دراسات وبحوث

هل العراق بحاجة إلى قضية كردية؟

mutham aljanabiإن استقراء تاريخ العراق المعاصر يكشف عن أن "القضية الكردية" كانت إحدى قضاياه العضوية وقت السلم والحرب والصعود والهبوط. إلا أنها تستفحل مع كل انعطاف حاد وانقلاب مفاجئ في تاريخ الدولة والمجتمع. وهي ظاهرة تشير إلى أن القضية الكردية اقرب إلى "المرض" منها إلى قضية حيوية بالنسبة لتفعيل الدولة ومؤسساتها. غير أن ذلك لا يعني مسئولية الأكراد بحد ذاتهم بوصفهم شعب من شعوب المنطقة الذي جرى حشر بعض منه بصورة اصطناعية (واقصد بذلك الجزء الشرقي من شهرزور التاريخية، أي منطقة السليمانية) في بلد لا علاقة لهم به بالمعنى التاريخي والثقافي والقومي. لكن هذا الحشر الذي شكل بمعنى ما التعبير الطبيعي عن ضعف الأكراد التاريخي والقومي قد أدى إلى نتائج إيجابية كبرى بالنسبة لهم في مجال الحياة القومية والمدنية. بمعنى الاشتراك النشط نسبيا في الحياة المدنية، ومن ثم الانتقال من ثقافة الجبل إلى ثقافة السهل، ومن البداوة إلى المدينة. وهي نتائج يمكن مشاهدة مظاهرها العديدة في مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك انتشارهم في المدن العراقية بما في ذلك أقصاها جنوبا، وارتقائهم في المهن من مهن الفئات الرثة إلى مختلف المهن الرفيعة ومراكز الدولة. وهو انتقال وتحول يعكس أولا وقبل كل شيء الاندماج التدريجي والصعب لسكان الجبل بالحياة المدنية المعاصرة. وقد كان الفضل التاريخي بهذا الصدد يعود أساسا للعراق كدولة وللعرب كقومية. وهو أمر جلي في حال إجراء المقارنة السريعة بين واقع الأكراد قبل "دخول" الدولة العراقية والآن، وبين حالهم في العراق من حيث مستوى الرقي الثقافي والمدني وتطور الوعي القومي مقارنة بمناطق سكنهم الأصلي في كل من تركيا وإيران.

وهو واقع لا يفترض بالضرورة مطالبة الأكراد بتعويض يقابله. انطلاقا من كل ما جرى في تاريخ العراق الحديث هو جزء من تاريخ الدولة، عانى منه الأكراد شأن بقية مكوناته. إلا أن هناك جملة من الوقائع المتكررة في هذا التاريخ توصلنا إلى ما يمكنه أن يكون حقيقة من حيث أبعادها السياسية، ألا وهي "انتفاض" و"مشاكسة" القوى القومية الكردية مع كل انعطاف أو ضعف في الدولة العراقية. ذلك يعني أن الأكراد لم يندمجوا في بنية الدولة العراقية. وهو تكرار يرتقي إلى مصاف الحقيقة. ولعل الأحداث التي لازمت انهيار التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية، التي فسحت المجال للمرة الأولى في تاريخ العراق المعاصر لبناء أسس الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي بوصفهما الضمانة الكبرى لحل كافة المشاكل على أسس اجتماعية سياسية، تبرهن من جديد على طبيعة الخلل الوطني (العراقي) في الحركة القومية الكردية. وهو خلل يبرز بوضوح في سياسة المغامرة والمؤامرة والابتزاز، الذي بلغ ذروته في سيادة نفسية الغنيمة والاستيلاء على الأرض، مع أن مضمون الحركة الاجتماعية الديمقراطية يفترض الارتقاء إلى مصاف تأسيس فكرة الشرعية والمواطنة. فهي الفكرة التي تضمن للجميع حقوقا متساوية، باعتبارها الغاية النهائية من كل نضال حقيقي وإنساني.

لكننا نقف أمام ظاهرة بقاء الحركة القومية الكردية في العراق ضمن شروط تكونها التاريخي الضيق، الذي يدفعها أكثر فأكثر صوب التجوهر العرقي. وهو أمر يشير إلى قضيتين، الأولى هي سيادة البقايا العرقية في الفكرة القومية الكردية في العراق، والثانية هي ضعف الاندماج السياسي والثقافي والاجتماعي بالعراق. وقد تكون الأساليب التي جرى تجريبها في الانتخابات الأخيرة واستعمال نتائجها كما هو جلي في "قائمة المطالب" الكردية تعكس تفاعل هاتين القضيتين في "تكتيك" و"إستراتيجية" النخب القومية الكردية. فعوضا عن العمل بمعايير الدولة الشرعية الديمقراطية والمجتمع المدني، نرى "إنذار" المطالب "التي لا يمكن التنازل عنها" عن تقاسم الثروة والحصول إلى مدن عراقية وأراضي وما شابه ذلك، بمعنى بروز المضمون الفعلي والدفين لنفسية الغنيمة. وهي نفسية تشير إلى حقيقة سبق لهادي العلوي أن عّبر عنها بطريقة مباشرة، مع انه كان يسعى فيها لخدمة الأكراد، عندما كتب يقول بان "الأكراد ليسوا عربا ولا عراقيين، بل هم أبناء كردستان". وهي فكرة وضعها في تأييد مطالب الأكراد بالانفصال وتكوين دولتهم الخاصة بهم. من هنا قوله "أنا من الداعين إلى استقلال كردستان بأجزائها الثلاثة وإقامة الدولة الكردية"(يقصد تركيا وإيران والعراق ويستثني منها سوريا انطلاقا من أن ليس للأكراد أية حقوق تاريخية بها).

فالعراق من وجهة نظر هادي العلوي هو "جزء من الأمة العربية بقدر ما يخص العراق حسب حدوده الأصلية المرسومة من طرف الجغرافيين المسلمين في العصر العباسي". لكنه يضيف أيضا بان "العراق هو سلسلة من الموجات السامية بعد السومريين" التي مثلها كل من الاكديين بناة بابل، والعموريين من سوريا، والآشوريين والآراميين ثم العرب. ذلك يعني أن العراق "مع كل موجة يبدل هويته. بدأ سوريا ثم صار اكديا ثم آشوريا ثم كلدانيا ثم آراميا ثم عربيا". وهي فكرة يمكن أخذها على علاتها، والانطلاق منها من حيث كونها مقدمة، لكنها بحاجة إلى تدقيق جوهري يقوم فحواه في أن العراق لم يبدل مع كل موجة هويته، بل على العكس، انه يتقبلها ويذوبها ويصنع بالتالي منها حلقة جديدة في سلسلة تراكم وعيه الذاتي. وهو الشيء القائم في خصوصية العراق بوصفه كينونة تاريخية ثقافية وليست عرقية. ولعل العرب هم أكثر من تمثل ومثل هذه الحصيلة بالارتباط مع صعود الإسلام بوصفه العقيدة الكونية والثقافية التي صهرت مختلف مكوناته في بوتقة الانتماء إلى "الأمة". وفي هذا أيضا ينبغي البحث عن سر خرابه المعاصر عندما حاولت الأيديولوجية البعثية القومية العربية أن تحرف حقيقة مكوناته التاريخية الثقافية. فقد كانت الأيديولوجية البعثية اشد الأيديولوجيات عداء للعرب أولا وقبل كل شيء. والعرب العراقيون أكثر من دفع ثمن خرابها الهائل وتخريبها الهمجي.

وليس اندثارها السريع من الذاكرة والعقل والضمير العربي في العراق سوى الدليل العملي على هذه الحقيقة. لكن ذلك لا يعني اندثار القومية العربية. على العكس، إن سقوط الأيديولوجية البعثية والدكتاتورية الصدامية شكل أحد المصادر الكبرى لانبعاث القومية العربية في العراق بالشكل الذي يجعل منها قومية ثقافية. بمعنى يفسح المجال أمام إمكانية رجوعها إلى أصولها الأولى، ومن ثم تأسيس إمكانية تحرير القومية من مختلف أصناف الشذوذ عبر ترقيتها إلى مصاف الرؤية الثقافية والاجتماعية. وهو الاتجاه السائد حاليا سواء بصيغته الدينية (الشيعية) أو القومية (العربية والتركمانية والكلداآشورية) أو الوطنية أو الديمقراطية والاشتراكية والشيوعية. مع أن كل منها ما زال يعاني من ثقل التركة التوتاليتارية من جهة وثقل مكوناته الأيديولوجية السابقة من جهة أخرى. أما الاستثناء الوحيد فهو الذي تمثله الحركة القومية الكردية. وهو واقع يتكرر من جديد في تاريخ العراق الحديث مع كل انعطاف حاد أو ضعف في الدولة المركزية. مما يؤكد الحقيقة القائلة، بان الأكراد ليسوا عراقيين بالمعنى الوطني والاجتماعي والثقافي.

وهو واقع يضع أمام الحركة الاجتماعية والديمقراطية في العراق مهمة كبرى إلا وهي كيفية بلورة إجماع عراقي على إستراتيجية فصل العراق عن الأكراد. ذلك يعني أن الجوهري بالنسبة للحركة الديمقراطية والاجتماعية العراقية في الموقف من القضية الكردية لا ينبغي أن يترك إلى الحركة القومية الكردية، بل أن يأخذ العراقيون زمام المبادرة، كما أن الجوهري والأولوية في العراق هي له ككل وليس "كردستان" فيه أو خارجا عنه.

فالعراقيون والعراق هم الكينونة الفعلية وما عداها مجرد دعاوي ورغبات وأمزجة وأحلام. وفي مجال العلم السياسي لا يمكن جعل الرغبات أيا كانت معيارا للحكم والمواقف العلمية. أننا بحاجة إلى أن تكون كل كلمة قابلة للتجربة والاختبار. والكلمة الوحيدة القادرة للاختبار بالنسبة للحركة الديمقراطية والاجتماعية العراقية هي العراق ووادي الرافدين. وكل ما يخرج عنهما لا ينبغي أن يكون لنا به شأن! بعبارة أخرى إن مشكلة الأكراد بالنسبة للحركة الاجتماعية والديمقراطية العراقية لا ينبغي أن تكون مع العراق والعراقيين، بل مع أنفسهم ومع مناطق أصولهم العرقية، أي مع الأتراك والفرس والأرمن أو أي من يشاءون من "الأصدقاء"، وليس مع العراقيين من عرب وكلدااشوريين وتركمان وغيرهم. لاسيما وان السائد في الحركات القومية الكردية وخصوصا في "تثقيفهم" الذاتي والداخلي هو العداء الأعمى والعرقي والفج للعرب والقومية العربية. وهو أمر سوف يعمق من شرخ العداء ضد العراق. فالعداء للعرب في العراق هو عداء للعراق بالضرورة، كما أن العداء للأكراد في "كردستان" هو عداء "لكردستان" بالضرورة. كما لا يمكن للمرء أن يكره الروس ويحب روسيا، أو يكره الفرنسيين ويحب فرنسا. إلا أن هذا المزج يصبح ممكنا فقط بمعايير الرؤية السياسية المبتذلة، عندما يجري مطابقة التاريخ والأمة والثقافة مع سياسية النخب أو الأحزاب. وهي الرؤية السائدة في مواقف وسلوك ونفسية ومزاج الحركات القومية الكردية. غير أن لهذا الرؤية السائدة مقدماتها الخاصة في الحركة القومية الكردية نفسها، والتي يمكن إجمالها بمقدمتين، الأولى وهي الضعف البنيوي للأكراد من حيث الإمكانية والواقع، والثانية هي توسع وتغلغل الأبعاد العرقية في الفكرة القومية الكردية في العقود الثلاثة الأخيرة. وهو تغير لم يكن معزولا عن السياسة الهمجية التي اتبعتها الصدامية في الموقف من القضية الوطنية والقومية والاجتماعية والسياسية. إلا انه كان محكوما أولا وقبل كل شيء بما أسميته بالضعف البنيوي الجوهري للأكراد أنفسهم.

وهو ضعف حدد بدوره درجة انتماء الأكراد إلى العراق وبواعثه الموضوعية، بوصفها الدرجة الأبعد أو الأخيرة مقارنة بمكوناته الأخرى. إذ يمكن وضع درجات هذا الانتماء بالشكل التالي أولا: التيار الأكثر عضوية وامتزاجا به هو التيار القومي العربي والآشوري، ثانيا: الأكراد الفيليون والتركمان الشيعة، ثالثا: الأكراد في المناطق الشمالية منه والتركمان ذوي النزوع التركي. والمصدر الموضوعي لهذا الاختلاف في الانتماء يتحدد بعاملين جوهريين الأول هو مستوى التكامل القومي ونوابض اتجاهاته الداخلية، أي دوافع الاتجاه الدفين والفعلي للحركة القومية نفسها، والثاني، هو مستوى الاندماج الثقافي والروحي وانعكاسه في وعي الذات التاريخي.

وفيما يخص الأكراد، فان اندماجهم بالعراق اقل من الناحية الموضوعية، بفعل ضعف التكامل الذاتي للأكراد من جهة، وبفعل النوابض الداخلية للتوجه القومي الساعي إلى بناء قومية ودولة مستقلة. فهي النوابض المميزة والملازمة لكل حركة قومية. والحركات السياسية الكردية هي بلا استثناء حركات قومية. وهو أمر طبيعي ومشروع. من هنا فان النوابض الدفينة أو السحيقة الكامنة وراء بناء الرؤية القومية في مختلف الميادين يجري تخيله أو تصوره أو تأسيسه صوب التكامل الكردي (الكردستاني). أي أن حوافزه الداخلية ونياته وغاياته صوب تكامله الذاتي.

طبعا أن ذلك لا ينفي إمكانية تثويره الاجتماعي صوب إدراك قيمة التحول العالمي المعاصر فيما يخص واقع وآفاق القومية. وهو إدراك سبق وان وضعت أسسه الإستراتيجية العامة فيما أسميته "بالمثلث الإيجابي البناء" الهادف إلى تجميع القوة الكردية المحتملة ضمن تيار الاندماج المستقبلي بالشكل الذي يكفل اندماج الأكراد الذاتي وفي المنطقة على المدى البعيد. بمعنى تكامل القومية والمنطقة دون أن يخسر أي طرف من أطرافه المكونة أي شيء. على العكس انه برنامج التراكم والتكامل القومي والاقتصادي والسياسي والثقافي. وهو أمر يفترض اندماج الحركة القومية الكردية الناشئة في نسيج الحركة الديمقراطية والاجتماعية للدول التي ينتشرون فيها الآن. وهي فكرة تنطلق من واقع فعلي لبلوغ واقع مفترض.

فمن المعلوم أن وجود الأكراد بين قوى قومية ودولتية (فارسية وعربية وتركية) لها تاريخها السياسي والثقافي الكبير والمؤثر في المنطقة، هو أحد العوائق الكبرى التي حالت دون نشوء وتبلور الحركة القومية الكردية بطريقة تكفل لها إمكانية التعايش والاندماج في المنطقة بهيئة دولة وقومية مستقلة. وهي ملابسات أدى التدخل الكولونيالي الأوربي في القرن العشرين وتقسيم السلطنة العثمانية بأثر الحرب العالمية الأولى إلى غرسها بطريقة يصعب تغييرها. إذ أدى إلى تكريس وتعميق وتوسيع الضعف البنيوي التاريخي المميز للأكراد وحركاتهم السياسية المعاصرة. مما أعطى للضعف البنيوي المشار إليه أعلاه طابعا منظوميا. ويتكون هذا الضعف البنيوي المنظومي من ثلاثة أضلاع أساسية هي أولا: ضعف التكامل القومي، ثانيا: التجزئة الجغرافية السياسية، ثالثا: الاندماج المستلب في الإرث التاريخي والثقافي للمنطقة.

والمقصود بضعف التكامل القومي هو أنه ليس للأكراد دولة لها تاريخها الخاص المؤثر والفعال في بلورة تقاليد سياسية وثقافية مستقلة وطويلة الأمد على المستوى الإقليمي. وهو ضعف جلي على خلفية كون الأكراد من سكان المناطق الجبلية المحصورة حاليا بين إيران وتركيا والعراق (مع أن أصولهم وأصلهم من المناطق الشمالية الغربية الجبلية لإيران. وهو ضعف وجد انعكاسه أيضا في البنية الاجتماعية القبلية والجهوية الراسخة بما في ذلك في الوعي القومي والسياسي المعاصر. وهو ضعف حصل على امتداده في التجزئة السياسية للأكراد في دول عدة. مما أدى بدوره إلى الضعف الثالث المكمل ألا وهو استلابهم الثقافي تجاه ارثهم المشترك مع الفرس والأتراك والعرب.

ومن تأثير أضلاع هذا المثلث ظهرت مختلف أشكال ونماذج القضية الكردية وحركاتها الاجتماعية والسياسية. وقد حاصر هذا المثلث القضية الكردية قوميا وجغرافيا وسياسيا وثقافيا، بحيث يصعب حلها دون فك أضلاعه بطريقة لا تجعل "كردستان" فجوة لا مكان فيها للتكامل والتطور الطبيعي. وهو الأمر الذي يطرح مهمة حلها بطريقة يعيد للأكراد إمكانية التكامل في قومية سياسية ثقافية مندمجة في المنطقة. وهي فكرة بلورت معالمها ومبادئها ورؤيتها الإستراتيجية فيما أسميته "بإستراتيجية المثلث البناء" (أسست له وشرحته بإسهاب في كتابي فلسفة المستقبل العراقي في الجزء والأول والثاني والثالث منه)). وهو مشروع ينطلق من فاعلية وضرورة تحويل "الدولة الكردية" المفترضة من كيان تقليدي إلى كينونة ثقافية سياسية. وذلك من خلال بنائها على أسس فيدرالية ثقافية وسياسية تذلل جذر القومية العرقية. وهو مشروع يفترض عمل الحركات القومية الكردية على صياغة رؤية سياسية ذات مبادئ عامة وقواعد معقولة للعمل من جانبها في تحقيق "مناطق كردية ثقافية - سياسية" ومنها إلى "كردستان جيوسياسي ثقافي" متداخل عضويا في منطقة آخذة بالتكامل الاقتصادي والسياسي باعتباره ضمانة الفيدرالية الكردية. إنها ضمانة إزالة الفتيل وإمكانية الفتنة. كما أنه ضمانة ظهور قومية كردية قوية ومتطورة ومستقلة بوصفه رصيدا إضافيا لقوة المنطقة وتطورها واستقلالها. مع ما يترتب على ذلك من تأسيس إمكانية الحركة المتناسقة للتطور الذاتي ومعاصرة المستقبل بمعاييرها الخاصة وإمكاناتها الفعلية للمنطقة وشعوبها اجمع.

إلا أن تجربة السنتين الأخيرتين (من عام 2003 -2005) بعد سقوط التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية، أي بعد أن توفرت للمرة الأولى في تاريخ العراق المعاصر إمكانية السير الواقعي والعقلاني في إستراتيجية "المثلث البناء" نقف أمام تحجر وتخلف سياسي هائل ورهيب للحركة القومية الكردية. بمعنى السير في اتجاه معاكس لمنطق الدولة العصرية وآفاق الاندماج السياسي الثقافي في العراق ومن خلاله تقديم نموذج يمكنه أن يشكل ضمانة تكامل المنطقة والأكراد. وهي مهمة يمكن أن ينجزها العراق في ظل ظروفه الحالية وآفاق تطوره الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. إلا أن السائد في أعماق الحركة القومية الكردية، كما تكشف عنه مجرى الأحداث السياسية وطبيعة مراوغتها بعد الثامن من نيسان عاد 2003 وحتى اليوم، يشير إلى بقاء بل وتعمق وترسخ ضعفها البنيوي، الذي لم، وفيما يبدو، ولن تستطيع التحرر منه. بمعنى أننا نقف أمام نفس "السياسة" المميزة للحركات القومية الكردية في مراحل ضعف الدولة واضطرابها الداخلي. فهي لا تفعل شأن القوى العراقية الوطنية على الدفاع عن الدولة، بل على العكس، نراها ترتمي في أحضان القوى الأجنبية أو تفتعل كل ما بوسعها من اجل تمزيق الصف الوطني تحت واجهات عديدة. ولا يعني ذلك في ظروف العراق الحالية سوى المساهمة الفعالة في عرقلة إمكانية إرساء أسس الديمقراطية الاجتماعية والشرعية. إذ لا معنى لأساليب الابتزاز والسرقة والغنيمة السائدة في سلوك ونفسية الحركات القومية الكردية في العراق غير ذلك. وهي نفسية تعكس مستوى التطور الاجتماعي وتقاليد الإقطاعيات المتخلفة والعائلات القبلية والأغوات. كما تعكس ضعف وتخلف البنية الاجتماعية والسياسية للحركة القومية الكردية عموما. وهو واقع يجعل منها عبئا ثقيلا على العراق وخطرا جديا على آفاق تطوره الحر. فإذا كان الجانب الخاص بالحركة القومية الكردية هو جزء من ذاتها القومية، ومن ثم تتحمل تبعات ما تقوم به، فان بقاءها في العراق يجعل منها طرفا في صراعاته الداخلية. ومن ثم نقل اغلب عناصر تخلفها القومي في ساحة الصراع السياسي العراقي.

فقد استطاع العراق التخلص بعد تجربة قرن من الزمن من ثقل ورذيلة الحركات القومية المتخلفة. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار مقدمات وإمكانيات الحركات القومية العربية التي تفوق مئات المرات مثيلاتها من الحركات القومية الكردية، فمن الممكن توقع مقدمات الخراب في إشراكها في العملية السياسية العراقية. بعبارة أخرى، أن العراق بحاجة إلى نوع من التكامل السياسي المبني على أسس الرؤية الاجتماعية والحقوقية. بمعنى تخليصه النهائي من ثقل الأيديولوجية القومية أيا كان شكلها وشخوصها. من هنا تصيح مهمة تحرير العراق من ثقل القضية الكردية مهمة وطنية كبرى. وهي مهمة تفترض إعادة النظر بالنفس أولا وقبل كل شيء. بمعنى الانطلاق من الفكرة القائلة، بان العراق هو كينونة رافيدينية عربية إسلامية، بمعنى انه كينونة ثقافية. أما الأكراد فأنهم أقلية دخيلة عليه. من هنا ضرورة إرجاعها إلى حدودها التاريخية. بمعنى ضرورة البحث عن فصل قومي من اجل ألا يتحول الصراع الآخذ في النمو، والذي جعلت منه الحركات القومية الكردية في غضون العقدين الأخيرين عنصرا جوهريا في تربيتها الذاتية، إلى صراع قومي مع العرب. وهو صراع فعلي قائم لم يرتق بعد إلى حد المواجهة لكن يحتوي على اغلب عناصرها. فإذا كان الصراع السابق عادة ما يدور بين القوى القومية الكردية والسلطة المركزية، فانه يتراكم الآن بمعايير وعناصر الصراع القومي. وهي إمكانية لم تتخلص منها اغلب القوميات في تاريخها المعاصر.

إن الصراع القادم في العراق هو صراع قومي بين العرب والأكراد ما لم يجر حسم القضية بصورة واقعية وعقلانية. وذلك لان مستوى الاغتراب بينهما قد بلغ درجة يصعب في اعتقادي حل عقدها. فالحركة القومية الكردية أصبحت أسيرة تربيتها العنصرية الضيقة. وهي حالة يمكن فهم اغلب مقدماتها ونوازعها اللاعقلانية. إلا أنها فيما يبدو الحالة التي ينبغي أن تمر بها القومية الكردية من اجل أن تحترق بإتونها لتدرك بعد عقود أو قرون من الزمن قيم الأوهام القومية. وهي حالة لا يمكن التدليل المنطقي عليها كما هو الحال بالنسبة للحب والكراهية. وهي حالة ملازمة لكل صعود قومي. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الأكراد هو الشعب الوحيد في المنطقة الذي لم يرتق بعد إلى مصاف القومية سواء بالمعنى التاريخي أو الثقافي أو الدولتي، من هنا سريالية الأوهام القومية الكردية التي لا يمكن مواجهتها بغير إعطاء الحرية لها لكي ترتطم بسواحل اليقين الذاتي. بعبارة أخرى إن الأكراد هم الوحيدون في المنطقة الذين لم يتذوقوا ملذات ومآسي القومية من اجل أن يعرفوا حقيقة الأبعاد الاجتماعية للدولة والأمة والثقافة.

إن الأكراد هم الوحيدون الذين لم يتمتعوا بالفكرة القومية في وقت لم يعد للقومية مذاقها وفاعليتها التاريخية. من هنا ضعفهم التاريخي وبقاءهم المحكوم بالنفسية العرقية التي تكمن فيها أيضا مأساة الأكراد التاريخية. وهي مأساة لا يمكن الخروج منها بالدخول في العراق بل بالخروج منه. فهو القدر الذي طبع ويطبع تاريخ الأكراد المعاصر. ومهمة العراق تقوم أساسا في تحريره الذاتي من ثقل هذا المأزق. وذلك لان التجربة التاريخية والسياسية للعراق المعاصر، وبالأخص في مجرى السنتين الأخيرتين (2003-2005) تبرهن على أن الحركة القومية لم ولن تدرك الأبعاد الاجتماعية في فكرة الدولة ما لم تمر بطريق الآلام. الأمر الذي جعل ويجعل منها في ظروف العراق الحالية والمستقبلية حركة خارج منطق التاريخ والقومية بالمعنى الدقيق للكلمة.

وهو واقع يجعل من "المشروع الكردي" في العراق مشروعا تخريبيا بالنسبة لبناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي الاجتماعي. وهي نتيجة مرتبط بنفسية وفعالية "الأقوام الصغيرة" التي لم تندمج في كينونة الدولة وثقافة الأمة الكبرى، والتي عادة ما تكشف عن نفسها زمن الانقلابات الحادة وضعف المركزية. ذلك يعني أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن تفرزه الحركة القومية الكردية في ظروف العراق المعاصرة هو نفسية العرق، وذهنية الانفصال، وأيديولوجية الانعزال. وهي نفسية تخريبية بالمعنى السياسي والاجتماعي والقانوني، برزت وتعمقت وترسخت وتوسعت بعد انهيار الدكتاتورية الصدامية. فمن الناحية المنطقية كان ذلك يفترض الاشتراك الاجتماعي الفعال من جانب الأكراد بمعايير الرؤية الاجتماعية والوطنية، إلا أننا عوضا عن ذلك نرى استفحال نفسية الغنية والاستحواذ والتقوقع. بحيث تحول العراق بالنسبة لها إلى مجرد بقرة حلوب، لعل "مطالب" الحركات القومية الكردية الحالية بعد الانتخابات الأخيرة دليل قاطع عليها، أنها مجرد "كركوك + مناطق جغرافية + مناصفة الخزينة + زائد تعويضات + ميليشيات مدفوعة الأجر + قرار انعزالي بكل ما يمس فكرة سيادة الدولة"!!! وهي مطالب أما سخيفة أو مجافية لأبسط مقومات الرؤية العقلانية والواقعية. بل أخذنا نسمع من بعض القيادات الكردية كلاما عن فضيلة ومنة بقاءهم في العراق على العراق!

إن المرء العاقل يصاب بالدهشة من هذه الوحدة البليدة للمطالب والامتنان! ولكن في حال وضع هذه الانطباعات على جانب، فأنها تعكس من حيث المظهر "موقع القوة" المزيف، ونفسية الغنيمة المميزة لتقاليد الأغوات والإقطاعيات المتخلفة كما مثلها بصورة جلية البرزاني وأمثاله. أما من حيث باطنها فإنها تمثل المزاوجة الخفية لإستراتيجية "الأقوام الصغيرة" التي أكثر من يتمثلها ويمثلها في المنطقة الآن اليهودية الصهيونية. من هنا سبيكتها المخربة بالنسبة لإمكانية استتباب الوضع في العراق وآفاق تطوره الديمقراطي والحقوقي. وهي حقيقة يمكن النظر إليها في حال تتبع نوعية السياسة التي سلكتها القوى القومية الكردية قبل وبعد سقوط الدكتاتورية الصدامية. فقد تحول "رجوع" الأكراد إلى العراق بعد "الانفصال" رجوعا إلى الوراء. فعوضا عن الاندماج الفعلي في بنية الدولة الجديدة، نرى محاولات حثيثة لخرق مكوناتها الجديدة وبالتالي إضعافها من الداخل. بمعنى العمل على إضعاف أية إمكانية لإعادة بنائها والالتهام المفرط لمواردها. إن ذلك يعكس دون شك نفسية الغنيمة والأوهام "الكبرى" للحركة القومية الكردية. والقضية هنا ليست فقط في انه لم يكن هناك استقلالا فعليا عن العراق، بل ولخضوعه المباشر وغير المباشر للسلطة الصدامية والهيمنة الأمريكية. فقد كانت الباب مغلقة على العراق والنوافذ كلها مشرعة. كما أن حياة الأكراد الاقتصادية كانت ممولة من العراق والعراقيين بالعملة الصعبة والأوراق الصدامية!! وهي نفسية كانت وما تزال تحكم السلوك القومي الكردي تجاه العراق كما نراه في المواقف المتشنجة والخشنة وغير الأخلاقية منه كما لو انه بلد غريبا. وهي حالة معبرة عن اغتراب الحركات القومية الكردية والأكراد عموما عن العراق. من هنا ليست أيديولوجية وسياسة القوى القومية الكردية ومواقفها العملية من العراق سوى مجموعة "مطالب" تخريبية من وجهة النظر الوطنية والفيدرالية والديمقراطية والحقوق. أنها تسلك سلوكا ضيقا لا يعني استمراره بالنسبة للعراق سوى إعادة نفسية القومية العربية المتطرفة. وبهذا المعنى أتكلم عن الحركة القومية الكردية بوصفها أحد اشد العوامل تخريبية في العراق ومعاصرة المستقبل فيه. إذ أدى وسوف يؤدي سلوكها العملي بالضرورة إلى استثارة النزوع القومي العربي المتطرف في العراق. بينما المهمة التاريخية للقوى الاجتماعية والسياسة في العراق تقوم في تذليل هذا الرجوع.

فقد دفع العراق ثمنا باهظا للقومية المتخلفة، بينما تسعى الحركات القومية الكردية التي هي أكثر تخلفا بما لا يقاس من مثيلاتها العربية إلى جر العراق إلى مزبلة جديدة. من هنا تصبح الوقاية من هذا المرض الجديد قبل استفحاله مهمة وطنية كبرى بالنسبة للعراق. كما أنها سوف تعطي للعراق إمكانية التطور الديناميكي الطبيعي بمعايير الرؤية الاجتماعية والسياسية والحقوقية. بمعنى نقل الصراع الحالي، الدامي والشديد أيضا إلى صراع اجتماعي سياسي. وهو المطلوب! فهو الصراع الوحيد القادر على صنع الحرية والنظام.

العراق ليس بحاجة إلى صراع قومي. لاسيما وان التربية القومية الكردية تجاه العرب تتصف بنزعة عنصرية متطرفة. والاحتكاك بها سوف يؤدي بالضرورة إلى استفحال الرؤية العرقية في الفكرة القومية العربية الآخذة في الاستعادة. وهو أمر يتنافى مع حقيقة مكوناتها. بعبارة أخرى، إن القومية الكبرى لا ينبغي أن تكون ضحية السلوك الضيق "للأقوام الصغرى". الأمر الذي ينبغي أن يطرح أمام الحركة الديمقراطية الوطنية العراقية والقومية العربية فيما يتعلق بالأكراد أما الاندماج على أساس المواطنة والديمقراطية والحقوق المدنية، وأما الانفصال.

فالمقصود الضروري من الفيدرالية هو النظام السياسي والاجتماعي العام وليس "مصالح الأكراد" في العراق. إذ العراق ليس بحاجة إلى "فيدرالية كردية"، انه بحاجة إلى نظام فيدرالي ديمقراطي اجتماعي يقر بحقوق الجميع ومساواتهم المطلقة أمام القانون على أساس مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان. أما الاعتبارات القومية والدينية والثقافية فهي مجرد جزء لا يتجزأ من حقوق المواطنة والإنسانية. من هنا ضرورة المبادرة العربية فيما يتعلق بالحل الواقعي والعقلاني والجذري للقضية الكردية في العراق من خلال بلورة ما يمكن دعوته بالمبادرة العربية بهذا الصدد.

إن العرب هم الذين ينبغي أن يقرروا فيما إذا كانوا يريدون العيش مع الأكراد أم لا وليس بالعكس. مع ضرورة التوكيد المسبق إلى أنهم إلى جانب حق الأكراد بالانفصال عن العراق. وبهذا يقدمون الصيغة المثلى "لحق الأمم في تقرير مصيرها". مما يفترض بدوره إقامة استفتاء عربي مشابه لما تفتعله الحركات القومية الكردية عن فك الارتباط. فالعراق ليس بحاجة إلى قضية كردية لا بالمعنى الاقتصادي ولا السياسي ولا الثقافي ولا الاجتماعي ولا الجغرافي ولا العلمي ولا في أي شيء! على العكس أن فك الارتباط هو الإنجاز التاريخي الأكبر للعراق في هذه الميادين جميعا. وذلك لان القضية الكردية ثقل باهظ الثمن ماديا ومعنويا بالنسبة للعراق، وفي نفس الوقت لا يستفاد منها على الإطلاق في أي شيء!

 

ميثم الجنابي

...................

ملاحظة: لقد كتبت ونشرت هذا المقال في بداية عام 2005.

 

 

في المثقف اليوم