دراسات وبحوث

الأشباح والأرواح (14): مرجعية الحق والخلافة السياسية (1)

mutham aljanabi2قدم الإسلام في دعوته لإلغاء الجاهلية مستوى جديدا في التعامل مع النفس والآخرين. فقد كان الهمّ الإسلامي العام يقوم في الإخلاص للحق كما هو. وبغضّ النظر عن الصيغة الدينية للحق الإسلامي، إلا انه كان يتمثل في ذاته تقاليد الماضي وثقافة العرب الجاهلية ونفيهما بالفكرة المتسامية. مما أدى إلى نفي سلطة الانتماء للقبيلة بسلطة الانتماء للجماعة المحكومة بالشريعة. وهي المقدمة الكبرى للسلطة الجديدة الآخذة في النمو. غير أن خصوصيتها تقوم في احتكامها للوحي القرآني بوصفه مصدرها الناطق، أما الدعوة والعمل من اجل تنفيذها فقد تحولت إلى الأسلوب الواقعي لتحقيقها. مما جعل من "الوحي" سلطة من طراز جديد. لكن قوته المباشرة وغير المباشرة كانت ترتبط بالنبي محمد، وذلك لأنها لم تعان آنذاك من إشكالية الأنا والآخر، والفكر والسلطة، والمصلحة والمنطق، مع أنها كانت تحتوي على كل هذه المكونات ولكن على هيئة كيان منحلّ في الوحدة المتسامية للقول والعمل بفعل مرجعية "الاختيار الإلهي" للنبي محمد. الأمر الذي حدد بدوره طبيعة وكيفية العلاقة الواجبة بين الحقيقة والإلهام والمصالح، بوصفها وحدة لا يمكن فصم عراها، لان أولها وآخرها حق.

لقد كان الوحي حقيقة والحقيقة وحيا. مما جعله سلطة من أي وجه تراه، أو هكذا كان ينبغي النظر إليه من جانب الأتباع الجدد. فقد طالبت هذه الوحدة المرء بتأمل كل ما هو موجود بالعقل والقلب. كما طالبته بالقدر نفسه بالإيمان التام بها، باعتبارها وحدة معقولة ومقبولة بمعايير الدين ومتطلبات الانتماء للجماعة الجديدة أو أمة الصراط المستقيم والمستقبل. من هنا رفض الجدل مع الإقرار بفاعليته ضد الجاهلية. وهو تناقض يمكن فهمه ضمن أحكام التقليد، لكنه كان يتمتع بفاعلية قوية ضمن مقاييس الإيمان.

فقد كانت الجاهلية العربية محكومة بعادة التقليد للآباء والقدماء. بينما يفترض الإيمان الجديد إتباع ما يمكن دعوته بمنطق الإلهام والحقيقة الإسلامية. وهو اتجاه عقائدي خالص من حيث محتواه الفكري. مما حدد بدوره طبيعة وكيفية الانتماء الجديد للجماعة الجديدة، بما في ذلك في ميدان الفكر. من هنا أصبح حسان بن ثابت "لسان الإسلام" مع أن شعره أدنى من شعراء من كان يهجوهم، كما أن استعمال الشعر في المعركة لم يتعارض مع الفكرة الإسلامية القائلة بعدم ثبات الشعراء في القول والعمل. كما لم يعق ذلك النبي محمد من أن يرمي ببردته على من قال "بانت سعاد فقلبي اليوم متبول…" . والقضية هنا ليست فقط في الفكرة المحمدية عما في البيان والبلاغة من "سحر"، وعما بين الشعراء أحيانا "ممن عصمهم الله" من الوقوع في أوحال الرذيلة الجاهلية، بل وفيما أسميته بمنطق الإلهام والحقيقة الإسلامية، الذي يطالب المرء بالإخلاص التام، بوصفه فرضا من فروض الإيمان. لما في هذا الفرض من سمو داخلي حالما يخدم بالفعل تعميق وترسيخ منطق الحق والحقيقة. 

كما أنه منطق يتمتع "بآلية" خاصة ومسار متميز في "الوحي". لكنه حالما ينتقل من عالم الملكوت إلى عالم الملك والشهادة، فإنه يتخذ، شأن كل الأفكار "المقدسة"، رموزا وإيحاءات ومفاهيم محكومة بتجارب الأفراد والجماعات والأمم. فقد أرتبط هذا التحول بصيرورة الدولة وحدود السلطة فيها. وفي الإطار العام يمكن القول، بأن هذا التحول الهائل في تاريخ الخلافة قد سار عبر تحويل "الوحي النبوي"  إلى سلطة من طراز جديد أصبحت بفعل قدسيتها "نصا" عند البعض و"مشكاة" عند الآخر. وهو تباين كبير كان يعكس طبيعة ومستوى الخلاف الضروري والتمايز الذي لا بد منه للفكر في التعامل مع تراث الماضي وإشكاليات الحاضر، أي أنه كان يمثل مسارا لاتجاهين أعادا إنتاج تقاليد الرواية والدراية، والمعقول والمنقول عبر رفعهما إلى مصاف التفسير والتأويل، والظاهر والباطن. وقد كانت تلك نتيجة طبيعية لما ادعوه بالواحدية الثقافية الإسلامية وخصوصية تبلور مرجعياتها الكبرى في الأصول.

وفيما لو تجاوزنا هذه الجوانب وانتقلنا مباشرة إلى كيفية تأثير هذا التحول على علاقة المثقف بالسلطة، فإنها لا تخرج في الإطار العام عما هو مميز لهذه العلاقة في الحضارات التاريخية الكبرى من مسار خاص لإشكاليات الحقيقة والسلطة فيها.

فالحضارات تشترك في بناء الدولة وإنتاج الثقافة، لكنها تختلف في نماذج إبداعها للأصول والمرجعيات، بوصفها مكونات جوهرية بالنسبة لصنع خصوصية الحضارة وكيفية انتقالها وتحولها وقدرتها على الاستمرار. وفيما يخص الحضارة الإسلامية فإنها ارتبطت بعقيدة الإسلام الوحدانية ورؤيتها لواحدية الجماعة والأمة، التي وضعت أسس الحق الاجتماعي والمنظومة الأخلاقية للدولة دون أن تتكفل برسم حدودها النهائية. من هنا إمكانية التنوع فيها، مع أن مضمونها الحقيقي كان يصب فيما يمكن دعوته بنظام الواحدية الاجتماعية، الذي اتخذت خلافة الراشدين صيغته الأولية، وليس نموذجه الأرفع. إذ لا نموذج نهائي في الفكرة الإسلامية عن أي شيء باستثناء ما يمكن دعوته بنظام النسب المثلى.

وكان هذا النظام محكوما بالوحدانية الإسلامية ومساعيها الجوهرية لتحقيق فكرة العدل والاعتدال. وسوف يكشف عن نفسه لاحقا في النماذج المرجعية المتعلقة بالنظر إلى الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والجماعة والأمة. كما سيجد طريقه إلى منهجية الرؤية في مختلف ميادين العلوم والمعارف، بما في ذلك في الموقف من الدولة والسلطة.

فقد تبدو بعض الأحداث التاريخية من حيث مظهرها الخارجي صدفة، وقد تكون صدفة، لكن اندثارها السريع أو ثباتها العميق هو المؤشر والبرهان الفعلي على ما إذا كانت جزء من صدفة عابرة أو أن لها أسسها الخاصة في مقدمات الأحداث. ولا يمكن فصل هذه المقدمات عن فاعلية "الأيديولوجية المتسامية"، عندما يجري الحديث عن الدولة المحكومة بالأفكار والعقائد. وذلك لأن تغلغل الفكرة القائلة بمشيئة الله المطلقة عادة ما تقضي على فكرة الصدفة، أو على الأقل تجعل منها جزء من فكرة القضاء والقضاء. وحالما يصعب فهم هذه الحالة بمعايير المنطق والملاحظة المباشرة، عندها يجري رفعها إلى مصاف "سر الغيب" و"علم الله" المجهول بالنسبة لمخلوقاته الناجحة والفاشلة. وفي كلتا الحالتين تتحول النتائج إلى بلاء أو مكر الهي. ولم تكن مهمة هذه الرؤية تقوم في طمأنة النفس المتيقنة بصحة تأويلها فحسب، بل ولا تخلو أيضا من رياء تصنعه الفكرة نفسها. وعموما يمكننا القول، بأن هذه الرؤية لا تخلو من تجرد عن الهوى ووقوعا فيما هو أتعس منه. وهو تناقض يحكم الفكرة المتسامية حالما تصبح جزء من صراع المشارب السياسية المتمايلة بين اليقين والأهواء. وكلاهما جزء من تجارب التاريخ وقواه الاجتماعية. لكنها تجارب لها أسسها ومقدماتها. وفي حالة الإسلام لم تكن معزولة عن تأثير الفكرة الوحدانية وأثرها المباشر وغير المباشر في تحديد الرؤية والسلوك العملي. وحصيلة الأمر هو نتاج لما يمكن دعوته باجتهاد الثقافة في كيفية رؤيتها وحلها لإشكاليات وجودها التاريخي. وضمن هذا السياق يمكن فهم "تجريبية" البحث عن شكل السلطة ونموذج العلاقة المفترضة بينها وبين أتباعها، بما في ذلك تجاه أهل الرواية والدراية منهم (المثقفين).

فقد كان شكلها الأولي مصادفة لها أسسها في المخزون العام لأصول الإيمان. بمعنى أن "اختيار" الخليفة والاسم كانا فعلا عفويا مربوطا من حيث أسسه الدينية، بالفكرة الإسلامية عن جوهرية الله، وبشرية النبي محمد، ورسالته للناس بوصفه رسولا ونبيا ومبشرا ونذيرا. وقد انتزعت هذه الصفات منذ البدء إمكانية التقديس اللاهوتي والعقائدي لشخصه، واكتفت بتحويله ضمن عقائد الإسلام إلى جزء أساسي في شهادة الإيمان فقط. إذ انتزعت عبارة الشهادة باسمه، إلى جانب أن الله وحده لا شريك له، إمكانية مجاراته في الصورة والمعنى. وذلك لأن الوحدة الغريبة للرسالة والعبودية المقررة في "أن محمدا عبده ورسوله" أبقت عليه في برزخ السموّ الواقعي. وكان من الممكن تمثل مختلف صورها ومعناها في استخلافهما فقط. بمعنى محاكاة صورته الواقعية (السنّة) ومعناها في تمثل حقائق القرآن. وبما أن السياسة هي الميدان المباشر والأوسع لوحدة القول والعمل، من هنا ظهور "الخلافة" فيها قبل غيرها، باعتباره التبرير والتمثيل الموحد لهما. وقد صنعت هذه السبيكة في نفس الوقت واقع وآفاق العلاقة الممكنة بين المثقف والحقيقة.

فمن الناحية التاريخية والنظرية، لم تكن أصول الإيمان الأولية عقائد متبلورة بهيئة قواعد قادرة على أن تكون بديهيات سياسية. لهذا كان الجدل حادا ومقتضبا في الوقت نفسه. ولم يتعد في الواقع أكثر من استشهاد بآيات قليلة. وكانت كافية بحد ذاتها لأن تكون "حقيقة" مقنعة وحاسمة بالنسبة للعمل. وليس مصادفة أن تكون الأدلة مجرد "رواية" "السلطة" الجديدة. وذلك بسبب عدم انفصال وانفصام الخاصة عن العامة، والماضي عن الحاضر، والأنا عن الجماعة، والقرآن عن السنّة، والأصول عن الفروع، والرواية عن الدراية. لكنه حالما جرى انتزاع الإقرار بلقب "خليفة رسول الله"، فإن الانقلاب الحتمي أصبح أمرا ملازما لصيرورة الدولة ومؤسساتها. 

وصورت الثقافة الإسلامية هذا التحول الكبير  بتسمية "خلافة الراشدين". وهو تقييم نفسي للمرحلة التأسيسية، احتوى على تأسيس وتلازم الرشاد والخلافة كما لو أنه أراد أن يطوي الدولة بين أجنحة التغير العميق الذي لف عالم العرب المسلمين بعد موت النبي محمد. وهو تعبير له أصالته المعنوية والتاريخية والسياسية أيضا. فالدولة من التداول، والتداول من التغير والتبدل. وهما مكونان تمثلهما مفهوم الخلافة، الذي لم يتحسس معالم التجزئة الضرورية التي تجلبها الدولة لوجود الإنسان وعلاقته بالنفس والمجتمع. من هنا كان مفهوم الرشاد والإرشاد الصيغة السياسية لمفهوم الحق الإسلامي. وقد أعطى تلازمهما لهذه المرحلة التأسيسية للدولة الإسلامية قيمتها "الخالدة" في التاريخ والوعي العربي والإسلامي، كما نعثر عليها بصورة مباشرة وغير مباشرة في خطب الخلفاء وسلوكهم العملي. فنرى أبو بكر يشدد في خطبته الأولى على انه ولي عليهم مع انه ليس أفضلهم، وانه يطلب إرشادهم وتقويمهم إياه إن اخطأ.

إن المصادفة التاريخية التي رفعت فكرة الخلافة إلى مستوى الرشاد، والرشاد إلى مستوى الخلافة، تكمن في الضرورة التي استنطقها روح الإسلام الأول باعتباره إسلاما للحق. ووجدت هذه الضرورة تعبيرها النموذجي في المزج المتسامي لكليهما في تسمية "الخلفاء الراشدين". فقد تمثل هذا التوليف معنى النبوة ومنطق وجودها التاريخي. إذ لم يتعد معنى النبوة بالنسبة لأتباعها آنذاك مضمون الحق التاريخي. وكان يمكن تجسيد هذا الحق بمعايير القيم المتسامية للعرب الجاهلية ونفيها الأكثر سموا بمعايير البديل الإسلامي الجديد. أما منطق وجودها التاريخي فهو المعاناة الفعلية والفردية من اجل تمثل الحق في كل دقائق الحياة. الأمر الذي جعل منها بمعايير المعنى المتسامي والمنطق التاريخي للثقافة الإسلامية مرحلة ونموذجا للاحتذاء.(يتبع....)

***

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم