دراسات وبحوث

قصة الديانة الفرعونية (4)

العقدة العراقية الشرقية للدولة الفرعونية: لقد انتقلت العقيدة المصرية من التأثير الآدمي الشرقي الإدريسي الى الفرعونية الممتزجة بالسحر، وفيما حافظت على بعض العناوين مشتركة بين الديانتين الا انها اختطت قصصاً واحداثاً جديدة تماماً، ادخلت من خلالها تأثير العالم الذي تسميه الديانة الإبراهيمية عالم (الشياطين) . لذلك بدأت الأوراق بالاختلاط على المصري القديم، ثمّ ظهرت قوى السحر وتأثيراتها، وبدأ المصري ينتفع من وجودها بنحو ما، لا سيما الملوك - والنَّاس على دين ملوكها - ووجدت طبقة من الكهنة تحققت لها أرباح من خلال العالم السحري هذا، كما انّ الانتقال نحو هذا العالم الباطني الغريب تم تدريجيا وببطئ، واختلطت فيه الأحداث بمرور الزمن، وعلى مراحل .

لاحقاً تمّ سرقة العناوين الآدمية - التي سارت ضمن الديانات الإبراهيمية كما هي - من قبل الفكر الفرعوني الجديد، وتمّ افراغ العنوان من محتواه وملأه بشخصيات شيطانية بحتة، يمكن التعرّف عليها من خلال المكتشفات الآثارية المصرية، وكذلك من خلال الجماعات السرية المنتسبة للدين الفرعوني في العصر الحديث .

وفي خضّم المواجهة بين الحضارتين الشيتية والقابيلية كانت هناك مواجهة فكرية تسير نحو التعقيد أيضاً، حيث رأت الحضارة الآدمية الشيتية انّ سلوك أفراد الحضارة القابيلية السيء سيخضع لحساب الهي تفرضه الحياة الابدية في عالم الآخرة، فيما ابتكرت الديانة الفرعونية رؤية لاستنقاذ الحضارة القابيلية وأفرادها من ذلك المآل عبر افتراض مجمع الهي خاص هو من سيقود عملية محاسبة الموتى، وابتكرت مجموعة من الطقوس لحماية الموتى من اخطار العالم الابدي، بادعاء انها ستكون تحت حماية الآلهة .

وبدأت فلسفة اخرى تشرح حقيقة علاقة الانسان بالإله الخالق، تقوم على أساس الافتراض القائل انّ الانسان ابن الآلهة ويمكنه العودة للاندماج معها من خلال حلقة من الطقوس والمعارف . وبالتالي تمت ازاحة ذلك الفكر التوحيدي البسيط الذي اعتقدت به الحضارة الآدمية الشيتية وإيجاد فكر معقد غير مفهوم لا يقوم على البساطة في تفسير مفاهيم الآلهة والإنسان .

ويبدو انّ هذا التعقيد والانقلاب الفكري كان مستمراً في مواجهة الحضارة الآدمية خلال الدولة القديمة في مصر، الا انه بدا واضحا في فترة الانتقال الغامضة - كما يصفها الباحثون - التي سبقت الدولة الوسطى . ومن ثمّ خلال الدولة الوسطى كان مفهوم الآلهة قد أخذ بعداً اخر، يختلف تماماً في مؤداه عن الفكر الشيتي الآدمي الأوّل . يقول عالم المصريات (جاردنر) وهو يصف نظرة المصريين للأحياء والآلهة والموتى : (ثلاثة انواع من نفس الجنس البشري، تخضع لعين المتطلبات المادية، ولنفس العادات والرغبات) . وقد اعتقد المصري حينذاك انّ روح الميّت لها قدرة ال (با ba'a) التي تمنحها الشكل الذي تريد تقمصه، حتى وان كان حيواناً معيناً تختاره هي، باعتبارها (آخ ikh) بمعنى (روح مشعة)، رغم أني حين أدمج معنى الأخ كما تم استخدامه في العصور المتأخرة بمعنى (المارد / الشبح) اجد انّ هذا الفهم للروح وتشكّلها ومآلها هكذا مأخوذ فقط عن ظاهرة الآلهة المتشكّلة التي كانت تظهر للكهنة المصريين حين قدومها من عالم الشياطين .

ولعلّ النص التشاؤمي الذي تمت كتابته في عصر الانتقال الأوّل يبيّن لنا حقيقة ما جرى تلك الفترة، حيث ورد فيه (ليس ثمة ما هو حقّ، لقد انتقلت مقاليد العالم الى أيدي من يرتكبون الشرّ مقترفي الاثم) .

ورغم انّ فكرة الثواب والعقاب الأخروي كانت راسخة بفعل تعاليم آدم ومن ثمّ ادريس الا انّ الديانة المصرية الفرعونية غيّرت ملامح تلك الفكرة، وأصبحت هناك صورة معدّلة عنها، فمثلاً تمّ استبدال ملائكة الحساب في القبر - الذين يهتمون فقط لعمل الميّت - بفكرة القرين، والقرين كان له كهنة يخدمونه مقابل ان يساعد الميّت، رغم انّ الفكرة كلها ربما أتت من موضوع بذل الثواب الدنيوي لمساعدة روح ميّت ما، والتي لا تزال مقبولة في الديانات الإبراهيمية .

بل انّ العزل الذي يعتمد الواقع الذي آمنت به الديانات الإبراهيمية للتفريق بين الملائكة والشياطين لم يعد موجوداً في الديانة الفرعونية، والتي خلطت بين المفهومين، حيث اصبح للشياطين ذات التأثير المفترض للملائكة، ومن هنا تمّ التلاعب بجميع القصص التي تتناول فكرة ابليس ولعنته، وأصبح له لاحقاً مظهراً اخر .

انّ تقمّص مصر للديانة الفرعونية هذه جعلها تنسلخ عن دينها الآدمي الأوّل عمليا، رغم عدم احساس شعبها بذلك، حيث سرت الفرعونية ببطئ وعبر سرقة العناوين والتعديل عليها . ولمّا ظلّت الارض العراقية تحتضن النبوات ودينها التوحيدي الذي يظهر الأسماء والاحداث الحقيقية صارت المواجهة محتمة بين الحضارتين، اذ انّ التصوُّر لعالم الآلهة والاخرة وحتى الملائكة والشياطين بينهما صار متناقضا تماما، وصار القبول بعقيدة احدهما يعني تجريم العقيدة الاخرى . ولم يكن من السهل على الدولة الفرعونية التغلغل الى الارض العراقية، كما تغلغلت الى الارض اليونانية والأرض الرومانية، لامتلاك العراقيين عقلاً فلسفيا، صنعته الاثار التي أوجدها ادريس ومن ثمّ نوح، لتصل لاحقاً للحركة الإبراهيمية الكبرى .

وفيما ذهب الفراعنة بعيداً في مطاردة الهكسوس حتى دخلوا الحدود العراقية، رغم انهم لم يفعلوا ذلك مع حضارة اخرى، وأرادوا جاهدين ازالة الأثر الهكسوسي، إِلَّا انهم في عملية موازية تأثروا بالآلهة الخاصة بشعوب العراق والشام الوثنية . فنرى أنّهم احترموا تلك الآلهة الأجنبية حدّ التقديس، مثل (بعل، عشتارت، عنات، قادش، ارشوب، كسرت)، وتمّ ادخال الأسماء الرافدينية ضمن الاستخدام المحلي المصري . ولم يكن هذا الامر ظاهرة شعبية، بل كان قائماً على مستوى الملوك الفراعنة، فلقد صار (أمنحوتب الثاني محبوب ارشوب)، و (رمسيس الثاني رضيع عنات)، و (عنات وعشتارت دروع رمسيس الثالث)، و (تحوتمس الرابع الفارس القوي مثل عشتارت)، فيما يجلس (رمسيس الثاني) الى يمين (عنات) وهي تخاطبه (انني أنا أُمَّك) . فيما شيّد احد بنّائي (تحوتمس الثالث) المدعو (امينموبي) لوحة ل (ميكال سيد بيت شان)، وكما نعلم انّ (ميكال) قريب جداً من اللفظ الرافديني السامي للملاك (ميكائيل) .

ولا يمكن تفسير هذا التناقض في سلوك حضارة منغلقة اجتماعيا ودينيا الا بوجه واحد، هي انها كانت ترى في عقيدة الهكسوس الساميين خطرا مباشرا على ديانتها ووجودها، فيما كانت ترى تطابقا مع عقائد الأقوام الوثنية الباطنية من الساميين، ولا تختلف معها الا في تسمية الآلهة فقط .

وَمِمَّا يعضد انّ هناك عالماً دينياً مشتركاً اكبر من الحدود الدولية والشعور الوطني كان يجمع من يتعبّد بالديانة المصرية انّ الاثيوبيين الناباتيين حين احتلّوا مصر اعتبروا انّ ملوكها - من المصريين - قد انحرفوا عن الديانة القديمة ولم يعودوا مخلصين للاله (آمون)، الذي أقام له الإثيوبيون المعابد والطقوس وأخلصوا لديانته حين كوَّنوا الاسرة الخامسة والعشرين . فيما اعتبر اليونانيون انّ الاثيوبيين اكثر الشعوب تدريبا وحكمة، نتيجة اخلاصهم لآمون .

لكنّ العراق كان على الدوام مصدر قلق للديانة الفرعونية، وقد رأينا كيف أصبحت مصر مختلفة بعد حكم الهكسوس لها، وبالتالي كانت نهاية مدينة (آمون) طيبة تبدو منطقية على يد الملك الاشوري (اشوربانيبال)، عام ٦٦٣ ق م، بعد حروبهم مع (تانوت آمون) .

انّ ظهور النبوات التوحيدية - لا سيما الكبرى - من ارض الرافدين وكونها مركز ومحور الحركة التوحيدية جعل العراق مصدر قلق دائم للفرعونية المصرية، كما انّ المجتمع العراقي او الرافديني بتفرعاته عموماً كان على نقيض مع المجتمع الفرعوني السحري، حيث كانت السلسلة الآدمية الشيتية الاولى تسكن الارض العراقية، كما انّ ارض الكوفة ومدينة (شوروباك) خصوصاً المهد الاول لنوح، ومن رافقه من السومريين التوحيديين الأوائل، فقد جاء في (ثبت الملوك السومري) ما مضمونه (في (سيبار) حكم (اينميدورانا) ... ثم هُجرت سيبار ونقلت ملكيتها الى (شوروباك) . في (شوروباك) حكم (اوبارتوتو) ... كملك – ملك واحد ... (المجموع) خمس مدن، ثمانية ملوك حكموا  ... ثم اغرق (الطوفان) (البلاد)، وبعد ان اغرق الطوفان البلاد وهبطت الملكية من السماء (مرة ثانية) اصبحت (كيش) مقر الملكية . في كيش حكم (جا اور) ...، وحكم (جولا – نيدابا انا ياد) ....) .  وهذا الاعتقاد مترسخ في الوجدان العراقي، وقد اثبته الاسلام، حيث جاء في كتاب مفاتيح الجنان في زيارة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (السلام على الشجرة النبوية، والدوحة الهاشمية المضيئة، المثمرة بالنبوة، المؤنقة بالإمامة، وعلى ضجيعيك آدم ونوح عليهما السلام ...) . لذلك كان من الطبيعي ان يتجه النبي (موسى) شرقاً في رحلته نحو الاكتمال .

حين كان للمصريين تأثيرهم في الفترة الكريتية لليونان كان للعراق وسوريا أثرهما المهم في الفترة المايسينية النقية لليونان، حيث ثبت وجود علاقات وتواصل بين الجزر اليونانية والمناطق الفراتية، على نحو أنتج مجموعة من الرؤى التي ساهمت في نمو العقلية الإغريقية للفترة ما بعد الدورية، اي في عهد الدولة المدينة .

العولمة المقدونية

تقع مقدونيا جنوب شرق أوربا في شبه جزيرة البلقان استطاعت أسرة ارجيد أن تتربع على عرش مقدونيا في القرن السابع قبل الميلاد، ثم أصبحت خاضعة للسيطرة الفارسية في القرن الخامس قبل الميلاد، وفي منتصف القرن الرابع قبل الميلاد تولى عرش مقدونيا الملك فيليب الثاني الذي استطاع أن يوحّد بلاد اليونان في وحدة سياسية واحدة .

استغل الملك فيليب الثاني المقومات الإقتصادية التي تمتلكها مقدونيا وموقعها الجغرافي في شمال بلاد اليونان والضعف الذي أصاب دويلات المدن اليونانية نتيجة الحروب الأهلية اليونانية ونجح في توسيع رقعة مملكة مقدونيا فاستولى على المدن اليونانية الواحدة تلو الأخرى، وتمكن في عام 338 ق.م . من هزيمة أثينا واسبرطة في موقعة تعرف بإسم (خايرونا) فتم بذلك سيطرته على كل بلاد اليونان وبذلك انتهى نظام دويلات المدن اليونانية فعليا في هذا التاريخ وتوحد اليونان في وحدة سياسية ودولة واحدة لأول مرة في تاريخهم الطويل هي مملكة مقدونيا وكانت هي حجر الأساس لإمبراطورية الاسكندر .

اغتيل الملك فيليب الثاني في صيف 336 ق.م، فخلفه على العرش ابنه الاسكندر المقدوني . ولد الإسكندر في صيف 356 ق.م، وفي الثالثة عشر من عمره استقدم له أبوه العالم والفيلسوف أرسطو الى مقدونيا ليتولى تعليم وتثقيف ولده الأمير الشاب الاسكندر وعاش أرسطو مدة ثلاث سنوات في تعليم الإسكندر في القصر الملكي فعلمه فنون الحكم والسياسة والجغرافية والفلسفة والأدب اليوناني وأشعار هوميروس وقد تأثر الاسكندر في سلوكه وثقافته وتشبع بأفكار معلمه أرسطو، كما تعلم فنون الحرب وأساليب القتال من والده الملك فيليب الثاني وخاض معه عدة معارك وهو في السادسة عشرة من عمره وعندما بلغ العشرين من عمره تولى عرش مقدونيا بعد مقتل والده .

توجه الاسكندر من آسيا الصغرى وسيطر على سوريه بعد معركة سهل (ايسوس) عام 333 ق.م . وهزيمة الفرس، فاتجه جنوباً نحو فينيقيا وسيطر على صيدا وصور بعد حصارها 6 أشهر حتى استسلمت مدينة صور ثم اتجه الى فلسطين وسقطت غزة في عام 332 ق.م. فأصبحت مفتوحة .

دخل الاسكندر المقدوني مصر وحرر مصر من الإحتلال الفارسي ورحب به المصريون وأعجب الإسكندر المقدوني بالحضارة المصرية وقضى فيها عدة شهور أسس فيها مدينة الإسكندرية ثم غادر مصر نحو بلاد الرافدين . كان أول صدام لجيش الاسكندر المقدوني في العراق مع الجيش الفارسي عن (سهل كاوكا ميلا) وانتهت بهزيمة للفرس في عام 331 ق.م. وفرّ الملك الفارسي دارا الثالث فلاحقه الاسكندر المقدوني باتجاه الجنوب وظل يحرز انتصاراته على الفرس حتى وصل الى مدينة بابل وسط العراق وكانت مشهورة بتحصيناتها وقلاعها وأسوارها ولكن استقبل بالترحيب فأحسن معاملته للبابليين، بعد ذلك اتجه نحو إيران واستولى على عاصمة الإمبراطورية الفارسية مدينة برسيبولس وفر الملك الفارسي الى إقليم بقطريا وهناك قتل الملك الفارسي دارا الثالث على يد حاكم بقطريا الفارسي عام 330 ق.م. فكانت نهاية الإمبراطورية الفارسية.

بعد أن حقق الاسكندر المقدوني هدفه من القضاء على الإمبراطورية الفارسية، استمر في حملته العسكرية نحو آسيا الوسطى والهند وأخضعها في عام 327 ق.م. ووصل أقصى ما وصل إليه نهر السند شرقاً قرر بعدها العودة وعاد عن طريق البر حتى وصل عائداً الى بابل في عام 323 ق.م. واستغرق في حملته العسكرية 12 عاماً.

توفي الاسكندر المقدوني في بابل عام 323 ق.م . بعد أن حكم 12عاماً وثمانية شهور ولم يتم الثالثة والثلاثين، وترك إمبراطورية تمتد في ثلاثة قارات من بلاد اليونان غرباً الى نهر السند شرقاً وما بين جبال القوقاز وبحر قزوين شمالاً حتى شمال الجزيرة العربية جنوباً بما فيها مصر وضمت إمبراطوريته شعوب وثقافات وحضارات مختلفة.

عقد قواد جيش الاسكندر المقدوني بعد وفاه مؤتمراً في مدينة بابل واتخذ المجتمعون القرارات التالية :

-  المحافظة على وحدة الإمبراطورية وتحت حكم أسرة فيليب الثاني .

-  تقسم الإمبراطورية الى 24 وحدة سياسية يتولى إدارتها قواده العسكريين .

-  يصبح القائد كراتيروس وصيا على العرش والقائد برديكاس قائداً عاماً للجيش.

لم تستقر الأمور حسب قرارات مؤتمر بابل فسرعان ما بدأت الصدامات العسكرية والصراع بين قواد الاسكندر المقدوني أدى إلى تقسم الإمبراطورية الى ثلاث دول يونانية هي:

أ- دولة البطالمة في مصر .

ب- الدولة السلوقية في سوريه وآسيا الصغرى والعراق وإيران والهند .

ج- دولة مقدونيا (الانتيجونية) في بلاد اليونان .

وبعد هذا السرد للحركة العسكرية والديموغرافية اليونانية المقدونية يمكننا ان نلاحظ :

- خضوع الإسكندر لأستاذ (موّحد) هو (أرسطو)، والذي كان احد ثمار الفلسفة الرافدينية .

- ترحيب البابليين بقدوم الإسكندر وتخليهم عن الفرس يذكّرنا بترحيبهم في المستقبل بالجيوش الموحدة الاسلامية وتخليهم عن الفرس .

- رغم ترحيب المصريين بالإسكندر الا انه فضّل انشاء مدينة جديدة يقيم فيها عسكره وحشوده، بعيداً عن الاختلاط بالجنوب المصري، الذي كان ربما لازال يخضع لتأثيرات الفكر الطيبي - النوبي الوثني .

- اختيار الإسكندر لبابل كمدينة مركزية - او ربما عاصمة - لإمبراطوريته الجديدة يكشف عن اثر واضح للفكر الأرسطي داخله، حتى انه توفي فيها .

- يبدو واضحاً انّ هناك اندماج فكري سمح بتقارب الإسكندر مع البابليين الذين سمحوا له بالتواجد بينهم كحاكم، رغم شراستهم وأنفتهم وتحسسهم للوجود الأجنبي، حتى انّ الفرس لم يستطيعوا لا في القرون الاولى ولا اللاحقة التواجد - كحكّام - الا خارج المدن البابلية .

- ويمكننا بوضوح ان نستشف مساهمة هذه الحركة المقدونية في عولمة الفكر التوحيدي، او على الأقل في إيجاد الأجواء المناسبة عالمياً للنقاش الديني الحرّ، او حتى الفكر الحر عموما .

الحلقة اليونانية

هناك من يقول انّ (سيكروبس) المصري هو اوّل من ادخل التمدّن لليونان، أعقبه الفينيقيون، فيما يرى المؤرخ (هيرودوت) انّ مجمل هويات الآلهة اليونانية وطقوسها مصرية، وانّ عقيدة تناسخ الأرواح كذلك، لكن من المؤكد ان العصر المبكر (الفترة الكريتية) شهد علاقات وصلات واضحة مع مصر . غير انّ امتزاج الحضارتين المصرية الفرعونية واليونانية الوثنية شكّل حلقة انتقال نحو الاخطبوط الوثني الروماني . حيث نلاحظ انّ الفن المصري حمل الأثر الإغريقي بعد فترة الاحتلال اليوناني لمصر، لكنّه ظلّ محتفظاً بشخوص الآلهة ذاتها . ففي معبد (بيتوزيرس) المقام من اجل (تحوت) كان للذائقة اليونانية اثر واضح، وفي المنازل الجنائزية اجتمعت أساطير (اجاممنون) و (اوديب) اليونانية مع أساطير (تحوت) و (حورس) الفرعونية . فيما قدّست المستعمرة اليونانية في (منف) الاله الهجين (أوزير - حابي) الذي يجمع بين (اوزيريس) والعجل (أبيس)، تحت اسم (اوزورابيس) . حيث استشار (بطليموس الاول) اللاهوتي الإغريقي (تيموثاوس) واللاهوتي الفرعوني (مانيتون) من اجل عقيدة مشتركة بين الشعبين، فكانت عقيدة (أوزورابيس) هي ما ارتضاه اللاهوتيان، وتمت تسميته الاله (سرابيس)، الذي كان مصريا في الأصل والاسم واغريقيا في المظهر . وتمّ انشاء معبد (السرابيوم) الكبير من اجل عبادته، والذي استبدل لاحقاً - في عهد بطليموس الثالث - بمعبد اكبر وأفخم . وتمّ فرض عبادته بارادة ملكية، لتبلغ (السرابيومات) بعد ذلك نحو أربعين .

وفي أصبحت لغة الخدمة الدينية هي اليونانية الا انّ المصريين استمروا في إطلاق الاسم القديم للاله الجديد (أوزير - حابي) . وصار الاله الجديد - حسب الباحثين - ذَا شعبية كبيرة في الجمهورين اليوناني والمصري .

وفيما كان اوزيريس حاكماً على عالم الموتى صار في العهد اليوناني حاكماً في عالم الأحياء ايضا، وهي انتقالة كبيرة في العقيدة واللاهوت، رافقت تلك الانتقالة في التسميات الخاصة بالاشخاص، التي صارت للمرة الاولى تضيف اسم اله الموتى اليها، مثل (بيتوزيرس) اي (عطية أوزوريس) . لكنّ هذه الانتقالات لم تكن باهمية اختزال الاله الأكبر (رع) في شخص (أوزوريس) منذ الاسرة العشرين، حيث لم يعد (رع) يُستخدم كثيرا، بل صار هو عينه (أوزوريس)، وصار يشار له بعين الشمس . وقد أكّد احد نصوص الاسرة الثامنة والعشرين ذلك بشكل صريح وواضح، حيث جاء فيه (أوزوريس ... الحاكم الذي احتلّ مقعد رع) .

فيما تقدمت الآلهة (إيزيس) كما تقدّم زوجها (أوزوريس) الى المقدمة، يرافقهما ابنهما حورس . وقد أصبحت (إيزيس) تُعبد في كل حواضر اليونان، ومنها اثينا وايوبيا، ولم تعد عبادتها وعبادة (سرابيس) وباقي الآلهة المصرية الفرعونية تُمارس سراً على يد الجماعات فقط، بل صارت عامّة وشعبية، كما انها رسمية ايضا .

ولم يكن انتشار هذه العبادة بصفة رسمية فقط، لكنها كانت تسري بفعل انتقال الموظفين اليونانيين، وبالتالي جلبهم تلك العقائد الى مدنهم، كما في ثيرا وكنيدوس . ولم يمنع فقدان البطالمة اليونانيين لجزر بحر ايجة وباقي بلاد اليونان من استمرار انتشار عبادة (سرابيس) و (إيزيس)، حتى انّ (إيزيس) بدأت تظهر على العملة المعدنية في اثينا . وقد وصلت هذه العقيدة الى ديونيسيوبوليس على البحر الأسود، والى صقلية في البحر المتوسط . بينما نرى اليونان قد مزجوا بين الاله المصري (تحوت) وبين ألههم (هرمس)، ومن هنا أطلقوا على واحدة من اهم المدن المصرية دينيا وهي مدينة (الاشمونين) اسم (هرموبوليس ماجنا) . وقد بقي الثالوث المصري المقدس (أوزوريس - إيزيس - حورس) في العهد اليوناني البطلمي معبوداً له طابع خاص، سوى انّ حورس قد تمّ تصويره كطفل بين يدي أمه .

ويبدو انّ المصريين كانت لهم هجرة تجارية او ادارية في زمن اليونان او قبله ساهمت في بداية انتشار العقائد المصرية الفرعونية . فنلاحظ انّ عقائد (إيزيس) و (آمون) تواجدت في (بيريوس) بين التجار المصريين، ومنذ (بطليموس الاول) و (بطليموس الثاني) بدأ انتشار المصريين في جزر اليونان وجزر بحر ايجة . وقد ساهم الموظفون المصريون الذين ارسلهم البطالمة لهذه الجزر في سرعة انتشار تلك العقائد، وقد بنيت ل (سرابيس) المعابد في (ميليتوس) و (هاليكارناسوس)، رغم انّ عبادته وصلت الى (ديلوس) في وقت اسبق . ومن خلال هذه الجزر اليونانية عبرت العقيدة المصرية - بثيابها الجديدة - حتى وصلت الى قلب (اثينا) .

ويرى الباحث (سلامة موسى) في كتابه (مصر أصل الحضارة) انّ الهجرات المصرية نحو اليونان وجزرها كانت على ثلاث مراحل، الاولى في عصر الدولة القديمة، والثانية في ايام الدولة الوسطى، والثالثة وهي الأهم ايام الاسرة السادسة والعشرين . وينقل سلامة موسى انّ أسطورة إغريقية تتحدث عن (أسرة ملوكية مصرية) كانت تحكم بلاد اليونان، أنشأها (دانوس)، لذلك هو يرى وجود أصل مشترك بين الشعبين . فيما ينقل انّ المصريين في الوقت الذي يرسمون أشكال الشعوب الاخرى مثل الزنوج والحيثيين بنحو من الاستهزاء فانهم كانوا يرسمون اليونان بالشكل الذي يتطابق مع هيئة المصريين . فيما تزوجت (كليوباترا) أخاها (بطليموس الثالث عشر)، في واحدة من الممارسات الخاصة بالعوائل الملكية الفرعونية .

وقد ورثت روما مجمل الحضارة اليونانية، بحكم الواقع او المخالطة او التأثر، وفيها ومن خلالها بدأ الانتشار المكثف للديانة الفرعونية الوثنية، حيث لعبت روما لاحقاً دوراً خطيراً في عولمة هذه العبادات والعقائد، وبفعلها صار للديانة الفرعونية طريق جديد، وتزاوجت لاحقاً مع الديانات الإبراهيمية التي تمت سرقتها، وهذا ما سيأتي لاحقاً باْذن الله .

فرغم انّ معابد الآلهة القديمة (حتحور) ترجع الى العصور الفرعونية الاولى الا انّ اهم معابدها الحديثة بناها (بطليموس التاسع) في نحو نهاية القرن الثاني قبل الميلاد، فيما استكمل بنائه خلفائه من البطالمة اليونان، ومن ثمّ الرومان في عهد تراجان عند القرن الاول الميلادي .

الإغريق مجموعة إنسانية اجتمعت تحت ظلّ الظروف الصعبة، وارتضت بعض المدن اجواء التمدن القريبة اليها، وتوفرت لها عوامل ثقافية رافدينية وفينيقية مناسبة، امتزجت برغبة في تطوير الذات الوطنية، وشيء من السلام، وطبيعة خلّابة وفَّرت السماء الصافية لعقلية متفتحة، فيما اختلطت فيها أيضاً مجموعة من التأثيرات المجاورة والوافدة المهاجرة .

ولم يكن الإغريق مناسبين لعولمة الديانة المصرية بقدر ما كان الرومان مناسبين لذلك، فالاغريق في مصر وحدها هم من اعتنق تلك الديانة وحاولوا نشرها في محيطهم اليوناني القريب، فيما كان باقي الإغريق ممتزجين بعقائد اخرى . انّ ارتباط تأسيس الحضارة العقلية اليونانية ببلاد الرافدين وسوريا جعلها أقلّ استقراراً امام العقائد الوثنية، لذلك جاء في نقش يوناني يعود للقرن الميلادي الاول ما نصه (انهم بنحتهم تماثيل لاوزيريس وإيزيس ولالهة ذات وجوه حيوانية او بشرية من مادة فانية فانهم يخاطبونهم جميعا كآلهة . انه لمن الغباء ان تخلقه هو ذلك الذي خلقك . وانه لمن المحال على مثّال ان يعبّر عن الجوهر غير المتجسد واللامدرك والذي لا تحيط به الابصار واللامادي . وفي الحقيقة انه بالعقل وليس بالايدي يمكن فقط ان يُحتفظ بالسرّ المقدس . وهناك معبد واحد للاله هو الملكوت بأسره) .

 

 

في المثقف اليوم