دراسات وبحوث

الأشباح والأرواح (5): المثقف والسلطة.. الوحدة المستحيلة!

mutham aljanabi2إن التاريخ لا يعرف سلطة بدون ثقافة خاصة بها، كما انه لا وجود لسلطة خارج ثقافتها. وكلاهما يظهران سوية ويتطوران أو يندثران في صراع مرير أو سأم مميت، أو وئام معقول أو تعايش مقبول. غير أن الشيء الوحيد الذي يبقى بمعزل عن هذه الصفات هو مستوى المعرفة واكتشافاتها وحقائقها. فقد اندثرت ثقافة السلطة في مصر القديمة مع اندثار سدنتها واضمحلال دولتها، بينما بقت اكتشافاتها وحقائقها في الأهرامات والرسوم و"المخطوطات". والشيء نفسه يمكن قوله عن ثقافة وادي الرافدين. فقد ظلت ملحمة جلجامش ترفد عقائد الأديان وأساطير الأمم وخيالها لما فيها من مساع لإدراك حقيقة الوجود ومعنى الثواب والعقاب وسر الحياة والخلود. وإذا كانت هذه الصيغة تبقى بيانية المظهر وخطابية الصيغة، فلأنها تعبرّ عن شاعرية الحقيقة، القائمة في تجلياتها غير المتناهية عن تمثل وتمثيل التجانس التام والأجمل والأعمق في الإنسان والطبيعة وفيما بينهما أيضا.

غير أن هذه القضايا تظهر بوصفها جزء من عملية معرفية معقدة هي بدورها حلقة في سلسلة الوجود التاريخي للدولة ومؤسساتها. ومن خلالها تتبلور وتمر مختلف أشكال ومستويات الصراع الاجتماعي والسياسي والفكري. ففي الوقت الذي تشكل الدولة، من الناحية التاريخية، القوة القادرة على إزالة حجب العتمة الكثيفة القائمة أمام حرية المعتقدات والأفكار، فإنها يمكن أن تكون أيضا هراوة القمع السافر. ومع ذلك تبقى الحرية التي توفر الدولة شروطها الأولية مقدمة ذاتية بالنسبة لإبداع الفكر الحر. وهي ظاهرة يمكن ملاحظتها في تواريخ كل الثقافات الكبرى.

فمن المعلوم أن لكل مرحلة تاريخية كبرى ثقافتها الخاصة، كما أن لكل منهما مثله النموذجية والمطلقة. والتاريخ اللاحق هو الذي يحقق مدى واقعية ومصداقية هذه المثل، بمعنى البرهان على مدى اقتراب أو ابتعاد "المطلق التاريخي" عن "المطلق المجرد". ومن خلال ذلك تتبين الأصالة من الزيف. وليس هذا التحقيق والبرهان والإبانة سوى النتاج المباشر وغير المباشر عن العملية الدائمة والمعقدة للوعي التاريخي الذي لا يمكن بدونه ترسخ وعي الذات الاجتماعي والسياسي. فهي العملية التي تتحكم بالإبداع التاريخي للأفراد والأمم بشكل عام وبإبداع المثقفين بشكل خاص. ومن ثم ليست حرية الإبداع الفعلية سوى قدرته على المشاركة الفعالة في تنظيم الرؤية الثقافية بالطريقة التي تخدم استمرار وحدة الحق والحقيقة. لهذا عادة ما تشق ثقافة الإبداع الحر طريقها بين تعرجات الوجود التاريخي للأمم بهيئة قوة ممثلة للصراط المستقيم وحاملة لواء الحق فيه. وليست الاستقامة هنا سوى تمثل الحقيقة كما هي، بمعنى استقامة مستعدة للالتواء مع تعرجات يصعب رسمها، لكنها تسير في نفس مسار البحث عن وحدة الحق والحقيقة. فهو المخزون الذي تتلألأ فيه مجوهرات الماضي والمستقبل. مع ما فيه من قدرة على تقديم مختلف صيغ ونماذج التأويل، بوصفها الرصيد الذي لا ينفذ لما يمكن دعوته بتراث الحق. كما أنه المصدر الذي يرفد المعاصرة الذهنية وذهنية "المعاصرة" بالصور والرموز الضرورية لاستمرار الوعي الثقافي الأصيل. إلا انه في نفس الوقت مخزون تتلألأ فيه أيضا أصداف الماضي وحراشف المستقبل. بمعنى قدرته على تقديم مختلف صيغ ونماذج التأويل التي عادة ما تشكل الرصيد الذي لا ينفذ لما يمكن دعوته بتراث التحزب الضيق. كما أنه المصدر الذي يرفد المعاصرة الذهنية وذهنية "المعاصرة" بالصور والرموز الضرورية لاستمرار الوعي الثقافي المزيف.

وفي كلتا الحالتين، ليست هذه الظاهرة حالة ثقافية محضة بل ووجودية تاريخية أيضا. وهو السبب الذي يفسر سرّ الانبعاث "المؤقت" لبعض تيارات ومدارس الماضي في ظل استمرار "التراث" ككل. وليس هذا الانبعاث "المفاجئ" و"الغريب" بين فترة وأخرى لهذا الجزء أو ذاك من تراث الماضي سوى الظل غير المرئي للرؤية العقائدية والحس الأيديولوجي، اللذين عادة ما يبحثان في الماضي عن نماذج مثلى وحلول واقعية عوضا عن النظر إليها باعتبارها تجارب لها قيمتها الجوهرية بالنسبة لشحذ وعي الذات النقدي. وعادة ما يؤدي هذا إلى تسطيح الوعي الاجتماعي والسياسي وإعدام أبعاده التاريخية النقدية. كما انه أحد الأسباب القوية الكامنة وراء ضعف وتشوه الوعي النظري العقلاني، أي كل ما يشكل مصدر ما أسميته باستمرار الوعي الثقافي المزيف.

في حين أن حقيقة التراث، بوصفه المخزون الذي تتلألأ فيه خزائن الماضي والمستقبل، تقوم في كونه الكيان الوحيد المتبقي من حطام الماضي، ومن ثم الكيان القادر على استثارة الذاكرة التاريخية وتوجيهها صوب إدراك الإشكاليات الفعلية الكبرى للمعاصرة. وفيما لو تجاوزنا المظهر البلاغي لهذه العبارة، فان مضمونها الفعلي يقوم في إبراز الحقيقة القائلة، بأن لكل تراث أصيل أسس استمراره الثقافي في تاريخ الأمم، ومن ثم استحالة استئصاله، بسبب أثره الجوهري والتلقائي في بناء مكونات وعي الذات الاجتماعي والقومي العام.

وهنا يجدر القول، بأن هذا الوعي الذاتي لا ينشأ فقط من خلال انحلاله في مجرى الفكر الحر الساعي لإعادة إنتاج ذاته بوصفه قوة حية، بل وفي بناء كينونة وجوده الأول. وفي هذه العملية المتفاعلة للوجود الثقافي وإدراك حقيقة النسبة وروحها الفعال في تعميق وترسيخ وعي الذات الثقافي تكمن القيمة "الخالدة" للتراث. ومن الممكن هنا الاستشهاد بالفكرة العميقة التي وضعها الشيخ البرنسي((846-899 للهجرة).) في معرض مقارنته للصوفي بالقطب، عندما كتب يقول، بأن "النسبة عند تحققها تقتضي ظهور أثر الانتساب. فلذلك بقى ذكر الصالح أكثر من الفقيه. لأن الفقيه منسوب إلى صفة من صفات نفسه هي فهمه وفقهه المنقضي بانقضاء حسه، بينما الصالح منسوب إلى ربه. وكيف يموت من صحت نسبته للحي الذي لا يموت بلا علة من نفسه"؟! وفيما لو جرى انتزاع الصيغة اللاهوتية من هذه العبارة، فإن الفكرة جلية للغاية وعميقة إلى أبعد الحدود. لقد أراد القول، بأن الإبداع الحقيقي يفترض ظهور أثر الانتساب فيه، أي التحقق بحقيقة الإبداع. والإبداع الحق ليس فهما حسيا عابرا لحدود التجارب الشخصية أيا كانت، بقدر ما هو تمثل وتمثيل الحق كما هو. والحق هو النسبة الدائمة الوجود في كل موجود. كما أنها النسبة التي لا تموت لأنها حقيقة وجود الأشياء كلها. لهذا لا تموت الحقيقة كما لا يموت من ينتسب إليها. وبالتالي فإن الصالح في الثقافة يقوم في الانتساب لحقائقها التاريخية الكبرى وإعادة تمثلها من جديد على نموذج الحي الذي لا يموت، أي على نموذج الحياة الحقيقية.

وقد وضع ذلك بالضرورة مهمة امتحان هذه الأفكار على محك التاريخ الثقافي العربي والإسلامي انطلاقا من أهميته النظرية والعملية. فالمعيار الأكثر واقعية وعقلانية لامتحان الأفكار أيا كانت تقوم في عرضها على تاريخ الثقافة الخاص، فهو الأسلوب الوحيد الفعلي لتحقيق وعي الذات في مختلف مستوياته. إضافة لما في هذا الامتحان من أهمية كبرى بالنسبة لتوظيفه الفعلي في العالم العربي المعاصر. بمعنى أن المهمة الأساسية من وراء ذلك تقوم في ضرورة استلهام الرؤية الذاتية للثقافة بالشكل الذي يجعلها قادرة على المساهمة في تعمير وعي الذات النقدي، وبالتالي العمل على ترسيخ أسس الرؤية الثقافية للإقرار بفكرة الاحتمال والبدائل العاملة ضمن معايير ومقاييس الإخلاص للحق والحقيقة.

لهذا سوف لن أتطرق بإسهاب إلى هذه الجوانب في ماضي وحاضر الثقافة العربية والإسلامية، بل اكتفي بتتبع نماذجها الكبرى من اجل وضعها أمام "امتحان" الواقع المعاصر وإشكالاته الفعلية عن علاقة السلطة بالمثقف وعن علاقة الحقيقة بالقوة، والفكر بالواقع وإشكالاته الكبرى.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما أسعى إلى تأسيسه هنا هو مجرد رؤية ثقافية المحتوى من حيث عناصرها الأساسية، مهمتها التعبير عن الفكرة القائلة بأن لكل ثقافة تاريخية مقدماتها وآفاقها، ومثلها النسبية والمطلقة، وحقائقها الجزئية والكلية فيما يتعلق بمواقفها من النفس والآخرين والحاضر والمستقبل. ومن هذه الجوانب تتكون معايير حكم الثقافة ومقاييس فعلها ووعيها الذاتي. الأمر الذي يساعدنا أيضا على بلورة الأساليب القادرة على تحرير الوعي الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي من خطر السقوط في أوحال التعصب والحزبية الضيقة ليرفعها إلى مصاف الرؤية السياسية والثقافية العقلانية. فتجارب الماضي تجاربنا، وفيها يمكن تتبع "مصير" الثقافة والمثقف والسلطة.

***  

 

 

في المثقف اليوم