دراسات وبحوث

عصمت نّصار: الحكمة العقلية للشريعة الربانية في فلسفة ابن عاشور

ما أكثر الكتابات المعاصرة التي تتجاهل أو تتهكم على تلك الفلسفة التي رسم بناؤها وأسس بنية أفكارها رواد التنوير في الثقافة الإسلامية الحديثة خلال الفترة الممتدة من النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى بداية النصف الثاني من القرن العشرين وأعني مدرسة (حسن العطار ١٧٦٦م – ١٨٣٥م ، رفاعة الطهطاوي ١٨٠١م – ١٨٧٣م، أحمد فارس الشدياق ١٨٠٤م – ١٨٨٧م، عبد القادر الجزائري ١٨٠٨م – ١٨٨٣م، خيرالدين التونسي ١٨٢٠ م – ١٨٩٠م، بطرس البستاني ١٨١٩م – ١٨٨٣م) ثم المدارس المنبثقة في مطلع القرن العشرين التي يمثلها مدرسة (محمد عبده ١٨٤٩م – ١٩٠٥م، الشيخ حسين الجسر ١٨٤٥م – ١٩٠٩م، محمود شكري الألوسي ١٨٥٦م – ١٩٢٤م، ابن باديس ١٨٨٩م – ١٩٤٠م) ثم شبيبة الرواد الذين قادوا حركة التنوير والتجديد والإصلاح في شتى أنحاء العالم الإسلامي منذ النصف الأول من القرن العشرين، منهم المشاهير ومنهم الذين حجبوا في دائرة الظل بقصد أو عن غير قصد، وذلك ليتعملق الأقزام والأدعياء في الربع الأخير من القرن العشرين، والربع الأول من القرن الحادي والعشرين، ويدعون أنهم أصحاب مشروعات وخطابات تنويرية وثورات تجديدية حداثية تأمرت جميعها على التشكيك في أصالة ومكانة الفكر الإسلامي بعامة والتشريع الربّاني على وجه الخصوص.

ولعلّ أفضل من تصدى لهذه الحملة الجائرة من شبيبة هذه المدرسة هو “ابن عاشور” : رائد علم المقاصد الإسلامية الحديث وهو المجدد الذي سوف نفرد له بعض المقالات التي تكشف عن آثره ومدى حاجتنا لنهجه العقلاني في دراسة الشريعة وسط غُلة القضايا التي نعيش فيها دون حل شافي أو جواب كافي لإصلاح ما فسد وتقويم ما جنح في حياتنا الإجتماعية والسياسية والإقتصادية، بل وعوائدنا الدينية.

وخليقُ بي توضيح أنه من الخطأ الحديث عن التجديد عند “محمد الطاهرابن عاشور ١٨٧٩ م- ١٩٧٣م” بمعزل عن مصادر وجهته في دراسة الفكر الإسلامي بوجه عام.

ولعل (محمد عبده، ومحمد الخضر حسين ١٨٧٦م – ١٩٥٨م، وعبد العزيز الثعالبي ١٨٧٦م – ١٩٤٤م) من أكثر المفكرين المسلمين الذين كان لهم عظيم الآثر في تحديد وجهته وتقويم منهجه في دراسة النصوص الشرعية ذلك المنهج الذي رَغِب عن المحاكاة والتقليد إلى إعمال العقل والبحث الحر بغية الإصلاح والتجديد حتى بات شعاره في معظم كتاباته هو (إنّ الأمة التي تسعى إلى التنوير وتجديد الدين وإصلاح مقاصد الشريعة في أذهان العوام والمقلدين، هي التي يسود في نهوجها النقدية روح التثاقف الحر والرغبة الصادقة في البناء على قاعدة عريضة من الأصول الشرعية الموافقة بطبيعتها للعقل الواعي بدروب التطور من جهة والعلم الإلهي الذي يستلهمه المجددون والمصلحون عند تصديهم لقضايا الواقع المعيش في المجتمع الإسلامي من جهة اخرى)، وباتت دعوته لمستمعيه وقرائه (الله يضئ آرائكم بالحكمة).

وقد أشتهر شيخنا بتجديد “علم المقاصد” وذلك بغربلة الكتابات الفقهية السابقة عليه بحجة أن أحكامها قائمة على المسائل الظنية وبضع الأحاديث الضعيفة، في حين أنه أراد إقامة “علم المقاصد الشرعية الجديد” على أمرين:

أولهما: الأحكام القطعية في المنقول – أي قاطعة الثبوت والدلالة في النص القرآني والأحاديث النبوية الشريفة – والآراء التي تتفق في التأويل والتفسير مع صريح المعقول، ويعني ذلك أنه أراد تفعيل نهج “محمد عبده” في إستنباط الأحكام الفقهية على قاعدة ترمي إلى إيضاح المقصود من النص القرآني، أو الصحيح من الحديث الشريف إستناداً على التأويل العقلي الذي لا يتعارض مع قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، وقد تأثر في ذلك بما كتبه “العز بن عبد السلام ١١٨١م – ١٢٦٢م”، و” شهاب الدين القرافي ١٢٢٨م – ١٢٨٥م ” في حديثهما عن المقاصد الشرعيّة.

وثانيهما: مراعاة التطور الدلالي للحكم الشرعي على نحوٍ لا يتعارض مع المقصد الذي قصده الله تعالى في آياته أو في الأحاديث التي أجراه على لسان نبيه صلوات الله وسلامه عليه وقت نزول النّص، ثم مقابلة دلالة هذا المقصد والمُراد منه أو العلة المباشرة الكائنة وراء الحث أو المنع مع ما يناظره أو مساوٍ له في ثقافة الأزمنة المعاصرة، ساعياً لإستنباط المقاصد من كليات الضروريات والحاجيات الأنسب، وبَيّن أن خطأ السابقين عليه يرجع إلى إنتصارهم إلى تقليد السلف دون غربلة أو تعميم المقاصد الجزئية في سياقات كلية وعمومية وذلك تبعاً للنظرة السائدة في عصره، وقدّم في ذلك كله (قاعدة دفع الضرر مُقدّم على جلب المصلحة)، كما بَيّن أن الإحتكام إلى الإستقراء والتطبيق والتجربة العملية خيرٌ معين على تحديد المقصد الشرعي من عملية الإستنباط الظاهري أو القياس اللغوي أو الإنتصار إلى تقليد مذهب بعينه أو رأي شائع، ولاسيّما في الأمور المتعلقة بالسياسة والحكم وقضايا الأمن والعدالة والسلم الإجتماعي، وإن تعارضت هذه المقاصد العامة المرجوحة على غيرها من المصالح الجزئية الراجحة، وقد أحتج في نهجه هذا على بعض الأحداث والمواقف الإجتهادية التي قام بها أكابر الصحابة والتابعين، وذلك ليقنع  الرأي العام بأن تجديده في علم المقاصد ليس بدعة أو تجديف أو خروج عن ثوابت العقيدة الإسلامية، ويبدو ذلك كله في ما جاء في مقدمته لكتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية”: (هذا كتاب قصدتُ منه إلى إملاء مباحث جليلة بي من مقاصد الشريعة، والتمثيل لها، والإحتجاج لإثباتها، لتكون نبراساً للمتفقهين في الدين، ومرجعاً بينهم عند إختلاف الأنظار، وتبدل الأعصار، وتوسل إلى إقلال الإختلاف بين فقهاء الأمصار، ودربة لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض عند تطاير شرر الخلاف، حتى يستتب بذلك ما أردناه غير مرة من نبذ التعصب والفيئة إلى الحق إذا كان القصد إغاثة المسلمين ببُلالة – أي ما يرطب الحمية ويُليَن الجمود – تشريع مصالحهم الطارئة متى نـزلت الحوادث، وإشتبكت النوازل، وبفصل من القول إذا شجرت حجج المذاهب، وتبارت في مناظرتها تلكم المقانب – أي المستورة الملتبسة -).

ونستخلص من ذلك؛ أن غاية شيخنا “ابن عاشور” هو فتح باب الإجتهاد في علم الفقه وأصوله وتأسيس علم المقاصد الشرعية على قواعد نقدية عقلية وربط معيار المفاضلة بين المقاصد بالتجربة العملية والإستقراء الواعي لنتائج التطبيق والمألات، ويعني ذلك أن خطاب شيخنا التجديدي منبثق من مشروع “محمد عبده” الإصلاحي؛ ذلك المشروع الذي أشرنا إليه في غير موضع من كتابتنا.

وليس هناك اوضح من تصريح “ابن عاشور” نفسه بأن الغاية التي يرمي إليها هي تجديد الدين ودفع تهمة الجمود عن علومه الشرعية والتأكيد على أن القانون الإسلامي أيسر وأصلح من غيره للتطبيق في المجتمعات الإسلامية؛ بل في المجتمعات الإنسانية وذلك لمرونة قواعده الثابتة وواقعية وعقلانية ترغيبه وحثه ومنعه أو تحريمه وغير ذلك من الأمور التي تنشد صلاح المجتمع وهداية الأنفس مع توضيحه أن كل ذلك يتعذر إستيعابه وتطبيقه في ظل جمود الرأي العام وغلق باب الإجتهاد والتجديد وإستحسان أصحاب الرأي لسُنة التقليد وتشرذم النخبة وإنقسامهم إلى فرق وجماعات وطوائف، لذا نجده يحرض شبيبة المسلمين ويحث أمراء المنابر على إنتهاج ضربه في تجديد الدين والإعتماد على علم المقاصد الشرعية في التصدي والإضطلاع بإصدارالأحكام الخاصة بالمعاملات الإجتماعية بداية من تربية الأطفال إلى أحكام النكاح وفقه الحدود والقضاء وسَن القوانين وإنتهاء بنصوص المعاهدات والإتفاقات الدولية، ويقول في ذلك : (إنّ غاية  البحث ورسالته عن مقاصد الإسلام من التشريع هي الكشف عن قوانين المعاملات والآداب التي أرى أنها الجديرة بأن تخص باسم الشريعة لمراعاة مصالح الأمة فيها، ولحفظ نظام العالم وإصلاح المجتمع، وهو مظهر لعظمة الشريعة الإسلامية بين بقية الشرائع والقوانين والسياسات الإجتماعية، … إني أريد به – أي علم المقاصد – ما هو قانون للأمة، ولا أريد به مُطلق الشيء المشروع، … إنّ أحكام الشريعة كلها مشتملة على مقاصد الشَارِّع وهي حُكم ومصالح ومنافع، ولذلك كان الواجب على علمائنا تعرف عِلل التشريع ومقاصده، ظاهره وخفيه، … إنّ معرفة مقاصد الشريعة نوع دقيق من أنواع العلم، وحق العالم فهم المقاصد، والعلماء متفاوتون في ذلك على قدر قرائحهم، ودقة فهومهم، وعلى قدر حظهم من التمكن من العلوم الشرعية).

ومقصدي غير الأحكام الجزئية ولا فقه الحلال والحرام في العبادات؛ بل أسعى إلى إصلاح ما فسد من عادات وأخلاقيات وسُنَن في المجتمع الإسلامي وإشتهرت بأنها من الدين ومستنبطة من الشرع وإحتج المروجين لها بنصوص مبتورة ودلالات مضللة إلى درجة إتهام الدين بما ليس فيه، في كتابات المغرضين والمشككين وأعداء المِلة من غلات المستشرقين.

ويترأى لي أن خطاب “ابن عاشور” الفقهي – الذي ألمحنا إلي جانب منه – قد أجتاز علم أصول الفقه منطلقاً إلى أفق أوسع يمكن أن نطلق عليه فلسفة الفقه الإسلامي أو الحِكم العقلية للقوانين الشرعية، وهو جدير بأن يدرج ضمن المقررات الدراسية للفلسفة الإسلامية وجل معاهد ومدارس الفكر الإسلامي، وقد ألمح إلى ذلك “محمد إقبال ١٨٧٧م – ١٩٣٨م”، و”مصطفى المراغي ١٨٨١م – ١٩٤٥م، و- معاصره وصديقه – الشيخ “مصطفى عبدالرازق ١٨٨٥م – ١٩٤٧م”، في كتابه (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ١٩٤٤م) وفي محاضراته في الجامع الأزهر وكلية الآداب بالجامعة المصرية، ومعظم المؤتمرات والندوات التي شارك فيها منذ أوخريات الثلاثينيات من القرن العشرين، ويعني ذلك أن علم المقاصد الذى دعى إليه “ابن عاشور” عام ١٩٤٦م  كان من العلوم المُدرجة في مشروع “محمد عبده” والعقل الجمعي لتلاميذه، غير أن معظم الدراسات التي تحدثت عن آثر هذه المدرسة في تونس لم تشر إلى فضل “ابن عاشور” في تطبيق تلك الفكرة وإرشاد الرأي العام القائد إليه، وقد ترتب على ذلك خلو مقررات الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي الحديث من ذلك الآثر.

وحسبي أن أشيد بدراسة العالم البحاثة “عمار الطالبي” عن مكانة “ابن عاشور” في ميدان التجديد التي أشار فيها إلى الجانب المنهجي الذي أوصى به شيخنا في كتاباته وجعله شرطاً لفهم النصوص الشرعية المنقولة، ومن ثَم كان الضروري على الفقهاء المعاصرين والدارسين المحدثين إنتهاجها والإلمام بأبعدها والإحاطة بمسالكها ..

إنْ واجب الباحث عن المقاصد كما يراه الإمام ابن عاشور (أن يطيل التأمل، ويجيد التثبت في إثبات مقصد شرعي. وحذر من التسرع والتساهل في ذلك فلا يعين مقصداً ما  إلا بعد استقراء التصرفات الشرعية في النوع الذي يريد أن يستقي منه مقصده الشرعي، ويرجع أيضا إلى إجتهادات أئمة الفقه ليستنير بممارساتهم وآرائهم، فيكسبه ذلك قوة إستنباط بها يدرك المقاصد إدراكاً واضحاً، وقد يصل الباحث إلى علم قطعي أو قريب منه، وإذا لم يصل إلاّ لظن ضعيف فليرفضه لباحث بعده يزيده فقهاً وربما كان أفقه ممّن سبقه).

وأعتقد أن هذا القول يجعل “ابن عاشور” رائداً من رواد التفكير الناقد وفن قراءة القراءة وفلسفة التأويل الإسلامي.

وللحديث بقيّة عن إجتهادات وتجديد شيخنا في العلوم الإسلامية.

*** 

د. عصمت نّصار

 

في المثقف اليوم