دراسات وبحوث

مقدمة كتاب: نقد العقل الإسلامي

هناك ثمة سؤال مشروع يُطرح علينا: - ما ذا تريدون بالعقل؟ وما هو العقل في الإسلام؟ وهل هو عقل في الإسلام أم عقل إسلامي؟، وماذا نعني به؟ وهل نعني به الأفكار الإسلامية؟ أم نعني به الأداة المنتجة لهذه الأفكار؟ .

لقد عُرف العقل في اللغة بأنه: - (من مصدر عقل يعقل فهو عاقل، ودلالته على المنع) -، وهو بهذا المعنى يدل على التمييز والإدراك في الأشياء بين الصواب والخطأ وبين الحق والباطل وبين الأمر والنهي،

ويمكننا تعريف العقل الإسلامي: - (بأنه الأداة التي من خلالها يتم إنتاج الأفكار والحكم عليها)، ولا يبتعد هذا التعريف عن المعنى اللغوي له، من حيث دلالة المعنى المستفاد وبحسب الوظيفية التي يؤديها العقل،

له، من حيث دلالة المعنى المستفاد وبحسب الوظيفية التي يؤديها العقل، فهو حين يكون أداة لإنتاج الأفكار فهو يتضمن التمييز والإدراك في آن معاً، ولكن حين تكون مهمته إنتاج الأفكار الإسلامية، (فهنا يكون العقل ليس واحداً بل هو مجموعة عقول مختلفة ومتناقضة ومتباعدة)، وهذا يوضح لنا ذلك التناقض والتعدد والتضاد في الأفكار الإسلامية، وبما إن مهمتنا في هذا الكتاب هو نقد العقل وليس نقد الفكر، يعني نقد لمُنتج الفكر وليس الفكر نفسه، ولهذا السبب أسمينا بحثنا هذا أو كتابنا هذا - (نقد العقل الإسلامي) .

والنقد في اللغة: يدل على إبراز شيء وبروزه قال أبن فارس (النون والقاف والدال) أصل صحيح، والنقد عند أبي الدرداء بمعنى كشف العيوب

وهو في الإصطلاح بمعنى ومفهوم قريب و يعني: إظهار عيوب الشيء ومحاسنه، أو قل: التمييز بين الحسن والقبيح أو بين الجيد والرديء، إذن مهمة البحث هو ليس فقط بالنظر إلى المنتج بل نقد المُنتج، يعني العقل، نقد المسلمات والمبادئ التي يتخذها العقل قواعداً في إنتاجه للأفكار، هذه المبادئ وهذه المسلمات، هي في الحقيقة ليست مبادئ ومسلمات لا يأتيها الباطل، بل هي في الأساس إذا نحينا كتاب الله جانباً وطبعاً هذه التنحية تتعلق بمصدر الكتاب لا بما يتضمنه الكتاب، و نحن لا نشك بأنه كتاب من الله العزيز القدير هذا من جهة المصدر، لكن ما يتضمنه هذا الكتاب من نصوص وآيات يحتاج إلى تأويل وإلى تفسير، ونعني بذلك البحث عن مآلات النصوص والآيات وليس الإغراق في المعاني المعجمية للفظ وإن كان ذلك ضرورياً، وهذا الشيء يحتاج إلى تحليل النصوص والآيات من وحي الواقع وليس من خلال الأراء المسبقة، بمعنى أدق: إننا نحتاج إلى قراءة جديدة للكتاب المجيد، ومن لوازم القراءة الجديدة رفع القداسة المُدعاة لأهل التراث، ومن لوازم ذلك تسمية الأشياء بأسمائها و تنحية مناهج البحث القديمة والتي تؤثر في فهم نصوص كتاب الله المجيد، تلك المناهج والأسماء التي هيمنة على الساحة الإسلامية وأثقلتها، وكان لذلك أثره ودوره في إلغاء - الإجتهاد - أو توقفه، وتم تحويل العقل إلى مجرد أداة للإعادة والتكرار، ونقصد من رفع حالة التقديس عن رجال الماضي إضفاء الواقعية والبشرية على منتجاتهم وأفكارهم، مما يعني رفع القول بالعصمة والعلم بالغيب من دون معرفة بهذه المصطلحات ودلالاتها، ومن مقتضيات ذلك محاربة الغلو في الدين وفي رجال الدين، والغلو (

في اللغة: (هو مجاوزة الحد أو الزيادة)، قال الطبرسي في مجمع البيان، يُقال غلا في الدين غلواً - تفسير سورة النساء النص رقم 171 - .

وقيل: هو من غلا غلاء فهو غال، وغلا في الأمر غلواً بمعنى جاوز الحد، قال أبن فارس في المقاييس: - الغين واللام والحرف المعتل - أصل صحيح يدل على إرتفاع ومجاوزة القدر .

قال أبن منظور في اللسان: غلا في الدين غلوا، أي تشدد وتصلب حتى جاوز الحد .

وقال الفيومي في المصباح المنير: وغلا في الدين غلواً من باب قعد تصلب وتشدد حتى جاوز الحد، وغالى في أمره مُغالاةً أي بالغ .

والغلو في الإصطلاح معناه كما:

قال الشيخ المفيد رحمه الله: الغلو هو التجاوز عن الحد والخروج عن القصد، وفي تفسيره لقوله تعالى: - ولا تغلوا في دينكم - قال: أي لا تتجاوزوا على الحد في المسيح، وهو تحذير من الخروج عن القصد، (فجعل ما أدعته النصارى في المسيح غلواً لتعديه الحد) - أوائل المقالات ص 238 - .

ويقول الشيخ المفيد يكون المرء مُغالياً فيما لو:

1 - إدعاء الإلوهية في النبي أو الإمام أو إدعاء النبوة في الإمام .

2 - وصف النبي أو الإمام ببعض الصفات الإلهية .

أ - كاضفاء صفة الخلق أو الرزق لهم، وهذا ماكانت تقوله المفوضة (وهم فرقة قالت: بان الله فوض أمر هذا الكون إلى النبي أو أهل بيت النبي) .

ب - أو إدعاء علمهم بالغيب مطلقاً .

ج - أو وصفهم للأئمة بصفات تخرجهم عن البشرية .

د - أو القول بان ذات النبي - ص - وذوات الائمة كانت موجودة قبل خلق آدم ..

ه - أو القول بان خلق آدم كان من أجل خلقهم) .

وهو خلل أو زيادة ومبالغة تحصل للإنسان بسبب ما يعتمد عليه عقله من أدوات في إنتاج أفكاره .

إن نقطة البداية هي في تحديد قواعد الإنتاج المعرفي لدى المسلمين، التي هي بالإضافة إلى الكتاب المجيد، هناك ما يسمى بالسُنة النبوية: (التي هي كل أثر جاء عن النبي من قول وفعل وتقرير)، وهذا الوصف الفضفاض للسُنة يجعل منها موازية في الدرجة والحجية والرتبة لكتاب الله المجيد في إنتاج المعرفة، وهذا عندنا مرفوض لأنه يُساوي بين الكتاب المجيد و السُنة، ذلك لأن السُنة في أحسن الأحوال هي كلام وأثر منسوب لرسول الله، وهذه النسبة يجب وضعها في إطارها الصحيح هذا إن إعتبرناها صحيحةً (أعني السُنة)، ولكنها في الواقع مجرد ظنون لا تتعدى في كونها تفسيراً لنصوص الكتاب، أو إذا عتبرناها إجابات لمحمد الرسول وليس لمحمد النبي عن أسئلة من الناس يومية، وذلك التفسير أو تلك الإجابات كانت ولا تزال محفوفةً بالكثير من المخاطر والأخطاء والوهم والعقبات .

ولذلك نقول إن مايُسمى بالسُنة النبوية ليست سوى: (ظنون صنعتها قوى سياسية سادت في تلك المراحل التاريخية القديمة)، أي إنها خدمت إتجاه ما وعززت من نفوذه، وليس في هذه السُنة التي نقرئها في كتب الأخبار، ولا خبر واحد يمكننا القول عنه و فيه وعلى نحو أكيد، (إنه لرسول الله باللفظ والمعنى) أو كأن نقول: (هكذا تحدث محمد بن عبدالله)، ولهذا نعتقد: - (إن ما أقدم عليه عمر بن الخطاب في شأن تدوين أخبار النبي والرسول ورفضه لذلك، كان ذلك إجراءً متقدماً وصحيحاً) -، بل يمكننا إعتباره الخطوة الجرئية والعلمية والسابقة التي يجب الإشادة بها، وكان رأيه ينصب في هذه الإتجاه، أعني عدم الخلط في أذهان الناس بين ما لله وما لمحمد ..

ولهذا يمكننا القول، (إن كل الذي بين أيدينا من، كلام منسبوب لرسول الله، هو صناعة لاحقة، لا يجوز بحال الإعتماد عليها في تشكيل وعينا التشريعي ولا العقدي) !، أي لايجوز إعتبار هذا المنسوب قاعدة نؤوسس عليها وننتج من خلالها أفكارنا، والمسألة لا تتعلق بالنبي ولا بالرسول لا ولكن القضية تتعلق بهذه الأخبار التي جُمعت لا حقاً، وأراد لها الأراخنة موازاتها بالكتاب المجيد، أي جعلها بثقل الكتاب من حيث القيمة ومن حيث الحجية، مع إن السُنة هي بالفرض تُنسب للنبي، و نحن من يصحح هذه النسبة ويصحح محتوياتها، أي إننا نحن الحاكمين عليها في مدى الصواب وفي مدى الخطأ، وهذه كما ترون إشكالية معرفية كبيرة يجب ان تعيق الإندفاع العاطفي لدى البعض في تصويب القول المُتبع الذي أسسه الشافعي وسار على خطاه الكثير ممن يدَّعون الأصولية .

ثم إن هناك إشكالية تمس الطبيعة التاريخية للسُنة، أعني في زمن التدوين وفي رجال التدوين وهذه الطبيعة تؤثر في وعينا التاريخي لماهيتها، وقد قلنا: - إن التأخير في كتابة وتدوين السُنة النبوية، أخل بعنصرين أساسيين:

الأول: في بنائها اللغوي أي المفردة من قائلها؟ ولماذا قالها؟ ولا يهمنا التعليق اللاحق لأنه صُنع في زمن آخر .

والثاني: هو المحتوى والمضمون وهذا يتعلق بطبيعة منتج هذه الأخبار، ولا ننسى رواج صناعة الأخبار مع نهاية الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية .

وكان لهذا الرواج دوافعا متعددة منها سياسي ومنها مادي وكثير منها خيالات ومحض إفتراء، وقد سخر رجال الحكم هذه الصناعة في تضخيم شخص الخليفة والحاكم ليجعوا منه ظلاً لله، فبرروا ظلم الحاكم وقسوته وعدم كفائته وجهله، ومن هذه الأخبار تولدت المقولة التاريخية للإسلام السياسي القائلة: - الخلفاء من قريش - أو الخلفاء من بعدي أثنى عشر - ثم وظفها العقل الوافد بحسب مقاساتها، ثم أضفى عليهم صفات من الجلال والجمال الباطلة ...

ولقد كان لما يُسمى بالسُنة النبوية دوراً مباشراً في صُنع الخلاف الدائر بين جماعة المسلمين اليوم، فمنها ومن خلالها تركبت أخبارا نُسبت للنبي أو للرسول لكي تُمجد هذا الطرف أو ذاك، والجميع يجتر مفهوم الحق من خلال ما يظن إنه المعني بذلك، حتى نشأ ذلك الخبر الموضوع كما يقول أبن حزم: - (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلاَّ واحدة) - تفسير الشوكاني ج2 ص 68، إذن هذه الأخبار سببت إنشقاقا تاريخيا وعقديا بين الجماعة المسلمة، فصيرت المسلمين طوائفا ومذاهب متناحرة، وكل منهم يدعي إنه الفرقة الناجية في تمثل لهذا الخبر الكذوب، ولو تفحصنا طبيعة الخبر اللفظية والدلالية فإننا لا نجد فيه غير الكيد والتخوين والتسفيه في خلاف واضح مع كتاب الله، الذي قال: - (إن أكرمكم عند الله أتقآكم) -، وقال إيضاً: - (لا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن أتقى) -، ساداً الطريق أمام هذه المزايدة الرخيصة التي شكلت وعي المسلمين عبر التاريخ، و من خلال هذه الأخبار المزيفة التي تُنسب عمداً لرسول الله، لكي تشوه في وعينا صورته الجميلة من جانب، كما وتؤهله من جانب أخر ليكون طرفاً في الصراع السياسي الذي أنتجناه والذي نعيش تدافعاته السلبية ..

لقد قلنا في غيرمناسبة: ليس لمحمد بن عبد الله لا بصفته الرسولية ولا بصفته النبوية التشريع والحكم على الأشياء، وقلنا: - إنه ليس سوى ناقل للوحي بأمانة، ومعلوم إن صفة الرسول لها دور الإشراف على تنفيذ القوانين، ولكن ليس بصيغة المُشرع بل بصيغة المُنفذ، وهذا ما عبر عنه الكتاب المجيد بقوله: - (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فأنتهوا) -، أي إن ماجاء به الرسول إليكم فهو من عند الله يجب إتباعه، وما نهى عنه الله بواسطة الرسول فأنتهوا، وجعل الله الرسول الوساطة المنفذه للأوامر والنواهي بإعتباره المتصل المباشر مع الناس ولهذا كلفه الله أن يقوم مقامه في هذا الشأن، ولهذا عالج الكتاب المجيد حالات الإختلال التي قد تنشأ بفعل ذلك، قال: - (وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى) -، وهو يعني ذلك الوحي النازل على محمد النبي، وبأن الذي يأتكم به فهو من عند الله، ولقد إلتزم هذا النص لكي يقيد الكلام الصادر عن النبي وعن الرسول محمد، فيجعل ماورد عنه بطريق الوحي، هو الذي (لا ينطق فيه عن الهوى) بل هو وحي يوحى، ومن هنا يجدر التنبه إلى إن محمد بن عبد الله خارج إطار الوحي يعني محمد الإنسان الذي لا ينطق عن الوحي، وإنما يكون كلامه صادراً عنه بإعتباره إنساناً .

ولا بد من الإعتراف هنا: إن صفة الرسول وصفة النبي هما صفتان إضافيتان زائدتان عن الأصل الذي هو محمد الإنسان، وهذه الصفات مقيدة بما يوحى إليه من عند الله، و يعني هذا إن: - (محمداً خارج الوحي ليس رسولاً ولا نبياً بل هو إنساناً طبيعيا) -، وفي الكتاب المجيد نجد التأكيد على هذا التمايز وهذا التفريق

ففي سورة الأحزاب يقول الله: - (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) - الأحزاب 40 .

وفي سورة الفرقان يقول: - (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ..) - الفرقان 7 .

وفي نص قريب يقول: - (... أفإن مات أو قتل إنقلبتم على أعقابكم ..) - آل عمران 144 .

وفي هذه النصوص الثلاثة التي ذكرناها، تبدو صفة النبي وصفة الرسول هي المضاف للأصل الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويموت أو يقتل، وهذه الصفات هي للإنسان وليس للنبوة ولا للرسالة، فهو يأكل لا بصفته كنبي ويموت لا بصفته كرسول، وهذا الذي نقوله هو فقط للتمييز والدرس والبحث، فحين ننظر إلى سُنة النبي يجب أن لا يتخطى نظرنا إلى ما أنزل على محمد من وحي في كتاب الله، ثم إن محمد النبي هو غيره محمد الرسول طبعاً هذه الغيرية في الصفة وفي الفعل، فمحمد الرسول هو شأن خاص يتعلق برسالة محمد وبالمؤمنيين بها، وهي بمثابة القانون الذي يسري بحسب الوضع، وبما إنها قوانين فهي لا تعني أولئك الذين لا يؤمنون برسالته، وبالتالي فهي غير ملزمة لهم إلاَّ بحدود تطبيق القانون داخل الدولة التي أكثرية الناس فيها من أتباع محمد والمؤمنين به، ولكن هذا الكلام لا ينطبق على محمد النبي فصفة النبوة صفة عامة يشترك فيها جميع الناس، ولكن ما سر هذا الإشتراك؟ نقول في الجواب: النبوة ليس فيها أمرا ولا نهيا، أعني هي ليست صفة قانون في المعاملات والسلوك، بل هي مجموعة قوانين ونظرة نحو الخلق و الكون، وفي الكلام عن هذه الصفة يقع الإشتراك إذ ليس من المعقول نكران قوانين الحياة وقوانين الكون ونظام الليل والنهار والموت والمنظومة الشمسية وهكذا، فهي إطار في مجال العقل المجرد صحيح إنها ليست ملزمة لكنها تخص الجميع، ولا أظن عاقلاً في الكون ينكر على النبوة دعوتها أو الإيمان بها في هذه الصيغة المجردة، والنبي ليس حاكماً ولا منفذاً للتشريع فهذه ليست من لوازمه، لأن النبوة ترتبط بالوعي العلمي للناس، وزيادة في الإيضاح تعتبر رسالة محمد شانية خاصة وأما نبوته فشأنية عامة ولا يمكن لمن لا يؤمن برسوليته أن لا يؤمن بنبوته، نعم إن هذا التفريق يرتبط بطبيعة المهمة والدور الذي أضطلع به محمداً في حياته، وهذا يعني إننا الآن بحاجة للتمييز بين هاتين الصفتين في شخص محمد، كي يسهل لنا فهم مهمته ككل،

ولسأل أن يقول: في قضية النبوة نجد النداء موجها للنبي وعلى هذا النحو: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ..) - الأنفا ل 65، ونفس الشيء ورد في مسالة الزواج والطلاق وهناك زهاء الأربعين نداء في صيغة (يا أيها النبي)،

فكيف يمكننا فصل النبوة عن الرسالة؟ والجواب: الفصل إقتضائي يتعلق بمفهوم الحاكمية ومفهوم تنفيذ القانون، وهذه من متعلقات الرسالة أو من مهام الرسول بإعتباره حاكماً زمنياً، ولا شأنية للنبي أو للنبوة في مجال تنفيذ الأحكام والقوانين .

فإن قلتم إذا كان ذلك كذلك: إذن فلماذا جاء النداء والتحريض والأمر بصيغة - يا أيها النبي -؟ .

قلنا: إن النداء في المسائل الحيوية يشير فيها النص على نحو المخاطب المباشر الذي هو النبي ولكن لا بصفته منفذا بل بصفته مبلغاً، أو حاكياً عن المُراد الذي يجب فعله من قبل الناس، فجملة حرض المؤمنين، أي أدفع بالمؤمنيين إلى القتال، أو حبب للمؤمنيين القتال وهذه الصيغة الإنشائية تماثل قوله (قل يا أيها الكافرون) يعني هي صيغة تحفيز لا صيغة تنفيذ وإجراء، و كذلك حينما يقول: - (يا أيها النبي قل لأزواجك ..) -، هي ذات الصيغة أي أدفع على نحو يجعل من الحياة مستقرة، والصيغة إنشائية كذلك وليس فيها إجراء وتنفيذ، لأن ذلك من مهام الرسول، حتى الصيغ االتي يأتي فيها النداء موجهاً للنبي يكون الفاعل في التنفيذ والإجراء هو الرسول وليس النبي، وفي النتيجة ليس هناك ثمة شيء أسمه - السُنة النبوية - بالمعنى الذي قدمناه، ولكن هناك (سُنة رسولية) وهذه محط أنظارنا وهي التي وقع الكلام عليها في التصحيح والتخطئة ..

في كلامنا عن المنتجات الفكرية يبرز - الإجماع - واحداً من هذه المُنتجات، وطبعاً الكلام ليس في فكرة الإجماع ولكن في حجيته، وبما إننا قد فصلنا الكلام فيما يُسمى بالسنة النبوية فإننا كنا قاصدين، نقض حجيتها المُدعاة في باب التشريع أو العقيدة، وإذا كان هذا موقفنا من - السُنة النبوية - فمن باب أولى أن يكون موقفنا مُشابها له في مجال - الإجماع - وحجيته المزعومة، ولكن ما هو الإجماع وكيف يمكننا تعريفه؟، الإجماع: في اللغة يعني العزم، وفي الإصطلاح يعني إتفاق المجتهدين من هذه الأمة - كما يرى الحاجبي، وهو عند الإمامية - الكاشف عن رأي المعصوم - أو الكاشف عن شهرة الحكم الشرعي في العصر الأول، والإجماع عند الملتزمين به من المفاهيم العرفيه، وأساسه عندهم خبر ينسبونه إلى الرسول، قال فيه: - لاتجتمع أمتي على خطأ - !! وهذا القول كما ترى قولاً مطلقاً، والضمير فيه يعود فيه على إعتبار الإيمان والثقة، وليس على حجية الإجماع، إذ إن هذه المسألة اعني مسألة - لا تجتمع أمتي على خطأ - من المسائل الخلافية التي لا يمكن الإعتماد عليها في توكيد عدم الإجتماع على الخطأ من جميع الأمة، فهذه المسألة تجعلنا أمام أمة وكأنها معصومة، وهذا ما لا يجوز عقلاً ولا شرعاً .

ولكن ماذا لو أعتبرنا حجية الإجماع تنطلق من مقبولة عمر بن حنظلة المروية عن الإمام الصادق قوله: - خذ بما أشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر –؟، نقول: إن الكلام في معنى - خذ - إنما يتموضع في هذه المنطقة، أي خذ على أساس ما أشتهر بين أصحابك، ولنلاحظ بدقة هنا: وكأن الملاك هو الشهرة وليس الملاك هي القواعد التي تحكم الخبر وتدل على صحته، فالشهرة من حيث هي ليست ملاكاً مستقلاً يمكن الإعتماد عليه والعمل بموجبه، ومقبولة عمر بن حنظلة لا تفيد سوى الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، ولكي لا ندخل في متآهة البحث الأصولي المجرد عن - حجية الإجماع -، يلزمنا التركيز على - الإجماع المنقول - والذي يحاجج به البعض، فهذه المحاججة ليست على ما ينبغي بدليل: إن ذلك الإجماع المنقول يفتقد في مضمونه للدقة والعلمية، من جهة تباعد المسافات وإنقطاع الدليل، أقول: لم يكن في تلك الأعصار السعة والإنتشار للكُتب الخبرية كما هو حاصل اليوم، فكانت كتب الأخبار لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، وهذا ما يجعل من إجتماع الفقهاء على خبر ما في كتاب ما يكون في بلد ما، من الصعب الوصول إليه أو الإلتقاء بهؤلاء المجمعين عليه أمراً غير معقول و يدعوا للحيرة .

فإن قيل: يمكن تحصيل الإجماع المنقول بالملازمة العقلية .

قلنا: هذا القول هو مجرد وهم لا غير .

إذ كيف يمكن تحصيل إجماع من المتقدمين على مسالة ما؟ ويكون نفس ذلك الإجماع وعلى نفس المسألة لدى المتأخرين أو المتوسطين؟ ثم يبنى على ذلك الإجماع ويعتبر حجة، يتضح لنا مع كل ما مر من هفوات وضعف التخريجات التي نجد فيها التكلف الزائد، كقولهم هناك حدس بحصول الإجماع ومعلوم إن دليل الحدس هو في ظن دخول المعصوم في هذا الإجماع وإمضاءه عليه، وهذا النوع من الإستدلال ساقط من الإعتبار لأن التعليل بدخول المعصوم تعليل ليس في محله، والقول: - إن الإتفاق من المجتهدين على أمر ما هو إجماع - هذا القول: مجرد تخيل ووهم ولا حقيقة عليه شرعية أو علمية .

ومن أدعى: إن الإجماع حجة بدليل - قاعدة اللطف - .

قلنا: إن هذه الدعوى باطلة، ذلك لأن قاعدة اللطف ليست تامة لا في باب النبوة ولا في باب الإمامة .

من هنا فالقول بأن للإجماع حجية تساوي في قدرتها على الإستنباط وعلى الإلزام كما لكتاب الله المجيد، هذا القول ليس على ما ينبغي، بدليل: إن الإجماع المُدعى له مهمة وله ركيزة يقوم عليها، أو مستند يعتمد عليه وهذا المستند هو الأخبار كما قلنا، وما من شك إن فهم الأخبار من جماعة ما من المجتهدين، أبداً لا يُلغي فهم تلك الأخبار من مجتهدين أخرين، و يكون ذلك الفهم مُغايراً لفهم المتقدمين، وبالتالي فليس هناك من دليل مقنع يلزم التابعين بإتباع المتقدمين، وقد رفض الكتاب المجيد هذا السلوك في قوله تعالى: - (بل نتبع ما ألفينا عليه أبائنا ..) - البقرة 170، و قال أيضاً: - (بل نتبع ما وجدنا عليه أباءنا ..) - لقمان 21، إذن فالكتاب المجيد أسس لقاعدة تقول: - يجب فتح المجال أمام العقل لكي يتدبر ويتعقل ومن دون إلزام بإتباع من سبق -، وببساطة أكثر: يشبه الإجماع في صيغته النهائية يشبه ذلك الإتباع والإقتداء من غير دليل ولا هدى، ولو تأملنا جيداً تلك المقولة السائدة في الوسط الإسلامي - شرع ما قبلنا - لوجدناها ممتصة من ذلك المعنى للإجماع، بقي أن نقول: - ليس الخلاف في أصل الإتفاق إنما الخلاف في حجية هذا الإتفاق -، وعلى أي أساس يكون وما هو مستنده؟، فإذا كان المستند والأساس معلوم ففي هذه الحالة لا يكون إتفاق المتقدمين حجة علينا، أعني طالما لنا الحق نحن إيضاً في فهم هذا المستند وإستنباط الحكم منه، ومادام الإستنباط مسموحا فالواجب أن تكون حجية الإجماع ممنوعة، ومن هنا يسقط ذلك الزعم القائل: - إن إجماع طائفة من الناس على فهم معنى معين من تلك الأخبار كفيل بجعل هذا الفهم مُلزم للآخرين -، لأن ذلك الإلزام إلغاء لدور العقل اللاحق في تفحص تلك الأخبار وإستنباط الأحكام منها، أي إن من إعتبر الإجماع حجة ألغى عن قصد الإجتهاد اللاحق، وأفترض منطق تقليد الجماعة التي إجتمعت على رأي معين في مسألة ما معلومة المستند ..

وأما الكلام في - حجية العقل - فهو عندنا ليس بإعتباره مقابلاً في الحجية للكتاب المجيد، ولكن بإعتبار ما يصدر عنه ناتجاً عن الكتاب المجيد، والكلام هنا في مجال الشريعة والعقيدة، و المسألة في عنوانها العام إشكالية، من حيث إعتبار العقل هو الحاكم على النص، أو من حيث إعتبار العقل محللاً للنص، وبما إن المسالة إشكالية فالواجب إستحضار الشروط الموضوعية التي تحدد ما إذا كان حاكماً أم محللاً، وقيد الشرط الموضوعي قيدا إحترازيا نريد به الطبيعة التي تتغير عملياً و دورياً، والشرط الموضوعي مرتبط بالواقع و بطبيعة الأرضية المعرفية لذلك الواقع، وفي هذه الحالة فقط يمكننا قبول نظرية صلاحية الكتاب لكل زمان ولكل مكان ضمن هذا اللحاظ وهذا المعنى .

وسنبسط الفكرة أكثر ونقول: يكون الكتاب صالحاً للإستخدام في كل ظرف، وذلك في حال أعتبرنا إن محمداً قد مات تواً أو الآن وترك بين أيدينا هذا الكتاب، فكيف يجب أن نقرئه؟ وكيف يجب أن نتعامل معه؟، وهذه الصيغة الإفتراضية هي صيغة واقعية تتعلق بمادتي القراءة من قرب والتعامل بعد الفهم وبعد القراءة، في هذه الصيغة نحن دائماً في مواجهة دائمة و مباشرة مع الكتاب، ومن لوازم هذه المواجهة: (رفع حالة التقديس لأهل التراث وأهل التاريخ، كما يلزم رفع كل الزوائد التاريخية الكلامية والسياسية، التي أثقلت قدرتنا في فهم الكتاب والتعاطي مع موضوعاته)، ونحن نعلم كم كانت تلك الزوائد فاعلة في تشكيل وعي المجتمع الخلافي أو المتناقض أحياناً، إذن فلكي نعطي للعقل دوراً فاعلاً ونعطي لأحكامه حجية معتبرة لا بد من أن تكون السيادة للعلم، وحين نقول العلم: فهذا يعني وجوباً البعد عن الأوهام والأفكار المزيفة والأحقيات المزعومة، التي دُست بكتب التراث في الفقة والتاريخ والأخبار والعقايد، لتُخرب هذه العلاقة الطبيعية بين الإنسان والكتاب، وحين نستخدم لفظ - تخرب - نستخدمه على سبيل الوصف متساهلين جداً مع أحداثيات وأثر ذلك الدس، و لكن لو تأملنا ما نتج عن ذلك الدس فسنجد إن مصطلح - قصد - أدل وأوضح، يعني هناك كيدية معينة القصد منها تخريب العقل وإلغاء دوره في معادلة البحث والإستنباط، وهنا جوهر المشكلة حالما نعتقد أو نتصور إن حجية النقل هي أولى من حجية العقل، مع إن المشكلة التي أسست لهذه الفوضى هي تلك الروايات التي نشك في صحتها ودرجة وثاقتها ودلالتها وأسانيدها، وإذا كان التمسك بحجية النقل هو الأصل فهذا يعني إننا إزاء تصورات موهومة وحلول موهومة لأننا عطلنا حجية العقل، التي دُعينا للتمسك بها عبر ذلك الخطاب التلقائي الذي يقول - ما خلقت خلقاً أحب إلي من العقل - والتعليل المتصل يقول في حسن الإتباع ووعي الطاعة، وهذه مسلمات مطلوبة في صحت العبادة، ويعني ذلك إحتياج الصغريات بنفس درجة ورتبة إحتياج الكبريات للعقل .

ونعود لنقول إن مفهومنا عن - نقد العقل الإسلامي - يعني نقد الأداة المنتجة للفكر في الإسلام، بمعنى نقد عناصر إنتاج الفكر في الإسلام، والنقد كما في أصله اللغوي هو تمييز بين الصواب والخطأ أو بين الحق والباطل، ولكي يكون التمييز دقيقاً لا بد من التعرف على مولدات الفكر في الإسلام، وحتى تكون العملية - النقدية - نافعة ومجدية لا بد من تحرير مصادر إنتاج المعرفة من هيمنة التقديس المزعوم، وفي هذه المسألة بالذات ليس هناك ثمة أنصاف حلول إنما هو حل واحد، والقصد منه ليس تسفيه وتخطئة التراث والتاريخ والأخبار والنصوص، بل هو رفع لمستوى الوعي بحيث يتجرد من الأحكام المسبقة، وفي هذا المجال كم سمعنا من دعوات مخلصة لإعادة كتابة التاريخ، مع إنني لست مع من يدعوا إلى إعادة كتابة التاريخ بل إلى نقد التاريخ وتصحيح محتوياته، وإظهار الحشو والتغليف والتزييف والكلام الذي لا أساس له منه، وكما إن موضوعة - نقد التاريخ - لا تخرج أبداً من العملية الكلية لنقد العقل، إذ ليس من الجائز ولا من المتصور أن يكون نقدنا للتاريخ مفيداً ونافعاً، إن لم نكن ننقد العقل الذي أسس ذلك التاريخ، ومهما علا ذلك العقل ومهما كان له شأن في موروثاتنا، ولابد من الإعتراف بأن تلك عملية شاقة وخطيرة وتستدعي المزيد من الحرص والمراعات لضوابط الحياد وعدم الوقوع في أسر الأحكام القبلية أو الأطر الضيقة ذات الاتجاهات المعروفة ..

وأقول: - إن الإسلام السائد اليوم لا يمثل القيم والمبادئ الأخلاقية التي أنطلق الإسلام من أجل سيادتها في الحياة -، فلقد حورت الكثير من قوانينه وتشريعاته وشوهت عقيدته، وقولنا هذا ليس مجرد كلام عن شيء مفترض بل هو الحقيقة التي يلمسها جميع الناس، وكلامنا نعني به هذا السلوك السياسي والإجتماعي الذي يتحدث بأسم الإسلام، كتلك الجرائم التي ترتكب بإسم الإسلام اليوم، حدثت هذه الجرائم حينما غلبت جماعة المسلمين التراثيات على العقل والخرافات على المنطق، وهذه الممارسات على حدود ما أنزل الله، وحين يختفي دور العقل ويخبو تنتشر في أوساط الناس الخرافة والوهم، ولا نبالغ إذا ما قلنا: إن للعامل السياسي الدور الحاسم في هذا التغييب المقصود، و قد شجع هذا العامل ونمى كل العناصر السيئة التي تحاول إغراق الناس في الجهل والخرافة وتعظم لهم أشياء ما كانت في الكتاب ولم تكن، إنما هي مجرد خيالات ووهم وتضخيم عاطفي، وهو بالتأكيد شيء غريب عن أدبيات ونصوص الكتاب المجيد، إن شيئاً من الواقعية لا يتحقق إذا ما بقيت موجة التزييف والطعن بالحقيقة، فالتراكيب التي تنتجهما هاتان الظاهرتان تجعلان من الحركة الجمعية أسيرة للسلطات المرجعية بكل رتابتها ووضعها النفسي المتأزم والذي يرى الأشياء بمنظور سكوني منقبض يعيش الزوايا الحرجة ويتعامل بأنصاف حلول

وإذا كنا نؤمن بأن الإسلام هو حركة من أجل الحياة، فلا بد أن لا يعرف الانغلاق ويجب أن يستوعب التطور العام، وأن لا يجد حرجاً في أن يتعامل مع الأشياء بروح منفتحة، الروح التي تساهم في دعم مشروع العدل والحق والحرية، مشروع التقدم والنهوض الشعبي المجتمعي الذي من أهدافه حماية الإنسان والدفاع عن حقوقه الطبيعية والتاريخية وحرياته العامة .

والفرق بين الإسلام والإسلاموية إنه لا يؤمن بالطائفية ولا المذهبية الضيقة ولا الاثنية العنصرية، بل يؤمن بالإنسان الواحد المجرد عن الأسماء والصفات والحيثيات والصبغيات، والفرق بين الإسلام والإسلاموية إنه يؤمن بسيادة القانون الذي يجعل منه واحة أمان لكل الناس، والفرق بين الإسلام والإسلاموية إنه جاء ليكون في صف الناس ينهض بهم يقدمهم ولا يتقدم عليهم، ويهدف من خلال ذلك تقويم سير الإنسان ليكون في خدمة الجماعة البشرية .

وللتأكيد على هذه المواصفات يلزمنا مواصلة النقد وإعادة البناء لكل لبنات التركيب فيه، وإعادة النظر في مباحث الشريعة والفقه وإزالة الهيمنة الإسلاموية عليه، تلك الهيمنة التي تغلف عمله في مجال التشريع وفي مجال العقيدة، كما نجد من اللازم اعتبار الفقهاء مفسرين بدرجة معينة للنصوص ليس أكثر، دون إغراءات أو إطناب سواء في الكنى أو الألقاب، وحتى تتم عملية التفريق بين الإسلام والإسلاموية نحتاج لتجديد النظر في مصادر إنتاج العقيدة وأصولها، فهناك ثمة حاجة تدعو لذلك سيما ونحن نلاحظ الخَبط والعشوائية وعدم التركيز والخوف من الدخول في هذا المجال، وعلى سبيل المثال في هذا المجال: تبدو قضية الإمامة بحاجة إلى تأسيس من جديد ينسجم وطبيعة النص .

فالقضية معرفياً تثير إشكاليات متعددة ومتقاطعة تاريخياً وفكرياً، وهناك موضوعات جدُ حاسمة تحتاج إلى مراجعة كمسألة (الرجعة والبداء والمهدي)، ولأن هذه المسالة من مخلفات ما يُسمى بالسُنة، فهناك حاجة أذن للتحقيق والتنقيب بكل ما ترشح لنا من هذه السُنة المزعومة، ولكي يكون الأمر هيناً نقول بوجوب إعادة فهم السُنة ومستوى أخبارها وما ترشح منها، كما يجب إعادة النظر والموقف من أراخنة الدين الذين غيروا وبدلوا قواعد التعاطي مع كتاب الله، فجعلوه رهناً لما يقولون ولذلك نشأ هذا الزيف والتطويب والمبالغة في أذهان الناس، وبما إننا في صلب هذا العمل فالواجب أن يكون النقد حراً لكي يصحح قواعد الإعتقاد، وإن تمكنا من هذا فإننا حتماً سننتج وعياً تاريخياً كاشفاً للحقيقة ونابذاً للتقديس والتطرف الذي الزمتنا به مناهج رجال الدين وسلطاتهم، تلك السلطات التي سعت جاهدة لكي تتربع على الكرسي مستغلة مشاعر الناس وعفويتهم وإيمانهم الساذج، معممين مع الخرافة ذلك الجدل الفئوي الضيق المهزوز، الذي من مهامه إشغال الناس فيما لا شأن لهم به، وليس خافياً على أحد إن رجال الدين يقيمون سلطتهم ويسيروها على جدل الأفكار المنقبضة والصراع المذهبي الهزيل، تلك التي تحرف التاريخ وتطعن بالخطاب والنص القائم على موافقة الصحيح والصريح، وتعتمد في أحكامها على الصفة التجزئية التي تختزل الذهن والفكر معاً، تختزل الإبداع خدمة للخرافة وقواها .

التجديد وضرورات الحاضر والمستقبل

مفهوم التجديد: - (في اللغة العربية من أصل الفعل "تجدد" أي صار جديدًا، والجديد ما لا عهد لك به، و سُمِّي كل شيء لم تأت عليه الأيام جديدًا) -، وفي الكتاب المجيد وضفت كلمة جديدا لا تجديدا في النصوص كما في قوله: (أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون خلقاً جديدا) - الإسراء 49، ولكن اللفظة وردت فيما يُنسب إلى الرسول قوله: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد دينها)، والمشار إليه في هذا النص هو تجديد الفكر بعدما يكون قد أستفذ وسائل حجيته وإقناعه، ويُفهم منه تطوير مادة الإجتهاد كما قال بها السيوطي الذي ربط بين هذا الخبر ومعنى الإجتهاد، وتطوير مادة الإجتهاد معناه تغيير في مفاهيم الإستنباط بحسب الواقع وهذا يستلزم جدلاً نبذ التقليد وتبني الأفكار الجديدة التي يعمل بها العقل في وقته، وهذا لا يعني أبداً طرح الماضي كل الماضي بروحه وعقلانيته بل إستلهام تلك الروح وتلك العقلانية، ولكن في صيغة المجتهد وليس في صيغة المُقلد، ولو توصلنا إلى تلك الصيغة فإننا حتماً سننمي فكرة التغيير والتجديد، ليس في وسائل الإنتاج بل المادة المُنتجة، ولا نشك إن في تاريخنا جيل من دعاة التجديد كان منهم الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والشيخ صالحي نجف آبادي، كما كانت هناك تيارات احدثت موجة من الجدل يمكننا حسابها على فئة المجددين كالمعتزلة و القرامطة والبهائية وغيرهم، وهؤلاء عملوا في طريق التجديد مهتدين بالعقل وما صح من التراث، هؤلاء قرئوا التراث قراءة من وحي الواقع، وطبقوا ذلك على مفردات تاريخية بعينها فكانت النتائج مبهرة، وإني أستمد هذه الروح الخلاقة منهم وأحاول تطبيقها كمذهب فكري على عامة النصوص التراثية وحتى على نصوص الكتاب المجيد، فكانت النتيجة إيجابية توضحت في بحثنا عن - وقعة كربلاء -، وجعلتنا أكثر حيادية وإبتعاداً عن التطرف والغلو والتفريط، وإلزامتنا بالمنهج البحثي العلمي ولكن ذلك لم يشفع لنا عند ذوي النيات السيئة، مما أثاروا موجات من الجدل والردود من حولنا تبدت في افعال تحكم في القسط الأوفر منها العواطف والأوهام والغيظ، أوهام الذهنية النرجسية و أوهام السلفية الضبابية المتخلفة، المعادية لحركة الإصلاح والتجديد، حدث هذا من خلال الاستبدال والتغيير في بعض كتاباتي أو محاولة نسبتها إلى الغير، وحدث هذا حينما أتهمنا ــ بالسنوية ــ يوماً ما وذلك بعدما أصدرنا فتوانا المعروفة بجواز التعبد بمذهب أهل السنة، وحدث هذا في قولهم: إننا نحاول تخريب العقيدة وإفساد عقول الشباب وتشكيكهم في عقيدتهم .

ولكن في مقابل هذا الزيف ازدادت قناعة الجيل الجديد والمثقفين بالطرح الذي نتبناه على الصعيد التاريخي والفقهي والعقدي، وقد استجاب لذلك جمهور من الناس وابدوا شعوراً ينم عن قناعة وتصميم من أجل متابعة هذا الطرح، ومن جانب تصدى البعض من المخلصين لتعرية و إدانة ذلك السلوك الذي أتبعه المخالفين في كيديتهم وحقدهم، ومع إيمان أولئك الشباب الطامحين نحو التجديد والتغيير أزددت يقيناً وإيماناً بأننا إنشاء الله إلى صواب، ومن جانب أخر أزدادت قناعتي بأن مطالب الشباب في تغيير مباني العقيدة وإعادة النظر في مباني الشريعة حقيقية و ليست وهمية، أو مجرد هزات وعواطف إنما هي قناعات وإيمان وتوجه لمتابعة طريق التحرر .

إن أحداً لا يستطيع التنبؤ بمستقبل الدين إذا ظل الحال كما هو، وإذا ارتبطنا بالماضي ارتباط الظل بذي الظل، وإن الكلام الذي ندعوا به لفتح باب الاجتهاد في العقيدة والشريعة ليس ترفاً أو مماحكةً، بل يدخل في صلب عملية التجديد ولهذا كانت دعوتنا لإعادة تركيب وتبويب أدلة الاستنباط من جديد، أعني لا يجب الخلط فيها أو إعتمادها كما أتت من الماضي، بل يلزم التدقيق فيها كلاً على حدة وبواقعية ونظرة موضوعية لما هو ضروري ومنطقي ومعقول فيها، وهذا إن فعلناه فإننا سنكون قد بدأنا الخطوة الأولى في مجال التحرير الذهني والعقلي، وسنخرج من هيمنة العقل المثالي، وسنخرج أيضاً من ظلم الطبقية . والإستبداد وظلم التجهيل المتعمد

وفي هذا المجال نقول: - إن التمسك بالقراءة الماضوية لأدوات الإستنباط سيضر في فهمنا للواقع وكيف يجب أن نعيش فيه؟ -، فالقراءة الماضوية للدين وللتراث هي قراءة من وحي زمن الماضي، وهذا الزمن بمنطق وحساب الكتاب المجيد قد ولى - تلك أمة قد خلت -، ويكون إعتماد هذا الماضي في محاكمة الحاضر والتحكم فيه تجاسر وطوباوية وتخيل غير محمود، ذلك لأن للماضي أدوات فعله التي لا تصح للإستخدام في الحاضر، مهما حاولنا تطويع ذلك الماضي أو محاولة إدخاله كجزء من منظومة حياتنا الحاضرة، كما يجب التنويه لتلك النقلة التي حصلت في مجال العلم وفي الحاضر وقد غابت تماماً عن الماضي، هذه النقلة هي صناعة عقل الحاضر المختلف عن عقل الماضي، ولا يصح أبداً جعل العقل الماضي حاكماً كما لا يصح السماح له بذلك، فالقضية لا تدخل في الإيثار لأنها ليست قضية أخلاقية إنما هي قضية علم، وواقع يتحول ويتحرك بسرعة و في المجالات كافة، وفي هذا يجب أن نعترف بإن مشروعنا النقدي ينطلق ليواكب هذا التحول وهذا التحرك السريع، لأننا نريد تحديث وتجديد عقل الفرد وعقل المجتمع عقل الإنسان الذي هو غاية الحياة ومنطلق الحياة، وقد بينا ذلك في كتبنا التي نشرناها في مجال التاريخ والطبيعة والإنسان والدين، معتبرين العقل هو الدليل الدال على مشروعنا في التجديد والإصلاح .

*

وما دمنا نتكلم عن تجديد الخطاب والعقل معاً، فلابد أن نشير إلى تلك الجهود التي تبذل من مفكرين لقراءة الدين والتاريخ قراءة جديدة وقريبة إلى عقل الواقع، بحيث يتم من خلالها التخفيف من غلواء الماضي وهيمنته عبر سدنته التراثيين، وفي هذا المجال أدعو ومن منطلق الحرص لتظافر الجهود ونبذ الأشكال الصامتة والحالات السَكونية، والمساهمة في دفع عجلة تطوير المجتمع حتى يحقق ذاته موضوعياً وينتصر على أخطاءه جدلياً، وتلك غاية مشروعنا فيما نُسميه تجديدا أو إجتهادا أو إنتاجا معرفيا جديدا، إنها دعوى نأمل أن يُلتزم بها بالقدر الذي يجعل منها قاعدة تؤوسس لبناء غدا جديد ...

قرائتي هذه

هي قراءة في العقل الإسلامي في الأدوات والوسائل والمادة المنتجة للفكر، وفي هذا الطريق نحن نبحث عن الحقيقة التي هي ضآلتنا، ولا يهم أن كنا واضحين وصريحين في نقدنا للموضوعات التي أنتخبناها، وللعقل محل التجربة والمثال فكان نقداً للعقل الإسلامي (في حالة العقل الشيعي مثالاً)، أعني كتب الأخبار الشيعية ورجال الأخبار الشيعية ومنتجات العقل الشيعي، لإيماننا (بان الشيعة هم الإسلام في اللفظ والمعنى وفي التعبير عن التابعية للإسلام، إن نقد العقل الشيعي أو الإسلامي مهمته التمييز بين الحق والباطل في متبنياته وقواعده، وهدفنا كما هو معلوم إخراجه من دهاليز الانغلاق والأحكام القبلية، ومما يسهل من المهمة أن العقل الإسلامي يعتمد بدرجة كبيرة في إنتاجه للفكر على الأخبار وليس على الكتاب المجيد، لذلك كان لزاماً معرفة نوعية ودرجة ووثاقة هذه الأخبار، التي هي عنده أهم من الكتاب ومن نصوصه، وهذه ليست مبالغة بل هي الحقيقة أو الترجمة الحرفية لما هو مدون بالفعل في كتب التراث، إن تقييم الأخبار من جديد على ضوء كتاب الله وتطبيق العمل عليها وفقاً وبموجب قانون الموافقة والمخالفة لكتاب الله، كما يلزم رصد ومعرفة حال رواة الأخبار وطبقاتهم ووثاقتِهم وعلاقتهم بالحدث وصياغة الخبر شيء على غاية من الأهمية .

ولو أغفلنا ذلك فلا يكون - لنقد العقل الإسلامي – معناً يذكر، ولهذا وجدنا من الضرورة بمكان متابعة التمييز والفحص الدقيق لمصادر ومنابع هذا العقل، ونقدها بجرئة وبدليل منطقي مقبول .

ومن أجل التذكير بما تقدم نقول: لقد حاولنا في قرائتنا هذه التعريف بسُنة الرسول، وكذا التعريف بالكيفية التي تشكل فيها ما يسمى بعلم - أصول الفقه -، وقد نبهنا على معنى الاجتهاد المباح ومعنى الاجتهاد الممنوع من خلال التمثيل بفكرة التمتع بالرضيعة، كما ناقشنا فكرة البداء والرجعة والمهدي والمرجعية والتقليد، وبحثنا صحة أو عدم صحة أحاديث في أصول الكافي، وإنني لعلى يقين بأن هذه القراءة ستجد لها من الأرضية ما يجعلها مركز إلانطلاق نحو آفاق كشف المجهول والتصدي له وعلى المستويات كافة .

ولما كنا ننزعج من نسبة أشياء لأهل البيت وهي ليست لهم، فكان من الواجب تطهير ساحتهم من هذه الأشياء ومن نسبتها إليهم، و الإعلان عن عدم شرعيتها وصحتها، إن البقاء والإبقاء على الزيف المخادع ونسبته إليهم تحريف مرفوض للحقيقة، لهذا كان النقد مشروعاً إنسانياً أولاً وإسلامياً ثانياً، وهو في مجالي العقيدة والشريعة يُعد الحاجة الأهم والأغلى لأن من خلالها تتشكل القناعة ويتم البناء وتصحح المسيرة .

وأقول: إن هذا المؤلف هو واحد من مجموعة حلقات نأمل أن يساعدنا الرب على إتمامها وإنجازها، وهو بعد محاولة نستهدف من خلالها إزالة هذا التراكم الكمي للعقيدة والشريعة، وأنا واثق أنه سيأخذ مكانه الطبيعي المأمول في المكتبة العربية الإسلامية، لكي يساهم في حملة التوعية والتثقيف ضد مخاطر الجهل والتعليمية الملفقة ونظام التربية السكوني، وسيجعل من العقل الإسلامي في ساحة المواجهة والتساؤل والنقد، لأن ذلك باعتقادنا يكون المظهر الأكمل للقول المأثور بإثارَة دفائن العقول وتفعيلها وتحريكها .

وارجوا من القارئ العزيز أن يطالع هذا الكتاب بهدوء، ويتفاعل معه ويحكم عليه أو له ولكن ضمن معايير القراءة الموضوعية لقواعد الجرح والتعديل وبناءً وحصراً على ما جاء فيه، دون انفعال أو مقاربات ظنية كما يحلو للبعض القيام به، الكتاب ليس ترفاً أدبياً أو قصصاً رومانسياً بل هو في الصميم من مشاكلنا فلنسًتفق من رقدتنا فقد آن الآوان ...

(وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)

 

الشيخ إياد الركابي

 

 

في المثقف اليوم