجية، تراكمية، طويلة الأمد، والأمر ينطبق على تفاعل وتداخل الهوّيات، خصوصاً من خلال عناصر التأثير القوية سياسياً وثقافياً واقتصادياً.

لقد ازداد جدل وصراع الهوّيات، في زمن العولمة، لاسيّما بعد انتهاء الحرب الباردة وهيمنة لاعب أساسي في العلاقات الدولية، ولعلّ الشعور بالاستهداف كان فادحاً، من جانب الهوّيات الفرعية أو الصغرى، في حين شعرت بعض الهوّيات الكبرى، العامة، وكأن هيبتها بدأت تتصدع بحكم الثقافة الاستعلائية السائدة، أو من حاول توظيفها لخدمة أغراضه السياسية الفوقية، سواءً كانت دينية أو اثنية أو طائفية أو غير ذلك، الأمر الذي ساعد على الانكفاء من جهة والتشرنق أو التعصب والانغلاق وضيق الأفق من جهة أخرى، إزاء الآخر، خصوصاً بتفكك الدولة أو هشاشة وحدتها الوطنية في ظل المعادلات الجديدة، وبخاصة للتكوينات المختلفة.

وبدلاً من طلب الاستكانة أو الخضوع أو محاولة التسيّد من جانب الهوّيات الكبرى أو من يدعي تمثيلها من الفئات المهيمنة على الهوّيات الفرعية، الذي كان ناجماً عن الشعور بالتفوق أو الأغلبية أو ادعاء الأفضليات، فإن نزعات رفض التعايش وعدم الرغبة في التواصل كانت قد تمت بالمقابل، جرّاء سياسة عدم الإقرار بالتنوّع والتعددية والحق في الاختلاف، وتتجه مثل هذه السياسة وردود أفعالها صوب العزلة والقطيعة، بدلاً من التعايش والمشترك الإنساني.

الثقافة هي الوعاء الذي يستوعب ويجسّد الهوّية، وهي التي تعبّر عن الشعور بالانتماء، فالثقافة هي توالف بين القيم المتراكبة والمتفاعلة مع الآخر أيضاً، لاسيّما إنسانياً، ومع التقاليد والعادات، التي تعكس سلوك وحياة الناس،[4]

كما أنها مثل الكائن الحي الذي يخضع لقوانين التطوّر الحياتية ذاتها، وهي تمثّل رؤية شاملة للعالم تتجلى أو تتجسّد فردياً أو مجتمعياً في المفاهيم والقيم وظواهر السلوك والممارسات المعنوية والعملية والحياتية، توحّدها اللغة، وإن تنوّعت تنوّع فئات المجتمع من حيث مواقفها الاجتماعية والفكرية، بما يشكل الخصوصية الثقافية والقومية العامة في المجتمع[5].

 بهذا المعنى فالثقافة هي مجمل أساليب المعيشة في حياة الشعب اليومية، التي تشمل عناصرها المترابطة في نسيج متكامل، الرؤية العامة، والقيم والمبادئ، والمفاهيم، والتقاليد، والعادات، والمعتقدات، والمقاييس والمعايير، والممارسات ، والأعراف، والقوانين، والأمثال، والمروّيات، والمناقب الأخلاقية، والقواعد السلوكية اليومية[6].

 قد يكون الاهتمام بالهوّية في ربع القرن الماضي ناجماً من تراجع دور الآيديولوجيات، لاسيّما بعد انخفاض منسوب الصراع الآيديولوجي منذ نهاية عهد الحرب الباردة في أواخر الثمانينيات، أو تحوّله من شكل إلى شكل آخر، خصوصاً بعد انهيار الكتلة الاشتراكية، وصعود الإسلام كعدو تقليدي للغرب بعد سيادة عهد "الليبرالية" الجديدة سياسياً واقتصادياً، التي ارتبطت موجتها الجديدة بظاهرة العولمة، لاسيّما في ظل الثورة العلمية- التقنية، خصوصاً في مجال تقنيات الاتصال والمعلومات، وسعت للهيمنة على السوق الدولية على مستوى الكرة الأرضية.

ولعلّ هذا التوّجه ارتبط بفكرة النظام العالمي الجديد، الذي اتّسم بمنطق السوق وتسليع مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية ، وإزالة الحواجز أمام انتقال رؤوس الأموال والسلع وخصخصة المؤسسات الاقتصادية وإلغاء ملكية الدولة لها، وتحكّم الشركات " فوق القومية" في السياسة الاقتصادية الدولية، وسعي المحافظون الجدد في الولايات المتحدة إلى جعل سلطة السوق مقدسة، وتحطيم كل العوائق التي تعترض طريقها، سواء كانت دولاً أم حكومات، مجتمعاً مدنياً ومنظمات غير حكومية، أو غيرها [7] .

 وهكذا أخذ دور الثقافة يتعاظم سواءً على الفرد أو الشعب أو الأمة أو الدولة، ويزداد تأثيرها على السياسة والاقتصاد على حد سواء، خصوصاً بعد أن سعت العولمة لتسليع الثقافة بهدف تحطيم منظومة القيم الخاصة ب الهوّيات الأصغر الفرعية، بعد سيادة الهوّيات الكبرى أو الهوّية الأكبر من خلال تعميم نمط الاستهلاك والفردانية، خصوصاً العلاقة بين القوى المتسيّدة والنافذة في العلاقات الدولية وبين الأمم والشعوب والدول الصغيرة.

 

2- الهوّية والعولمة!

 ربّ سائل يسأل، كيف تتشكّل الهوّية؟ هل هي ثابتة وكاملة وبالتالي مقفلة غير قابلة للتطور أم متغيّرة ومتحوّلة ومفتوحة وقابلة للإضافة والحذف!؟ واستكمالاً لهذا السؤال يلوح دور الارادة للفعل أو للمعطى التاريخي الذي يقبل التطور والتراكم والتفاعل مع غيره، حيث تتمثل الهوّية في عناصر معرفية ونسق معتقدات وقيم ومعايير، وعلى الرغم من محاولات العولمة تحويل الثقافة إلى سلعة يتم تداولها على نطاق واسع، وخاضعة لسوق العرض والطلب والاحتكار، فإنه يمكن القول أن هناك ثلاث مستويات لتشكيل الهوّية، فهناك المستوى الأول- الفردي، فلكل فرد هوّيته وخصوصيته، وهناك المستوى الثاني- الجماعي أو المجتمعي أو الجمعي "الجمعوي" كما تسمى مغاربياً، وهي تمثّل المشترك للجماعة الإنسانية، أما على المستوى الثالث فهو المستوى الوطني والقومي، وفي كل الأحوال فان هذه المستويات الثلاث تتحدّد بنوع المواجهة، اتفاقا أو اختلافاً مع الآخر، لاسيّما الذي تواجهه قرباً أو بعداً، وهو ما يذهب إليه محمد عابد الجابري [8] .

نجم صراع الهوّيات عن نزاعات اجتماعية- اقتصادية، لاسيّما في إطار العلاقات الدولية، خصوصاً علاقة البلدان المتقدمة صناعياً بالدول النامية، حيث تحاول الأولى ترويضها وتطويعها ونهب مواردها، وأحياناً يتخذ احتدام الهوّيات شكل صراع متنوّع، فيما يتعلق بنمط الحياة والسلوك ومنظومة القيم، حتى وإنْ اتّخذ شكلاً دينياً أو لغوياً أو قومياً، لكنه يُمثّل من حيث الجوهر محاولات لفرض الاستتباع وإملاء الإرادة من جانب القوى الكبرى، ومقاومة وممانعة من القوى الصغرى.

 وهناك نوع آخر من الاحتدام في الهوّيات، ينجم عن نزاعات إثنية أو دينية، وأحياناً تتداخل هذه النزاعات التي تكاد تكون سائدة حالياً في المجتمعات المتخلفة أو البلدان النامية أو ما يمكن أن يطلق عليه مجتمعات الأطراف أو بلدان الجنوب الفقير، بسبب ضعف الدولة المركزية من جهة وشحّ الحقوق والحريات وعدم تحقيق المساواة التامة والمواطنة الكاملة من جهة أخرى، لاسيّما في دول متعددة الأعراق والقوميات والإثنيات والأديان والطوائف، فسرعان ما تندلع الصراعات بين من يدعي تمثيل القومية الكبرى أو الدين السائد أو النافذ أو الطائفة الأكبر من موقع السلطة ومن خارجها أحياناً، وبين أقليات أو فئات مُستبعدة أو مهمّشة، فيستعين كل طرف بثقافته السائدة، عندها يندلع العنف ويحتدم الصراع وتتباعد الكيانات وتكبر الهوّيات.

 يمكن القول بأن الصراع بين الهوّيات يكاد يختفي في المجتمعات المتقدمة، وخصوصاً الذي اتّخذ بُعداً (استئصالياً واقصائياً) عنفياً وعسكرياً ومسلحاً، حتى لو بقيت بعض ظلاله أو استحضر تاريخه، فإنما يتم ذلك على صعيد الفكرة والسياسة والتاريخ والمصالح الاقتصادية، لاسيّما بعد إسدال الستار على جوانبه المأسوية، حيث شهدت أوروبا، اتحاداً متميزاً ونافذاً أساسه المصالح الاقتصادية والمنافع المتبادلة وثقافة التسامح والتعايش والتعاون، بعد اعتماد مبادئ المواطنة واحترام حقوق الإنسان، لكن هذا الصراع ما زال مستمراً ومتصاعداً في البلدان النامية، وبعض بلدان الكتلة الاشتراكية سابقاً، دون أن يعني إلغاء أشكال جديدة له في الدول الرأسمالية المتقدّمة.

إن المجتمعات اللاّديمقراطية وبخاصة في البلدان النامية شهدت احتدامات حادة ومعارك كبرى تحت راية الهوّية وهو ما حدث في أمريكا اللاتينية ويحدث في آسيا وأفريقيا، واستمر على نحو حاد في العراق والسودان والصومال وأفغانستان ولبنان حيث تتقدم الهوّيات الفرعية على الهوّية الجامعة، وقد استشرى الأمر في العراق بعد الاحتلال، رغم الدثار السميك من القوة والقمع الذي تغلّف به في السابق، لكنه سرعان ما انفجر، وبخاصة عند إقرار القسمة الطائفية- الإثنية التي كرّسها بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق بعد أيار (مايو) 2003.

وباستثناء ما حصل من معارك البوسنة والهرسك والصراع بين الصرب والكروات والمسلمين والمسيحيين، وما حصل بين روسيا والشيشان وفي جورجيا وألبانيا وهي كلها خرجت من عباءة الأنظمة الشمولية، فإن تعايش الهوّيات أمرٌ معترف به ومصان قانوناً وممارسة، وأخذ يشكل جزءًا من الثقافة المشتركة ذات الأبعاد الإنسانية، وبخاصة فيما بينها، حتى أن انفصالاً مخملياً كان قد حصل بين التشيك والسلوفاك، بعد وحدة أو اتحاد دام عقوداً من الزمان، وذلك باتفاق الطرفين في 1 كانون الثاني (يناير) العام 1993 بعد أكثر من 3 سنوات من انهيار النظام الشمولي الاشتراكي السابق.

 الهوّية إذاً وعي الإنسان وإحساسه بذاته وانتمائه إلى جماعة بشرية قومية أو دينية، مجتمعاً أو أمة أو طائفة أو جماعة في إطار الانتماء الإنساني العام، وحسب حليم بركات "إنها معرفتنا.. بما ، وأين، ونحن، ومن أين أتينا، وإلى أين نمضي، وبما نريد لأنفسنا وللآخرين، وبموقفنا في خريطة العلاقات والتناقضات والصراعات القائمة"!؟ [9].

 الهوّية بهذا المعنى هي مجموعة السمات الثقافية التي تمثّل الحد الأدنى المشترك بين جميع الذين ينتمون إليها، والتي تجعلهم يُعرفون ويتميّزون بصفاتهم تلك عما سواهم من أفراد الأمم والجماعات الأخرى. وقد تتطور الهوّية بالانفتاح على الغير، وقد تنكمش، تتحدد أو تتقلص، تنحصر أو تنتشر، لكنها دون أدنى شك تغتني بتجارب الناس ومعاناتهم وانتصاراتهم وآمالهم، وهذه المسألة تتأثر سلباً وإيجاباً بالعلاقة مع الآخر [10].

 الهوّية بهذا المعنى ليست معطىً جاهزاً ونهائياً، وإنما هي عمل يجب إكماله دائماً[11]، والتغيير هو الذي يطبع الهوّية وليس الثبات، والتفاعل بحكم علاقة الإنسان بالآخر، وليس الانعزال، ولا يتعلّق الأمر بالقضايا السياسية حسب، بما فيها المواطنة وحقوقها، بل إن المسألة تمسّ بالصميم الجانب الثقافي، وهذا الأخير بقدر كونه معطىً مرتبطاً بالماضي والمستقبل، فإن الجانب السياسي له علاقة بالحاضر، الراهن، القائم، أما جوانب الهوّية الخصوصية الثلاث فلها علاقة بالأرض والتاريخ والجغرافيا (الزمان والمكان) مثل علاقتها بالثقافة المشتركة السائدة في الأمة، وأخيراً علاقتها بالكيان القانوني لوحدة الوطن والأمة (اتحادهما في دولة مثلاً).

 وفي كتابه" الثقافة العربية والعولمة" يعرض الدكتور محمد البرغثي تعريفات وتفصيلات عن الهوّية والعولمة والثقافة، فيتوصل إلى أن الهوّية لا تعدّ منجزاً مكتملاً، أي أنه ينزع عنها صفة التقديس، لاسيّما حين يضعها في حالة من التطوّر والتغيير، خصوصاً بالتفاعل مع الآخر، معتبراً مثل تلك العلاقة التفاعلية – التبادلية مع الغير إثراءً للهوية، وليس إلغاءً لها. [12] وهو ما يذهب إليه هول ستيوارت الذي يعتبر الهوّية في حالة تحوّل دائم، فهي ليست معطىً منجزاً متكاملاً لا ينتهي [13].

إن جدل الهوّيات لا يعني بالضرورة الصراع بينها، بقدر ما هو حالة صراع واتحاد، احتدام واحتواء، وعلاقة تمثل وتعلّم، رغم المغايرة وعدم التجانس والاختلاف، إنها حالة نفور وتكامل أحياناً، ومثل هذا التنوّع في العلاقة، لاسيّما الاختلاف، يؤكد التلازم بين الثقافة من جهة، والتعددية والتنوّع من جهة أخرى. فهوّية طالبان مثلاً وفقاً لمنطقه حسب أدونيس: ليس إمكاناً وإنّما هي المتحقق، وهي جاهزة مسبقاً، مكتملة، ومغلقة، كأنها شيء بين الأشياء: حجر، أو فأس أو سيف ... هكذا تريد القوى المتعصّبة أن تضع هوّية الإنسان وراءه وليس أمامه، هوّية مغلقة وليست مفتوحة، متكوّنة وكاملة، وليست قابلة للإضافة والحذف، أي أنها أقرب إلى الثبات وعدم التغيير، فلا وجود للتراكم والتطور ووفقاً لهذا المنطق، فإن الآخر لا وجود له، غائب، عدو[14].

 لعلّ السؤال الذي يواجه البشر منذ الخليقة فردياً وجماعياً: من أنا أو من نحن؟ ثم يستكمل هذا السؤال من خلال أسئلة أخرى تتعلق بالعمل والمشروع، الذي يمثله الإنسان، نشأة وانتماءً كمعطى أول، وفيما بعد عملاً وصيرورة، كمعطىً ثاني الأول سيكون معطىً دون خيار، أما الثاني فهو خيار أي أنه تفضيل بين خيارات، وبالتالي سيكون خياراً واعياً ومكتسباً، من خلال وعي وعملية خلق. وإذا كان الأول طبيعياً، فإن الثاني يعبّر عن الإرادة البشرية والتدخّل الإنساني لإكساب الهوّية شكلاً جديداً مفتوحاً قابلاً للتطور[15].

وبهذا المعنى فالهوّية لا تتكون بمجرد النشأة والانتماء، وهما موروثان طبيعيان، بل تتكون من خلال عملية الخلق والعمل والصيرورة، وهي عملية إبداعية مستمرة ومفتوحة.

وكلّما كانت هوّية " الأنا" غير ملتبسة، كلما استطاع الدخول في حوار متكافئ مع الآخر على المستوى الثقافي، أما إذا كانت الهوّية محطّ إشكاليات، فإنها ستكون معلّقة أو مرجأة أو متأرجحة حسب تعبير أدونيس الذي يقول: إنه لا يستطيع أن يعطيها وصفاً: الولادة، المواطنة، الجنسية، اللغة، الإبداع والتميّز، فردياً أو جماعياً.

 الهوّية الفردانية حتى وان كان يُنظر إليها بارتياب في عالمنا العربي باعتبارها مصدر شك، حيث يتقدم عليها ويلغيها أحياناً الهوّية الأساس، كما تسمّى ونعني بها "هوّية الأمة" كما يقال، وعلى هذا المعيار الكلاّني الشمولي، يُنظر إلى "الأقليات" في دولة متعدّدة القوميات أو الأديان، بتخطّي وتجاوز أي حديث عن الخصوصية، التي ستعني حسب هذا المنطق، المساس بهوّية الأمة، الجماعة البشرية السائدة.

وقد تختلف أولويات هذه الجماعة باختلاف الآيديولوجيات والأفضليات، فتارة باسم القومية وأخرى باسم الدين وثالثة باسم المذهب ورابعة باسم الآيديولوجيا، وهكذا، فالمختلف لا يستحق سوى الإبعاد والإقصاء والنبذ، وما عليه الاّ الرضوخ والاستكانة وقبول حكم الأغلبية أو الجهة المهيمنة، وحسب أدونيس، فالأمر ليس نفياً للآخر بقدر ما هو نفي للذات في الآن، وبقدر انفتاح الذات على الآخر، فإن الهوّية تزداد غنىً، وبقدر ما تنكمش الذات وتتقلص في انتمائيتها، نشأة ومواطنة، تزداد فقراً، ولا يمكن طمس التغاير والتنوّع والتعدّد جزئياً أو كلياً.

 يمكن القول إن لا ذات بلا آخر، فلا ذات دون تأثير وتأثّر، وحين تكون الهوّية من القوة والفاعلية تكون أكثر ثقة بالنفس، وأكثر استعداداً للانفتاح على الآخر وأكثر حيوية في التعاطي والتلاقح معه [16].

الثقافة تشمل طريقة حياتنا كلّها، وأخلاقنا، ومؤسساتنا، وأساليب عيشنا، وتقاليدنا، حيث لا حدود لتفسير العالم، وإنما سعي لإعطائه شكلاً خاصاً به[17] .

العالم، لاسيّما في ظل العولمة أرخبيل مفتوح تتلاقى فيه الشعوب وتتمازج، فمثلاً رغم السمة الغالبة للمجتمع العربي لغوياً وإثنياً ودينياً (العربية- الإسلامية) لكنه كان ملتقى القوميات والإثنيات والثقافات مثل: البابلية، والأشورية، والفينيقية، والفارسية، والهندية، والتركية، والكردية والزنجية، وإضافة إلى الإسلام هناك المسيحية واليهودية، وتمازجت هذه الثقافات والأديان المتنوّعة في كلِّ إنساني وثقافي واحد، لكنه متعدّد، وتآخت اللغة العربية مع اللغات الأخرى وتفاعلت واقتبست منها، فناً وأدباً وفكراً، إذ كان " العقل اليوناني" أحد مرتكزات الفكر الفلسفي العربي زائداً "النقل الإسلامي"، ولعبت الترجمة دوراً مهماً في توسيع دائرة الثقافة العربية، المتعدّدة، محل الواحدية، وكانت الأندلس امتداداً خلاّقاً لبغداد[18].

لقد تغيّرت خصائص الثقافة اليوم بفعل المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، خصوصاً في ظل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، فالتلفزيون والكومبيوتر والإنترنيت ساهمت مساهمة كبيرة في هذا التغيير، ولعلّه بقدر التقارب الذي أحدثه، فقد جعلت التمايز والخصوصيات، سمة مميزة للهوّيات والثقافات المختلفة، حيث تسعى الشعوب لاكتشاف أساطيرها ورموزها وترسيخ ذاكرتها وتعزيز لغتها الخاصة، وبالخصوص عندما تخشى من التذويب أو الإقصاء، وقد حفّزت العولمة مثل هذا التهديد، خصوصاً عندما جعلت العالم كله "قرية واحدة" هي أقرب إلى "سوق" واحدة، فالهوّيات الطرفية (العالمثالثية) وقفت ضد هوّيات الهيمنة، والهوّيات الفرعية في الدولة الواحدة، سعت للتشبّث بخصوصياتها إزاء محاولات الإقصاء والتهميش.

يتعذّر الحفاظ على الهوّية بأساليب القمع والطغيان والانعزال، فهذه الممارسات تؤدي إلى تصحير الهوّيات، وبدلاً من الانفتاح والتواصل والتعدّد، تؤدي إلى الانغلاق والانكفاء والتقوقع، ومثلما لكل إنسان لغته، فله هوّيته التي تتعزّز بالانفتاح مع الآخر، فرداً أو جماعة، وقد يكون الإنسان يحمل أكثر من هوّية، بمعنى أنه عربي أو كردي أو تركماني ، مسلم أو مسيحي أو غير ذلك، لكن هوّيته العامة عراقية، وكذا الحال لمن عاش في المنفى، فرغم احتفاظه بهوّيته، فقد يكون قد أضاف إليها هوّية مكتسبة.

وكنت قد أجبت على سؤال بخصوص الهوّية الذي كان محاوري قد وجّهه إليّ عندما قال: إن سؤال الهوّية يلحّ عليك دائماً.. أين أنت؟ فأجبت: هل يكفي رفع شعار الحفاظ على الهوّية في المنفى لكي نتمسك بالهوّية؟ أليس ثمة همّ إنساني يتشكّل بمعزل عن الإرادة وبخاصة للجيل الثاني؟؟ ونقلتُ حواراً أداره المنتدى الأورومتوسطي حول الشمال والجنوب في الرباط، في أكتوبر (تشرين الأول) العام 2000 وحضرته نخبة متميزة من المثقفين، حين قال أسامة الشربيني في معرض معالجته لظاهرة الازدواجية في الهوّية: حين أكون في المغرب أشعر بأنني مغربي عربي ومسلم، وحين أكون في بلجيكا أشعر بأنني بلجيكي وجزء من المجتمع الأوروبي، وهنا يُثار تساؤل مشروع: وهل المكان هو الذي يحدد الهوّية؟ أم أن الهوّية التي تكوّنت وترسّخت واكتسبت كيانية مستقرة تظهر على نحو جلي في بيئتها الحقيقية، حيث المكان والاستمرار والتفاعل حيث اللغة والدين وغيرها من العناصر التي هي أقرب إلى الثبات، في حين أن العناصر الأخرى تتعزز وتغتني باستمرار بالإضافة والحذف والتواصل بين الحضارات والتلاقح بين الثقافات فردياً أو مجتمعياً!

وإذا كان مثل هذا الأمر يواجه النخبة، خصوصاً من تكوّن وترعرع ثم انتقل ليواصل ويندمج في مجتمع جديد، فالأمر مختلف باختلاف درجة الوعي والنضج والمعرفة والاستعداد للتكيّف والاندماج وبالتالي حمل الثقافتين ومواصلة الاستفادة من النبع الأول، بالقدر الذي تتم فيه الاستفادة من المصادر الجديدة، المضافة.

وإذا أردت أن أتحدث عن تجربتي الشخصية، فأنني كنت أواجه بشكل شبه يومي ومنذ ما يزيد عن ربع قرن حالات تعدّ بالآلآف بخصوص المهاجرين والمنفيين واللاجئين العراقيين والعرب، ناهيكم عن ذلك فقد عشت تجربة النفي لعقدين كاملين من الزمان وإنْ كنتُ على اتصال مستمر بالوطن وضمن الفسح والمساحات المتاحة سواءً في الماضي أو الحاضر، فإنني أدرك إشكاليات الهوّية، وبخاصة في أوضاع المنفى واضطرابها فيما يتعلّق بالأسباب السياسية أو الآيديولوجية أو الإثنية أو الدينية أو المذهبية أو الاجتماعية أو غيرها، التي تكاد تطغى أحياناً، مسببة نوعاً من الالتباس.[19]

الثقافة العليا التي تمحو الثقافات الأدنى أو تهّمشها هي ثقافات غير إنسانية، ولا هوّية خارج الإنسان، حيث يتحدّد أفق الهوّية بالانفتاح والتقدّم بلا حدود أو نهايات، وهو أفقٌ مفتوح للتحرّر من قيود الواقع، وهو أفقٌ رمزي، يوحّد بين البشر، على أساس المشترك الإنساني.

وإذا كان الإلحاح على الهوّية العمودية في ظروف تاريخية معيّنة أمراً مشروعاً، وضمن حدود التحرّر من الإستعمار والهمينة الخارجية، إلاّ أن الاستمرار في هذا الإلحاح خارج تلك الظروف، يصبح خطراً على الهوّية ذاتها، حيث يؤدي إلى الانكماش والانكفاء والانزواء، فالتعدّدية والتآلف من سمات الهوّيات المفتوحة التي ترفض الصهر والاستتباع مثلما ترفض الهيمنة والتسيّد، وتتشبث بالمعرفة وليس الهيمنة، بالموضوعية والعقلانية ، وليس الانعزالية والانغلاقية، هي التي ينبغي أن تطبع سجال الهوّيات وهو ما استهدفه الباحث عندما شرع بكتابة كتابه " جدل الهوّيات في العراق"[20]، حيث وضع الواقع أمامه وحاول نقدياً ومن خلال قراءة جدلية للمكوّنات والكيانات الموحدة، المتعددة، العامة والفرعية، صياغة علاقة أساسها المشترك الإنساني، باقتراح حلول حقوقية- إنسانية، من خلال فكرة المواطنة ونبذ الطائفية .

 

د. عبد الحسين شعبان

 

في المثقف اليوم