دراسات وبحوث

التربية الخلاقة للطفولة استراتيجية حضارية للوجود

الطفولة مبتدأ الانطلاق

(عندما أتحدث مع طفل يثير في نفسي شعورين: الحنان لما هو عليه، والاحترام لما سوف يكونه"... لويس باستور

مقدمة

تروي القصة أن الأب كان بصدد قراءة صحيفته المفضلة في الصباح، وما أن بدأ بتصفح الجريدة حتى بدأ ابنه الصغير يدور حوله بشقاوته وشغبه وتساؤلاته التي ضايقت الأب ومنعته من متابعة القراءة والاستمتاع بصحيفته. وحين تعب الأب من شغب الصغير ومضايقاته خطر له أن يلهيه عنه بعض الوقت كي يتسنى له متابعة الاستمتاع بصحيفته فأخذ صفحة من الجريدة تنطوي على خريطة العالم ثم مزقها قطعا صغيرة وأعطاها للصبي طالبا منه إعادة تجميع الصفحة على صورة الخريطة، وذلك كي يشغل الطفل، ثم عاد لقراءة صحيفته بهدوء وصفاء، وقد أخذه الظن بأن الطفل سيبقى مشغولا بقية اليوم بترتيب الصفحة وجمعها، ولكن المفاجأة أن الطفل قد عاد إليه بعد دقائق معدودة وقد أنجز المهمة، إذ قام بترتيب الخريطة على نحو صريح صحيح... ! فسأله الأب مذهولا: هل كانت أمك تعلمك الجغرافيا يا بني .؟! رد الطفل قائلا: لا يا والدي. فقال له إذن كيف استطعت أن تعيد جمع الخريطة بهذه السرعة، عندها أجاب الابن: كانت هناك صورة لإنسان على الوجه الآخر من الصفحة، وعندما أعدت بناء الإنسان، أعدت بناء العالم ... كانت عبارة عفوية، ولكنها كانت جميلة وذات معنى عميق: "عندما أعدت بناء الإنسان، أعدت بناء العالم". وهذا هو بيت القصيد في مقالتنا هذه التي تبحث في قضية بناء الإنسان والحضارة عبر البناء الأصيل للطفل والطفولة منبع العطاء ومنهل الرجاء.

لقد أدركت الأمم العظيمة، وأدرك فلاسفتها الأفذاذ، أن أسرار القوة الحضارية للأمم تتجسد في قدرة كل منها على العناية بصغارها وتفجير طاقاتهم وصقل مواهبهم. فالرسالة الحضارية اليوم للأمم والشعوب تتعيّن بتوفير الشروط الموضوعية لتحقيق نماء الطفولة وإطلاق مواهبها، لأن طاقات الأمم الإبداعية كامنة في أطفالها بوصفهم ينبوع كل إبداع وعطاء وجمال.

إن بناء الإنسان هو الفعل المبدع الخلاق الذي يفوق بعظمته كل إبداع وكل ابتكار إنساني ممكن. ومن هذا المنطلق يترتب على عملية البناء هذه أن تنطلق من المراحل الأولى المبكرة من طفولة الإنسان. فالطفولة بدعة الله في الإنسان وآية من آيات الله في الطبيعة، إنها كون خلاّق يضاهي القوى الكونية العليا في مدى عظمته وروعته. وهي في النهاية الصورة المثلى التي يتجلى فيها ثالوث القيم: قيم الحق والخير والجمال.

و"الإنسان أثمن وأغلى وأعظم ثروة تملكها الأمم"، تلك هي الحقيقة العلمية التي بدأت تجلجل بقوة في مختلف أركان الكون منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين حتى اليوم، وهي الحقيقة التي تنادي في عقول المفكرين وتسطو في أعماق الوعي العلمي عند الباحثين والمبشرين بعالم أفضل. ولا يرتبط هذا القول بشعارات ذات طابع أخلاقي، بل يجسد منظومة من الحقائق العلمية الملموسة الاقتصادية والاجتماعية؛ لقد أصبح الاستثمار في تربية الإنسان هاجس الأمم المتقدمة، وغدا هدفا يتصدر استراتيجياتها التنموية وخططها النهضوية، وينطلق هذا الهاجس من حقيقة علمية قوامها أن توظيف رؤوس الأموال في التنمية البشرية لا يضاهيه في مردوده وعائداته الاقتصادية والاجتماعية أي استثمار آخر في أي حقل من حقول الإبداع والإنتاج الإنسانيين.

لقد ولّدت الثورة المعلوماتية الهائلة إيمانا راسخا بأن تربية الإنسان وتنميته هي منطلق كل نهضة حضارية وكل تطور في مجال المعرفة الإنسانية. وبدأت هذه الحقيقة تضرب جذورها في أعماق الوعي الإنساني منطلقة من أن الإصلاح الاجتماعي والنهوض بالمجتمع حضاريا يجب أن يبدأ بثورة إبيستيمولوجية في ميدان التربية والتعليم، لأن الثورة التربوية في مجال بناء الإنسان وإعداده تشكل منطلق بناء المجتمع وتثويره في مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

وإذا كانت النهضة التربوية هي الشرط الأساسي لعملية الإصلاح التربوي والتغيير الشامل في المجتمع، فإن النهضة التربوية ذاتها يجب أن تنطلق من العمق الاستراتيجي للتربية في المجتمع المتمثل في تربية الأطفال وإعدادهم منذ مرحلة الطفولة المبكرة، لأن الطفولة تشكل شرط الضرورة والكفاية لنهضة تربوية حقيقية.

إن أية محاولة للنهوض بالتربية وتطويرها أو إصلاحها لا تبدأ بمرحلة الطفولة هي محاولة تسير نحو قَدَرِ الإخفاق والفشل. وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا بأن الإخفاقات التي تعاقبت وتتابعت في مشاريع النهضة التربوية والإصلاح التربوي في الوطن العربي قد أخفقت لأنها انطلقت من المكان الخطأ والعنوان الخطأ، ولأنها في نهاية الأمر لم تنطلق من الطفولة بوصفها العمق الاستراتيجي للإصلاح والتطوير في التربية والمجتمع في آن واحد.

لقد آمن أغلب المفكرين، منذ عهود بعيدة، بأن الثورة التربوية يجب أن تبدأ في مرحلة الطفولة المبكرة وأن تنطلق منها، وأن مثل هذه الثورة هي نواة النهوض والتنوير الشامل في مجال الحياة المجتمعية، وذلك لأن مرحلة الطفولة تشكل المنطقة الجيولوجية الأعمق في نسيج الوجود الإنساني، وفي هذا التكوين الأعمق تكمن نفائس الأمم وذخائرها الإنسانية وطاقاتها البشرية الأولية.

إن فكرة إصلاح المجتمع عبر إصلاح الناشئة فيه قديمة قدم التاريخ. لقد أعلن أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد بأن لا يمكن إصلاح مدينة بصغار أفسدهم كبارهم، ومن أجل هذا الإصلاح يقترح أفلاطون في جمهوريته إخراج جميع الأطفال ممن هم دون الخامسة إلى ظاهر المدينة، وتربيتهم في معسكرات خاصة تشرف عليها الدولة تربية عقلية وتربية أخلاقية متميزة، وذلك من أجل إصلاح شؤون المدينة والخروج بها من دائرة الفساد إلى دائرة التنوير والحق والعدالة والحرية.

وتجد فكرة أفلاطون صداها ورجعها في كثير من مراحل تطور المجتمعات الإنسانية. وشواهد الإيمان بأهمية تربية الصغار وإصلاحهم من أجل إصلاح المجتمع تتجاوز حدود العدّ والحصر، ولكن تجدر الإشارة في هذا المقام إلى فكرة التربية السلبية الحرة عند روسو التي يرى فيها بوضوح كبير ألا إصلاح في المجتمع إلا من خلال بناء أجيال حرّة قادرة على صنع التاريخ بمعايير تربوية وأخلاقية جديدة.

فالأمم الكبيرة هي الأمم التي وجدت في الأطفال ينبوعا ثرّا للعطاء واستمرارية في القدرة على النهوض والبناء. ويبدو اليوم أن درجة عناية الأمم بأطفالها ورعايتهم لها تحدد درجة كل أمة من هذه الأمم في السلّم الحضاري وفي الموقع المتقدم الذي سجلته في سلم العلم والمعرفة العلمية.

إن الشرارة الأولى التي تنطلق منها النهضة والتنوير والحضارة في أية أمة من الأمم تنقدح شعلتها بداية في عالم الطفولة والأطفال، فيتوهج الوعي المجتمعي بأهمية مرحلة الطفولة ودورها في بناء الحضارة والإنسان. فالطفولة تشكل العمق الاستراتيجي الإنساني للمجتمع، وهذا العمق يأخذ تجلياته في أبعاد ديموغرافية وبيولوجية وثقافية وإنسانية بالغة التنوع والشمول. وكل بداية حضارية أو نهضوية لا تبدأ من هذا العمق هي بداية سطحية عابرة ومؤقتة ولن تؤتي أوكلها أبدا.

وليس في التأكيد على الأهمية الصارخة للعناية بالأطفال وتربيتهم ما يخضع للشعارات الرنانة أو للأيديولوجيات البراقة أو ما يمت بصلة إلى العقائد الغراء. إن الطفولة هي أهم الطبقات في تكوين المجتمعات الإنسانية من حيث خطورتها وأهميتها، وليس في هذا القول ممالأة أو مجانبة للصواب، بل تلك هي الحقيقة التي تنضح بمصداقية علمية تتجاوز حدود الشك وتتعالى على شطحات الوهم والظنون. فالسنوات الخمس الأولى من حياة الفرد تأخذ أهمية فريدة متفردة تقرّها العلوم الإنسانية والتطبيقية بمطلق التأكيد. فالطفولة تشكل الطبقة الأعمق في حياة الفرد منفردا وفي حياة الكيان المجتمعي حيث يتحد الأفراد. وقد حظيت حقيقة الأهمية الكبرى لمرحلة الطفولة على إجماع المفكرين والعلماء والعارفين.

وقد أصبح اليوم، من تحصيل الحاصل ومن بديهيات القول، أن يؤكد جميع الدارسين والباحثين والمفكرين بأن الطفولة والطفولة الأولى هي منطلق البناء التربوي وجذوته. ويمكن للباحث اليوم أن يفرد نسقا يأخذ مداه طولا وعرضا من أسماء العلماء والمفكرين الذين يؤكدون أهمية هذه المرحلة منذ بدء الحضارة الإنسانية حتى اليوم.

فالإصلاح التربوي يجب أن يبدأ من العمق لكي يكون إصلاحا حقيقيا وجوهريا، وهذا العمق الذي يجب أن ينطلق منه هو العمق الاستراتيجي للتربية الذي يتمثل في مرحلة الطفولة المبكرة. ولكي يكون هذا الإصلاح استراتيجيا يجب عليه أن يكون علميا، ومن أجل أن يحقق هذا الطابع العلمي يجب أن ينطلق من بناء فهم علمي يتميز بطابع الشمول والعمق لمرحلة الطفولة ذاتها بمعانيها وطبيعتها وقانونياتها الحاكمة. وهذا يعني أنه ومن أجل إحداث التغيير الشامل والمثمر في التربية يجب علينا أن نفهم وندرك طبيعة العملية التربوية في أكثر مراحلها خطورة وأهمية إدراكا علميا يتميز بالرصانة والأصالة والشمول والعمق.

وتأسيسا على هذه المحاكمة ينهض القول بأن تحقيق الشرط الأساسي للثورة التربوية المجتمعية الشاملة يجب أن يبدأ بتكوين وعي علمي يتصف بالشمول والأصالة عند طبقة المربين بعامة وعند مربيات ومربي الأطفال بشكل خاص. ومن هنا تأخذ التربية في مرحلة الطفولة المبكرة أهمية مركزية وإستراتيجية. وبناء على ذلك ومن أجل تحقيق الشرط الأساسي لكل إصلاح أو تثوير تربوي يجب أن نبدأ بإعداد المربيات والأمهات إعدادا علميا يمكنهن من تمثل معطيات المعرفة الإنسانية في مجال تربية الطفولة بما ينطوي عليه هذا الحقل من معارف علمية ونظريات وممارسات وتجارب. ويجب على هذا التوجه ألا يقف عند حدود المربيات والباحثات في مجال الطفل وشؤون الطفولة بل يجب أن نيّسر ونعزز وعيا تربويا يشمل مختلف المربيين والمربيات في المجتمع على امتداد الساحة الوطنية في أي مجتمع من المجتمعات المعنية. فالمعرفة العلمية بطبيعة الأطفال وأهمية مرحلتهم واستيعاب التجارب العلمية والخبرات والنظريات يشكل الخطوة الأولي في أي إصلاح تربوي جوهري يسعى إلى إصلاح المجتمع وتحقيق نهضته.

فعالم الطفولة عالم لم يكتشف بعد، ولم يتحقق الطموح الإنساني في استكشاف المعالم النهائية لهذا العالم، وأن الإنسانية تحتاج إلى عقود وربما قرون من الزمن للكشف عن ماهية هذه الطفولة بأعماقها الإنسانية والسيكولوجية. فالطفل يمتلك على قوى داخلية هائلة وخفيّة نجهل حدودها وأبعادها وآفاقها منذ لحظة ولادته. والسؤال الجوهري الذي يفرض نفسه بقوة الضرورة هنا هو: هل يمكن للمربين أداء دورهم التربوي كما يجب إذا كانوا يجهلون ماهية الطفولة وطبيعة الأطفال؟ وهنا يجب علينا أن نعترف بأننا على الأغلب ما زلنا نجهل طبيعة الطفولة، وأطفالنا مازالوا بالنسبة لنا كائنات مجهولة فيما يتعلق ببنيتهم وطاقاتهم الكامنة، ونحن لا نستطيع أن نقدم شيئا مهما للأطفال إذا لم نستطع أن نكتشف فيهم هذه القوى الداخلية لديهم وننميها.

لقد بدأ الاعتراف اليوم بأن الأطفال يمتلكون قدرات خفية هائلة، ويجسدون قدرة نامية يجب أن تحظى بالعناية، وأن تخضع لمبدأ الاستثمار. ولا يوجد اليوم ما يمنع الأطفال الصغار من أن يكونوا تجريبيين مندفعين ومتحمسين أو مكتشفين ورواد في مجال العلم والمعرفة.

ومن هذا المنطلق بدأ وعي تربوي جديد ورؤية حداثية جديدة تتكون وتأخذ أبعادها حول بنية الطفل واتجاهات نمائه، فالطفل ليس كائنا متلقيا وحسب، إنه مبدع منذ البداية، ولو تفحصنا تصوراته للعالم وتعبيراته الانفعالية لوجدناها –على بساطتها- تعبيرات وتصورات مبدعة، وهذه الأصالة الفطرية هي مفتاح النمو السوي للأطفال وهي- لكي تفصح عن ذاتها إفصاحا كاملا – تقتضي منا معاونة الطفل على الاقتراب التلقائي من العالم والدخول في علاقة حميمة مع البشر والحياة، وهي علاقة تربط الطفل بالعالم دون أن تمحو هويته الثقافية أو تشوهها، وهذه هي مسؤولية الكبار نحو الطفل آباءً كانوا أو معلمين. وإذا غابت هذه الحقيقة عن المربين فإنهم سيكونون على وعي منهم أو من غير وعي أداة لتخريب النمو السوي في الطفل وذلك عبر أفانين غامضة.

إن الخطر الأكبر في حياتنا المجتمعية يتمثل في جهل المربيين بالأصول العلمية لتربية الأطفال. ويكمن هذا الخطر في قانون تربوي قوامه أن التربية التي لا تقوم على أسس علمية تؤدي إلى تدمير الأطفال نفسيا وعقليا واجتماعيا. وبناء على هذا القانون التربوي فإن أية تربية نقدمها للطفل تلحق به الأذى وتدمره إذا لم تكن تربية علمية مستوفية لشروط الوعي العلمي، وهذا يعني أن التربية في مرحلة الطفولة يجب أن تقوم على وعي علمي رصين ومتكامل وأصيل بمختلف معطيات الطفولة وتربية الأطفال.

والسؤال الذي يقفز إلى العقل مباشرة: هل التربية التي نعتمدها اليوم في تربية أطفالنا تربية علمية تأخذ بأسباب العلم الحديث ومعطياته؟ والجواب سرعان ما يومض بسؤال جديد: هل يمتلك مربونا الوعي العلمي الرصين بأحدث وسائل التربية ونظرياتها في مستوى تربية الأطفال؟ وبناء على هذين السؤالين يقوم الاستنتاجان التاليان:

- إن تربية الأطفال تربية بنائية نمائية حقّة مرهونة بمستوى وعي المربين بقضايا الطفولة وأصول التربية ونظرياتها وقانونياتها وأصولها السيكولوجية والاجتماعية.

- إن غياب مثل هذا الوعي المتكامل بطبيعة التربية وأصولها في مستوى الطفولة يؤدي إلى نتائج عكسية، أي أن التربية هنا تهدم ولا تبني، تفقر ولا تغني، تأخذ ولا تعطي، وباختصار التربية الجاهلة تتحول إلى عامل هدم وتخلف وانهيار وتراجع إنساني وأخلاقي.

والسؤال الذي يرمي بنفسه هنا هو: إلى أي حدّ ينتشر الوعي التربوي العلمي المتكامل والحديث بين المربين آباء وأمهات ومعلمين في عالمنا العربي؟ والجواب هو افتراض قوامه أن التربية العربية في مجال الطفولة المبكرة مازالت تربية تقليدية، وتقليدية مغرقة في القدم، وأنها لم تتحول إلى تربية تأخذ بمعاني التربية الحديثة التي تعتمد أفضل السبل العلمية في تنمية الأطفال وفي تحقيق ازدهارهم. ويترتب على ذلك أن التربية السائدة هي تربية تعتمد مبدأ الهدم لا البناء ومبدأ الإفقار لا الإغناء.

وتأسيسا على ما سبق يمكن القول بأنه يتوجب علينا، في مطلع هذا القرن الحادي والعشرين، مفكرين وسياسيين وعلماء وكتاب ودارسين أن نمارس دورا تنويريا يهدف إلى بناء وعي تربوي أصيل ومتقدم في عالم الطفولة والأطفال. وبناء هذا الوعي يجب أن ينطلق من اعتبارين أساسيين هما:

أولا - اعتبارات ذاتية في الطفولة عينها: حيث يتوجب علينا أن نؤكد من جديد بأن الطفولة يجب أن تكون غاية الغايات ونهاية كل طموح إنساني في مجال التربية والتعليم، وهذا التوجه ينبع من اعتبارات دينية وأخلاقية وإنسانية ووجدانية تتجاوز حدود كل وصف وتصنيف.

ثانيا – اعتبارات حضارية وإنسانية ونهضوية: فالطفولة تشكل نقطة انطلاق كل محاولة نهضوية أو حضارية، لأنها كما أسلفنا، تشكل العمق الاستراتيجي في المجتمع والحياة، والطبقة الأعمق في التكوين الإنساني، ولذلك فإن أي محاولة للنهضة بالمجتمع لا تأخذ هذا التوجه بعين الاعتبار ستمنى بالإخفاق والفشل، وبالتالي فإن أي محاولة أخرى تنطلق بعيدا عن هذه المرحلة لن تحظى بأي نجاح ممكن أو محتمل وبالتالي فإن درجة الإخفاق تكون أكبر كلما كانت المسافة الفاصلة بين مرحلة الطفولة ونقطة الانطلاق أبعد.

وهنا وفي هذا السياق يتوجب أن نذّكر بأن التربية العلمية الحديثة في مستوى الطفولة تشكل الشرط اللازب في كل إصلاح تربوي ممكن ومحتمل، وأن الإصلاح التربوي يشكل العمق الاستراتيجي للإصلاح الاجتماعي برمته، ومن هذا المنطلق يجب أن نقول بأن الرهان الحضاري لوجودنا وحياتنا المجتمعية يتمثل في مدى قدرتنا على إيجاد تحولات عميقة وبنيوية في أساليب تربية الأطفال والعناية بهم وتنشئتهم وفقا لأحدث معطيات المعرفة العلمية والنفسية. ويبقى أن نقول أيضا بأن بناء الوعي التربوي، بأهمية مرحلة الطفولة وبأهمية العلم الحديث والطرائق التربوية في تربية الأطفال، يجب أن يتجاوز حدود التخصص العلمي، وهذا يعني أن الوعي الذي نتحدث عنه يجب أن يكون وعيا شاملا يتغلغل في مختلف شرائح المربين في المجتمع من آباء وأمهات ومربيات وعاملين وسياسيين. وإذا ما بقي هذا الوعي سجين فئة متخصصة أي إذا لم يستطع أن ينفلت من عقال التخصص ودوائره الضيقة فإننا لن نستطيع أبدا أن نحقق ما تصبو إليه النفوس الطيبة من أمل في أصلاح الإنسان والمجتمع. إن إصلاح المجتمع لا يكون إلا بإصلاح الإنسان وإصلاح الإنسان إلا بإصلاح الطفولة وهذا يعني أن الطفولة تشكل المبتدأ والخبر في كل عملية تربوية تسعى إلى تحقيق الإصلاح في التربية والمجتمع والإنسان.

وبقي أن نقول بأن التربية التي تسود في مجتمعاتنا تعاني من هيمنة أسطورية لمفاهيم وتصورات تقليدية صَدَّأها الزمان وخددتها الأيام، وأصبحت تغلب عليها الأوهام التربوية، وأنه يجب علينا اليوم أن نحقق ثورة في المفاهيم التي تتصل بالطفولة وتربية الأطفال وعلينا أن نقتلع كل الأعشاب الضارة وخضراء الدمن التي نبتت في تربة التربية التي ننهجها حاليا في تربية الأطفال. ولأنها تربية ابتعدت عن المنهجية الصحيحة فإنها تدمر وتؤذي وتقتل وتضعف وذلك بدلا من أن تبني وتصلح وتحيي وتقوي، لأنه في التربية الحديثة حكمة تقول: كل ما لا يحيي يميت وكل ما لا يبني يهدم. ومعيار البناء الصحيح وفقا للتربية الحديثة هو الوعي والوعي العلمي بأصول التربية الحديثة ومفاهيمها واتجاهاتها ونظرياتها وأسسها السيكولوجية.

وأخيرا يطيب لنا أن نردد هذه الأبيات الخالدة للشاعر السوري بدوي الجبل في حب الطفولة وجمالها شعراً يقول :

ويارب من أجل الطفولـة وحدهـا

أفض بركات السلم شرقاً ومغربـا

*

وصن ضحكة الأطفال يا رب إنهـا

إذا غردت في موحش الرمل أعشبا

وأخيرا نقول إن الطفولة رمز البراءة في الطبيعة وعنوان الطهارة في الإنسان، فيها تتألق أجمل القيم وأصفاها، وتترامى معها أبهى المعاني وأنقاها، إنها سحر في الطبيعة وإبداع الله في الإنسان، وعندما تزدهر الطفولة يفيض العالم بالحب والجمال والعطاء، وذلك لأن الطفولة مبدأ العطاء ومنهل الرجاء ومبتدأ الانطلاق، وإذا ما استطاع مجتمع أن يتعهدها يفيض العالم بالحب ويزدهر والجمال ويضوع بالعطاء

***

ا. د. علي أسعد وطفة

 

في المثقف اليوم