دراسات وبحوث

الأشباح والأرواح: تجارب المثقف والسلطة (1)

mutham aljanabiتقديم عام: الأشباح والأرواح هو عنوان الجزء الأول من كتاب (بثلاثة أجزاء) عن علاقة المثقف بالسلطة والحقيقة على ممر التاريخ العربي منذ ظهور الاسلام وحتى اليوم.

والمقصود بالمثقف هنا الكلمة الجامعة عن أهل العلم والمعارف والآداب، وليس ما هو متعارف عليه الآن. ولم استطع لحد الآن نحت الكلمة المناسبة التي تعبر عن أهل العلم والمعرفة والأدب. فكلمة المثقف الأوربية لها على العموم ثلاثة معاني، الأول هو العادي ويعني الشخص المتصف بقدر من المعارف المتنوعة والمتصف بشخصية وسلوك ترفعه عن العوام. وهو يعادل ما كانت الثقافة العربية الإسلامية تطلق عليه عبارة أهل الرسوم من العلوم. والمعنى الثاني هو الشخص المتخصص والمحترف بعلم ما من العلوم أو المعارف والآداب يرفعه إلى مستوى كلمة "المفكر" الشائعة الاستعمال في الصحافة العربية المتأخرة. وهي كلمة (بالعربية) ملتبسة للغاية. اذ من يطلق عليهم ألقاب "المفكر" في الصحافة العربية الحديثة يندرج اغلبهم من حيث القابلية والفعل تحت عنوان أنصاف المتعلمين والمتحذلقين. أما المعنى الثالث فهو ما أدخلته التقاليد الروسية تحت عنوان الانتلجينتسيا، وهي تحتوي على معنيين الأول وهو ما يعادل الشخص المحترف في علم من العلوم مع معارف إضافية وسلوك فردي واجتماعي يتصف بالذوق الرفيع والأخلاق المتسامية، والمعنى الثاني اقرب ما يكون إلى ما كانت الثقافة العربية الإسلامية تطلق عليه كلمة الأديب أمثال ابن المقفع والجاحظ وأبو حيان التوحيدي وأمثالهم.

أما أنا فاستعمله بالمعنى الذي أشرت إليه في البداية. أما السلطة فليس المقصود بها السلطة السياسية فقط بل والهيبة التقليدية أيا كان شكلها ومحتواها (نصوص مقدسة وأئمة وقواد وزعماء وما شابه ذلك). 

ان كتاب (الأشباح والأرواح) من الكتب البسيطة، اي الكبيرة (بحدود ألف صفحة). لهذا سأختصره عبر المقالات واختيار ما أراه مناسبا الآن للنشر وإزالة الحواشي من مصادر ومراجع وتعليقات وشروح.

***

المثقف والسلطة – إشكالية الأرواح والأشباح

إن الصدى كالندى قطرات حالما يكون كثيفا، أي متراكما في خزين الذاكرة وعنفوان الوجد واضطراب الفؤاد وتأمل العقل. غير أن الصدى يعبث في السماع ويستثير ذاكرته تماما بالقدر الذي تستقطب قطرات الندى انتباه العين وخيال الرؤية. مما جعلهما من جنس الإحساس القادر على تفعيل الذاكرة والخيال. وهو تفعيل محكوم بقدرة السماع والرؤية على تصنيع النسبة المبدعة بينهما. إذ لا إبداع حقيقي دون وحدة الذاكرة والخيال. وكلاهما قطرات مكثفة من الرؤية والسماع المتراكمين في مجرى الحياة ومعاناة إشكالاتها. وذلك لأن المعاناة صيرورة تحترق وتتلاشي منذ الصرخة الأولى للحياة لكي تتكامل في صيحة الوداع الأخيرة. وكلاهما محكوم بقوة الوجود والعدم، كما أن كلاهما ضوء، أولهما "ابيض" وآخرهما "اسود". فللمحاكاة جذورها في ذاكرة الطفولة وخيالها المتراكم في مجرى التجارب الحياتية. وبالتالي فهي محاكاة لها أسسها الواقعية. فالوجود ضوء والموت عتمة. من هنا كانت الحياة مضيئة رغم كل مآسيها السوداء، والموت مكفهر رغم كل أشعة الهالة التي تحيطه بها عقيدة التضحية والشهادة. ولا يحل هذه المفارقة في الواقع سوى التقاءهما في "الخاتمة". آنذاك تصبح الخاتمة نهاية الحياة وبدايتها الفعلية، أي نهاية الجسد وبداية الروح، أو نهاية الأشباح وبداية الأرواح. لأنها تكشف عما إذا كان حاملها شبحا أو روحا. ذلك يعني أن إشكالية الأشباح والأرواح هي إشكالية الحياة والموت، والفاني والباقي، والثابت والفائت.

 وليس مصادفة أن تتغلغل في أعمق أعماق الذاكرة التاريخية للأفراد والجماعات والأمم والثقافات فكرة "المسكون" الخيالية التي تتمتع بثقل الندى المكثف لخيال الطفولة في تصور "الأشباح" المتراقصة مع كل حركة في ظلمة الحياة. بحيث يصبح "المسكون" غريبا قاطنا في جسد خرب أو بيت مهدم أو أطلال منسية. وتشير هذه المكونات ببساطتها المعهودة إلى حقيقة يمكن البرهنة عليها بمعايير المنطق والعلم والتجارب الفعلية، بأن الذي يسكن الخراب والمهّدم والأطلال أشباح قوتها في الظلام وخيالها في ذاكرة الطفولة. مما جعل ويجعل من الأشباح صورا مخيفة، وذلك بفعل تطابقها في الإحساس والحدس مع بقايا الزائل والمندثر، و"مآثر" الموت والميت. بينما يتناغم الحي والجميل في الخيال والذاكرة مع بهاء التجديد للحق والحقيقة.

وحالما ننقل المقارنة المذكورة أعلاه من سماء الفكر المجرد إلى دنيا الوقائع الفعلية، فإننا نقف بالضرورة أمام ثنائية الأشباح والأرواح المتنوعة. ولعل علاقة المثقف والسلطة من بين أكثرها إثارة وإدامة. ففي هذه العلاقة نعثر على كل مكونات الذاكرة والخيال، كما نرى فيها وقائع الأشباح الحائرة والمتخوفة والمخيفة والمسكونة في جسد السلطة وارتزاق مثقفيها. وبالضد منها تتكامل "أنا الحق" في شخصية المثقف الحقيقي بوصفه روح الثقافة وحامل معاناتها التاريخية. من هنا توتر الإحساس العميق حتى في الأحكام العادية التي تجعل من المثقفين المرتزقة مجرد أرواح تائهة. وبالتالي ليس الروح التائه بين المثقفين سوى شبح يتراقص بعنف و"إدراك" يناسبه من اثر الغريزة (الجسد). ومن ثم لا علاقة له بالعقل والوجدان الخالص. وليس مصادفة ان تستعيد هذه الثنائية نوعية الخلاف الطبيعي بين الحقيقة والسلطة، ومن ثم بين المثقف الحقيقي والسلطة الواقعية، بوصفه أيضا خلافا بين الروح والجسد. إذ يمكننا العثور عليه في كل المظاهر الملازمة لإبداع المثقفين في الكلمة والعبارة والشعر والنثر، والرسم والنحت، والصمت والنطق، والظاهر والباطن، أي في كل مظاهر اليقظة والمنام. سواء كانت اليقظة يقظة الروح والجسد أو نومهما في الفكر (المجرد) والواقع (الملموس).

وليس مصادفة أن يتلذذ الإنسان ويشقى في محاولاته الدائمة لتفسير وتأويل الأحلام منذ أن اخذ يتحسس هذين العالمين المتلازمين في ذاته. وهو إحساس تتشكل معاناته الداخلية من الرغبة الجامحة في معرفة المجهول وبلوغ المرام، بوصفها الصيغة البدائية لمحاولة الإنسان التحرر من سلطة المجهول عبر "التحكم" بسلطة المستقبل والمرام. أما صيغته المادية المباشرة فتقوم في سلطة الجسد على الروح القابعة في أعمق أعماقه. وليس مصادفة أن يتحول الجسد إلى عالم تتجول فيه ذاكرة النائم وخياله. وعند اليقظة يصبح تجواله في خبايا الرغبة والتمني والقلق "حلما".  وهو تصوير متناقض بحد ذاته، لكنه يحتوي على الحدس العميق المميز للرغبة الهائلة في "تحرير" الروح من قيود العادات والتقاليد والعرف. وعادة ما "يزاول" الروح هذه الحالة بحرارة قادرة على تحويل الأحداث والرغبات الدفينة إلى كيان واحد لا يحكمه شيئا غير حرية ما يجري. بمعنى سريانها كما هي بلا إرادة. والإرادة الوحيدة تقوم في الاستسلام لها كما هي و"محاكمتها" بعد اليقظة من خلال عرضها على ذخيرة التأويل والتفسير المتراكمة في وعي الثقافة وصورها النمطية. إذ نلمح في هذه الحالة طبيعة ومستوى الخلاف والتباين والصراع بين الروح والجسد. وفيها يمكن أيضا رؤية صراع سلطة جسد وإبداع الروح. ولعل صورتها الأكثر تمثيلا تبرز حالما يختلي الجسد لحاله بين جدران تقيه شر النظرات الشرسة للعرف والتقاليد والقيم السائدة. حينذاك تأخذ الروح بخط كل الحروف المحتملة على الجسد، بوصفها إبداعه المحبب. وعند ذاك يتلاشى الأدب المصطنع، والرصانة المزيفة، والرزانة المفتعلة، وكل المحرمات و"المقدسات". ويصبح قانون الوجود، بوصفه حركة الروح، مصدر الإلهام الفعلي المنظم والعابث بالجسد ومتطلباته سواء في الملذات أو الكوابيس. وفي هذا يكمن سر الإغراء والجذب الهائل للأحلام وتفسيرها. وذلك لأنها تنقله من مضيق الجسد إلى فضاء الروح، ومن استبداد السلطة أيا كان شكلها إلى حرية الإرادة بوصفها رغبة حية. ومن تصادم هذه المكونات تتطاير شظايا الأحلام بوصفها "وحيا" و"إلهاما" و"إشارة" و"دلالة". وليس مصادفة أن يتحول الحلم في المنام إلى جزء من تأمل المستقبل والرغبة في استكناه ما في خباياه من مسرة محتملة أو طامة كبرى، وفي اليقظة إلى جزء من التخطيط للمستقبل والرغبة في جعله كلا واحدة للمراد والمريد.

وليس مصادفة أن الإنسان حالما يحلم في المنام، فانه يحلم بالمستقبل، أو هكذا تبدو له الأمور. فتفسير الأحلام وتأويلها لا علاقة له بالماضي. انه السباق "العقلي" مع نوازع الروح الباحثة عن مخرج لها من ضيق الجسد. الأمر الذي أثار ويثير الإغراء الفاحش أحيانا في التلذذ أو التخوف مما فيه. فالاصطدام بخيبة الأمل يجعلها أضغاث أحلام. وما عدا ذلك فهي غيبوبة في التكهن، بما فيها من إشارة ودلالة ورمز على ما تخبئه قوادم الأيام. وفي الحصيلة لا ينفك ذلك عن رؤية المستقبل أو المصير. وكلاهما شيء واحد. كما إنهما كلاهما ينبعان من الرغبة الدائمة في معرفة الأبد. وهو تناقض يتمثل دراما الوجود دون أن يدركه بصورة نهائية، وذلك لنهاية المرء الحتمية وبقاء المشكلة كما هي. وهي معادلة تتكون من أطراف جميلة لكنها متناقضة شأن الحرية والقدر المحتوم. وذلك لأنها صيرورة أبدية وكينونة تائهة فيها. بمعنى تجدد الرغبة الأبدية في استشراف المستقبل بوصفه حرية مع كل ولادة جديدة، وبقاء المستقبل "غيبا" بوصفه قدرها المحتوم. وهو السر القابع في ثنايا البحث الدائم للأمم والثقافات والأفراد في أحلامها عن "معرفة الغيب" و"سر المجهول" و"استشراف المستقبل" و"حيلة القدر". أما في الواقع فان الغيب والمجهول والمستقبل والقدر يلعبون مع الإرادة الإنسانية ورغباتها الحسية الجسدية. من هنا إغراء الحلم الزائل بعد اليقظة وبقاءه باعتباره الشيء الأجمل في مخيلة العوام والخواص عما يعتمل في قلوبهم من رغبة لتذوق الجميل وبلوغ السعادة. وليس مصادفة فيما يبدو أن تربط العربية، شأنها في كل أصولها اللغوية والمعنوية، بين الحلم والحليم لكي لا تكون الأحلام مجرد تمنيات جوفاء وسفاهة سفهاء! وهو ربط يعكس خصوصية الفكرة العربية في النظر إلى الحلم بمعناه المباشر والأخلاقي. وهو ربط يمكن العثور عليه في كل الثقافات الكونية. إذ يمكننا العثور عليه في نماذج التراكم الثقافي للرؤية الصينية والهندية والإغريقية والعربية، باعتبارها أهم المصادر الكبرى للثقافة التاريخية العالمية. وهي نماذج تشترك في مباحثها الخاصة عن تحسس وإدراك قيمة الأحلام المعنوية والأخلاقية بالنسبة للمستقبل.

فعندما نتأمل كتاب ارطاميدورس الافسسي (تعبير الرؤيا)، الذي عرّبه اسحق بن حنين، فإننا نقف أمام منهجية تضع في أولوياتها التمييز بين الرؤيا والأضغاث . فالأولى تدل على ما سيكون، بينما الثانية تدل على الشيء الحاضر. وهو موقف فلسفي واضح يجعل من حقيقة الرؤيا (أو الحلم الجميل والحقيقي) أمرا وفعلا متعلقا بالمستقبل. وما عداه جزء من تمنيات أو رغبات عابرة، أي أضغاث أحلام. فالأمور الطبيعية الحادثة في المنام ليست حلما (رؤيا) بل أضغاث، مثل حلم الجائع بالأكل والعطشان بالشرب والمريض بالأطباء. وكونها أضغاث، أنها نتاج النفس أو البدن أو من امتزاجهما. أما الرؤيا، فإنها من نوع آخر. إنها حقيقة الحلم أو الحلم الحقيقي. وعادة ما تظهر بنوعين، وهما الرؤيا الظاهرة والرؤيا الباطنة . والأولى تتعلق بحدوث الأشياء، أما الثانية فتتعلق بما في الرؤية من دلالة. الأمر الذي جعل الرؤيا جزء من مباحث النفس وحركتها الذاتية في التعبير عما تراه. ومن ثم فإن ما يراه المرء في حلم سوف يلاقيه آجلا أم عاجلا. ذلك يعني أن الحلم يحتوي على قدر من "المعرفة" النفسية. وسبب كونها معرفة هو تعلقها بالخواص (النخبة أو المثقفين) وليس بالعوام. فالعوام ترى أضغاث أحلام. وضمن هذا السياق تكلم عن إمكانية الإلهام في الرؤيا بوصفه فعلا مرتبطا بالفكر وذلك للانشغال به .وليس مصادفة أن يقول ارطاميدورس من أن رؤية العامة المتعلقة بالأمور الكبيرة لا يمكنها أن تكون صحيحة. بينما الأمر يختلف لو رأتها الملوك، حينذاك تكون الرؤية حقا. وهو حكم محكوم بواقعية الرؤية، بمعنى ارتباط مستقبلها بمضمونها الواقعي. وقد وضع ارطاميدورس هذه لفكرة بما في ذلك تجاه تصنيفه لتجاوز ما اسماه بالصيغة التقليدية التي عادة ما كانت تبدأ في تأملاتها بالرؤيا "الإلهية والملائكية". لهذا نراه يتناول القضايا المرتبطة بالحاجة بالشكل الذي يجعلها أقرب إلى النزعة العملية منها إلى الطيران في سماء التأملات العقلية المميزة لأرسطو وعرافة الفيثاغوريين، رغم انه ظل يقر بقيمة الفكرة القائلة، بإمكانية الإلهام في الرؤيا. لكنها إمكانية محكومة بما اسماه بالتدرج في تصديق الرؤيا، بناه على ثمان درجات تبدأ بالملائكة وتنهي بالحيوان غير الناطق، مرورا بالكهنة والملوك وأهل الفضل (المؤدبون) والعرافون والموتى والصبيان. انطلاقا من أن الملائكة هي جواهر عليا، والكهنة هم سدنة المعرفة الملائكية، والملوك هم قمة البشر، والمؤدبون بفعل المهمة والوظيفة، والعرافون بفعل المهنة، والموتى لأنهم لا يخافون ولا يرجون شيئا، والصبيان على السجية، والحيوان كما هو. لهذا نراه يسحب من هذه القائمة "الناطقة" بحقيقة الرؤيا كل من المصارعين لان همومهم مرهونة بالغلبة، والسفسطائيين والفقراء والخصيان والمغنين، لان رجاء كل واحد منهم هو رجاء كاذب إضافة إلى أنهم لا يعدون بالطبيعة مع الرجال !

مما سبق يتضح، بأن مضمون الرؤيا وحقيقتها مرتبط بفكرة المستقبل وحتميتها من حيث كونها حركة النفس الذاتية (العارفة) السائرة بمختلف مستوياتها صوب إدراك قيمتها الفعلية بالنسبة للإرادة الإنسانية. مما يجعل الحلم على قدر الحالم. أما النتيجة فتصب في مسار التأسيس العقلي للفكرة الفلسفية، أكثر مما تفسر حقيقة ما يجري. وذلك لأن الحلم بالنسبة لها ليست "فعلا" حسيا جسديا، بل نفسيا معرفيا. ومن ثم فهو "دلالة" و"إشارة" على مستقبل، حقيقته على قدر حقيقة حامله. ولا تخلو هذه الفكرة من قدر قادر على تأسيس الحرية بوصفها فعلا معرفيا.

بينما نعثر في الرؤية العربية الإسلامية عن الحلم والرؤيا على أبعاد مختلفة محكومة، شأن كل منظومة لتفسير الأحلام بنوعية المرجعيات الثقافية الكبرى للحضارة (الإسلامية). وليس مصادفة أن تبدأ مختلف نماذج تفسير الرؤيا بالله مرورا بالقرآن والنبي محمد والصحابة لتنتهي بمختلف نماذج الحيوان. بعبارة أخرى، إننا نعثر على نموذج متقارب من حيث بواعثه منهجيته في تفسير الرؤيا يقترب من النموذج الإغريقي، لكنه يختلف عنه بفعل محكوميته بمنظومة العقيدة الإسلامية. من هنا أولوية وجوهرية الفكرة الأخلاقية العامة والخاصة، المجردة والملموسة في "تحرير" الإنسان من نوازع الشر والسقوط. دون أن يقلل ذلك من "واقعية" الرؤية ومهماتها العملية والنفعية. لكنها نفعية محكومة بالعقيدة العامة ومتطلبات الحياة "المتنورة" بها. وهي مكونات تاريخية ثقافية وثيقة الارتباط بالكيفية التي حلت بها الثقافة العربية الإسلامية إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للدولة والمجتمع والفرد من خلال بلورة مرجعيات الرؤية العامة بما في ذلك في الموقف من الرؤيا (الأحلام). وهي صيغة يمكن رؤيتها على سبيل المثال في تفسير ابن سيرين للرؤيا.

كما يمكننا العثور على تقديمها النموذجي فيما يصوره ابن سيرين نفسه، عندما يستشهد برؤيته في إحدى المرات قائلا: "رأيت في المنام كأني دخلت الجامع، فإذا أنا بمشايخ ثلاثة وشاب حسن الوجه إلى جانبهم فقلت للشاب:

- من أنت رحمك الله؟

- أنا يوسف!

- فهؤلاء المشيخة؟

- آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب

- علمني مما علمك الله! (ففتح فاه وقال)

- انظر! ماذا ترى؟

- أرى لسانك! (ثم فتح فاه فقال)

- انظر! ماذا ترى؟

- لهاتك! (ثم فتح فاه فقال)

-  انظر! ماذا ترى؟

- أرى قلبك!

- عبّر ولا تخف!

 فأصبحت وما قصّت علي رؤيا إلا وكأني انظر إليها في كفي!"

إننا نقف هنا أمام صيغة نموذجية معبرة عن طبيعة رؤية الرؤيا، أي تفسيرها أو تأويلها. وشأن كل رؤية محكومة بفكرة عقائدية عادة ما تبدأ من قمة العقيدة لتنتهي بمتطلبات الجسد. من هنا ابتداء ابن سيرين بنماذج الرؤيا المتعلقة بالله. مثل قوله من رأى في منامه كأنه قائم بين يدي الله والله ينظر إليه فإن كان الرائي من الصالحين فرؤياه رؤيا رحمة، وإن لم يكن من الصالحين فعليه بالحذر لقوله (يوم يقوم الناس لرب العالمين)، فإن رأى كأنه يناجيه أكرم بالقرب وحبب إلى الناس لقوله (وقربنا نجيبا). وإن رأى أنه يكلمه من وراء حجاب حسن دينه وأدى أمانة إن كانت في يديه وقوى سلطانه. وإن رأى أنه يكلمه من غير حجاب فإنه يكون خطأ في دينه لقوله {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب}. فإن رآه بقلبه عظيما كأنه قرّبه وأكرمه وغفر له أو حاسبه أو بشره. فإن رآه قد وعده بالمغفرة والرحمة كان الوعد صحيحا لاشك فيه لأن الله لا يخلف الميعاد، ولكنه يصيبه بلاء في نفسه أو معيشته ما دام حيا. وتستعيد هذه الصور التأويلية ن حيث الجوهر استفراغ مضمون الفكرة القرآنية بالطريقة التي تجعلها "مرجعية" في الموقف من رؤيا الله، بوصفها ذروة "الرؤيا"، بفعل مرجعية الله في ثقافة المرحلة. وضمن هذا السياق يمكن أيضا فهم ترتيب التأويل من حيث نزوله مع نزول الأنبياء، أو تاريخ المآثر المرتبطة بهم حسب الفهم القرآني. من هنا نماذج تفسير الرؤيا القائلة، بان من رأى آدم اغتر بقول بعض أعدائه ثم فرج عنه بعد مدة. ومن رأى شيثا نال أموالا وأولادا وعيشة راضية. ومن رأى إدريس أكرم بالورع وختم له بخير. ومن رأى نوحا طال عمره وكثر بلاؤه من أعدائه ثم رزق الظفر بهم. ومن رأى هودا تسفّه عليه أعداؤه وتسلطوا على ظلمه ثم رزق الظفر بهم. ومن رأى إبراهيم رزق الحج وقيل إنه يصيبه أذى شديد من سلطان ظالم ثم ينصره الله عليه وعلى أعدائه. ومن رأى إسحاق أصابه شدة من بعض الكبراء أو الأقرباء ثم يفرج الله عنه ويرزق عزا وشرفا وبشارة ويكثر الملوك والرؤساء والصالحون من نسله هذا إذا رآه على جماله وكمال حاله، فإن رآه متغير الحال ذهب بصره. ومن رأى إسماعيل رزق السياسة والفصاحة. ومن رأى يعقوب أصابه حزن عظيم من جهة بعض أولاده ثم يكشف الله ذلك عنه ويؤتيه محبوبه. ومن رأى يوسف فإنه يصيبه ظلم وحبس وجفاء من أقربائه ويرمى بالبهتان ثم يؤتى ملكا وتخضع له الأعداء. ومن رأى عيسى دلت رؤياه على أنه رجل مبارك كثير الخير كثير السفر ويكرّّم بعلم الطب وبغير ذلك من العلوم. ومن رأى مريم بنت عمران فإنه ينال جاها ورتبة من الناس ويظفر بجميع حوائجه، وإن رأت امرأة هذه الرؤيا وهي حامل أيضا ولدت أيضا ابنا حكيما وإن افترى عليها برئت من ذلك وأظهر الله براءتها.

نعثر في هذه النماذج "التأويلية" على استعادة شبه مباشرة للنماذج التقليدية المغروسة في الوعي اللاهوتي. بمعنى الاستعادة المباشرة وغير المباشرة لتأثير النماذج المثالية الدينية الإسلامية وموقعها المتميز آنذاك في اثر وتأثير العقيدة على انغماس النفس الإنسانية في عوالم اللاهوت وتبعية الناسوت إليها في الأحلام والسلوك. (يتبع...)

***

 

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم