دراسات وبحوث

الأشباح والأرواح (10): النبي محمد.. إرادة الحق والحقيقة

mutham aljanabi2فقد كانت معاناته الفردية تتكامل في يقين بعد كل انتصار أو هزيمة. فعندما أصبح تكذيبه جزءا من نفسية وذهنية وأساليب المواجهة الوثنية ضد ما يدعو إليه، حينذاك اخذ عذابه وامتعاضه يتحول إلى إدراك بأن ما يجري هو جزء من اختبار الهي حصل على إحدى صيغه بفكرة {إن كذبوك فقد كذبت رسل من قبلك}[1]. واستكملت في مجرى الصراع بفكرة {فما يكذبك بعد بالدين. أليس الله احكم الحاكمين}[2]. وإذا كان الاستهزاء قد أوصله في بداية الأمر إلى حدود الجزع، فإن خاتمة المواقف انعكست بفكرة {ولقد استهزأ برسل من قبلك}. بل وجرى رفعها إلى مصاف الاختبار الإلهي بوصفه استهزاء إلهيا بهم كما في قوله{الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون}[3]. وتعمقت هذه الفكرة من خلال إبراز ضيق المكر الإنساني ونفيه بالمكر الإلهي، أي المكر المبني على أساس أن الخديعة التي يقوم بها البشر ما هي في الواقع سوى خداع النفس كما في قوله {يخدعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون}[4]. وإذا كانت الفكرة الأولى قد ظهرت بعبارة "إن الله أمكر الماكرين"، باعتبارها الرد المباشر على تفاهة المكر البشري وحدوده الضيقة، فإنه يتحول في وقت لاحق، بسبب تزايد المكر الوثني المعارض، إلى فكرة متسامية هي الصيغة الملموسة لما ادعوه بتحول الشكوك حالما تحرق العقل والوجدان إلى يقين متسام. حيث يصبح مكر الناس العادي مجرد حلقة في سلسلة الرذيلة الإنسانية. بينما يقف مكر الله وراء ألاعيب الناس الصغيرة كما في قوله {ولقد مكر الذين من قبلهم، فلله المكر جميعا}. وعندما يصبح إقناع البشر أمرا عصيا خصوصا إذا تعودوا أن يجدوا وراء كل فعل مقايضة كما كان الحال بالنسبة لنفسية مكة التجارية، فإن الرد لم يعد مجرد رفض الأجر الإنساني، بل ونفيه ايضا كما في قوله {ما سألتكم من اجر فهو لكم. إن اجري إلا على الله}[5]. كما لم يعد الرد محصورا بالاتهامات المباشرة، بل نراه ينتقل إلى مصاف الإجابة المتسامية. لهذا لم يعد الرد على اتهامه بالسحر والجنون والضلال محصورا في أن "الأمر ليس كذلك"، بل وأخذ يرتقى إلى مصاف جديدة كما في رده على اتهامه بالضلال. حيث نراه يبلوره بفكرة {إن ضللت فإنما أضل نفسي، وان اهتدي فبما يوحي اليّ ربي}[6]. وأن الخلاف بينه وبينهم لا يمكن حسمه بمقاييس الزمان والمكان، بل بمقاييس الآلهة كما في قوله {قل يجمع بيننا ربنا}. كما جاء الرد على فكرة "أنت لست مرسلا" بفكرة {قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم}[7].

إننا نرى هنا انتقال الردود المباشرة إلى ردود غير مباشرة، بمعنى الانتقال من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى المستقبل، ومن المستقبل إلى الغيب، ومن الزمن إلى التاريخ، ومن الواقع إلى المجرد، ومن الإنسان إلى الله، بوصفها حلقات ضرورية ومتراكمة فيما أسميته بانتقال الشكوك إلى يقين عملي في مجرى الصراع والتحدي بعد احتراقها في معاناة العقل والوجدان. حينذاك كان بإمكان محمد أن يتسامى في رؤيته الذاتية التي أخذت تجرّد ردوده من نفسية المواجهة وتنقلها إلى حالة الإقرار بيقين الفكرة المطلقة. بمعنى انتقال الخطاب من المواجهة المباشرة بينه وبين الوثنية إلى حوار بينه وبين وحيه الذاتي، لا يخلو من تشنج دفين. فالجدل حول ما إذا كان هو رسولا فعلا أم لا يتحول إلى يقين عملي كما في قوله {وما أرسلناك إلا كافة للناس مبشرا ونذيرا}، أو أن يتمثل الفكرة بعبارة أخرى تقول {يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا}. ولم يعد اعتراض "الناس" الوثنيين مهما كانت ثروتهم ومواقعهم وثقلهم الفعلي أو الموهوم أمرا ذا أهمية، لأنهم يبقون بمعايير المطلق فقراء كما في قوله {يا أيها الناس انتم الفقراء إلى الله}.

لقد صنع انتقال الشكوك بعد احتراقها في معاناة العقل والوجدان إلى يقين متسام ويقين عملي، ومن ثم وحدتهما اللاحقة. آنذاك أصبح من الممكن إيجاد الصلة والنسبة الممكنة بين الإرادة الإلهية والإنسانية في كل الأفعال الممكنة مثل أن يقول {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}، أو {إذا أراد الله بقوم سوء فلا مردّ له وما لهم من دونه وال}[8]. ولم يعد الحديث في الخطاب محصورا بين التوبيخ والنقد اللاذع والمطالبة بعمل شيء مباشر، أو قول ما ينبغي وما يجب، بل أصبح خطابا يرتقي إلى مصاف التاريخ المتسامي. فعندما يخاطبه الوحي {كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم}[9]، فإن ذلك يعني أن الذات الجوهرية هنا ليست الأمم بل "هو" بوصفه رسولا ومبشرا ومبلغا ونذيرا. وعندما يضعه أمام اختبار التبليغ والتبشير، فإن الجوهري ليس النتيجة بل تحقيق إرادة الفعل كما في قوله {أما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفيك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}[10]. كما لم يعد جدله يدور في فلك الاختلاف، بل في تيار الحق الساري، كإن يردّ على من يخالفه بعبارة {إن ربي يقذف بالحق}[11]، أو أن يستكمله بيقين اشد قوة يقول، بأن {الذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق}[12].

إن بلوغ اليقين التام والشامل بالحق جعل من فكرة السمو العملي الصيغة الطبيعية لمواجهة جميع الإشكاليات، بما فيها تلك التي تتطلب "جرأة" في تغيير قواعد العقيدة، كما كان الحال بالنسبة لتغيير القبلة. ففيها نعثر على صدى معاناته الهائلة عندما اخذ يقلّب وجهه في السماء باحثا عن مخرج فوجده إلى جانبه! وقد صورت الآية القرآنية هذه الحالة بعبارة {قد نرى تقلب وجهك في السماء، فلنولنك قبلة ترضاها، فولّ وجهك شطر المسجد الحرام!}[13]. وتشير هذه الحقيقة إلى أن الأبعاد المتسامية عادة ما تقع تحت الأقدام، كما أن الحلول الأشد تعقيدا بالنسبة للعقل والضمير عادة ما تقوم في تذليل الخلاف بينهما. والشيء نفسه يمكن قوله عن الحيرة المتسامية التي عادة ما تجد مخرجها في الأزقة التي اعتدنا المشي فيها، تماما كما أن قوس قزح هو حزمة الطيف التي يمدها عرق الجبين وقطر الندى ومياه الأمطار. وتمثل الوحي هذه الفكرة في قوله{لله المشرق والمغرب، فأينما تولوا فثم وجه الله}[14]. حينذاك لم يعد من الصعب أن تصبح مكة التي عذبته مدينة الروح، وأن تتحول كعبة أوثانها إلى مسجد حرام وبيت الله.

تبرهن هذه العملية على أن الشكوك الكبرى على قدر الغايات، وإنها ترتقي بعد احتراقها في تجارب العقل والوجدان إلى يقين متسام وعملي! عندئذ يمكن أن تتحول مختلف أشكال ونماذج المعاناة الذاتية إلى ما يقابلها من نفي أو بدائل عليا، مثل تحول الانتصار إلى وعد الهي أو قضاء حق، والهزيمة إلى ابتلاء الهي أو وعيد حق. وهو تحول يعكس أولا وقبل كل شيء تضافر ما أسميته باليقين المتسامي والعملي في الرؤية والمواقف.

فعندما اخذ اليقين يتراكم في إمكانية انتصار نهائي حاسم، عندها تحول النداء من دعوة للدفاع إلى دعوة للهجوم. وعوضا عن فكرة "لا اعبد ما تعبدون ولا انتم عابدون ما اعبد"، و"لكم دينكم ولي ديني" تظهر مواقف الهجوم المتنامي مثل {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تقعدوا}[15]، {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}[16]. وعندما تأخذ القوة والهيبة في التمركز يتحول محمد من داعية ومبشر ونذير إلى مركز استقطاب التأييد والطاعة. حيث تتدرج هذه العملية في انتقالها من ربط طاعة الرسول بطاعة الله مثل قوله {أطيعوا الله ورسوله}، إلى جعل طاعة الرسول مدخلا لطاعة الله كما في قوله {ومن يطع الرسول فقد أطاع الله}[17]. بل وتنتهي هذه العملية في تدرج يبلغ كفاية الطاعة بوصفها فريضة أزلية كما في قوله {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع}[18]. وأخيرا يصبح محمد نفسه الحلقة الأخيرة في سلسلة النبوة، أي الخاتمة التي بشر بها عيسى كما في قوله {إني مبشر برسول يأتي بعدي اسمه احمد}[19].

ونعثر على نفس هذا الاتجاه في تحول الله إلى قوة ذائبة في الصراع الذي يخوضه محمد. بمعنى نزوله من أعلى عليين إلى أسفل سافلين متناغما في كلمات ملاكه (جبريل) بوصفه التجسيد المعقول لوحدة المتسامي والعملي. فهو الذي يقاتل أعدائهم كما في قوله {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم}[20]، بل وهو الذي يرمى أعدائهم بالحصى كما في قوله {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}[21]. ولا يشير هذا الاتجاه إلى تضاءل دور الفرد في الصراع بقدر ما يشير إلى تحول الشكوك الكبرى القديمة إلى يقين مطلق في مجرى تعاظم الترابط العضوي بين المتسامي والعملي. وأشد ما يظهر هذا الترابط في منظومة التفاؤل الدائم، كما في قوله:{لا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون}[22]، وفي كل مأزق مثل {تلك الأيام نداولها بين الناس}[23]، أو {ويريدون إن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}[24]. وهي علمية لابد منها بوصفها حكما أزليا، وقضاء إلهيا، وقدرا محتوما، انطلاقا من انه {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون}[25]. أما تتويجها النهائي فقد جرى التعبير عنه في الآية {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}[26].

إننا نقف هنا أمام حركة الوحي الذاتي بمعايير وقواعد منطقه الخاص. كما تشير بدورها إلى طبيعة ودرجات المعاناة الكبرى التي واجهها محمد في مجرى الانتقال من رجل عادي من قريش إلى نبي، ومنه إلى رسول للعالمين. أنها تعكس درجات الانتقال العملية والمتسامية في الفكر والإرادة والعمل، بوصفها صراعا لا هوادة فيه ضد سلطة المكان والزمان والأفراد والتقليد والمال والجاه، من اجل تثبيت سلطة الروح والإرادة المتسامية.

 وهي عملية أكثر من جسّدها الوحي بوصفه الصوت الباطني للحق والحقيقة. ففيه نعثر على كيفية تحول كلمات الظاهر إلى باطن، والباطن إلى ظاهر، والسر إلى علن، والعلن إلى سر، بحيث نقف في نهاية المطاف أمام دورة كاملة من وحدة الظاهر والباطن، والسر والعلن بوصفها دورة التاريخ والفكرة. وفيه أيضا نعثر على الكيفية التي تصبح فيها كلمات المواجهة والتحدي صوتا إلهيا، بحيث نقف في نهاية المطاف أمام دورة كاملة من وحدة الشك واليقين، واليأس والأمل، بوصفها دورة المعاناة الصادقة في مجرى تحولها إلى رؤية ومواقف. كما أنها الدورة التي ظهرت بأثرها وتكاملت إمكانية القراءة الفردانية الحية، بوصفها اكتشافا ذاتيا دائما. حيث نعثر فيها على كل نماذج التفاعل الطبيعي والتاريخي من استغراب واندهاش، وحيرة وتعجب، وقبول ورفض، وتأييد وإدانة، وشك ويقين، ورغبة وتمني، ويأس وأمل، وجزع وصبر، وهروب وهجوم تجاه كل مظاهر القوة والضعف، والجبروت والهشاشة في الأقوال والأفعال من إيمان وكفر، وجود وبخل، وشجاعة وجبن، ومواجهة وغدر، وأمانة وخيانة. وصنعت هذه الدورة بدورها تكامل القيم الأخلاقية في منظومة متسامية في تعبيرها عن النقد الشامل وتكامل البدائل.

(يتبع....)

 

.............

[1] القرآن: سورة فاطر، الآية 4 .

[2] القرآن: سورة التين، الآية 7-8.

[3] القرآن: سورة البقرة، الآية 15.

[4] القرآن: سورة البقرة، الآية 9.

[5] القرآن: سورة سبأ، الآية 47.

[6] القرآن: سورة سبأ، الآية 50.

[7] القرآن: سورة الرعد، الآية 45.

[8] القرآن: سورة الرعد، الآية 11.

[9] القرآن: سورة الرعد، الآية 30.

[10] القرآن: سورة الرعد، الآية 40.

[11] القرآن: سورة سبأ، الآية 48.

[12] القرآن: سورة فاطر، الآية 31.

[13] القرآن: سورة البقرة، الآية 144.

[14] القرآن: سورة البقرة، الآية 115.

[15] القرآن: سورة البقرة، الآية 190.

[16] القرآن: سورة البقرة، الآية 193.

[17] القرآن: سورة النساء، الآية 59.

[18] القرآن: سورة النساء، الآية 64.

[19] القرآن: سورة الصف، الآية 6.

[20] القرآن: سورة الأنفال، الآية .17

[21] القرآن: سورة الأنفال، الآية 17.

[22] القرآن: سورة آل عمران، الآية 139.

[23] القرآن: سورة آل عمران، الآية 140.

[24] القرآن: سورة براءة، الآية 32.

[25] القرآن: سورة براءة، الآية 33.

[26] القرآن: سورة المائدة، الآية 3.

 

 

في المثقف اليوم