دراسات وبحوث

مالك بن نبي والفكرة الحضارية للإصلاحية الإسلامية

mutham aljanabiاستمدت الفكرة الحضارية عند مالك بن نبي مصادرها من فكرته السياسية، والعكس صحيح أيضا. بل يمكننا القول، بان كل منها يكمّل الآخر بصورة عضوية، وينطلقان من منهج واحد ورؤية موحدة. بمعنى أن الفكرة السياسية هي فكرة حضارية، والفكرة الحضارية هي فكرة سياسية. وكلاهما ينطلقان من الواقع التاريخي والتجربة التاريخية ويؤسسان لآفاقهما التاريخية. من هنا يمكن فهم الصيغة المفارقة لبحثه عن اثر الدين في أساس كل حضارة ومنشئها، وفي الوقت نفسه دعوته لكي يكون المبدأ الأخلاقي الايجابي في تأسيس البدائل الحضارية في العالم الافروآسيوي (والإسلامي والعربي جزء منه) ليس دينيا. ففي هذه الصيغة المفارقة تنعكس خصوصية الفكرة الإصلاحية الإسلامية عند مالك بن نبي وجوهرية الفكرة التاريخية فيها.

فقد اعتقد مالك بن نبي، بان الحضارة لا تنطلق إلا من مبادئ دينية. وقد تكون الحضارة النصرانية والإسلامية احد نماذجها الرفيعة. بمعنى تأثير وجوهرية الديانة النصرانية والإسلامية في تصنيع حضاريتيهما. وعمم موقفه هذا للدرجة التي جعلته يقول، بان "الحضارة لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية. وينبغي أن نبحث في أية حضارة من الحضارات عن أصلها الديني الذي بعثها. وينطبق هذا على اثر البوذية والبرهمية"(1). وانطلق في تعميمه هذا مما اسماه "بعناصر الحضارة الخالدة في الدين". وكتب بهذا الصدد يقول، بان "قوة التركيب لعناصر الحضارة خالدة في جوهر الدين، وليست ميزة بوقت ظهوره في التاريخ. فجوهر الدين مؤثر صالح في كل زمان ومكان"(2).

غير أن هذه الصيغة التاريخية اللاهوتية في الموقف من منشأ الحضارة واثر الدين فيها، تبقى ضمن إطار الرؤية التاريخية سواء فيما يتعلق بمسار الحضارة أو الموقف منها والبدائل المحتملة. فمسار الحضارة العام يتراوح ما بين الصعود والسقوط، في حين يكشف تاريخ الأمم والحضارات عن أن صعود بعضها ملازم لسقوط أخرى. ومن ثم فلكل منها دوره التاريخي. بينما نراه ينظر إلى علاقة النهضة الحضارية بالبدائل نظرته إلى قضية تاريخية وثقافية ملموسة. من هنا استنتاجه القائل، بان الحلول الفعلية للبدائل الحضارية لا يمكن أخذها من نماذج الشرق والغرب، انطلاقا من أن مشكلاتنا خاصة. ومن ثم فان النهضة ينبغي أن تكون بمستواها. من هنا استنتاجه المبدئي أو المنهجي عن أن ما يقوم بدراسته ليس "المشاكل التي تخص عام 1948، بل هي من المشاكل التي تخص عام 1367"(3).

بينما الاستناد إلى النفس وتاريخها الثقافي الذاتي ينبغي هو الآخر أن يكون تاريخيا واقعيا. فقد دخل في صيرورة الحضارة الإسلامية، كما يقول مالك بن نبي، عاملان أساسيان وهما كل من الفكرة الإسلامية والإنسان المسلم(4). وما صنعته الحضارة الإسلامية كان يتوافق مع روحها وروحانيتها. أما المهمة الحالية فتقوم في "أن نصنع رجالا يمشون في التاريخ، مستخدمين التراب والوقت والمواهب في بناء أهدافهم الكبرى"(5)، أو ما اسماه بالعناصر الثلاث الجوهرية في بناء الحضارة. ففي العالم الاسلامي أياد وعقول كافية. والمهمة تقوم في التوجيه، اي توجيه الإنسان صوب "دفعة دينية" بحيث "يكتسب بأثرها معنى الجماعة ومعنى الكفاح"(6). أما مضمون أو حقيقة هذه "الدفعة الدينية" فأنها تتطابق في فكر ومواقف مالك بن نبي مع "المبدأ الأخلاقي الايجابي"، اي الذي يتوافق مع مضمون الحضارة الإسلامية بوصفها حضارية مبنية على "أساس المبدأ الأخلاقي وليس الجمالي".  وضمن هذا السياق استنتاجه القائل، بان "الفكرة الافروآسيوية ينبغي أن تؤسس منهجها الأخلاقي على مبدأ ايجابي، وبحيث لا يكون في جوهره دينيا"(7).

تستند آراء ومواقف واستنتاجات مالك بن نبي بصدد القضية الحضارية إلى رؤية منهجية حددت أيضا فكرته السياسية. فهو ينطلق من فكرة عامة تقول، بان "كل تفكير في مشكلة الإنسان هو في النهاية تفكير في مشكلة الحضارة". وبالتالي، فان "مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته. ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها"(8). ويستند هذا الاستنتاج إلى رؤية فلسفية عن التاريخ واسعة الانتشار ومختلفة التفاسير ومتنوعة التأويلات. وضمن آراء ومواقف مالك بن نبي فأنها تهدف إلى إثارة العزيمة والإرادة السياسية الفاعلة استنادا إلى رؤية ثقافية وحضارية عن النفس مبنية على أساس التراث السابق، والواقع المعاصر، ورؤية الآفاق المستقبلية. ومن ثم تحتوي على قدر من التفاؤل العملي الواقعي المبني على أساس برنامج يناسبه في الرؤية المنهجية والتوظيف الفعلي. فهو ينطلق بهذا الصدد من أن "الشعوب تلعب أدوارها، وكل واحد منها يبعث ليكوّن حلقته في سلسلة الحضارات". احدها ينبعث وآخر يزول(9). ذلك يعني أن الحضارة الإنسانية العامة واحدة لها حلقاتها المرتبطة بالأدوار التاريخية التي تقوم بها الأمم المتنوعة. وبالتالي، فان المهمة الحضارية القائمة أمام العالم الاسلامي والعربي هي مهمة تاريخية وثقافية من نوع خاص. من هنا موقفه واستنتاجه العملي بهذا الصدد، والقائل، بان "الاستعمار ليس من عبث السياسيين ولا من أفعالهم، بل هو من النفس ذاتها، التي تقبل ذل الاستعمار". وبالتالي، فان "كابوس الاستعمار لا ينتهي بالكلمات الخطابية". فالسياسة التي تجهل قواعد الاجتماع وأسسه هي "دولة تقوم على العاطفة في تدبير شئونها، وتستعين بالكلمات الجوفاء في تأسيس سلطانها"(10).

ذلك يعني، أن البديل الحضاري ينبغي أن يربط في كل واحد نقد النفس ونقد العقل العملي للغرب الاستعماري، اي نقد فلسفته الحضرية الفعلية وأثرها بالنسبة للعالم الاسلامي والعربي (والافروآسيوي). فهو ينطلق من تفاؤل تاريخي واقعي يستند إلى فكرة قد لا تخلو من الطابع الخطابي لكنها دقيقة، تقول، بان طاقة الشعوب لا تنضب ولا يمكن الوقوف ضدها. ومفارقة الظاهرة بالنسبة للعالم الاسلامي والعربي (والافروآسيوي) تقوم في أن الغرب هو من ساعد على توسيعها رغم سعيه لصدها(11). فقد "برهنت الأحداث التاريخية على عجز الغرب الأوربي الأخلاقي عن أن يحتل مكان القيادة في العالم"(12). وذلك لان الفضائل الأوربية هي "فضائل داخلية أنانية لا إشعاع لها"، وان "العقل الأوربي هو نفسه ذاتي أناني من الوجهة الأخلاقية". وبالتالي، فان "الفضيلة الغربية لا وجود لها بالنسبة إلى العالم، لانها لا تشع على عالم الآخرين. والغربي لا يحمل فضائله خارج عالمه. فخارج الحدود الأوربية لا يكون إنسانا، بل أوربيا"(13). وترتب على ذلك استنتاجه العام القائل، بأنه ليس للحضارة الأوربية "ضوءا أخلاقيا ساميا يكشف لها جوانب المشكلات الإنسانية"، بل أنها "ردت هذه المشكلات إلى المنطق العقلي المجرد"(14). لهذا لا تظهر "المشكلات الإنسانية في العواصم الأوربية". والسبب يقوم في أن العقل الأوربي يعرّيها من بعدها الأخلاقي الإنساني. انه ينظر إليها بمعايير الكمية، أي المصالح الاقتصادية والإستراتيجية(15). ومع ذلك ينبغي النظر إلى هذه الحالة باعتبارها ظاهرة عابرة. وقد شبّه مالك بن نبي الاستعمار الأوربي الحديث "بعربة اليد التي كانت نافعة في أوربا القرن التاسع عشر". غير أن معضلة هذه الظاهرة تقوم في أن الأوربيون مازالوا متمسكين بها لا يريدون الاستغناء عنها(16). ومع ذلك فهي عرضة للزوال، وذلك لان الاستعمار حسب عبارة مالك بن نبي "مرحلة من مراحل التطور الإنساني"، ومن ثم فان "مصيره شبيه بمصير اختراع استنفذ أغراضه وتخلّف بفعل التقدم الإنساني المستمر".

غير أن هذه الإزالة مرتبط بالبدائل التي يبلورها العالم الافروآسيوي على المستوى الأخلاقي والعملي، اي على مستوى الرؤية المنهجية والبدائل المناسبة لها. ووضع ذلك في صورة بيانية قوامها أن من أقام المسارح والمنابر للمهرجين، ومن أشعل المصابيح الكاذبة، ومن جمّل الأصنام ليلحقوا الهوان بالفكرة، هؤلاء كلهم سوف يتهاون أمام "شمس المثالية" التي تعلن قريبا "انتصار الفكرة، وانهيار الأصنام، كما حدث يوم تحطّم هبل في الكعبة"(17). فمرحلة البطولة ودور الأبطال التي مر بها العالم الاسلامي في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين تشرف على نهاياتها. لاسيما وأنها كانت "مرحلة إغفال حل المشاكل التي مهدت للاستعمار وتغلغله". والمهمة المستقبلية تفترض بلورة وتحقيق منهج جديد للرؤية الحضارية. ومضمونه يقوم في أن "كل تفكير في مشكلة الإنسان هو في النهاية تفكير في مشكلة الحضارة". من هنا استنتاجه عن أن "مشكلة الإنسان الافروآسيوي هي في جوهرها مشكلة حضارة". وكما كان الاستعمار في القرن التاسع عشر عنصرا هاما في تعريف الحضارة الغربية، حيث كان يعد صفة مميزة لتوسع تلك الحضارة وأساسا لحركتها ونموها" كذلك تصبح "معاداة الاستعمار وتكمل مؤقتا تعريف الفكرة الافروآسيوية، باعتبارها حضارة"(18).

ولم يضع مالك بن نبي إشكاليات الحضارة البديلة ضمن سياق الصيغ الواسعة الانتشار آنذاك عن تعارض الشرق والغرب ولا ضمن مختلف النماذج الأخلاقية المجردة وما شابه ذلك، بل نظر إليها، كما يقول، باعتبارها "مشكلات عضوية" مرتبطة "بكيفية تشييد بناء قائم على الحقائق النفسية الاجتماعية في هذه البلاد، ومشكلات التوجه القائم على حقائق الوضع العالمي"(19). ذلك يعني أن مشكلة الحضارة بالنسبة للعالم العربي هي مشكلة ثقافية سياسية عملية. من هنا قوله، عن إن المقياس الذي تقاس بها ألوان النشاط الاجتماعي والسياسي هي الحضارة(20). والحضارة بالنسبة لمالك بن نبي هي "مرّكب ثقافي". فإذا كانت وحدة اللغة أو الجنس ضرورية لتكوين امة، فان هذا الشرط ليس محتوما لتكوين حضارة. فالغرب الأوربي على سبيل المثال ليس وحدة عنصرية أو لغوية بل مرّكب ثقافي. ووضع هذه النتيجة في أساس موقفه القائل، بأنه "لكي ترتفع الكتلة العربية الآسيوية من مستوى التلفيق والاصطناع السياسي إلى مستوى مفهوم الحضارة، يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار عاملين، عامل الثقافة وإطاره الذي يحيط به"(21). وهذه بدورها هي ما اسماه بالحقائق النفسية الاجتماعية، ومشكلات التوجه القائم على حقائق الوضع العالمي.

من هنا أولوية وجوهرية الثقافة بالنسبة للبديل الحضاري. وانطلق مالك بن نبي من فكرة عامة تقول، بان "حل مشكلات الوجود الفعلية للعالم الافروآسيوي تفترض إلى جانب نموه الداخلي أن يصنع ثقافته الخاصة كيما يحل مشكلاته العضوية"(22). بمعنى أن حل ما اسماه بكيفية تشييد بناء قائم على الحقائق النفسية الاجتماعية، ومشكلات التوجه القائم على حقائق الوضع العالمي أو حامل الثقافة وإطاره الذي يحيط به، يفترض إرساء أسس ثقافة بديلة. ووضع في أساس هذه الثقافة البديلة ثلاثة مبادئ متوحدة هي كل من تصفية العادات والتقاليد البالية حتى يصفو الجو للعوامل الحية الداعية للحياة، وضرورة الفكر الجديد الذي يحطم الموروث عن مرحلة الانحطاط والتدهور، وأخيرا البحث عن وضع جديد للنهضة من خلال تحديد الأوضاع الملموسة. أما الصيغة العملية لبلوغ هذه الغاية فيفترض توحيد الموقف السلبي (النفي الشامل) من رواسب الماضي، والايجابي الذي يربطنا بمقتضيات المستقبل(23). واعتقد أن هذه الحالة قد جرت في أوربا من خلال ما قام به توما الاكويني من تنقية الثقافة الأوربية من الماضي، وما قام به ديكارت من إتيانه بالعناصر الايجابية. وبغض النظر عما في هذه الصيغة من ابتسار وتسطيح لإشكاليات الثقافة والحضارة الأوربية ومسارها التاريخي، إلا أنها تعكس مضمون الرؤية المنهجية والعملية لمالك بن نبي فيما يتعلق بفكرة البديل الحضاري، بوصفه بديلا ثقافيا عمليا وسياسيا محترفا ومتساميا لكي يؤدي مهمته التاريخية. من هنا مطالبته بان تكون الثقافة "حرفية اي من ذوي التخصص وليس للعيش". وذلك لان مهمة الثقافة تقوم في "بناء المرّكب الاجتماعي". وحدد أربعة عناصر فيها طابقها مع ما اسماه بمهمتها التربوية وهي كل من "عنصر الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية"، و"عنصر الجمال لتكوين الذوق العام"، و"منطق عملي لتحديد أشكال النشاط العام" وأخيرا "الفن التطبيقي الموائم لكل نوع من أنواع المجتمع" والذي يعادل معنى الصناعة حسب تعبير ابن خلدون(24).

تشكل هذه العناصر الأربعة "منظومة" الفكرة المنهجية والعملية للبديل الحضاري. لقد استقاها مالك بن نبي وبلورها من خلال استقراء التجربة التاريخية للنهضة الإسلامية والعربية الحديثة ونتائجها الفعلية. فقد بدأت النهضة بالنسبة للعالم الاسلامي، كما يقول مالك بن نبي، مع تحسسه الأولي من غفلة وثقل السبات الطويل. وبالتالي فهي نتاج عمل دءوب، لكنها في الوقت نفسه "نتيجة خائبة" فيما يتعلق باشتراك الجميع في تحديد الأهداف والوسائل(25). والسبب الرئيسي لهذه النتيجة هو أن المشاريع المتعلقة بالنهضة كانت مبنية لا على أساس تأمل التجربة الذاتية من جهة، ومقترح البدائل المستقبلية من جهة أخرى. فقد كانت في اغلبها أما تقليدا للغرب أو مراوحة ضمن تقاليد بالية. بينما لا يمكن للنهضة الحقيقية الاعتماد على حلول ونماذج من الشرق والغرب، وذلك لان "مشكلاتنا خاصة". ومن ثم ينبغي للنهضة أن تكون بمستواها. من هنا استنتاجه المبدئي أو المنهجي عن أن ما يقوم بدراسته ليس "المشاكل التي تخص عام 1948، بل هي من المشاكل التي تخص عام 1367"(26). بمعنى ضرورة الابتداء بالنهضة الثقافية الحضارية من خلال الأرضية الصلبة للتطور الذاتي. من هنا فكرته عن أن الابتداء في البناء الحضاري أو النهضة يبدأ ليس بالعلوم والعلماء ولا بالإنتاج الصناعي، بل بالمبدأ الذي يكون أساسا لهذه المنتجات جميعا(27). وحصر هذا المبدأ في ثلاثية الإنسان والتراب والوقت، بوصفها أساس البديل الحضاري الفعلي(28). إذ لا يتاح لحضارة في بدء تطورها وإرساء أسسها الذاتية "إلا ذلك الرجل البسيط، والتراب الذي يمده بقوته الزهيد، والوقت اللازم لوصوله. وما عدا ذلك من طائرات وقصور وما شابه ذلك فهي مكتسبات، لا من العناصر الأولية"(29).

بعبارة أخرى، لقد حاول مالك بن نبي إرساء أسس منظومة متعلقة بالإنسان والجغرافيا والتاريخ الفعلي تعمل من خلال البنية الواعية والإرادة المدركة للمهمات الحالية والغايات المستقبلية، أو ما اسماه بالتحرر من بقايا المورث المعرقل للتطور والاتصال بالقضايا المستقبلية. أما وسائلها فهي التي وضعها ضمن فكرة "العناصر الأربعة" وهي كل من الأخلاق والجمال والمنطق العملي والفن التطبيقي. فالعالم العربي يقف أمام مرحلة مستقبلية هي مرحلة البناء الثقافي الحضاري وليس البقاء ضمن "المرحلة الحماسية" أو "المرحلة البطولية". وذلك لان نزعة محاربة الاستعمار لا تصلح أن تكون دافعا ساميا يحرك حضارة ويعطيها مثلها الأعلى، كما يقول مالك بن نبي. وان "القضية ليست أن ننتزع العالم من موجة احتقار الكبار لكي نسلمه إلى حقد الصغار"(30). إن هذه المقدمة الأخلاقية أو العنصر الأخلاقي ينبغي استكماله بالذوق الجمالي. وذلك لان "المقدرة الخلاقة مرتبطة دائما بالانفعال الجمالي"(31). بعد ذلك يأتي دور "العنصر الصناعي". وإن حصيلة هذا التلاقي فقط يمكنه أن يؤدي إلى إحداث نهضة قادرة على صنع حضارة(32). فميزانية التاريخ، كما يقول مالك بن نبي "ليست رصيدا من الكلام ومن عدد الكلمات، بل هي كتل من النشاط المادي، ومن الأفكار التي لها كثافة الواقع ووزنه. وهذه الميزانيات المكونة من صرف النشاط الايجابي هي ميزانيات من القيم الأخلاقية تقوم على فصول الثقافة الأربعة: منهجها الأخلاقي، وذوقها الجمالي، وفنها الصناعي، ومنطقها العملي"(33). وهناك طرق عديدة للوصول إلى هذه الغاية لكن المهم تجنب الطرق الطويلة(34).

شكلت فكرة الطرق الطويلة أو حرق المراحل القضية المركزية للاختيار العملي. بمعنى محاولة الربط بين الرؤية الواقعية والتجريبية العقلانية. فقد كانت محاولات العالم الاسلامي خاصة ومتفاوتة في عمقها بهذا الصدد، لانها لم تكن تستند على نظرية محددة للأهداف والوسائل، وعلى تخطيط للمراحل. من هنا انقسامهم إلى من يدعو إلى إعادة واسترجاع الماضي بالرجوع إليه، وآخر إلى قطع جميع الصلات بالماضي. وكلاهما على خطأ(35). وذلك لان لكل منهما نموذج جاهز(36). أنهم يعتقدون بأنهم ينشئون أساسا متينا للحضارة بكومة من الأشياء المستعارة التي لا تنفع(37). في حين أن "الحضارة ليست كومة من الأشياء المتخالفة في النوع، بل هي كلّ، اي مجموع منسجم من الأشياء والأفكار، بصلاتها ومنفعتها وألقابها الخاصة وأماكنها المحددة"(38). ويقف العالم الاسلامي والعربي أمام ثلاثة أنواع متحضرة يمكنها أن تقدم نماذج للتطور في القرن العشرين وهي: الفرنسي والانجليزي والياباني. بينما تكشف التجربة التاريخية للعالم الاسلامي والعربي بهذا الصدد، انعدام وجود صورة ناطقة واضحة عن أنهما اختارا بالفعل نموذجا. وكل ما جرى ويجري يبدو كما لو انه "ينمو تحت تأثير نموذج غامض فرض عليهما تلقائيا"(39)، بمعنى انعدام الاختيار الحر. فالعالم الاسلامي والعربي لا يمكنه ولا يجب عليه أن يتبع جميع الدروب والمتعرجات على طوال الطريق الذي سلكه الغرب، فليس لديه من القرون مثل ما كان لنموذجه، كما يقول مالك بن نبي. وعليه توصل إلى استنتاج نهائي بهذا الصدد يقول، بان العالم الاسلامي والعربي ملزم "باقتباس طرق التاريخ المختصرة التي لم تقتبسها الحضارة الغربية"(40). أما الصيغة العملية لبلوغ ذلك فأنها مختلف ومتنوعة ولكنها ينبغي أن تستند إلى ما اسماه بنظرية الإنسان والتراب والوقت وعناصر الارادة العقلانية الفعالة في كل من المنهج الأخلاقي والذوق الجمالي والفن الصناعي والمنطق العملي.

 

ميثم الجنابي

..................

(1) مالك بن نبي: شروط النهضة، دار الفكر، دمشق، 1986، ص50.

(2)  مالك بن نبي: شروط النهضة، ص58.

(3) مالك بن نبي: شروط النهضة، ص48.

(4)  مالك بن نبي: شروط النهضة، ص66.

(5)  مالك بن نبي: شروط النهضة، ص75.

(6)  مالك بن نبي: شروط النهضة، ص77.

(7)  مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، دار الفكر، دمشق، ط3 2001، ص146.

(8)  مالك بن نبي: شروط النهضة، ص19.

(9)  مالك بن نبي: شروط النهضة، ص20.

(10)  مالك بن نبي: شروط النهضة، ص31.

(11) مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص43.

(12) مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص43.

(13) مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص43.

(14) مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص45.

(15) مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص45.

(16) مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص50.

(17)  مالك بن نبي: شروط النهضة، ص18.

(18)  مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص138.

(19)  مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص130.

(20)  مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص130.

(21)  مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص131.

(22)  مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص131.

(23)  مالك بن نبي: شروط النهضة، ص80.

(24)  مالك بن نبي: شروط النهضة، ص87.

(25) مالك بن نبي: شروط النهضة، ص40.

(26) مالك بن نبي: شروط النهضة، ص48.

(27) مالك بن نبي: شروط النهضة، ص50.

(28)  مالك بن نبي: شروط النهضة، ص50.

(29)   مالك بن نبي: شروط النهضة، ص60.

(30)  مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص147.

(31)  مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص151.

(32)  مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص152.

(33)  مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص153.

(34)  مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص154.

(35)  مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ، ص83.

(36) مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص87.

(37) مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص84.

(38)  مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص84.

(39) مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص89.

(40) مالك بن نبي: الفكرة الأفريقية الآسيوية، ص89.

 

 

في المثقف اليوم