دراسات وبحوث

عصمت نّصار: تجديد علم أصول الحديث بين التأصيل والتحديث

يبدو أن المراجعات العلميّة والنقوّد التحليليّة لكتابات المُصلحين والمُجددين قد أختفت وسط عراك المثقفين المعاصرين حول توافّه الأمور .. ومن هذا الباب نجد من يدعي أن نهج “ابن عاشور” في تجديد علم الحديث وإنتقاداته لكُتب الجُماع يساير غلاة المستشرقين، ومن نحى نحوهم مثل (أحمد خان ١٨١٧م – ١٨٩٨م )، و(أحمد أمين ١٨٨٦م – ١٩٥٤م)، والسيد (عبد الحسين شرف الدين ١٨٧٢م – ١٩٥٧م) وغيرهم من الكُتاب الذين طعنوا في كُتب الحديث بوجه عام، دون أن يقدّموا حلولاً أو يجتهدوا في معالجة ما يترأى لهم من خلل أو تقصير في كُتب الصِحاح منها. والحق أن “ابن عاشور” لم ينكر مكانة قطعيّ الثبوت والدلالة من الأحاديث في أصول العقيدة، ولم ينكر علم الحديث بمجمله؛ بل أنتصر إلى رأي الإمام “الشافعي” في عدم الإعتماد على الأحاديث وحدها كمصدر من مصادر التشريع، ولم يوافق أيضاً على أن تكون السُنة ناسخة (لاغية) لما جاء في القرآن، أو تقديس كُتب الصِحاح والإعتقاد في أن الحفظ الإلهي قد شملها من الخطأ أو الوضع كما أدعى (ابن الصلاح الشهرزوري ١١٨١م – ١٢٤٥م)، كما بَيّن أن التعبّد بها غير جائز؛ اتفاقاً مع رأي الجمهور .

وخلاصة رأي “ابن عاشور في هذا السياق يستند إلى ما ذهب إليه الأستاذ الإمام “محمد عبده” في ضرورة إعمال العقل في متون المرويّات، وحِجَته في ذلك أن تأمل الخبر الإلهي بالنظر والتحليل واجب شرعي، فكيف لا تخضع أحاديث النّبي لذلك الأمر الإلهي إنّ كانت من عنده حقاً؟! وذلك للوقوف على المقصد الربانيّ والدلالة الإلهية باعتباره الأمر الذي خلى من الهوى وكونه وحياً يوحى، ومن أقوال “محمد عبده” في ذلك: (كنّا غير مكلفين بالإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا)، وقد صار على نهجه “عبد المتعال الصعيدي” في إجتهاداته لإصلاح علم الحديث. وقد بَيّنا ذلك بالتفصيل في كتابنا (حقيقة الأصوليّة الإسلامية الصادر عام ٢٠٠٤م).

أمّا عن صِلة “ابن عاشور” بالأستاذ الإمام وتتلمذه على نهجه وبنية مشروعه، تلك التي شَكّك فيها بعض عوام المثقفين نهدي إليهم هذا التصريح بقلم “ابن عاشور” نفسه، وقد ورد على صفحات مجلة الأزهر في عدد أبريل ٢٠١٢م (أيها الأستاذ إنّ مباديكم السامية التي ترمي سهمها الأفلج – الناجح – شوارد التقدّم … قد أوجبت لنفسي نحو لقياكم كثرة إشراق مع علو في محبتكم وإغراق، فلا يتعجب الأستاذ – أيده الله – من نفس أظهرت له التعلق عند ملاقاته الأولى، فإنّا وإن لم نلتقِ بشخصه من قبل، فقد لاقين ذكره وفرائده) ذلك فضلاً عن حرص “ابن عاشور” على ذكر تعلقه بمشروع الأستاذ الأمام التنوري في كتابه “أليس الصبح بقريب” الذي ظهرت طبعته الأولى عام ١٩٦٧م، وأشتمل على آرائه الإصلاحية لكُتب العلوم الشرعيّة، وتواصله الدائم مع رواد مدرسة الإمام وعلى رأسهم “محمد الخضر حسين”، و”مصطفى عبد الرازق”، و”عبد المتعال الصعيدي”.

ومن يُطالع كتابات “ابن عاشور” عن إصلاح الآليات الضرورية للوقوف على مقاصد الشريعة التي وردت في القرآن وصحيح السُنة سوف يُدرك مدى تأثره بهذه المدرسة.

ومن مظاهر تجديد “ابن عاشور” في علم الحديث، هو تفعيله المنهج العقلي بكل ضروبه في قراءته لمتون الأحاديث بعد إنتقائه منها ما لا يتسرّب إليه الشك من حيث صحة الروَاه، وتسلسل السند بلا إنقطاع أو إرتياب في تاريخ الراوي وحُسن سيرته، ذلك فضلاً عن قدرة المُحَدِث وفصحاته في التعبير عن ما يراه أو يحفظه ويفهمه، وأمانته في السرد بوجه عام وقربه من مجالس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإبتعاده كليةً عن هوى التعصب أو الإشتراك في المصاولات بين الفِرق الفقهية أو الكلاميّة – إنّ كان من التابعبن -. نعم كل ذلك كان يتحرّاه “ابن عاشور” في تحرير السّند من الآفات التي كانت تقوده إلى الشك أو الغمز أو اللمز.

أمّا نهجه في قراءة المتون فكان أقرب إلى التحليل بكل أشكاله، بداية من تحليل الألفاظ ودلالتها مروراً بتحليل السياّقات والمناسبات والظروف والمُلابسات، وإنتهاءٍ بتحليل الواقعة وصحة حدوثها من شتى النواحي.

فكان يميّز بين المحفوظ والمكنَون، وأكل النبيّ للجراد من عدمه، والمعجزات التي نُسبت للنبي وشواهدها ومقاصدها ومآلاتها، ثم يقوم بعد ذلك بنقَد هذا المَتّن بعد مقابلته بآيات القرآن ذات الصلة أثناء عمله في التفسير والتأويل، ثم ينتخب من هذه العمليات العقلية الخطاب الذي يجب على الداعيّة الإلتزام به عند الإستشهاد بهذا الحديث أو ذاك، بغض النظر عن المُصنف الذي حواه من كُتب الحديث، فما أكثر الروايات الضعيفة أو الموضوعة في كُتب السُنّن أو ما نُطّلق عليه المتون الصحيحة، وتشهد بذلك اعترافات جُماعها التي استبعدت أغلب الروايات التي أمعَنتَ فيها النظر وطَبَقّت على أحاديثها المعايير التي إرتضاتها عقولهم أنذاك.

وأرى أن “إبن عاشور” في ذلك كان أقرب في نهجه ممّا نُطلق عليه اليوم (التفكير الناقد) أو (قراءة القراءة) وهاهي بعض أقواله في ذلك:

(وقد كانت تلك السُنن – يقصد سُنن أبي داود – مرجعاً للعلماء يحتكمون إليها عند كل خلاف، أمّا درجتها من حيث الصحة فإنها تؤخذ من عبارة المؤلف نفسه وهي “كتبت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خمسمائة ألف حديث، فأنتخبت منها أربعة ألاف وثمانمائة ضمنتها في هذا الكتاب” …. وعن سورة المزمل وترتيب آياتها ذَكر أن الروايات ذات الصلة المنسوبة إلى أم المؤمنين “عائشة رضي الله عنها” مضطربة، إذ ذكرت حادثة ترتبط بآخرها ويعني ذلك أن صَدّر السورة تَنَزّل في مكة وآخرها في المدينة، وهذا بخلاف الواقع وذلك لأن النبي لم يبنِ بعائشة إلا في المدينة، وأن ما جاء به (الطبري ٨٣٨م – ٩٢٣م) لا يتفق مع المُجمع عليه أي (أسباب النزول وترتيب الآيات ومناسبتها) …. جاء في أحاديث (الترمذي ٨٢٤م – ٨٩٢م) إحدى الروايات التي تُنبّأ عن إستشراف النبي أن بني أميّة سوف يؤول إليهم المُلك والحُكم بعد حفيده الحسن بن علي، وقد ذَكر ذلك الراوي في مَعرض حديثه عن إنّا أعطيناك الكوثر، وليلة القدر خير من ألف شهر. ويدخل ذلك في باب التجديف والتلفيق، كما أن الراوي الذي أسندت إليه حكاية إستشراف النبي منسوبه إلى رجل مجهول الأصل والسند …. وجاء عند (الدارقطني ٩١٨م – ٩٩٥م) رواية تَنزّع إلى أن النّبي رد مطلقة إلى زوجها بعد الطلقات الثلاثة، وقيل تبريراً لذلك الحديث أن الطلقات الثلاثة لا تقع في كلمة واحدة والقصة عن طلقة رجعيّة، وهذا لا يجوز في رأي “ابن عاشور”؛ لأن هذه الرواية جاءت على خلاف ما أجتمع عليه أئمة رواة الحديث والفقه … ذلك فضلاً عن مئات الأحاديث التي أستشهد بها المفسرون لتوجيه أسباب النزول إلى معنى يريدونه أو حُكّم يرغبون فيه … كما احتكم “ابن عاشور” إلى بعض الأحاديث الضعيفة التي وجدها أقرب للعقل من دونها التي وصُفت بأنها صحيحة ولاسيّما التي تعرّضت لقضايا العقيدة الشائكة مثل التشبيه والتجسيد، واستبعد كذلك الأحاديث التي أوردها الصحيحان وفيها شُبه تُسيء من قريب أو من بعيد لسيّرة النبي … ويبدو استخدامه لمنهج اللاهوت المقارن في تنقية الأحاديث من غبار الإسرائليات، فكان يُشير إلى المواضع التي أقتبسها المؤولون والمفسرون والرواه من الكتاب المقدّس).

وحسبي أن أُشير في هذا السيّاق إلى جهد الباحثيّن الأردنييّن (سعد أمين المناسية، سلطان سند العكلية) في دراستهما المعاصرة عن جهود “ابن عاشور” في علم الحديث الذي نشراه في مجلة “مؤتة للبحوث والدراسات التي تصدر عن كلية الشريعة بالأردن٢٠١١م “.

كما أبدع “ابن عاشور” في استخدامه نهج نقد النقد، وذلك بإطلاعه على ما جاء في كتابات الجُماع في تضعيف بعض الأحاديث أو وصفها بالوضع ومقابلتها بأحكام أخرى في مصنفات حكمت على ذات الأحاديث بأنها صحيحة أو حَسنة. وقد أستنبط “ابن عاشور” من ذلك أن علم الجرح والتعديل يحتاج إلى مزيد من المراجعة والضبط.

وفي هذا السبيل نجد عشرات الأحاديث التي تتحدّث عن المرآة ومكانتها بوجهتين متناقضتين؛ فالوجه الأول يصف المرآة بأنها من ضلع أعوّج وناقصة عقل ودين وتستحق الضرب عقاباً لما تقترفه تجاه الرجل؛ وأن العجائز لا يدخلن الجنة. وفي الوجه الثاني نجد أحاديث توصّفها بأنها المخلوق الرقيق الذي ينبغي معاملته برفق، أو المؤمنة التي يُرجع إليها لتحصيل نصف الدين وهي التي أوحى إليها الله واصطفاها وكَرمها وهي المساوية للرجل في التكليف وهي الحرة التي تمتلك أهلية البَتّ في مالها وعِرضها، كما أن رواة الأحاديث أختلفوا كذلك في بعض الأحكام العقديّة التي تَمس حرية الإنسان في الإعتقاد وإقامة الحدود في التشريع وفي السياسة ولاسيّما علاقة المسلمين بالأغيار وسلطات الحاكم.

ولا يُخفَى على أحد أن مثل هاتيك الأحاديث المتضاربة والمتعارضة في الدلالة والمضمون، قد أثارت لجاجة العوام ودفعتهم إلى التطرف والجنوح عن المقصد الحقيقي للإسلام، كما دفعت غُلاة المستشرقين للإستشهاد بتلك الأحاديث في بِنيّة طعونهم الجائرة، بَغيّة إنصراف الناس عنهم أو التجرأ على وصف النبي بما ليس فيه وهو برئ منه.

وأعتقد أن هذا هو الهدف الحقيقي وراء دعوة “ابن عاشور” إلى إعادة غربلة وتنقية كُتب جُماع الحديث بآليات عقلية معاصرة تحمي أصالة الكلام المقدّس الذي لفظه النبي وتُخِلي ما حَاقّ بسيرة النبي وما رُويّ عنه من الوضع والإنتحال والتلفيق والتجديف، ويقول في ذلك: (ولم يشتهر في النقد مثل “الإمام مالك بن أنس”، وعلى منواله نسج “البخاري”،و”مُسلم”، ويليهما “أبو داود”، ثم “الترمذي”. وعندي أن أكثر ما أستدرك على “البخاري”، و”مُسلم” إنما هو مبنيٌّ على التساهل، لاسيّما مستدركات “الحاكم”، و”البهيقي” … هذا؛ وقد كان بعض الوضاعين يسلك طريق أخرى للوضع، وهي أن يَعَمَد إلى الأحاديث الصحيحة فيزيد فيها …. أعتل الوضاعون بعد ما رأوا من صرامة أهل النقد بعِلة جديدة، وهي التساهل على أحاديث فضائل الأعمال، ومنشأ ذلك شيوع التصوف ظناً منهم أن الكذب في الترغيب مصلحة، حتى إنّ أحدهم لِيَمِ على صنيعه وذُكر بحديث:” من كَذب عليّ متعمداً فليتبؤأ مقعده من النار”، فقال: “إنما كذبت له لا عليه” وتغالى بعض الجهلة فقال: “يكفينا في وجوب الآخذ قول القائل قال رسول الله سواء كان صدقاً أم كذباً، وأيدوا ذلك برؤى حلمية” … وقصور الهمم عن مزاولة علم الحديث مزاولة نقد وضبط … فبينما يكون (الحديث) أصلاً ثابتاً بالقرآن أو بالسُنة أو بمعرفة مقصد الشريعة الحاصلة بالقياس الجليّ، إذْ بحديث يَطنّ على الآذان يهدم ذلك الأصل أو يعارضه، ولا يعدم ذلك متابعاً وإنْ كان أساطين السلف أحطأوا فيه.

فقد رُويّ عن عمر أنه رُويّ له حديث يخالف القرآن وما مضي من السُنة؛ فقال “لا نترك كتاب الله وسُنة نبيه لقول إمرآة لا ندري أصدقت أم كَذبت” … فالذي نراه للإتيان على ما بقيّ حافاً بعلم الحديث من الخلل أن يسد باب التسامح في إيداع الأحاديث الضعيفة في كُتب الحديث، ولو كانت في فضائل الأعمال، فإنّ ترْك ذلك أعظم فائدة للدين من ذِكره، وفي الأحاديث الحُساّن بَلاغ لطالبي الفضائل وأن يطرح الإشتغال بضبط أحوال الرواة بعدما محَصّ الحُفاظ صحيح الحديث من عليله، فإنّ الإشتغال بذلك أصبح قليل الجدوى، فليقتصر على ذِكر الصحابي الراوي للحديث وعلى ذِكر رتبة ذلك الحديث في نظر أهل النقد).

وللحديث بقيّة عن نقدات “ابن عاشور” الخفية لكُتب الأحاديث والسيّرة النبوية.

***

بقلم: د. عصمت نّصار

 

في المثقف اليوم