دراسات وبحوث

الأشباح والأرواح (3): حس الإيمان الديني وحدس العقل الفلسفي

mutham aljanabi2يبدأ الدين بالإلهام والوحي الباطني لأنه عادة ما ينطلق من الواحد والوحدة النافية للتجزئة والاختلاف والصنمية. وعادة ما يتراكم في شخصية الأنبياء في هيئة تحد مرير لحالة أكثر مرارة. ومن تراكم الأصوات القبيحة للتخلف والاختلاف المعجون بالتجزئة والانحطاط تتفجر ينابيع "الصوت الصافي" بعد مروره برمال وأحجار المعاناة المتكسرة في طريق الحلم بعالم يرتقي في ميدان الروح والجسد إلى مصاف الذرى. من هنا عادة ما يتخذ الحلم الإنساني في الدين أكثر الصور نقاوة، لأنه يحلم بروح متسامية وجسد متمتع بها خارج التاريخ، باعتبارها المعادلة الوحيدة التي تجعل الأسطورة معجزة، والمعجزة أملا مرتقبا وحلما ثابتا ومطلقا. كما أنه الحلم الذي يسعى للتعويض عن قيمة الحدس المحير لصوت الأزل الإنساني بالسعادة وصورتها الأبدية المتخيلة. فهو يسعى إلى أن يكون باطن الروح الإنساني وظاهره الجسدي. بمعنى حصر الروح والجسد في رؤيا غالية في الخيال مهمتها صنع اليقين الضروري والجازم بان خلاص المرء هو خلاص فردي بينما حياته بالجماعة. وهي ثنائية مرهقة بالنسبة لكيفية توليف الماضي والمستقبل، وذلك لأن حاضرها عادة ما يغيب في غيب الترقب الدائم لقيام القيامة بوصفها معقل الحلم وبوابته المثيرة.

أما العقل الفلسفي فيبدأ بالتأمل العقلي والشك المنطقي في كل قضايا الوجود ومظاهره. ومن خلاله تتراكم عناصر الرؤية الذهنية المستقلة في بحثها عن علل الأشياء والظاهر. وفي مجرى هذه العملية تتهذب أساليب بلوغ الحقيقة، لكنها تصب في نهاية المطاف في تيار واحد، ألا وهو تيار الإقرار بالتنوع والاحتمال ووحدة الشك واليقين. وقد أبدعت هذه الصيغة على نموذجها مثال الحلم الإنساني وإمكانية تحقيقه في مجرى المعاناة الفعلية المرافقة للحياة بوصفها صيرورة وكينونة دائمة للروح والجسد الفردي والاجتماعي والثقافي والعالمي. الأمر الذي جعل من العقل الفلسفي محور ومعقل المساعي المتنوعة والمختلفة والمتباينة والمتضادة لتمثل ما يبدو له الصيغة الأكثر تجانسا لتحقيق الحلم الإنساني. فقد سعى العقل الفلسفي دوما لتحقيقه وتجسيده في ميادين الروح والتاريخ من خلال تأسيس فكرة الحرية والرقي الدائم. وفي مجراهما يتراكم اليقين العقلي والعقلاني عن فكرة المنظومة القادرة على صنع الوحدة المرنة بين الظاهر والباطن، والماضي والمستقبل في حاضر الوجود الإنساني. من هنا نفيها مع كل تراكم عقلاني فكرة الجزم اللاهوتية لتستعيض عنها بفكرة الاحتمال، بوصفه الأسلوب الأكثر إنسانية وانفتاحا لبلوغ اليقين. كما أنه أسلوب تحرير الروح والجسد من قيود الأحكام الجازمة، وبالتالي تحرير الخيال وتوجيهه صوب الأحلام الواقعية ومعاصرتها. وهو تحول يجعل من المستقبل معاصرة، كما يجعل من الحاضر محل الالتقاء الدائم بين الماضي والمستقبل. وهنا يتحول الحلم إلى واقع. بمعنى إمكانية بلوغ الحالة التي كانت تقض مضاجع الأنبياء القدماء في البحث عن حل للمشكلة في إشكالية اعقد. من هنا كانت الحلول تذوب في الفكرة الدينية بالضرورة في نفسية الانقياد التقليدي وذهنية الإيمان المحكومة بالخوف وعقدة الذنب والتلذذ بوجاهة الخلاص الفردي من اجل نعيم سرمدي يعادله فرح طاغ بعذاب سرمدي لآخرين!! بينما كانت تذوب في الفكرة العقلية الفلسفية بالضرورة في عقلانية الرؤية ومحاولة تأسيسها العملي بالشكل الذي يجعل من معاناة الأفراد جزء من مصير العقل في محاكمة وجوده بين الأزل والأبد.

وفي هذين الأسلوبين العامين جرت وتجري محاولات النفس الإنسانية والعقل المجرد مباراة المنافسة الحرة من اجل المستقبل. ففي الرؤية الدينية كانت تجري من خلال الأتباع المقيد (للنبوة) بحروف النصوص "المقدسة" والتمسك المتوهج أحيانا بها حد التعصب المفرط وخلط الموت بالقتل على إنهما شهادة واستشهاد باسم الحق والحقيقة. كما كانت تفسح المجال أمام فكرة الولاية (الإلهام) بتذليل هذا الوجدان العام لسلطة النص المغترب عن معاناة الوجود التاريخي، والعبارة المعزولة عن معاناة الروح الباحث عن حقيقة المعنى، والكلمة المتكونة من حروف المعجم لا حروف التهجي المعذّب بعذوبة التعلم من وحدة الصوت والصورة. وهي عملية متناقضة وضرورية في الوقت نفسه لصنع مرتكزات الرؤية الثقافية وتطويرها وتأسيسها وتفاعل منظوماتها الفكرية. ومن خلالها كانت تتراكم الكمية الواقعية لتفعيل الثقافة والمثقف بالشكل الذي يحررهما من قيود النصوص وسلطته الكئيبة على العقل والضمير. الأمر الذي كان يضع الثقافة الحرة ومثقفيها على الدوام في مواجهة السلطة السياسية والاحتراب معها. وليس مصادفة أن تشترك السلطة السياسية والمؤسسة الدينية دوما في قمع فكرة الحرية وأحرار الفكر. وذلك لتحسسهما فيهم مصدر القوة "المخربة" لسلطة الأفراد والنصوص "المقدسة". وفي هذا الاحتراب كانت تتراكم الفكرة العقلية بوصفها الصدى المتوهج لاكتشاف الحق والحقيقة التاريخيين في مجرى الانتقال من الباطن إلى الظاهر. وقد قطع العقل الفلسفي هذا المسار المعقد في محاولاته الدائبة للانتقال من الظاهر إلى الباطن بوصفه الطريق المكمل في مساعي الفكر الحر لبلوغ تطابق الروح والجسد والظاهر والباطن.

إلا أن التجارب التاريخية للأمم والثقافات الحية تبرهن على أن طريق العقل الفلسفي هو الوحيد القادر على رصف "الصراط المستقيم" بمكونات القوة والمتانة. ومن ثم صيانته من الخراب السريع المترتب على تبدل الأجواء. لأنه الطريق القادر على جعل التراكم الثقافي منظومة حية في تاريخ وعي الذات الفردي والاجتماعي والقومي والإنساني. وهي منظومة تبدع على مثالها أنماط البحث عن النسب المثلى لعلاقة الثقافة والمثقف وموقف السلطة منهما. وضمن هذه العلاقة تتبلور ملامح النسب الواقعية والمثلى بين الأشباح والأرواح. ومن الممكن تتبع هذه العلاقة بصورة ملموسة في ثلاثة مستويات، الأول وهو مستوى النماذج الذهنية – الثقافية العامة، والثاني هو مستوى تمظهرها التاريخي، والثالث هو مستوى تجسيدها وتحقيقها الفردي.

ففي مستواها الأول هي النسبة التي تؤسس لها كل من الذهنية الدينية الإيمانية والذهنية العقلية الفلسفية. فالأولى عادة ما تصنع ذهنية مقيدة بتقاليد الإيمان التقليدي والخنوع "الواعي" وغير الواعي لمختلف هياكل وأصنام السلطة الخارجية من اله ونصوص وأفراد وأسلاف، بحيث تتحول حتى الروح والروحانية إلى قوى مستلبة بقوة المغناطيس الفاعل في نمط الاستعداد التام للخضوع والعبودية. وهو خضوع لا يتغير مضمونه بسبب شكله الخامل أو مظاهره الهائجة. فكلاهما يخضعان لسلطة الخارج. وعادة ما يلازم هذا الانقلاب تحول الوحي النبوي من معاناة فردية باطنية إلى هياكل خارجية شكلية. وفي هذا يكمن مصدر الإنتاج الدائم للأشباح التقليدية وضمور الأرواح الحقيقية. أما الذهنية العقلية الفلسفية، فإنها تصنع بالضرورة ذهنية نقدية فاعلة بحوافر التحري المنطقي ومرجعية الحرية. الأمر الذي جعل منها على امتداد التاريخ العالمي للبشرية وما يزال مصدر الإبداع الفعلي لمنظومات الفكر الحر. وقد لا تخلو من شطط وانحراف نسبي وجزئي عن القيم الأخلاقية أحيانا، إلا أنها مجرد مظاهر ملازمة لبقايا الغريزة في العقل الثقافي. وفي هذا يكمن السبب الذي جعل ويجعل من العقل الفلسفي القوة الجوهرية لتلقائية الارتقاء الروحي. ومن ثم مصدر الأرواح ومشتت الأشباح.

أما في مستواها الثاني، أي مستوى التمظهر التاريخي لهذه النماذج، فهي النسبة الدائمة بين الثقافة والسلطة، التي تبرهن بدورها على حقيقة دائمة يقوم فحواها في أن السلطة شبح صانع أشباح، بينما الثقافة روح صانعة أرواح. وينبع هذا الاختلاف من مكوناتهما الجوهرية ووظائفها المباشرة وغير المباشرة. فالسلطة هي معقل الغريزة، والمصالح، والصراع الضروري والمفتعل، ومختبر البرهنة الدائمة على كمية ونوعية المؤامرات والمغامرات، بينما الثقافة ميدان تجلي الممكنات المتسامية، لأنها ميدان اختبار واختيار العقل والواجب. حيث يؤدي هذا الاختلاف بالضرورة إلى خلاف بينهما في المبدأ والوسيلة والغاية. غير أن النسبة تبقى كما هي، بمعنى أن السلطة محكومة وحاكمة بالمادة، بينما الثقافة محكومة وحاكمة بالروح.

 أما المستوى الثالث فهو التجسيد والتحقيق الفردي لهذه النماذج. وفيه تظهر حقيقة النسبة بين الأشباح والأرواح في المصير والقدر الفردي للمثقفين الأحرار والسلطة. فالسلطة محكومة دوما بقوة العابر والمصالح الضيقة والغريزة، أما الروح فهو كينونة الوجود الفعلي وحامل ديمومته المعقولة. ومن ثم منظومته الفعلية في الوعي الذاتي للأفراد والأمم. وفي هذه المقدمة التاريخية والمعرفية تكمن طبيعة العلاقة بين الفكرة الحرة والسلطة المقيدة. فالثقافة الحرة هي ثقافة العقل النقدي الفلسفي. الأمر الذي يجعل من المثقف الحقيقي حامل فكرة الحرية ومشرّعها الروحي. بمعنى انه يبدعها من خلال تأسيس النسبة الواقعية والعقلانية بين الماضي والمستقبل في مجرى معاناة بحثه الفردي عن حلول لإشكاليات المعاصرة. وتشكل هذه الحلول المتنوعة بمجموعها كينونة النخبة المبدعة، بوصفها حاملة روح المرحلة، أو أرواحها الفردية المتنوعة، ومن ثم حاملة منظومة الثقافة الفعلية. وفي هذا يكمن سر خلافها الخفي والعلني مع السلطة بوصفها قوة القيود المادية المتجسدة في عنف القوة القاهرة، وسطوة النص الجامد، وانعدام التأويل العقلي الحر. وإذا كان مظهرها العام والخاص عادة ما يبرز في عنف القوة القاهرة للسلطة، فلأنها التجسيد الأكثر خشونة للعنف والسطوة غير العقلانية. وهي صفات تنبع من طبيعة السلطة. فالسلطة منظومة القهر والجمود واللاعقلانية، لأنها تتمثل في أعماقها وآلية فعلها نفسية الغريزة ومكونات ما قبل العقل الثقافي. من هنا استفحال النفس الغضبية فيها مع كل ضعف أو مواجهة للمثقفين الأحرار. تماما بالقدر الذي يتمثل المثقف الحر في أعماقه وآلية فعله العقل الفلسفي النقدي، ومن ثم ينفي في إبداعه ومشاريعه، بما في ذلك أشدها طوباوية، حدود الجمود المتراكم في قهر السلطة وسطوة النصوص الجامدة وخمول الخيال. وذلك لأن منطق الثقافة الحقيقية هو إبداع الحق والحقيقة والعمل بموجبها. حيث يجعل هذا الترابط من الثقافة الحقيقية ملجأ المثقف الحقيقي، كما يجعل من المثقف الحقيقي حامل الثقافة الحقيقة. وهي معادلة تنتج في كل قراءة أصيلة وفردية لها نموذج "أنا الحق".

إن المستويات الثلاثة المشار إليها أعلاه هي طبقات التراكم التاريخي والمنطقي لإشكالية الأشباح والأرواح القائمة في علاقة السلطة والثقافة. وتكشف هذه الطبقات وتبرهن على الحقيقة القائلة، بأن الثقافة الحرة لا تبدع غير سلطة الحقيقة. وهو إبداع يخيف السلطة (السياسية) ويثير غريزة الجاه فيها وحب الاستئثار وغيرة الأمامية. إنها أيضا تريد الاستئثار بما في الثقافة الحقيقية من قوة وسلطة، لكنها لا تدرك نوعية الخلاف بينهما. فالروح ليس كالجسد، والتاريخ ليس كالزمن، والمستقبل ليس كالماضي. فالسلطة من حيث تركيبتها وفاعليتها هي جسد الزمن الماضي، بينما الثقافة الحقيقة هي روح التاريخ والمستقبل. وفي هذا يكمن القدر المحتوم لاختلافهما الدائم وصراعهما المحتمل. من هنا كان تعايشهما وتلازمهما ودموية العلاقة بينهما، بما في ذلك في محاولات نفي وتذليل هذا التمايز والاختلاف.

ومن هذه المقدمات نستطيع القول، بأن السلطة الجيدة عادة ما تعي نفسها وتعمل بوصفها شبح الروح وليس الجسد، وشبح التاريخ وليس الزمن، وشبح المستقبل وليس الماضي. وحالما تريد الاستئثار بالاثنين معا، فإنها تفسد الاثنين معا. أما النتيجة الحتمية لهذا الفعل فهي استعادة فجة للعداوة والاستعداء والخراب والتخريب. كما أن الثقافة الحقيقية عادة ما تعي نفسها وتعمل بوصفها روح الأرواح المبدعة لمبدعيها، وأن سلطتها فيها وليس في أيدي أشباح عابرة. وبالتالي فإن قدرها المحتوم هو معاناة دائمة ودائبة من اجل تحرير العقل والضمير من سلطة الأشباح بشكل عام والسلطوية بشكل خاص. فالثقافة الحقيقة هي تاريخ المستقبل، وتاريخ التأسيس العقلاني الحر لفكرة الاحتمال والبدائل الإنسانية، وتاريخ دائم من وعي الذات العقلاني والإنساني الحر.

*** 

 

في المثقف اليوم