دراسات وبحوث

في نقد العقلانية المبتورة لطه حسين (2): إشكالية الاغتراب المعرفي وحقائق الثقافة

mutham aljanabi2إن الشخصيات الكبرى كبيرة أيضا بتناقضاتها. إلا أن لهذه المتناقضات مستوياتها وأنماطها. كما إن لكل منها مقدماتها ومصادرها. من هنا تنوع آثارها ونتائجها. ولعل مفارقة التناقضات المميزة لإنتاج طه حسين تكمن في ضعف فاعليته المعرفية. من هنا مفارقة شخصيته الكبيرة بحد ذاتها. بمعنى إننا نقف أمام شخصية كبيرة بمعايير الوعي العادي والمشهور، لكنها عادية بمعايير العلم الدقيق والمعرفة المحققة. من هنا تناقض أثرها الثقافي، وذلك لأنها مازالت تنتج وتعيد إنتاج تقاليد النقد المبهرج وأوهام الغفلة التاريخية التي طبعت تقاليد مرحلته ومازالت تطبع ثقافة "الإنسان العادي"، أي الأكثر انتشارا بين متعلمي المرحلة الحالية. وفي الوقت نفسه مازالت تحتل موقعها المتميز في كوكبة المرجعيات الفكرية للثقافة العربية الحديثة. الأمر الذي يجعل منها نموذجا كلاسيكيا لهيمنة الثقافة العادية وضعف الوعي النظري وخلل الفكر المنظم. وقد يكون استلابه الفكري والمنهجي والثقافي أيضا احد المصادر الكبرى لهذا التناقض العقيم!

وسوف اتخذ من مقاله الذي قدم به لكتاب (نقد النثر) المنسوب لأبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي، نموذجا للكشف عن هذه الجانب المهم في نقد تراث طه حسين، وبالأخص ما يتعلق منه بفهم مضمون تراث الأقدمين وكيفية تفسيره والنتائج المترتبة على ذلك فيما يتعلق بكيفية تأسيس الوعي الذاتي التاريخي والثقافي.

ففي هذه المقدمة التي وضعها تحت عنوان (في البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر) يتطرق طه حسين إلى شخصية الجاحظ. وفي معرض موقفه من تقاليد البيان العربي وعلاقته بالبيان الإغريقي، حاول "البرهنة" على إن تصورات الجاحظ كانت سطحية عن بلاغة الشعوب الأخرى، استنادا إلى فكرة الجاحظ نفسه، الذي جعل البلاغة للعرب لا لغيرهم.

إن سر الخلل في هذا الفهم والتقييم والتأويل يقوم في ما أسميته بالاغتراب الثقافي لطه حسين من جهة، وجهلة بتاريخ ومضمون الفكرة التي وضعها الجاحظ، من جهة أخرى. إذ لم يفهم طه حسين مضمون فكرة الجاحظ. من هنا اعتقاده، بان المقارنات التي يقدمها الجاحظ بين الشعوب والأمم و"تفضيل العرب" على غيرهم في مجال البيان (البلاغة) كان مجرد جزء من صفته المتميزة بحب المفارقة والإغراب وعلى حماسة متقدة صادقة في الانتصار للعرب على خصومهم من الأعاجم، تؤدي به إلى التناقض أحيانا[1]. أما في الواقع، فأن دراسة وتحليل شخصية الجاحظ وإبداعه الفكري الهائل، تكشف عن مدى سطحية وهشاشة هذا الحكم والموقف. إضافة إلى تعارضهما الصارخ مع الصفات الجوهرية التي تميز كتابات الجاحظ نفسه.

فقد كانت الجاحظ ابعد المفكرين والأدباء والمؤرخين والمتكلمين عن حب المفارقة والإغراب (على عكس طه حسين بالضبط)! كما انه لم يتميز "بالحماسة المتقدة والصادقة في الانتصار للعرب" وما شابه ذلك. إذ ليس هذا الحكم في الوقع سوى الصيغة المعكوسة للفكرة الشعوبية (العرقية المتطرفة). وبالتالي ليس موقف طه حسين هذا سوى الصيغة المقلوبة التي تستعيد بدون وعي أو بفعل التراكم الخفي للمدرسة الأزهرية، بقايا الاشمئزاز أو العداء الخفي للمعتزلة. ولم تستطع حتى شخصية مثل الشيخ الإمام محمد عبده من التخلص منها، رغم وضعه هذا الخلاف ضمن سياق الصراع التاريخي الفكري والثقافي بين المعتزلة والأشاعرة. لكننا نعثر على اندثار شبه تام له في منظومة الرؤية الإصلاحية والموقف من الإصلاح والشخصيات الإصلاحية كما وضعها في آخر رسائله (رسالة التوحيد). أما الصورة والصيغة الأولية المتطرفة للاتهام "بالشعوبية" (النزعة العرقية المتطرفة والعدائية)، فإنها تعود، من حيث تأسيسها النظري لابن تيمية.

وفيما لو تركنا جانبا هذه القضية، ورجعنا إلى قضية الجاحظ وتقييمه عند طه حسين، فان الشيء الأكيد والدقيق الذي يمكن قوله بهذا الصدد يقوم في أن الجاحظ كان مفكرا صادقا تجاه الحقيقة أولا وقبل كل شيء. وبالقدر ذاته كان الجاحظ متقدا في دفاعه عن العقل والإخلاص فيه حتى النهاية. إضافة إلى نزعته الإنسانية والنقدية الرفيعة. إذ ليس هناك من شخصية فكرية إسلامية دافعت عن مختلف الشعوب والأجناس والمهن وغيرها أكثر من الجاحظ. وتكفي هنا الإشارة إلى سلسلة الكتيبات والرسائل العديدة التي وضعها بهذا الصدد (عن الأتراك والسودان وأصحاب المهن والغواني وأصحاب العاهات وكثير غيرها). وهذه بدورها لم تكن نزوة عابرة مرتبطة بحب المفارقة والإغراب وما شابه ذك من اتهامات لا أساس لها، بقدر ما كانت نتاجا لعقيدته الفكرية والفلسفية. فقد كانت حقيقة الجاحظية بوصفها مدرسة معتزلية متميزة، مرتبطة بتأسيسها الخاص لفكرة الإرادة العقلية، وعقلانية النزعة الإنسانية وطابعها النقدي.

أما الموقف من "بلاغة العرب" كما وضعها الجاحظ، فانه كان جزء من تقاليد وعي الذات الثقافي التاريخي من جهة، وتطور الرؤية الانتروبولوجية الثقافية وتصنيفاتها التي تراكمت بفعل صيرورة وتدقيق مناهج البحث الموسوعي للأديان والفلسفات والأمم من جهة أخرى. بعبارة أخرى، إن عبارة "العرب أهل البيان" هي فكرة عامة مجردة نابعة من تراكم وتداخل الرؤية الانتروبولوجية الثقافية والموسوعية المتفحصة (النقدية) لتجارب الأمم بوصفها تجارب إنسانية متنوعة. لقد كانت هذه الفكرة جزء من تطور الرؤية المقارنة للثقافات والأمم، وتنوعها واختلافها من حيث النموذج أو المثال أحيانا، وليس حقيقتها الدائمة أو الثابتة. لكنها تحتوي بالقدر ذاته على رؤية تاريخية ثقافية ملموسة. فالصورة الشائعة عن مهارة أهل الصين في الصناعة والحرفة جعلتهم يتحولون إلى "ممثل" الصناعة والحرفة. ولا يعني ذلك انعدام الحرفة أو قدرة الأمم الأخرى على الحرفة والصناعة. فقد كانت الحرف والصناعات المتطورة آنذاك في عالم الخلافة، أي أنها كانت أكثر رقيا من الصينية بما في ذلك في البناء والعمران. ومن الممكن هنا الإتيان بالمقارنة التي يوردها الغزالي في كتاب (ميزان العمل) بين أهل الصين وأهل الروم. حيث نراه يصور الخلاف بينهما بالشكل التالي: "حكي أن أهل الصين والروم تباهوا بحسن صناعة النقش والتصوير بين يدي بعض الملوك. فاستقر رأي الملك على أن يسلم إليهم صفة ينقش أهل الصين منها جانبا وأهل الروم جانبا، ويرخي بينهما حجاب بحيث لا يطلع كل فريق على صاحبه. فإذا فرغوا رفع الحجاب ونظر إلى الجانبين، وعرف رجحان من الراجح من الفريقين. فجمع أهل الروم من الأصباغ الغريبة ما لا ينحصر، ودخل أهل الصين وراء الحجاب من غير صبغ. فلما فرغ أهل الروم ادعى أهل الصين، بأنهم فرغوا أيضا. عندها قال أهل الروم:

- كيف فرغتم ولم يكن معكم صبغ ولا اشتغلتم بنقش؟

- ما عليكم! ارفعوا الحجاب وعلينا تصحيح دعوانا!

فرفعوا الحجاب، وإذا بجانبهم وقد تلألأ فيه جميع الأصباغ الرومية الغريبة. إذ كان قد صار كالمرآة لكثرة التصفية والجلاء. فازداد حسن جانبهم بمزيد الصفاء، وظهر فيه ما سعي من تحصيله غيرهم"[2].

إننا نعثر في هذه المقارنة على بقايا الصيغة الشائعة (الانتروبولوجية الثقافية والرؤية الموسوعية) التي وظفها الغزالي كنموذج أو مثال لتبيان أساليب المعرفة المتنوعة، الظاهرية والباطنية عبر جلاء القلب وتحويله إلى مرآة الوجود. بعبارة أخرى، تعكس هذه المقارنة في رمزيتها أيضا تصورات الثقافة السائدة في أوساط المفكرين المسلمين، المترتبة أيضا على مركزيتهم الثقافية آنذاك. فقد كانت الثقافة الإسلامية آنذاك في مركز الكون التاريخي والثقافي العالمي، من هنا مركزية رؤيتهم، أي تحررها من أي شيء باستثناء ملاحظاتهم الدقيقة لنوعية تجارب الأمم وليس خصائصهم الثابتة. وضمن هذا السياق يمكن فهم الموقف المصنف لأهل الروم (بيزنطة) والصين باعتبارهم أهل حرفة وعلوم عملية. وليس مصادفة، على سبيل المثال، أن يعتبر الجاحظ أن اليونانيين علماء بينما الروم صنّاع. وقد دعاهم قبله ابن المقفع، بأصحاب البناء والهندسة. وإذا كان التوحيدي يعتبر أهل الروم "أهل العلم والحكمة" فلأنه كان يطابق في الواقع بينهم وبين اليونان. بينما اعتبرهم ابن صاعد الأندلسي "حكماء أجلاء وعلماء بالفلسفة".

مما سبق يتضح، بان الثقافة الإسلامية قد اتفقت في اغلب تقييماتها على إقرار صفة الروم العملية، أما إبقاءها صفة أهل الصين العملية، فقد كانت اقرب إلى بديهة لا تقبل الجدل. فقد دعاهم الجاحظ "بالصناع"، ووصفهم ابن المقفع بعبارة "أصحاب أثاث وصنعة"، بينما وضعهم ابن صاعد الأندلسي ضمن صنف الأمم العملية لا العلمية (الفلسفية) مشددا على "حذاقتهم الصناعية". وإذا كانت هذه الأحكام دقيقة ضمن سياقها التاريخي، فان ما هو جوهري بالنسبة للغزلي، على سبيل المثال، كان يقوم في رمزية المقارنة لا طبيعتها الواقعية. ذلك يعني إننا نقف أمام صيغة ومستويات متنوعة بما في ذلك من حيث توظيفها ضمن معايير وموازين الثقافة وتقييماتها آنذاك.

والشيء نفسه يمكن قوله عن فكرة "العرب أهل البيان" وكثير غيرها مما جرى وصف الأمم به، باعتبارها الصيغة التي أبدعتها الثقافة الإسلامية في محاولاتها تصنيف وتقييم تجارب الأمم والحضارات. وهو أمر جلي في إبداع ونتاج الثقافة الإسلامية في موسوعاتها النظرية الكبرى المتعلقة بتاريخ الأديان والأفكار (علم الملل والنحل) والأمم (طبقات الأمم). فكما تلازمت فيها الصيغ القائلة، بان أهل الروم والصين أهل صناعة وحرفة وعلوم، أي اقرب إلى العلوم العملية، تلازمت أيضا صيغة كون العرب هم أهل بلاغة وخطابة وبيان. في حين أن الإغريق أهل فلسفة وعلوم، والفرس أهل أدب وسياسية، والترك أهل فروسية وشجاعة.

وبغض النظر عما في هذا التصنيف من حدود لم تعد مقبولة في الظرف الراهن، إلا أنها تعكس مذاق الثقافة ونوعية إدراكها آنذاك، بوصفها تجارب تاريخية. والأحكام التاريخية ليست منطقا ولا بديهة. وهي الفكرة العظمى التي وضعتها الثقافة العربية الإسلامية في محاولاتها استكناه وإدراك حقيقة الحكمة وحدودها، أي تقديم خطابها بمعايير البيان الثقافي الذاتي وليس بعبارة البيان المتغرب عن أصوله الثقافية، أيا كان شكله ومحتواه.

بين بلاغة الاستلاب وبلاغة الوعي الذاتي

إنني أسعى هنا لإجلاء الضعف الفكري في الأحكام السريعة والعجولة التي يطلقها طه حسين في مختلف الميادين، أي فقدان أحكامه وتقييماته إلى أسس علمية ونظرية دقيقة. وكذلك للكشف عن أن السبب الجوهري القائم وراء كل ذلك يكمن في تداخل وتفاعل الخلل المنهجي والاستلاب الثقافي.

فالأحكام التي يطرحها طه حسين بصدد شخصية الجاحظ وتاريخ وماهية البيان العربي، تكشف عن احد النماذج الجلية بهذا الصدد. وذلك لأنها تكشف عن نوعية الذهنية والمنهج بقدر واحد. وعموما أن الشخصية الكبيرة واحدة من حيث الجوهر، باستثناء مرحلة التراكم الأولية. وما أتناوله هنا هو نتاج مرحلة النضوج الكبرى.

فقد توصل طه حسين في مجرى تأملات السريعة وأحكامه الجازمة الى ما اسماه بجهل الثقافة العربية الإسلامية لمضمون البيان والبلاغة والخطابة اليونانية كما بلورها أرسطو في كتابه (الخطابة). وضمن هذا السياق توصل الى القول، بأن الجاحظ هو احد نماذج وعصارة هذه الجهل الذي جعله يقول بان "العرب أهل البيان". وقد برهنت في المقالات السابقة عن خلل هذا الحكم وسطحيته من الناحية الفكرية والنظرية والتاريخية والثقافية.

واستكمل في هذا المقال توسيع وتعميق هذا النقد من خلال الكشف عن الأسس النظرية والفلسفية والثقافية القائمة وراء هذه الفكرة بوصفها جزء من تطور ذهنية التصنيف الملازمة للمركزية الثقافية الكونية بشكل عام والعربية الإسلامية بشكل خاص. وهذا بدوره لم يكن معزولا عن صيرورة الثقافة العربية الإسلامية وتنوع تجاربها بهذا الصدد.

ففي مجرى الجدل التاريخ الثقافي والفكري عن "الأمة" توصلت التجربة الدينية للإسلام عن الأمة في أحد نماذجها الرفيعة إلى فكرة وحدة الأديان. أما تجاربها الدنيوية فقد أوصلتها إلى إبداع نماذج عديدة عن الأمم شكلت مساهماتها العلمية معيارا لتحديد هويتها الحقيقية.

وفيما لو أجملنا حصيلة هذه التجارب النظرية (الدنيوية) في تحديد الأمم، فأننا سنعثر على خمسة أنماط كبرى. وبالاستناد إليها جرى تقسيم الأمم على أساس جغرافي، وآخر إبداعي، وثالث ذهني، ورابع مذهبي، وخامس علمي - فلسفي.

إذ أدرجت في التقسيم الجغرافي نوعان، الأول مبني على أساس تقسيم العالم إلى أقاليم سبع الجوهري فيه إظهار ما أسموه باختلاف الطبائع والأنفس التي تدل عليها الألوان والألسن. أما التقسيم الثاني فقد وضعته بحسب الأقطار الأربع التي هي الشرق والغرب والشمال والجنوب الجوهري فيه إظهار ما أسموه باختلاف الطبائع وتباين الشرائع.

أما التصنيف الذي وضعوا فيه معيار "الإبداع المتميز"، (وهو التصنيف الذي ينبغي فهم عبارة "العرب أهل البيان" ضمنه، كما دافع عنها الجاحظ) فقد انطلقوا فيه من تقرير حجم المشاركة الجدية للأمم الحضارية الكبرى آنذاك، في التاريخ الإنساني. لهذا قال البعض مثل ابن المقفع، بان كبار الأمم الأربعة هي العرب أهل الفصاحة والبيان، والعجم أهل السياسة والأدب، والروم أهل البناء والهندسة، والهند أهل العقل والسحر. وقد شاطر الجاحظ هذه الفكرة بإضافة أهل الصين إليها باعتبارهم أهل الأثاث والصنعة، وكذلك تقسيمه أهل الروم إلى قسمين الأول أهل يونان وهم العلماء، والروم أهل الصنائع. في حين اعتبر أبو حيان التوحيدي الفرس أهل السياسة والأدب والحدود والرسوم، والروم أهل العلم والحكمة، والهند أهل الفكر والروية والخفة والسحر، والترك أهل الشجاعة والإقدام، والزنج أهل الصبر والكد والفرح، والعرب أهل النجدة والوفاء والخطابة والبيان.

أما التقسيم حسب الحالة الذهنية فانه تضمن نوعان، الأول هو ذهنية أولئك الذين يتميزون "بتقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات والحقائق واستعمال الأمور الروحانية" كالعرب والهنود، والثاني ذهنية أولئك الذين يتميزون "بتقرير طبائع الأشياء والحكم بأحكام الكيفيات والكميات واستعمال الأمور الجسمانية" كالفرس والروم.

أما التقسيم حسب آراء الأمم ومذاهبه فمبني على أساس عقائدي مرتبط بدوره بوجود فرق (دينية) وأخرى غير دينية في نمط تفكيرها حول إشكالات الملكوت (ما وراء الطبيعة) والوجود الاجتماعي والأخلاقي، كما نراه عند الشهرستاني.

وأخيرا تقسيم الأمم حسب معيار ما إذا كانت أمة علمية أو غير علمية، كما نراه عد ابن صاعد الأندلسي في (طبقات الأمم). فقد انطلق الأندلسي من أن الأمم وإن كانت نوعا واحدا في إنسانيتها إلا أنها تتمايز بثلاث أشياء وهي الأخلاق والصور واللغات. وان أهم الأمم الكبرى في التاريخ هي الفرس والكلدانيون (ومنهم السريانيون والبابليون ومن هؤلاء العبرانيون والعرب) ثم اليونانيون (والروم والفرنجة والجلالقة ويتبعهم البرجان والصقالبة والروس والبرغر) ثم القبط (أهل مصر والسودان من الحبشة والنوبة) وأجناس الترك (الكيماك والخزر وجيلان وغيرهم) وأهل الهند وأهل الصين. والفرق الجوهري بينهم يقوم بمدى اهتمام كل منهم بالعلوم الفلسفية بالأخص. فالأمم العلمية ثمان وهي الهند والفرس والكلدانيون والعبرانيون واليونانيون والروم وأهل مصر والعرب. أما الأمم الأخرى فهي أمم لا تهتم بالعلم (الفلسفة بالأخص). فالصينيون، كما يقول الأندلسي، أكثر الأمم عددا وأفخمها ملكا وأوسعها دارا، وحظهم من المعرفة إتقان الصنائع العملية وإحكام المهن التصورية. فهم أكثر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال ومقاساة التعب في تحسين الصنائع. والأتراك أمة كبيرة العدد وفضيلتهم التي برعوا فيها أحرزوا خصلتها معاناة الحروب ومعالجة آلاتها. ونفس الشيء يمكن قوله عن الأمم الأخرى(غير العلمية). وارجع الأندلسي سبب ذلك إلى عم استعمال هذه الأمم لأفكارهم في الحكمة، ولا راضوا أنفسهم تعليم الفلسفة. وبنى استنتاجه هذا على معايير ثلاث في تقييم الأمم، الأول هو أن تنال الأمة درجات النفس الناطقة والزهد بالنفس الغضبية، والثاني تعلمها وتعليمها للفلسفة، وثالثا موقع العلوم الطبيعية عندها.

مما سبق يتضح، بأن تعمق الرؤية التاريخية عن الأمم يتناسق مع تراكم العناصر الثقافية المتناغمة مع الوحدانية الإسلامية. إذ لا تعني الوحدانية الإسلامية من الناحية التاريخية والاجتماعية سوى وحدة النوع الإنساني ومثالها في الواحد(الله). أنها كالحقيقة واحدة بذاتها متنوعة بالصور والتجليات. والتنوع فضيلة في حال سعيه للخير العام وهي فكرة سبق وان بلورها القرآن في فكرة تقول: "إنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتتعارفوا. إن أكرمكم عند الله اتقاكم". أي أن للتعددية منطقها الطبيعي والتاريخي، باعتبارها واقعا، ومنطقها الماوراطبيعي والمثالي، باعتبارها واجبا. وكل منهما يعكس مستوى من الإدراك لماهية الأمم، أحدهما ديني(الأمة الدينية وآخر دنيوي(الأمة الحضارية).

لقد أدت منظومة المرجعيات الكبرى في الثقافة العربية الإسلامية إلى رؤيتين متناسقتين عن نفسها والآخرين لا استعلاء فيهما ولا استكبار. حيث تجلت بأسمى وجوهها في إقرارهما بتنوع الرؤية الثقافية ذاتها عن الآخرين. فجميع التقسيمات المذكورة أعلاه (الجغرافية والذهنية والإبداعية والمذهبية العقائدية) هي تقسيمات وتقييمات ثقافية. إذ لم تبحث الثقافة الإسلامية في التقسيم الجغرافي عن صفات جوهرية غير اثر الجغرافيا على الطبائع والأنفس(اللون واللسان) والشرائع (القوانين ونمط الحياة)، أي عن العناصر الطبيعية والعقلية لوجود الأمم. ذلك يعني أنها لم تبحث ولم تؤسس لعناصر اللاعقلانية في وجود الأمم. وحتى في حال اعترافها بوجود بعض منها، فإنها نظرت إليها باعتبارها نتاجا لضعف النفس الناطقة ولهيمنة النفس الغضبية. ومن ثم اعتبرتها صفات زائلة. وهي نظرة عقلانية وإنسانية في مساعيها وغاياتها.

حددت هذه الرؤية الانعتاق الحضاري للثقافة الإسلامية. فهي لم تقر بتنوع الحضارات فحسب، بل وأسست مواقفها من هذا التنوع على أساس تمايزهن بالفضائل. فعندما حاولت المطابقة، على سبيل المثال، بين حضارة الأمة وخصلة من خصالها مثل اليونان مع الفلسفة، والروم مع العمارة، والفرس مع السياسة، والعرب مع البيان، والصين مع الصناعة، والترك مع الحرب، والهند مع العقل والشعوذة، فأنها لم تسع في الواقع إلا لإظهار تمايزهم في الفضائل، لا بمعنى افتقادهم لغيرها من الفضائل. إنها حاولت إظهار فضائل الأمم من خلال تأكيد تنوعها، وبالتالي قيمتها بالنسبة للتاريخ الإنساني ككل. لهذا أكد أبو حيان التوحيدي على أن "لكل أمة فضائل ورذائل، ولكل قوم محاسن ومساوئ، ولكل منها في صناعتها كمال وتقصير". وتعكس هذه الصيغة قبول الثقافة الإسلامية لإمكانية تعدد الأنواع وتنوع اجتهاداتها الثقافية في ظل انتمائها للكل الإسلامي. بمعنى إمكانية توليف "مميزات" وفضائل الأمم من فصاحة وبيان وأدب وسياسة وغيرها في كيانها الثقافي. وهي تعددية وانفتاح يتساويان مع إدراك جوهرية وقيمة الفضائل. لهذا لم تضع الثقافة الإسلامية نفسها وشعوبها فوق الآخرين ولا تحتهم، بل طالبت نفسها والآخرين بادراك وتجسيد القيم العقلانية – الأخلاقية للتكافؤ والمساواة.

إن إقرار الثقافة الإسلامية بتعدديتها (وتنوعها الداخلي) يعني أيضا إقرارها بالتعددية الخارجية. وبالتالي بإمكانية بناء حضارة إنسانية كبرى ذات ثقافات متنوعة. مما يعني احتواءها على معارضة القهر الثقافي و"الهيمنة القطبية" في الحضارات. إذ لا يستلزم تطور الحضارات وازدهارها بمعايير العقلانية – الأخلاقية صراعها واحترابها، بل تنافسها في الإنسانية. لان المعيار الحقيقي لها كما صاغته الثقافة الإسلامية في تقييمها "العلمي" للأمم، حسب عبارة الأندلسي، يقوم في "نيل فضائل النفس الناطقة الصانعة لنوع الإنسان والمقومة لطبعه، والزهد في أخلاق النفس الغضبية والتفاخر بالقوى البهيمية". إذ حتى للنفس الغضبية "نظمها ومدنها السياسية" كما يقول الأندلسي، إلا أنها نظم ومدن شبيهة بنظم ومدن النمل من حيث العدد والإتقان. ولكنها تبقى "مدنية النفس الغضبية والبهيمية" لا مدنية العقل الأخلاقي، الذي هو قوام "نوع الإنسان" أو حقيقته.

لا منظومة ولا منهج

إننا نقف هنا أمام تنوع واضطراب في المواقف نابع أساسا من ضعف الرؤية المنهجية وتناسقها الداخلي. مما جعل من أفكاره قوى متضاربة ومتداخلة وعاجزة عن تأسيس فكرة مستقبلية بما في ذلك بالنسب للثقافة في مصر نفسها. والشيء الوحيدة الذي بلغته فكرة طه حسين هي الحلم بحالة لم يتحقق منها شيئا. فقد كتب في خاتمة كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) عن أمله ورغبته وحلمه عن مستقبل الثقافة المصرية بالشكل التالي:"أنا فرح إلى أقصى غايات الفرح، مبتهج إلى ابعد حدود الابتهاج، سعيد إلى أقصى درجات السعادة، لأني أرى شجرة الثقافة المصرية باسقة، قد ثبتت أصولها في ارض مصر، وارتفعت فروعها في سماء مصر، وامتدت أغصانها في كل وجه، فأظلت ما حول مصر من البلاد وحملت إلى أهلها ثمرات حلوة، فيها ذكاء للقلوب وغذاء للعقول وقوة للأرواح. وهم يسعون في هدوء واطمئنان وثقة إلى هذه الغصون النضرة الوارفة، فيستمتعون بمنظرها، ويأوون إلى ظلها ويستمتعون بثمراتها المتشابهة لأنها تصدر عن شجرة واحدة هي ثقافة مصر المختلفة".... نعم أرسل نفسي على سجيتها في هذا الحلم الرائع الجميل فأرى مصر وقد بذلت ما دعوتها إلى بذله من جهد في عد ثقافتها بالعناية الخالصة والرعاية الصادقة، وارى مصر وقد ظفرت بما وعدتها بالظفر إنجاب عنها الجهل وأظلّها العلم والمعرفة وشملت الثقافة أهلها جميعا، فاخذ بحظه الغني والفقير والقوي والضعيف والنابه والخامل والناشئ ومن تقدمت به السن، وتغلغلت لذتها حتى بلغت أعماق النفوس، وانتشر نورها حتى أضاء القصور والدور والأكواخ، وشاعت في مصر كلها حياة جديدة وانبعثت في مصر كلها نشاط جديد، وأصبحت مصر جنة الله في أرضه حقا يسكنها قوم سعداء ولكنهم لا يؤثرون أنفسهم بالسعادة وإنما يشركون غيرهم فيها. وأصبحت مصر كنانة الله في أرضه حقا يعتز بها قوم أعزاء ولكنهم لا يؤثرون أنفسهم بالعزة وإنما يفيضون على غيرهم منها"[3].

ففي هذا الحلم نعثر على خاتمة متناقضة هي عين التعبير النموذجي عن انعدام المنظومة الواقعية والعقلانية فيما يتعلق بالرؤية المستقبلية. والقضية هنا ليست فقط في انه لم يحصل شيئا من هذا الحلم، بل على العكس. إننا نقف أمام رجوع قهقري إلى الوراء بمقاييس المعاصرة والمستقبل. وفي كلها تعكس ملامح التناقض الحاد بين النزعة الوطنية والقومية والإنسانية الرفيعة لطه حسين وطوباوبة الحلم. والسبب يكمن أيضا في النزعة الخطابية وتبلبل الرؤية الناتج عن انعدام الرؤية أو المنهج الفلسفي في تفكيره، مما جعل من مواقفه وأحكامه متبدلة غير ثابتة. فيها شيء من كل شيء. وفي هذا تكمن خطورة هذا النوع من الفكر لأنه يجعله مبلبلا[4]. وقد أدى ذلك من حيث الجوهر إلى تفتح "مرجعية" لا تخلو من بلادة مستقبلية يمكن وضعها بعبارة: "بذروا بذور الشك في ارض كانت تحتاج إلى يقين، ودقوا مسمار اليقين في نعش الفكر والتفكر" مع ما كان ليلازمه بالضرورة من إخماد وحدة الشك واليقين الضروريين لصنع البدائل. الأمر الذي أدى إلى عجز الرؤية النقدية لطه حسين عن بناء ذهنية علمية وعصرية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. كما أنها كانت عاجزة عن تأسيس وتربية مرجعيات العقل النقدي، بما في ذلك في الموقف من التراث الذي جعلت منه في الأغلب محور اهتمامها. والسبب الجوهري كان يكمن في خلل رؤيتها التاريخية ووعيها الذاتي، وبالتالي خللها تجاه حقيقة الرؤية القومية والرؤية المستقبلية. كل ذلك يكشف عن أن مهمة تأسيس الذات الثقافية تفترض الارتقاء من مكوناتها الذاتية والبقاء فيها وضمنها ما لم ترتق بجذورها إلى مصاف السماء، عندها يمكن توزيع الاظلة والثمار. وما عدا ذلك مجرد خطاب لا يختلف اليقين فيه عن الشك، فكلاهما مجرد ذرات طائرة في عماء. وهو العماء المحبب لسباحة الثقافة المستلبة والمحبة للتقليد، أي كل ما بإمكانه صناعة لسان عربي مبين وعقل إفرنجي عنين!

***

ا. د. ميثم الجنابي

.....................

[1] طه حسين: البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر، ضمن كتاب (نقد النثر) المنسوب لأبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1982، ص2.

[2] الغزالي: ميزان العمل، ص40-41.

[3] طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر، ص380-381.

[4] تعكس كتابات طه حسين في اغلبها هذا النمط من التفكير. بمعنى إن اغلبها تجميع متفرق لمواقف متفرقة تفتقد للتنظيم والتخطيط. وقد أشار هو إلى ذلك في اغلب مقدماته لهذه الكتب. واكتفي هنا بالأجزاء المشهورة في (حديث الأربعاء). وقد يكون عنوان "حديث" الأربعاء أو الخميس أو أيما يوم آخر مجرد إضافة عرضية لا قيمة لها بحد ذاتها. لهذا نجده يشير في المقدمة إلى أنها ليست "مقدمة" بالمعنى الدقيق أو المتعارف عليه في حال التقديم لكتاب. وكتب بهذا الصدد يقول: "أنا لم أتصور فصوله، ولم أضع له خطة معينة ولا برنامجا واضحا، إنما هي مباحث متفرقة، فلست تجد فيها هذه الفكرة القوية الواضحة المتحدة...". (حديث الأربعاء، ج1، ص5.)

 

 

في المثقف اليوم