دراسات وبحوث

قصة الديانة الفرعونية (1)

عقائد الدولة الفرعونية: هيرودوت كتب (انّ المصريين اكثر تقوى من سائر البشر ... ويهتمّون كل الاهتمام بالشعائر المقدّسة ...)، ومع ذلك لم تكن عقائدهم هي ذاتها في كل زمان ومكان، بل تبدّلت في احيان كثيرة، ولا أقلّ من التغيّر الذي تكشفه جهة توجيه الميّت عند دفنه التي تكشفها مقابرهم خلال عصور متعددة، حيث كانت اجساد بعض الموتى المصريين باتجاه الغرب، والبعض الاخر بالاتجاه الشمالي او الشمالي الشرقي، مما يعني التبدّل في قناعاتهم في موضوع باهمية مصائر الموتى الذي يشغل الانسان دائما.  لكن يمكن لذلك ان يكون تنوّعا مناطقيا في العقائد ايضا، وليس زمانيا ربّما، حيث اختلفت اتجاهات الدفن باختلاف المقابر .

لقد تم العثور على مجموعة من الرسوم والنقوش التي تعود لعصور ما قبل التاريخ المصرية - السابقة على عصر الأسرات الأوّل - توّثق مجموعة من المعارك والحوادث التي تشارك فيها كائنات مثل العقرب وطائر أبيس والصقر وابن آوى، وهي التي نقل التاريخ المكتوب تقديسها وتأليهها في مجمل الحضارة المصرية اللاحقة . كما تضمّنت تلك المكتشفات وجوداً للاله (مين) .

انّ العقل المعاصر يقرأ تلك الرموز بنحو من الأسطورة الحاكية عن سذاجة تلك الشعوب الاولى، لكنّ هذه القراءة المتأخرة لا تكشف السبب الواقعي لتقديس تلك المظاهر الحيوانية لاحقا، وبتركيز ومواظبة، من قبل حضارة كبيرة ومتمدنة كالحضارة المصرية، كما انها لا تفسّر وجود هذه الكائنات في منقوشات هدم قلاع المدن واحتلالها، وربّما لم يُرِد الناقش للحجر الفهم المعاصر للباحثين الغربيين، بل أراد قول شيء آخر تماما .

كما حملت المنقوشات التي يُرجّح انها تنقل احداث توحيد مصر العليا ومصر السفلى على يد الملك (مينا) رسومات لابن آوى والصقور، وفيها ايضا الاله (خنسو)، احد أعمدة ثالوث طيبة . ومن غير المفهوم استمرار واصرار المصريين على توثيق وجود الآلهة - الحيوانية الوجوه في الغالب رغم بشرية بعضها - ضمن معاركهم وحوادثهم الكبرى، خصوصاً تلك المرتبطة بوجود الملك .

كانت الكثير من هذه الآلهة تفقد حجمها بمرور الزمن امام اله صاعد جديد، او ربما يتم دمج الهين في اله واحد، وأحياناً تكون هناك الآلهة الكبرى الحاكمة على مجموعة الأقاليم المصرية فيما تنتشر أيضاً مجاميع من الآلهة الصغيرة المساعدة، والملفت انها تعمل بانسيابية مثيرة ضمن المنظومة الكبرى للآلهة .

ربّما كان العجل الذي حمل اسم (أبيس) او (مرور) و (العجل الأبيض) و(العجل الأسود العظيم) من اهم الآلهة الواضحة التقديس في عصور الدولة المصرية القديمة، وكانت له مجموعة من الكهنة والخدم، فيما ارتبطت الآلهة (حتحور) بصورة البقرة، رغم بشريتها .

فيما كان الكبش من الصور الملفتة للآلهة الاولى للمصريين، وقد مُثّلت من خلاله الآلهة (آمون رع) و (حرشف) و (خنوم) . انّ العامل المشترك في الآلهة (الكبش) هو ارتباطها بعملية الخلق، حيث حملت بعضها لقب (خالق البشر) وبعضها (ابو الآلهة) .

كما كانت المسّلات - وهي أعمدة طويلة نسبيا - تحمل قدسية خاصة لدى قدامى المصريين، استمرت لاحقا، وقد وجدت مجموعة كبيرة منها مثل أعمدة (ايونو) و (بنبن) و (جد) . ورغم انّ الباحثين الآثاريين عاجزون عن تفسير أصل قداستها الا انّ المصريين ربطوها بشكل غامض بالآلهة ذاتها، كما في عمود مدينة القوصية الذي ارتبط بالآلهة (حتحور) . والذي أراه مناسباً انّ هذه الأعمدة لم تكن هي بذاتها مقدسة، بل كانت عبارة عن وسائل مفترضة للتواصل مع الآلهة، لذلك أخذت قدسيتها من قدسية علم الآلهة ذاته .

والصولجانات اليدوية كانت مشابهة لقدسيتها - كواسطة لعبور قوى الآلهة - بحال المسلّات، فكان هناك مثلاً الصولجان (سخم)، الذي يعني (القوة)، وكان يرمز للسلطة وقوة الآلهة . وقد كان للآلهة ذاتها صولجانات، لا نعرف مغزى واضح لحملها من قبلها مع كونها آلهة لا تحتاج في فعلها للصولجان، لكن يبدو انّ هناك تفسيراً مصرياً لم يصلنا حول حقيقة استخدامها في العالمين البشري والخارق . وقد ارتبط احد هذه الصولجانات بالإله الكبير (اوزيريس)، مما يعني عناية خاصة لهذا الصولجان .

لكن الامر الأكثر اثارة فهو ورود مصطلح (دواور) الذي ترجمه بعض الغربيين بمعنى (المنتمي العظيم للفجر)، لكنّه اليوم يُترجم - بكلّ بساطة ووضوح - الى كلمة (متنوّر)، ومنه طائفة (المتنوّرين) المنتشرة في عالمنا . وقد ارتبط المصطلح باحتفالات مقدّسة غامضة، كما في عصر الملك (جت)، كان المتنوّر فيها يضع (لحية) صناعية .

نظرية الخلق والآلهة المصرية

يبدو انّ المصريين القدماء كانوا يعتقدون بعقيدة التوحيد ذاتها التي اعتقد بها الانسان السومري الاول، حيث (نُون)، (القديم)، (اللانهائي)، (العمق العظيم)، والوصفان الأخيران ليسا الا بمعنى (السرمدي)، وهو ذات المعنى المستخدم لوصف الاله الإبراهيمي . وهنا من الغريب إدِّعاء باحث مثل (ياروسلاف تشيرني) انّ ذلك يعني إيمان قدماء المصريين بالفوضى ! .

و (آتوم) عنى به المصريون القدماء (الكامل، المطلق، الموجود بذاته، الأزلي، الأقدم، المتفرد، الأوحد)، وربما يكون هو ذاته المخلوق الاول ل (نُون)، لكن نجد انّ هذا التقريب بين المصطلحين يكون بعيداً عن ذهنية الباحث الغربي في الغالب، لافتقاده للخلفية الفلسفية الشرقية العميقة . ثمّ أوجد (أتوم) - بنفخة منه - (شو) و (وتفنوت)، وهما وصفان للطبيعة بحسب الباحثين، وان حملهما الباحثون الغربيون - كالعادة - على محمل الآلهة . وهذا الإشكال في الحمل الخاطئ قد عانت منه الترجمات الغربية للعقائد السومرية ايضا، كما صوّروا كلمة (دنجير) بمعنى الاله، فيما لم يقصد بها السومريون سوى القداسة . وهذا الاشكال ناتج عن الخلفية الوثنية او المادية للمجتمعات الغربية . لكن يبقى هناك احتمال كبير ان يكون (شو) أيضاً مظهراً آخراً ل (نُون) و (أتوم)، حيث هو اسم التجليّ من خلال الآيات الطبيعية، حين خلق السماوات والأرض وملأ ما بينهما بآياته، لا سيما ان اللاهوت المصري وصف (شو) باللامرئي وأنّ الابصار لا تدركه . ومن الغريب ايضا ان يحيل الباحثون هذه المعاني الى الرؤية اللاهوتية التثليثية الاقانيمية للمسيحية الرومانية، وجعلهما متطابقتين ! .

كانت هناك على الدوام في مصر آلهة رئيسة وآلهة ثانوية، وكانتا يشكّلان منظومة واحدة، وانا لا اذهب الى الفهم الذي نتج عن بعض الآثاريين لتفسير ظاهرة دمج الآلهة الثانوية بآلهة اكبر كنتيجة لصراع سياسي او مناطقي، لأنّ الكثير من تلك الآلهة الثانوية ظلت مقدسة ومحترمة حتى لدى المنتصر والغالب، إنَّما كان السلوك هذا لدى المصريين يقوم على أساس المعتقد المصري ذاته، الذي يؤمن بوجود عالم اخر، تسكنه كائنات خفيّة، مترتبة بصورة طبقية، لذلك كان فيها من هو ذو نفوذ في عالمه وبالتالي في عالمنا ايضا، وكان هناك من هو أقلّ شأناً، لكنّه كان قادرًا على التواصل مع مناطق محددة، لا تهدد نفوذ الكائن ذي النفوذ، وبالتالي ليس من الغريب ان يتم دمج هذه الآلهة والربط بينها .

ومن الطبيعي انّ الانحراف في الفكر الديني المصري بدأ ينتشر خلال فترات زمنية متباعدة، كما هو الحال مع الانحراف في المجتمعات التوحيدية العراقية، لكنّ شيئاً ظهر فجأ ذهب بالدِّين المصري بعيدا، فانغمس كليًّا في منهج الظلموت . والواضح من الاستعراض التاريخي للعقائد في مصر انّ هناك تعمّداً في دمج نظرية الخلق الاولى - التوحيدية ربما - مع قصص وأساطير اخرى، لخلط الأوراق وإشباع صور الشخصيات والحوادث فيها بألوان جديدة تناسب ذلك الظهور المفاجئ . وسيأتي لاحقاً بعض ملامح هذا الدمج، وسيتبين لماذا نعتقد بذلك .

انّ النتيجة المباشرة لهذا الخلط العقائدي الغريب وتشوّه الأفكار بمرور الزمن هي ظهور مفهوم الآلهة المادية، المرتبطة بالماورائيات، ذات القدرات الخارقة، يصحب ذلك الكثير من الطقوس والسلوكيات الناشئة عن تلك الاعتقادات، والتي تتطور مع الزمن بنحو اكثر تعقيدا .

يمكننا تقسيم الآلهة المصرية في فترة الظلموت - التي اعقبت الفترة الشبيهة بالتوحيدية - الى مستويين، آلهة رئيسة، وآلهة ثانوية او محلية . وربما اندمجت الآلهة المحلية مع الرئيسة في فترة من الفترات لإنتاج اله جديد رئيس .

يمكننا القول انّ واحداً من اقدم الآلهة المصرية التي تعود لعصر ما قبل الأسرات هو الاله (مين)، الذي يتم تصويره على شكل رجل منتصب يرتدي رداء ضيّقاً ويرفع احدى يديه بالسوط ويخفي الاخرى تحت ردائه .

من الآلهة الرئيسة (آمون) الخفي، ومعبود الدولة الحديثة، والذي يتم دمجه عادة بآلهة رئيسة اخرى، و (رع) وهو اهم الآلهة المصرية وأشهرها ورئيس مجمعها التاسوعي، والمسافر الدائم على مركب الآلهة، الذين اندمجا لاحقاً في الاله (آمون - رع) . وهناك أيضاً الاله (حورس) البعيد، الذي اشتهر في الأسطورة المصرية الكبرى (اوزيريس وست وإيزيس) كابن لاوزيريس وإيزيس، والمنتقم من عمه ست . والإله (اوزيريس) حاكم عالم الموتى، و الرمز الكبير لضحايا الحسد، والذي قتله اخوه ست، واراد أخذ زوجته (اختهما معا) . والإله (بتاح) رب الصناعات والفنون او خالقهما . والإله (ست) رمز الشر لانه قتل اخاه اوزيريس، لكنه المقدس ضمن التاسوع الالهي .

وربما كانت هذه الآلهة تظهر في مناطق متعددة، لتحمل عناوين متعددة، رغم وحدة الظهور، مثل ظهور (ست) بصورة (آشو) . وأحيانا يكون الاله هو ابن لأحد الآلهة الكبار، فيأخذ أهميته من ذلك البعد النسبي والقوة التي يملكها ايضا، كما هو الاله (أنوبيس) .

او انّ الآلهة تكون زوجة لأحد الآلهة، وهي ذاتها تكون مهمة ايضا، كالآلهة (إيزيس)، زوجة الاله (اوزيريس)، وأم الاله (حورس)، والتي انتشرت عبادتها في أوربا بصورة كبيرة في العهد اليوناني الروماني .

وهناك ما ارى انها عناوين لقوى مقدسة، لا انها اسماء لآلهة، وهذا ما تحويه الهالة التقديسية الخاصة بها كالعنوان (سخمت)، والعنوان (أبيس)، و (سرقت)، و (سكر/ سوكر)، و (يوسعاس)، ربما كانت وسائط عمل الآلهة بايّ صورة كانت، وربما هي مجموعة من الآلهة الفرعية العاملة تحت نظر الآلهة الكبرى . وهناك احتمال اخر أتبناه ان تكون هذه العناوين تشير الى وسائل تكنولوجية، أُستخدمت من قبل هذه الآلهة المفترضة، مما ابهر المصريين ونفعهم ايضا .

او تكون تلك الآلهة في الواقع ليست سوى بشر مقدّس لدى المصريين، كانت له إنجازات او خوارق، او ربما اخطأ الباحثون في ترجمة رؤية المصريين لقدسيته، كما هو الاله (إيمحتب)، الذي كان مهندساً معمارياً للملك (زوسر) . وعلى هذا الواقع يمكن احتمال وجود اله بشري اخر هو (ددون)، الشاب الصعيدي الذي يحمل البخور .

وبعض الآلهة كان يوصف بانه رسول الآلهة كالاله (تحوت)، مما يعني انه ليس إلهاً بالمعنى الفلسفي، ومع ذلك تم وصفه بانه رب الكتابة، وهذا ما يشير الى معنى اخر يرتبط بتكنولوجيا تواصل الآلهة مع المصريين، لا سيما انه ارتبط بالقمر، وبه ارتبطت الآلهة (سشات) آلهة المعرفة والكتابة . ويشبه (تحوت) اله اخر هو (خنسو)، او (الهائم على وجهه) كما ترجمه المتخصصون، والذي لا يعني اكثر من (المسافر) بلغتنا الحديثة، وعلاقته دائمة مع (آمون) وحركته، وتم ربطه بالقمر ايضا، مما يعني انّ الآلهة الرسولية او الناقلة كان يتم الإشارة اليها برمز القمر، او الشمس كما حدث مع الاله الكبير (رع) .

وأحيانا لم تكن تلك الآلهة المفترضة سوى وصف لحالة مكانية او زمانية، ارتبطت لدى المصريين بمعاني بُعدية محددة، كالاله (جب) اله الارض، والآلهة (نوت) آلهة السماء، الذين اعتبر الباحثون انّ المصريين قالوا بزواجهما، وهو امر مستبعد اذا فكّرنا بعقل المصري ذاته، لكن ربما كان المصريون يعتقدون بارتباط هاتين الحالتين بعلاقة ما، منتجة لعلاقات اخرى .

وقد نفهم بعض تلك الآلهة على نحو مخالف لما هو شائع، كالآلة (حتحور)، التي تعني (بيت / مقر حورس)، والتي اعتبرها بعض الباحثين زوجته، فيما ترجمة اسمها قد تعني وسيلة انتقاله، او مقر قيادته فقط، خصوصاً انها ذاتها تُسمى (عين رع)، وأنها القوة التي دمّرت اعدائه .

وبعض تلك الآلهة ليست الا مسميات لحالات تواصل الآلهة وأوامرها، كالآلهة (حكا) و (حو) و (سيا)، التي تصاحب مركب الاله، وتعبّر عن حالات مثل النطق والسحر، والأخير ربما ليس اكثر من وصف لتقنيات تلك الآلهة .

أمّا اله مثل (خنوم) فيبدو محيراً للباحث، حيث يعني اسمه (الخالق)، وفي ظلّ وجود آلهة خالقة ك (نُون) و (أتوم) و (شو) يكون وجوده مستقلّاً أمراً غير مستساغ و غير متوافق مع المنطق العقلي، لذلك يمكن ان يكون وصفاً آخراً لإله اخر . وعلى ذلك نحمل الثنائي الاخر في ثالوث (خنوم) المتمثل بالالهتين (ساتت) و (عنقت) .

فيما هناك آلهة مستوردة ووافدة من اسيا او غيرها، كالالهة (رشبو) و (بعل) و (سبد) و (عشتارت) و (عنات) و (قادش) . وآلهة اخرى ارتبطت بمعاني الزمن او المواسم، مثل الآلهة (رنبت) المرتبطة بالسنة، والآلهة (رننوت) المرتبطة بالقدر، ويشابهها الاله (شاي)، والآلهة (رننوتت) المرتبطة بالحصاد .

وكانت هناك أيضاً آلهة لوصف فلسفة النظام الكوني، وتثبيت العدالة والحق والنظام كمقدس حاكم على الوجود الكوني والتشريعي، مثل الآلهة (ماعت)، التي تصف الأساس الذي خُلق عليه العالم .

انّ ارتباط آلهة مثل (رع) وهو اله رئيس مسافر دائماً مع آلهة اخرى تجسيدية رمزية مثل (حكا) التي ترمز للسحر - او الفيزياء بالمصطلح الحديث - و (سيا) التي تشير للذكاء والمعرفة و (حو) التي تجسّد الأوامر الصوتية للاله يعطي معنى اخر لفهم حقيقة الآلهة الفرعونية، ويدفعنا بعيداً عن الفهم المُتكلَّف والساذج للباحثين الغربيين . فهنا يبدو واضحاً ان المصريين كانوا يتحدثون عن ظواهر ذكية ابهرتهم، ويصفون مظاهرها بمصطلحات عديدة .

وكانت هناك آلهة من نوع خاص، احتفظت بهيبة ناتجة عن خوف المصريين منها، مثل الاله (مونتو) اله الحرب وحامي الملك، والإله (نحب كاو) الذي يتم تصويره كثعبان برأسين وجسد بشري، يرافق الاله (رع) في قاربه كحارس له . وكذلك هناك الآلهة المرعبة (نيت)، وهي حامية للملك ايضا، واحدى بنات (رع) . ومن آلهات السحر (ورت حكاو) .

ولعلّ الملفت في تصوير النقوش المصرية للآلهة تعدد مظاهرها وغلبة الصفة الحيوانية عليها . لقد استخدم المصريون أشكال العجل والثعبان وابن اوى وطائر إبيس والصقر والاسد وغيرها كثير، وكذلك استخدموا الشمس والنجوم والقمر .

لكن الملفت هو ظهور الآلهة بصورة هجينة، تجمع بين رأس حيواني وجسد بشري، وليس من الواضح الحكمة من ذلك اذا اعتمدنا الفهم العام المتداول لتفسير اعتقادات وأساطير الشعوب، لكنّ الأخذ بما يُنقل عن ظهور كائنات بهذه الصورة الهجينة للعاملين بالسحر في عصرنا الحالي يعطي تفسيراً اكثر وضوحا .

وكذلك يلفّ الغموض انتشار رمزية (قرص الشمس) فوق رؤوس الآلهة، واستخدام القبعات الطويلة او ذات القرون من قبل اغلب الآلهة، فتلك التفسيرات الاحتمالية المتداولة - بحسب ما اطلعت عليه - ليست الا فهمًا معاصراً لسلوك قديم له فلسفته الخاصة .

الآلهة البشرية والحضارة القابيلية

اذا اعتبرنا اتفاقاً مع المنهج الفلسفي العقلي انّ الاله (نُون) هو الذي أفاض الحياة وكان وجوداً متفرداً، سيكون لزاماً علينا اعتبار (أتوم) هو المخلوق الاول، الذي ظهر على التل الأزلي (تاتنن) . ومن (أتوم) ظهرت باقي الآلهة او المخلوقات . انّ هذا المعنى يقابله في الخطّ الديني الرسولي العام المخلوق الاول (آدم) . وقد ربط بعض الباحثين بينهما فعلاً كما ذكر ياروسلاف تشيرني، باعتبار انّ (آتوم) هو لهجة مصرية عن (آدم)، وكذلك اسم (آتوم) في اللغة المصرية القديمة أخذ معنى (الكامل)، وربما هو ما يشير الى فكرة الاصطفاء التي جائت في القران الكريم لآدم واختياره (انّ اللَّهَ اصطفى آدم)، وهو كذلك يشير الى معنى وجود انواع اخرى من البشر أقلّ اكتمالا من آدم، لذلك تمّ اختياره دونهم لاصطفائه بالرسالة الإصلاحية واستعمار الارض، وتم زقّه بالعلوم والمعرفة، فكان هو مصدر الفيض المعلوماتي لبني الانسان، فربطته الأسطورة المصرية بالإله مباشرة .

وقد وصفت الادبيات المصرية القديمة (آتوم) بالاوحد والأقدم والذي أتى الى الوجود بنفسه، كذلك أطلقت عليه (سيد الجميع) . وفي تاسوع (هليوبولس - منف) كان (آتوم) هو اللسان والقلب، حيث كانت بداية الخلق من اللسان والقلب، ومظهر ذلك الخلق كان الإلهين (حورس) و (تحوت) . وأنّ (آتوم) كان هو من نطق الأسماء الاولى للاشياء . وهذا المعنى الأخير ورد في النص القراني كذلك (وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلْأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنۢبِـُٔونِى بِأَسْمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ) .

انّ (تحوت) الذي هو مظهر من مظاهر (آتوم) يقابله في الادبيات الإبراهيمية (إدريس) عليه السلام، حيث أعطت الأساطير المصرية له ذات الخصائص التي تم اعطائها لإدريس في العقيدة الإبراهيمية . لقد جاء في المصريات القديمة انّ (تحوت) كان اله (الحكمة والمعرفة) و (العارف) و (المتمرس بالمعرفة)، كما وصفته ب (سيد السحر) و (المجلل بالأسرار)، وهذان الوصفان الأخيران ربما كانا تلخيصاً للعلوم التي زقّها ادريس في عصره دون ان يكون لها سابق فاخذت معنى غامضا . كما وصفت الأسطورة المصرية (تحوت) بانه مخترع الكتابة وواضع القوانين وكذلك الناموس التقليدي للكتب المقدسة . انّ هذا الوصف لتحوت قابله في النص الإبراهيمي الوصف الخاص بإدريس، حيث جاء ما مضمونه (انّ ادريس اولّ مَن خطَّ بالقلم)، كما نقل صاحب بحار الأنوار، الذي أضاف انّ اليونان يسمونه (هرمس الحكيم)، وما يؤيد كلام صاحب البحار انّ الإغريق أطلقوا اسم ألههم على مدينة (الاشمونين) التي تمّ فيها تقديس (تحوت) فسمّوها (هرموبوليس) .  وقد وجدتُ شخصيا لهرمس كتاباً فيه حكمته وعقيدته وفلسفته، حيث أخذت أثراً من عقائد الماضين على مختلف اصقاعهم كما آورد صاحب كتاب (متون هرمس) . كما أشار صاحب بحار الأنوار - ومصادر اخرى - انّ اسم ادريس أيضاً (اخنوخ)، وقد وجدتُ لاخنوخ قصصا وأساطير في عقائد تاريخية عديدة . وينقل العلامة المجلسي عن السيد ابن طاووس انه قال : (وجدت في كتاب مفرد في وقف المشهد المسمى بالطاهر بالكوفة عليه مكتوب (سنن ادريس) عليه السلام وهو بخط عيسى نقله من السرياني الى العربي عن ابراهيم بن هلال الصابئ الكاتب ...) . وجاء ايضا (مسجد السهلة بيت ادريس عليه السلام الذي كان يخيط فيه) .

ومن ملاحظة هذه الإيرادات جميعا نستشف وجه تقديس ادريس عليه السلام - بمختلف مسمياته - لدى شعوب الارض، فهو من علّمهم الخط، وكذلك من زقّ المعرفة والعلوم . ويمكننا بعد ذلك حلّ الإشكال التاريخي بين مصر والعراق حول الذي كتب الحرف الاول، فكلا الشعبين يريان انّ (ادريس / تحوت / هرمس / اخنوخ) هو من فعل ذلك .

ومن قصة تحوت يمكننا ان نلج الى ما يدعم الرأي القائل بأنّ (آتوم) هو ذاته (آدم) حيث التشابه العجيب بين قصة ابني آدم التي أوردتها الأديان الإبراهيمية وبين أسطورة اوزيريس وست الإلهية المصرية . فقد ورد في القران الكريم (۞ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَىْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًۭا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلْءَاخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ) . فيما جاء في أسطورة (اوزيريس وإيزيس) المصرية ما مضمونه (انّ اوزيريس كان يحكم في سالف الزمان على الارض، ونشر في أرجائها أعماله الخيرة، لكن شقيقه ست دبّر له مؤامرة واغتاله خلسة . وبعد ذلك جمعت اختاه إيزيس ونفتيس اشلائه من المواقع التي وجدت فيها، واستطاع ان يُمنح قوة التناسل بمفعول السحر الذي برعت فيه إيزيس . وكان من نتائج هذا السحر ان حملت منه إيزيس وانجبت له ابنهما الاله حورس، الذي هربت به خوفاً من عمه الاله ست وشروره . حتى كبر وأصبح قوياً كفاية، فانتقم لأبيه بمساعدة أمه، فحكم مكانه . وقد خاض حورس مع عمه معارك عنيفة جداً) .

انّ الأصل المشترك للقصتين يمكن فهمه من معرفة انّ الوسيط الذي أنهى هذا الصراع الكبير هو الاله (تحوت / ادريس)، بحكمته عمد الى تهدئة النزاع بين الإلهين المتقاتلين (حورس وست)، وهو كذلك من شافى عين حورس لتعود بارئة .

ولفهم اكبر يمكننا تلخيص مجمل القصة بالمعنى الذي أورده السيد سامي البدري - ذلك الباحث الفذ - عن نشوء الحضارة القابيلية قبالة الحضارة الآدمية الشيتية . حيث انّ (قابيل) و (شيت) في الموروث الإبراهيمي هما ابنا آدم ابي البشر، وقد كان قابيل (يقابل ست في الموروث المصري) قد قام بقتل أخيه هابيل (يقابل اوزيريس)، وكان شيت الابن الاخر لآدم، والذي يقابله في الأسطورة المصرية (حورس) . انّ قابيل بعد قتله لاخيه لم يعد له مكان في الجماعة الصالحة الآدمية، لذلك انتقل لتأسيس جماعة خاصة به، وهو على كونه ابناً لآدم وقد أخذ من علومه لكنّه حمل بذرة الانحراف بعد مقتل أخيه، الذي أنشئه الحسد والأنانية، فكان من المنطقي قيام حضارة قابيلية تجمع بين مظاهر التوحيد الآدمية وبين نتائج الانحراف النفسية لقابيل، فبدأت أولى الحضارات المنحرفة العقيدة . وقد كانت هذه الفرصة ذهبية لاختراق عالم الادميين من قبل حضارات وجماعات اخرى ظاهرة او خفية، متقدمة علمياً او بدائية، فبدأ قيام الحضارة الدينية العكسية، التي تجمع بين الموروث القابيلي والموروث البدائي والموروث غير البشري، فكان ما أنتجته خليطاً عجيباً وملوثاً، ومن الطبيعي ظهور الطقوس المبتدعة والصفات المغلوطة للاله . في المقابل كانت هناك الحضارة النقية الآدمية التي يقودها شيت، والتي ارادت دفع الحضارة القابيلية بعيداً للوقاية من شرورها، فنشأ الصراع الحضاري الكبير والعنيف بينهما، حيث ارادت الحضارة القابيلية أيضاً السيطرة وفرض معتقداتها، وطمس الجرح الكبير في مسيرة الادميين الذي أوجدته فعلة قابيل بقتل أخيه . وقد استمرّ الصراع كما يبدو طويلاً، وبصورة عنيفة، حتى ظهر (ادريس) وعمل على إيقافه وتهدئة قادته، من خلال حكمته، ولأنه كان يحمل هدفاً أسمى في توحيد البشرية وتهذيبها، لذلك تجاوز قساوة المجتمع القابيلي، رغم انه شخصياً كان جزءاً من المجتمع الشيتي الآدمي . وقد جاء في الأسطورة المصرية انّ تحوت كان كاتب الآلهة الذي يستشيرها في الحكم بين المتصارعين على العرش، لكنّه كان ينحاز دائماً الى جانب الحق حيث (حورس) . وَمِمَّا يؤيد هذا الاختيار انّ (الهكسوس) - وهم من أصل عراقي - وحّدوا بين (ست) وإلههم (سوتخ)، حيث أقاموا له المقابر في مدينة (اواريس)، وصاروا يستخدمون الاسمين للدلالة على مقصود واحد .

انّ الرؤية الدينية الإبراهيمية تثبت دائماً وجود مخلوقات بُعدية في عوالم اخرى خفية، لذلك حملت عنوان (الجآن) بمعنى المخفي او المراوغ، يقودها كائن ذو قدرات خاصة اسمه (ابليس)، ولقبه (الشيطان)، وهو اول أعداء آدم بعد اصطفائه، بسبب الانانية والحسد ايضا . لذلك كان من الطبيعي استغلال هذه المخلوقات للمجتمع القابيلي البدائي، وفتح الصراع من جديد مع المجتمع الآدمي، فكان هناك تبادل نفعي بين الحضارتين القابيلية والابليسية، حيث قابيل يفتقد الى الدعم الذي حظي به المجتمع الآدمي سماوياً بعد انشقاقه وانسلاخه .

لكن كان من الطبيعي جداً ان تسعى الحضارة القابيلية لتحسين الصورة السيئة لمؤسسها (قابيل) وجعله محترماً كبقية اخوته، لذلك تمّ ادخال (قابيل / ست) كاله في مجمع الآلهة المصرية، وكذلك في مجامع آلهة لشعوب مختلفة اخرى، بعد انتشار هذه الحضارة في عموم الارض، من هنا كانت أسطورة (اوزيريس وإيزيس وحورس وست) نسخة معدّلة عن قصة ابني آدم الإبراهيمية، لتحسين صورة (قابيل / ست) في الذاكرة البشرية .

انّ المجتمع المصري القديم ربما لا يشترك شكلاً مع المجتمع الآدمي العراقي - الملامح الشرق اوسطية -، حيث تظهر المومياوات جنساً يجمع الى حد كبير من حيث الهيئة بين الميديترانية المتوسطية وبين النوبية الجنوبية، قد أخذ المعرفة عن المجتمع الآدمي الشيتي، او انه اختلط بالمجتمع القابيلي .

في المثقف اليوم