دراسات وبحوث

في نقد العقلانية المبتورة لطه حسين (6): إشكالية "الهلاك المنهجي"

mutham aljanabi2إن الصفة الغالبة على كل ما كتبه طه حسين هي التشويش الفكري، والذي نعثر عليه بين مقال وآخر وصفحة وأخرى في كل ما كتبه على امتداد حياته الطويلة. بحيث نعثر عنده على كل شيء من شك ويقين في آن واحد وبين لحظة وأخرى، مثل أن نراه يكرر عشرات المرات القول بأن الأدب مرآة تعكس الحياة والواقع، وفي أماكن أخرى يردد على انه لا معنى للأخذ بنظرية الشعر ومرآة الشاعر والأدب مرآة الأديب، وأنه لا يعرف إن كان الشعر مرآة شيء وما هو هذا الشيء، وإن نقد الناقد يصور لحظة من لحظات حياته اشتغل فيها بلحظات من حياة شاعر أو أديب[1]. وقد يكون كتابه عن المتنبي وكتاب (ألوان) من بين نماذجها الجلية بهذا الصدد. ففي كتابه (مع المتنبي) يبدأ بأمور صغيرة وينتهي بتشويش من قبيل هل أن المتنبي عربيا؟ ولماذا لم يشر إلى أبيه ويرثيه وما شابه ذلك[2]. مع أنها صفة اغلب الشعراء والأدباء والفقهاء والفلاسفة والمتصوفة وغيرهم. بل إن الكتاب نفسه كما يقول طه حسين نفسه لا علاقة له بالعلم والنقد[3]. وإن  "العيش مع المتنبي" بالنسبة له كان "خارج الدرس والبحث"، وانه للتأمل والراحة والاسترخاء والانفراد والانعزال[4]. وفي النهاية يقول، بأنه في مجرى البحث ترك اللهو والعبث وتناول المتنبي بجدية[5]! ثم يقول، بان ما سطره قد لا يكون عن المتنبي أكثر مما يكون عن نفسه، أي انه أدب الانطباعات الشخصية وليس أدب الفكر أو فكر الأدب بالمعنى الدقيق للكلمة! وقد ميزت هذه الصفة اغلب كتابات طه حسين، أي امتلائها بالحشو والتكرار الممل والانتقال والقفز من مكان إلى آخر ومن موضوع إلى آخر دون رابط يربطها غير تقاليد الحكاية والرواية الشعبية. ففي كتاب (ألوان) نعثر على هذا النموذج بصورة جلية، أي نقف أمام حالة نموذجية للتشويش الفكري أو بصورة أدق انعدام الفكرة المنطقية وتسلسلها في شكلانية البحث. الأمر الذي جعل من "المقالات والبحوث" فيه مجرد تنقلا لا يربطه شيء غير "الكلام المرسل"، كما هو الحال على سبيل المثال في مقال "الأدب العربي بين أمسه وغده". إذ يمكن للقارئ التنقل فيه أو القفز من مكان إلى آخر ومن تاريخ إلى آخر ومن أحداث إلى أخرى، بحيث تجعله، شأن اغلب ما كتبه بهذا الصدد، من مقالات مليئة بالحشو الذي لا طائل فيه أو تحته قبل أن يدخل صلب الموضوع[6]، أو نسيان الأحكام والإتيان بما يناقضها بعد قليل أو تغليب الجزء على الكل والخاص على العام والعابر على الثابت. مما يؤدي بالضرورة إلى خلل الترابط المنطقي وإهلاك النزعة النقدية من مضمونها المعرفي بوصفها قوة رابطة للفكر والعقل والأحكام المجردة والتطبيقية. إذ نراه على سبيل المثال يدعو إلى التحرر مما اسماه "بالعقال الاجتماعي"، إلى أن تأخذ الحرية مسارها على سجيتها ولو قليلا، بلا تحرج ولا إسراف في الاحتياط. من هنا نقد لما اسماه بالاحتياط والتحرج المميز للأدب العربي الحديث، الذي يفكر بالقارئ والعامة أكثر مما بنفسه. ومن ثم دعوته إلى الوقوف ضد التيار الذي جعل من نفسه "عبدا للجماعة وخادما للقراء"!! من هنا دعوته للتمرد على الجماعة. وهي أفكار سليمة من حيث الصيغة المجردة. لكنه بالمقابل، وفي نفس الكتاب نراه ينتقد حالة التهور المميزة لبشار بن برد والمتنبي، مع أنهما النموذج الأكثر تجسيدا (رغم قلته القليلة جدا) في التحرر من العبودية للجماعة وإعلاء شأن الحرية الفردية والاندماج شبه التام بها سواء بمعايير الإبداع أو الحياة الشخصية. ولم يكن ذلك فيما يبدو معزولا عن اثر "التدريس" التقليدي الأزهري الذي غاص في أعمق أعماقه بحيث لم يكن بإمكانه التحرر من ثقله الجاثم عليه رغم محاربته المريرة له. وليس مصادفة أن يكون اغلب "الجديد" الذي قدمه طه حسين هو جديد ضمن قديم. الأمر الذي لم يجعل من أفكاره قوة فاعلة بمعايير الوحدة المعرفية، بقدر ما جعل منها شيئا أشبه ما يكون بطبخة لا يجمعها غير توابل منهج ضعيف من حيث تأسيسه وبنيته النظرية ووسائله ووظيفته. وقد يكون كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) نموذجا لهذا التشويش والخلل المنهجي عندما ننظر إليه بمعايير النقدي المنهجي، أي حالما ننظر إليه من زاوية الرؤية المنهجية وليس من زاوية رؤيته التطبيقية المتعلقة بأمور الدراسة والتدريس ومتطلباتها. فالكتاب يسعى لتأسيس رؤية ثقافية كما انه يتناولها بمعايير الرؤية المستقبلية. بمعنى انه يجمع بين مكونين لا نعثر عليهما في كل ما كتبه قبل ذلك وبعده.

وهذا بدوره لم يكن معزولا عما يمكن دعوته بمصدر الخلل المنهجي وخلل الرؤية المنهجية القائم في كيفية ومستوى استيعاب المنهج الديكارتي وخلطه ببقايا ورواسب وتأثير الرؤية التقليدية. فقد كان المنهج الديكارتي عند طه حسين يتسم بطابع جزئي ونسبي وأدبي، أي لا علاقة له بالمقدمات والأسس الفلسفية للرؤية النقدية. كما انه يتسم بطابع "مقدس"، أي مستلب من حيث فهمه وتوظيفه. الأمر الذي يجعل من الممكن القول، بان فهم وتطبيق طه حسين للمنهج الديكارتي وقف من حيث الجوهر عند حدود الاستلاب المعرفي للديكارتية، أي لنمط من أنماط التفكير الفلسفي الأوربي. تماما كما سيجري لاحقا التنافس حول من هو الأفضل من بين مناهج الفلسفات الأوربية الحديثة بالنسبة للفكر والتفكير "العربي الحديث". بينما لم يعن ذلك في الحقيقة سوى المنافسة في تعطيل الفكر والتفكير تحت حمية أوهام النقد والتجديد وما شابه ذلك. وقد وقع ذلك في أساس التشويش الفكري لطه حسين، أي تضافر الطابع الجزئي والنسبي للمناهج، وعدم إدراك الحقيقة القائلة، بان "المناهج العلمية" هي أيضا مناهج ثقافية، أي جزء من معترك المسار التاريخي المعقد لتجارب الأمم في حل إشكاليات وجودها التاريخي. وليس مصادفة أن تكون اشد الأشكال نقدية في كتابات طه حسين، أو بصورة أدق ما تحدث عنه، لم يكن خارجا عن إشكالية التأثير الأوربي المباشر وغير المباشر في الوعي المصري. بمعنى انه كان أسير هذه العلاقة السيئة، أي علاقة الوجود المتفاعل للنقد العقلي والاستلاب الثقافي! وليس هذا بدوره سوى الصيغة الغريبة لتعايش النقد والاستلاب. فعندما يتناول طه حسين على سبيل المثال، قضية القديم والجديد في التراث العربي الإسلامي، فإننا نقف أيضا أمام محاولة نقله إلى ميدان الروح الأدبي والفكري. ومن ثم النظر إليه باعتباره صراعا من اجل الفكرة والسمو والمعرفة والإبداع على خلاف الصراع السياسي وصراع المصالح[7]. وفي الوقت نفسه نراه ينظر إليه على انه في كله كان محكوما بصراع الدين والحياة المادية. من هنا قوله، بأننا نراهم في الدنيا أحرار ويتقدمون وفي الدين إلى الوراء. والعقل حائر بينهما[8]. الأمر الذي طبع بدوره تناقض حياتهم المادية والأدبية. إذ كانوا أحرارا في الحياة المادية، محافظين في الحية الأدبية، كما يستنتج طه حسين[9]. ووجد في هذا التناقض السبب الذي أدى إلى أن "يكون الأدب العربي بطيئا قليل الإنتاج". ولم يقف عند هذا الحد غير الدقيق في التعميم، بل نراه يتعداه إلى القضية الأكثر إثارة ألا وهي بحثه عما يدعوه "بالسبب الأساسي الذي حال بين الشعر العربي وتجدده وهو أن الثقافة العربية لم تعرف من آداب الأمم شيئا يذكر. جهلوا أدب اليونان وفارس والهند ولم يأخذوا إلا القليل"[10]!! بل نراه يسير في هذا الاتجاه بحيث نسمعه يقول، بأنهم "لم يروا نماذج جديدة يقلدوها ويحاكوها"[11]!!

إننا نقف هنا أمام رؤية وموقف وتحليل واستنتاج ضيق وسطحي وفاقد للمعنى. وذلك لان الأدب الكبير تلقائي في كل شيء. وتجربة الثقافة العربية الإسلامية أصيلة بذاتها تماما كما تمتعت الثقافة اليونانية في آدابها بأصالتها الخاصة. وينطبق هذا على الهندية والصينية والفارسية وغيرها. كما أن الثقافة العربية الإسلامية كانت من حيث أعماقها وأساليبها وأشكالها ومستوى تعبيرها ترتقي إلى مصاف الثقافة الكونية بما في ذلك في الأدب. ومأثرتها كانت بالذات تقوم في كونها لم تقلد ولم تحاكي ولم تر في ذلك ضرورة بسبب تلقائية تطورها الذاتي وفاعلية المرجعيات الثقافية والفكرية والروحية الكبرى الكامنة في وحدة أو منظومة مسارها التاريخي. ولعل تجربة الاختلاط الحديثة للثقافة العربية ومحاكاتها المتنوعة وأخذها بمختلف النماذج الجديدة لم تصنع شعرا أو أدبا عظيما. فالأدب العظيم في كل مكان وزمان هو أولا وقبل كل شيء نتاج ذاته. والتقليد والمحاكاة لا تصنع شعرا ولا أدبا حيا.

إلا أن هذه الصيغة النقدية في آراء ومواقف وأحكام طه حسين، التي تستوحي في "أنموذجها" الضروري للمحاكاة ليست إلا الصيغة المنمقة للاستلاب الثقافي بشكل عام والفكري والروحي بشكل خاص. أنها تعكس مزاج مرحلة الاحتكاك الأولية بالثقافة الأوربية وسطوتها الحارة والجلية في طبعها ختم النموذج الجاهز على عقول وأفئدة المثقفين والأدباء. وليس مصادفة أن نرى طه حسين ينطلق في فهمه وشرحه وتقييمه لأي شيء، مما إذا كان هذا الشيء موجودا في أوربا بشكل عام واليونان بشكل خاص أم لا(!). بحيث وصل به الأمر للقول، بان الشاعر العربي في عصر الحضارة بقى بدويا، بينما في اليونان عاش مترفا بالحضارة وأثرها فيه[12]!! وهو حكم لا يستقيم من حيث الشكل والمحتوى والفكرة مع واقع ونماذج الشعر العربي واليوناني في عصور ما قبل الحضارة وفي مجراها وبعدها. كما انه حكم لا قيمة له بحد ذاته، وذلك لأن لكل ثقافة خصوصيتها. وقيمة الإبداع تقوم أولا وقبل كل شيء في كيفية تمثل مرجعيات الثقافة الخاصة وتوسيع مداها وليس فيما إذا كان هذا النوع أو الصنف أو الشكل من أشكال الإبداع موجودا فيها أم غير موجود. إذ لا تحتوي أية ثقافة على كل ما في ثقافات الأمم الأخرى. كما لا توجد ثقافة كونية مطلقة، وبالتالي لا يمكن لأي منها أن يكون نموذجا "أبديا" أو "مطلقا". والاستثناء الوحيد هو لوعيها الذاتي.

إن تمثل مرجعيات الثقافة الخاصة وتوسيع مداها هو الأسلوب الوحيد الواقعي والأصيل للإبداع والحرية فيه. ومن ثم تأصيل الحرية في كل شيء. غير أن طه حسين "المتنور" بتقاليد التنوير الأوربي، والمكتفي في الأغلب ببعض معطيات وفتات الثقافة الأوربية، والمنبهر بكل ما فيها، والواقع تحت تأثير إسار عالميتها المطلقة، كان لابد له من البقاء ضمن تأثيرها المستلب، بحيث نراه يهتم أيضا حتى بترجمة (نظام الأثينيين) والتقديم له بمقدمة عادية مليئة بالأغلاط الفكرية[13]. وهذا بدوره لم يكن معزولا عن الإعجاب المفرط بالثقافة الأوربية، والانهماك الفرح في أوهام وأغلاط أوْرَبة الثقافة الإغريقية. وليس مصادفة أيضا أن نراه على سبيل المثال، حالما يجري الحديث عن التاريخ العربي الإسلامي، يكرر عبارات مثل "لا اعرف إن كان..." و"من يدري.." و"لعل الأمر كان..."، لكننا بالمقابل نعثر على عبارات "ومما لا شك فيه..." حالما يجري الحديث عن اليونان وفرنسا!!

وإذا كان لتطويع قلمه وفكره وقلبه وفؤاده من اجل نقل بعض الجوانب الصغيرة للحياة العقلية والأدبية الأوربية أثره المهم بالنسبة لتنوير العقل وتحرير الوجدان الفردي والاجتماعي، فان حصيلته الفعلية بالنسبة لمسار الفكرة التاريخية والثقافة القومية كانت هشة وزهيدة. مع ما فيها أحيانا من تضخيم لا أساس له بمعايير الرؤية المنهجية والعلمية. فعندما يتكلم على سبيل المثال عما يمكن دعوته بالمسئولية الفردية للمثقف في عمله ونقله للآداب الأجنبية (والذي لم يتعد في اغلبه أن يكون مجرد تلخيص بسيط لكتابات بسيطة)، فانه كان يدرك سوء هذه المهمة (التلخيص) وأثره بالنسبة لإفراغ النص. لكنه أشار في الوقت نفسه إلى انه "يبذل جهد المقل، وينفق ما يملك من قوة ويحتمل ما يستطيع احتماله من مشقة، ويرى واجبا عليه أن يأتي ما آتي من ذلك، ويرى من التقصير أن يكسل إذا كسل غيره أو يهمل إذا آثر غيره الإهمال"[14]. من هنا نراه ينقل ما يدعوه بنماذج من "سخرية الأذكياء، وما هو مدعاة للضحك، وما يجمع بين الراحة واللذة والانتفاع"، كما يتكلم عن أدب الشبان الذين يزدرون التقاليد. وكذلك القصص التي تتناول الشيخوخة واليأس والأمل.

وفيما لو ضعنا هذه المحاولة ضمن سياقها التاريخي وأثرها الفعلي بالنسبة لتنوير الإبداع، فانه لا جديد فيها بتاتا، كما لا تحتوي على أية قيمة نوعية بالنسبة لتأسيس المنهج المبدع. فهي لا تتعدى كونها محاولة صغيرة لتصوير بعض ملامح "الجديد" في الأدب الأوربي، وزرع بعض القيم الأوربية الحديثة المتعلقة بكل من الهجاء السياسي (غير المباشر) في قصة (احمر) وقيمة الحب بحد ذاته (خارج شروط العلاقات الاجتماعية والواقع) واستعمال الكتابة الأدبية للترويح عن النفس وأشياء أخرى من هذا القبيل. ووضع ذلك بعبارة "أفكر وأدعو القارئ إلى التفكر في بعض المسائل التي يفكر الناس فيها من وراء البحر"(!) مثل إظهار الرموز الاجتماعية والطبقية وليس الأفراد بالضرورة، ونقد الفن والذوق الفني العام الساعي للاستحواذ على العقول والأفئدة. وليست هذه العبارة في الواقع سوى الصيغة المقلوبة أو الملطفة للاستلاب الثقافي والفكري. إذ لا تفكر فيها على الإطلاق، لأنها في أفضل الأحوال والنيات، أشبه ما تكون بأحلام يقظة، مثل توهم السباحة في بحار دافئة لامرئ يعاني من شدة البرد. ووجد ذلك في موقف "منهجي" جسده في نقله الحكواتي لمختلف القصص (القصيرة) من مختلف الشعوب الأوربية لكي يعرض "على القراء صورا من الأدب التمثيلي الغربي، يمثل أمزجة الأمم الأوربية الكبرى على اختلافها وتباينها". واستكمل ذلك بعبارة يقول فيها، "إذا كان هذا ديدن الفرنسيين فلا بأس من أن نقلدهم في ذلك ونذهب مذاهبهم. والسبب هو عدم وجود أدب عربي أو مصري يمكن الاعتماد عليه والاطمئنان إليه والاكتفاء به".

أما الحصيلة فهي وقوفنا أمام تنوع كبير ورغبة بمقدارها لإجلاء مختلف مجالات وميادين الأدب الفني الأوربي، وجعله مقبولا في كلّه وتنوعه لأنه إنساني، والعمل من اجل إثارة الاهتمام الفكري تجاه القضايا التي يتناولها، والاهتمام الروحي تجاه المعاناة المشتركة، ومن ثم مساعدة الإبداع للتأمل والإنتاج. إلا أن هذه الرؤية النقدية ليست فكرة قائمة بذاتها، بقدر ما أنها الغلاف الخارجي للاستلاب الفكري والمنهجي والثقافي، التي تجعل من كل إنتاج محتمل مجرد محاكاة. بمعنى أنها لا تستند إلى رؤية منهجية ومنظومة فكرية بمستواها تنطلق من مقدمات الرؤية التاريخية واستشراف الأفق المستقبل الذاتي، بقدر ما أنها خضعت منذ البدء لعامل الانبهار والتقليد "العلمي" ومصادفات الاختصاص والإعجاب الشخصي والتفضيل الفردي، كما هو جلي في الموقف من أبي العلاء المعري، أي تلك الشخصية التي شكلت من حيث وجودها وأثرها وإبداعها موشورا لكل ما كان يعتمل فيما يبدو في أعماق طه حسين. إذ نراه يدرجه في كل ما يواجهه من أحداث وشخصيات. لهذا نراه يلمع بين ثنايا الشخصيات الأوربية التي ينبهر بها مثل بول فاليري وأمثاله. وليس هذا في الواقع سوى الصيغة النفسية ولحد ما الذوقية الجمالية للاستلاب الفكري والثقافي. كما أنها الحالة السائدة في الثقافة المستلبة لمصر والعالم العربي ككل. إذ كلما عثر أحدهم على شيء ما في "الغرب" قريبا إلى ما في التراث العربي الإسلامي أو اختصاصه الشخصي كلما تصبح المقارنة والبحث عن المعنى والتأسيس وما شابه ذلك من أعمال خاوية لا قيمة علمية فيها، هاجسا فاعلا في السر والعلن والظاهر والباطن. بينما لا تتعدى حقيقة هذه الأعمال والمقارنات والاستنتاجات أن تكون مجرد اجترار للذاكرة والكتابة، رغم كونها لا تخلو من فضيلة صغيرة تقوم في إبراز قيمة التراث العربي الإسلامي. لكنها فضيلة تابعة وليست نابعة من ذاتها ولذاتها. من هنا احتمال ولحد ما حتمية إثارتها لما يمكن دعوته بغلو المراهقة الثقافية. مع ما يترتب عليه من استلهام مثير لصغار العقول، وضعاف التجربة، ومشلولي الرؤية التاريخية، ومعدومي الفكرة المستقبلية بوصفها تطورا تلقائيا وملازما لكيفية حل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والجماعة والأمة على مستوى الدولة والثقافة والقومية. وقد يكون موقفه من فكرة الحرية والعدل والمساواة وحقوق الإنسان نموذجا حيا بهذا الصدد. فعوضا عن أن يجري التأسيس لها بمعايير الرؤية الواقعية والتاريخية والمستقبلية الذاتية نراه يرفع من شان وأولوية ما يسميه بالارتباط بأوربا وتقاليدها باعتباره أمرا اضطراريا[15]. أما ذروة هذه الرؤية فنعثر عليها في تكافؤ فكرة العظيم مع فكرة الانتماء إلى أوربا والاقتداء بها. إذ نراه يصف إسماعيل باشا بالعظيم لأنه قال:"مصر جزء من أوربا"[16]. فهي الصيغة غير الواعية، رغم نيتها السليمة، في جعل الاستلاب قيمة ايجابية. أما في الواقع فانه لا يعدو كونه وهما مخربا. وذلك لأن الجزء لا يمكنه أن يكون ذات مستقلة، ومن ثم لا يمكنه أن يكون قوة فاعلة ومبدعة بذاتها. أما دعوة طه حسين للعمل من اجل رفع العلاقة بأوربا إلى مستوى "الاضطرار" فلم يكن في الواقع سوى الوجه الآخر للفرار من ثقل المواجهة الحية للنفس بمعاييرها ومقدماتها. وبالتالي لم يكن بإمكان مشروعه عن ضرورة أو إمكانية تحقيق ذلك من خلال التربية والتعليم السليم المستند إلى توظيف الأموال فيه من اجل بلوغ الرقي الاستعداد للدفاع عن الحرية والاستقلال، سوى الصيغة الأيديولوجية التي لم تصنع ولم يكن بإمكانها أن تصنع شيئا جديا.

ذهنية البهرجة والإثارة! 

لقد كانت عقلانية طه حسين عقلانية مبتورة. والشيء نفسه ينطبق على نزعته النقدية والإنسانية والعلمية. وهي أتعس أنواع العقلانية. وذلك لأنها لا تعمل في نهاية المطاف إلا على توسيع مدى التسطيح والتهور المعرفي الذي يجعل من أنصاف المتعلمين وأشباه الجهلة "عمداء" الفكر والثقافة. أما النتيجة فإنها تقوم في حفر أخدود الراديكاليات النفسية وجعلها الطريق المبلط للحثالة عبر تحويلها إلى"طليعة" المجتمع والتاريخ! وليس مصادفة أن يتحول أزلام السلطة إلى أبطال الفكر والعقل! والحزبي إلى قائد "أبدي". بينما يقتنع المثقف بدور الوسيط القابل لكل الصور بين إلوهية مفتعلة وربوبية اشد زيفا! وليس مصادفة أن يتحول دكتاتور شبه أمي مثل صدام حسين إلى "كاتب روائي" والقذافي إلى "مفكر النظرية العالمية الثالثة"، وخطاب كل عابر طريق إلى "مدرسة تاريخية"!

طبعا ليس لطه حسين وأمثاله علاقة مباشرة بهذه الظاهرة ونتائجها المخيبة والمخجلة، إلا أن طبيعة "الفكر" الذي جرى ابتذاله و"غرسه" في الوعي من خلال الولع بالإثارة والانهماك المفرط بالتقليد وتقديمه على انه "حصيلة الثقافة العالمية"، مع ما يرافقه من "تدنيس" التراث الذاتي والتطفل عليه في الوقت نفسه، هو الذي أدى الى تهميش الفكر الحقيقي. ومن ثم توسيع مدى الفكرة النفسية والأيديولوجية وإسباغ معالم الاكتشافات الكبرى فيها وعليها. مع أنها في حقيقتها مجرد أوهام وزبد لا قيمة فيهما سواء بمعايير الحق والحقيقة أو بمعايير التطور التلقائي للأمم.

 وليس مصادفة أن يتحول تاريخ الثقافة العربية الحديثة والمعاصر إلى ميدان التجريب البليد للأيديولوجيات "الليبرالية" و"العلمانية". وأن تتكلل في نهاية المطاف بصعود نقيضها الديني و"الأصولي" وصراعهما المستميت حول حقيقة لا حق فيها، وحق لا حقيقة فيه!

إن  هذه المقدمة ترمي إلى القول، بان مقصود هذا النقد يقوم أيضا في نقد السائد بين تيارات "الليبرالية" التي لا حرية فيها، و"العلمانية" التي لا دنيوية فيها. فالأولى مجرد خطاب أيديولوجي صرف لا علاقة له بروح الأمة وجسدها ولا وجدها ووجودها، والثانية مهاترة لا علاقة لها بنقد الدين والدنيا ولا الأرض والسماء. ولعل ما يجرى الآن من أحداث درامية هائلة في العالم العربي أو ما ادعوه بالطور الجديد في الكينونة العربية الحديثة، هو الوجه الطبيعي والتاريخي والواقعي لنفي كمية ونوعية الثقافة الهشة التي بلورها رعيل مازالت تغلب ميوله ونماذجه على ما ادعوه بثقافة الزمن الفارغ وانعدام التاريخ الفعلي، أي ثقافة الاجترار وانعدام التأسيس التلقائي لإشكاليات الوجود التاريخي والمستقبلي للأمة. ولعل في نقد شخصية طه حسين إشارة أو مثال أو دليل أو إيماءة الى هذه الحالة.

طبعا، إن الشخصيات الكبرى لا تخلو من متناقضات تلازم حجمها الفعلي في تراكم الوعي الثقافي. فالثقافة هي الأخرى كتلة من متناقضات حية. وكثرة المتناقضات فيها دليل على حيويتها. والمقصود بالمتناقضات هنا كل ما بإمكانه التحول إلى وحدة جميلة بمعايير المطلق. فمعرفة المطلق تفترض معرفة جمعه بين الأضداد، كما تقول المتصوفة. وبالتالي لا تدخل ضمن هذا السياق تناقضات الغباء والبلادة والحماقة، وذلك لأنها من عالم آخر، ولا يحدها شيء لأنها بلا حدود!

وعادة ما تضع هذه المقدمة العامة المرء أمام إشكالية جدية وقلق معرفي وأخلاقي حالما يجري تطبيقها على شخصيات "أدت دورها" الثقافي في الوجود التاريخي للأمم. من هنا إجبارها لسان الحال والمقال، أي العقل والوجدان، على الوقوف أما الكلمة والعبارة والمعنى والغاية من اجل بلورة أسلوب مهمته تأسيس المواقف بوصفها جزء من تاريخ الحقيقة؛ وتنظيم الحقائق بصفها جزء من تراكم المعرفة الحية؛ وتوسيع مدى المعرفة الحية بوصفها جزء من معاناة الأمم في حل إشكاليات وجودها التاريخي.

وفيما لو حاولنا تطبيق هذه المكونات الثلاثة الضرورية لهذه المقدمة النظرية العامة المتعلقة بأصول وجذور الثقافة التاريخية الحية، فأننا لا نعثر من حيث الجوهر على صيغة ترتقي إلى مصاف الوضوح والرؤية المنظمة في كل ما كتبه طه حسين. بمعنى أنها تبقى في أفضل الأحوال مجرد مواقف جزئية لا ترتقي بآي حال من الأحوال إلى مصاف التأسيس الفكري. ولم يكن ذلك معزولا عن ذهنية الاستلاب الثقافي المتغلغلة في ذهنية ونفسية طه حسين وضعف تأهيله الفلسفي. فقد كان طه حسين يكره الفلسفة الألمانية. ولو لم تحدّه أخلاقه لقال عنها أنها هذيان بهذيان! والسبب بسيط ويقوم في أن تربيته الأولى المبنية على الذاكرة الشفوية وتقاليد الحكاية والرواية جعلت من المعارف النظرية والتجريد الفكري الكبير والعميق أمورا لا يطيقها العقل والوجدان، واللسان والبيان! وليس مصادفة إن يجد ضالته في ديكارت والتقاليد الفرنسية بشكل عام. والسبب هنا أيضا بسيط للغاية، وهو أن التقاليد الفرنسية أدبية عملية وجدانية سياسية و"واضحة وسهلة" كما كان يقول سلامة موسى ويحبذها! أنها اقرب ما تكون إلى مفرقعات الأفراح والأعياد! ولا يخلو ذلك من جمال قادر وفعال على آثار الروح والجسد والخيال والمقال، لكنه سرعان ما يقف عند هذا الحد. وليس ذلك نتاجا لإدراك الحدود (الذاتية) بقدر ما انه نتاج ضعف القدرة على تجاوزها بوصفها جزء من تاريخ الحكمة المعرفية وتقاليدها المتنوعة ومستوياتها المتباينة. لهذا نرى طه حسين يتشبث بديكارت المجزأ والصغير، أي برواية عنه ومنه تنعش الذاكرة على حشو كل ما في جعبتها من اجل "نقد" كل ما يطاوله اللسان والبيان.

لقد كانت هذه الحالة "طبيعية" ومناسبة لحد ما لحالة مصر آنذاك وتقاليدها الثقافية في مجال المعرفة والتنظير. فقد كانت تلك الحالة اقرب ما تكون إلى البغلة التي ركبها طه حسين ليسابق بها حمير التقليد السارحة في مصر والعالم العربي آنذاك! لكننا حالما نضعها ضمن سباق الممكنات، فأنها تبدو عادية وبطيئة جدا ومتخلفة أيضا، لكنها لا تخلو من قيمة وفاعلية وروعة أيضا في جبال الجهل المعرفي ووديان الجهالة العلمية! وفيها أيضا يكمن سر البريق اللامع للحشو والتكرار والإعادة وتنظيم وترتيب العبارات العادية والطويلة والمملة من اجل قول عبارة واحدة أو فكرة صغيرة. وقد طبع هذا الأسلوب والنمط كل ما كتبه طه حسين، بما في ذلك المقالات والخواطر الصغيرة. بحيث يمكننا رؤية هذا النمط في كل ما كتبه على الإطلاق. وفيما لو أردنا تكثيف المفاهيم والأفكار والمواقف والتقييمات التي وضعها طه حسين في كتاباته الكثيرة جدا، فإنها سوف لن تتجاوز عشر أو عشرين صفحة على أفضل تقدير!! الأمر الذي يكشف عما يمكن دعوته بهوس الحشو والحشوية الجديدة، أي الحشو العادي والإثارة المتبجحة. ومن الممكن العثور عليها بين اسطر اغلب ما دبجه طه حسين من مقالات وكتب. فقد كان الهم الذائب وراء اغلب كتاباته ليس تنظيم الرؤية النقدية، بل توسيع مدى الإثارة والانبهار المسطح. وليس هذا بدوره سوى الوجه الآخر لسعة وحجم التسطيح الفكري للوعي الاجتماعي. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بان الانهماك "النقدي" لطه حسين قد تحول مع أول "إدانة ناجحة" إلى ولع وقيمة مستقلة بذاتها. بحيث أصبحت الإدانة التقليدية، أي الصيغة الأشد تخلفا للوعي "المنظم" (للمؤسسات التقليدية) إلى معيار النجاح والفلاح والفوز والقضاء على العوز! وتحول هذا الوهم المقلوب للمعرفة إلى نموذج رفيع للمعرفة، مع ما ترتب عليه من سباق محموم في الإثارة والانغماس فيها. بينما لم تكن هذه الدورة في الواقع سوى دورة الوعي التقليدي في أفلاك "التنوير المزيف" و"النقد" الذي لا ينتهي! وهذا بدوره ليس إلا الوجه الآخر لتقاليد الحكاية والرواية التي تتمتع وتتلذذ باليسير الميسور للوعي. مما جعل من طه حسين، في احد مظاهره، نموذجا لما ادعوه بالحشوية الجديدة. وذلك لأن خصوصيته لا تقوم في استمداد صيغ وأنماط ونماذج اللاهوت الذاتي (الإسلامي) بل باستلهام نموذج ما يمكن دعوته بلاهوت التقليد المتمدن والحديث! وهذا بدوره لم يكن ذلك معزولا عن اثر الاغتراب الثقافي بشكل عام والمنهجي بشكل خاص. فقد تحول منهج الاغتراب الثقافي إلى منهج المواقف والأحكام. وليس مصادفة إن تفتقد اغلب ما كتبه طه حسين لحقيقة التأسيس النظري بشكل عام والفلسفي بشكل خاص.

لقد نشأ طه حسين وترعرع ضمن سياق تيارات متصارعة متناقضة، حديثة وتقليدية. ومن الممكن رؤية ذلك في كثرة المقالات التي كتبها تحت هذا العنوان، والتي ظلت تحكم رؤيته النقدية في كل مستوياتها، بمعنى أنها ظلت حبيسة هذين التيارين من جهة، وثقافته الشفوية من جهة أخرى. مع ما ترتب عليه من انطباع مواقفه النقدية ببهرجة ظاهرية، محكومة بدورها بتأثير تقاليد الحكاية والرواية. من هنا انتشار وغلبة السرد والسرديات في مقالاته وأبحاثه ودراساته. وهذا بدوره ليس معزولا عن قلة وضعف ولحد ما سطحية معرفه الفكرية النظرية. ففيما لو جمعنا عدد المصادر الفكرية النظرية التي استعملها طه حسين في كتاباته فإنها لا تتعدى عشرة كتب!![17]

ومن الممكن التدليل على هذا النمط هنا بالاستناد إلى مثال واحد من بين مئات الأمثلة، واقصد بذلك موقفه من "البيان العربي" الذي وضعه في تقديمه لكتاب (نقد النثر) المنسوب لأبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي، تحت عنوان (البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر). فهنا نقرأ موقفه القائل، بان قلة استعمال الأدباء العرب أمثلة مستقاة من كتاب الخطابة لأرسطو هو بسبب كونهم لم يفهموا هذه الأمثلة[18]. ومن هذه المقدمة الخطابية والسردية لحد ما نره يتوصل إلى استنتاج يقول، بان "علماء البيان العرب لجهلهم التام بنظم اليونان وآدابهم لم يستطيعوا فهم الأنواع الخطابية وما يتصل بها ولا الشواهد التي استعملها أرسطو من غرر الأدب اليوناني"[19]. بينما نراه لاحقا يقرر ما لا صلة بما قاله قبل قليل، وهو أن "أعجاب الأدباء العرب بالبيان منذ أواخر القرن الثالث إلى نهاية الرابع قد أدى إلى إبداعهم(!) علما للبيان عربي خالص في روحه ومادته وشواهده. حتى لقد خيل للمتأخرين منهم أن البيان العربي غير مدين للأعاجم في شيء(!!). ليس ذلك فحسب، بل وتراه يقرر بعجالة مميزة للذهنية الحكواتية عن أن "الفلاسفة العرب لم يكونوا أجود من المتكلمين وعلماء البيان في فهمهم أو آخذهم بكتاب الخطابة (لأرسطو)". والسبب بنظره يقوم في أنهم "كانوا يجهلون الهيلينية كلها عدا الفلسفة بطبيعة الحال. أنهم لم يعرفوا الأنظمة السياسية ولا القضائية ولا الحقوقية ولا خطبهم". وحاول تطبيق ذلك على كل شيء، مثل الموقف من النظام السياسي والشعر وغيره. فالعرب المسلمون لم يعرفوا غير نظام الخلافة، وان كتاب الشعر لأرسطو لم يفهمه احد على الإطلاق بين العرب والمسلمين[20] (باستثناء طه حسين طبعا!). ومن الممكن الاستطراد في أمثلة كثيرة تصب في هذا المسار، أي كل ما يعبر عما أسميته بذهنية الحشو والنقد المولع بالإثارة المسطحة.

بعبارة أخرى، إن طه حسين لم يفهم قيمة الإبداع الذاتي للأمم والحضارات خارج نطاق "الهيلينية" التي لم يعرف هو نفسه منها إلا الشيء اليسير والصيغة الظاهرية والمسطحة والمعلومات الجزئية. واكتفي هنا بالإشارة فقط إلى إن قراءة (كتاب الشعر) لأرسطو لا علاقة له بروح الشعر كما انه لا يصنع شاعرا ويربي قدرة شعرية عربية على الإطلاق. فالشعر العربي هو صيرورة تاريخية ثقافية متميزة ومكتفية بذاتها. والشيء نفسه ينطبق على البيان وتقاليده. بل ليس مصادفة أن يكون الشعراء اليونانيون العظام قد ظهروا قبل كتاب أرسطو. وما بعده مجرد شعراء صغار فقط!! مع إن القضية وما فيها لا علاقة لها بكتاب أرسطو!

وفيما يتعلق بالنظم السياسية وأنواعها، فقد عرف العرب الأنظمة السياسية والحقوقية الأخرى إلا أنها كانت بالنسبة لهم بقايا عوالم وثنية وغير عادلة. إضافة إلى ذلك، وهو الشيء الأكثر جوهرية، هو إن الصيرورة التاريخية للدولة العربية الإسلامية كانت أساسا خلافة لنفسها أو خلافة ذاتية. بمعنى أنها كانت تجربة ذاتية وفردانية أصيلة. من هنا لم تكن بحاجة إلى تجارب الآخرين. أما استعمالها الجزئي لنتاج تلك التجارب فقد كان جزء من فاعلية المنظومة الجديدة في الموقف تجاه مختلف عوالم الإنسان. وذلك لأن التجربة العربية الإسلامية الأولى كانت تجربة صاعدة وواعدة وحية وفاعلة ومقدامة. وبالتالي فإنها كانت الصيغة الأرقى للنظام السياسي آنذاك. والشيء نفسه يمكن قوله عن الحقوق. بعبارة أخرى، لقد كانت التجربة العربية الإسلامية آنذاك في مجال البناء الحضاري الأعمق والأوسع والأكثر ديناميكية. لقد كانت آنذاك في مقدمة الأمم. لهذا لم تكن بحاجة إلى الالتفات إلى تجارب الآخرين السالفة أو حتى المعاصرة لها. مثلما لا تنظر الكثير من الدول المعاصرة المتطورة إلى تجارب الآخرين الماضية أو حتى المعاصرة لها.

مما سبق نستطيع القول، بان النقد المبهرج والدعاوي الكثيرة الكبيرة التي تميز مواقف وأحكام طه حسين ما هي في الواقع سوى الوجه الأخر لضعف التقاليد العلمية الدقيقة واضمحلال رزانة التقاليد النظرية الفلسفية العميقة. مما جعل من أساليب ومستويات النقد المميزة لكتابات طه حسين احد أوجه الاستلاب المعرفي والمنهجي والثقافي. إذ لا نقدية فيها بالمعنى الدقيق للكلمة. ومن الممكن القول، بأنها اقرب ما تكون إلى لدغات إثارة بفعل تدني المستوى المعرفي والعلمي السائد آنذاك. فالفكرة النقدية الكبرى هي التي تتجاوز منظومات الفكر إلى أخرى أكثر رفعة ودقة وتأسيسا. بينما لم تحتو كل كتابات طه حسين النقدية على شيء يتعدى حدود التطويع والتطبيق الجزئي لأجزاء المعرفة المتناثرة في الفكر الأوربي آنذاك، مع البقاء من حيث الجوهر ضمن الدهاليز العتيقة والعمل على نفض الغبار العالق على جدرانها. كما يمكننا أن نعثر فيه على الشخصية الباطنية أو المستبطنة لطه حسين نفسه، في استعماله الكبير للأشياء التي "فهمها" من التراث الأوربي الحديث و"اليوناني" بشكل خاص. مع أن إلقاء نظرة سريعة إلى كل ما كتبه لتكشف عن قلة وضعف وسطحية استلهامه للتراث اليوناني بشكل عام والفلسفي بشكل خاص.

إن مشكلة الموقف المنهجي من التراث وغيره من القضايا التي تناولها طه حسين تستمد مقوماتها في الأغلب من طبيعة الاستلاب الفكري أمام الثقافة "الأوربية" آنذاك التي جعلت من "الهيلينية" أوربية، ومن الفلسفة اليونانية (أرسطو في الحالة المعنية) نموذجا للمحاكاة. مع إن طه حسين نفسه (كما هو جلي في كل كتاباته) لم تكن معرفته بها تتعدى حدود جوانب جزئية ومسطحة ويسيرة جدا. وبالتالي ليست عباراته المتبجحة والخاوية في الوقت نفسه عن انه لم يعرف احد (غيره) تقاليد الهيلينية، أو إن القدماء لم يفهموا ما فهمه هو منها، سوى الوجه الآخر لذهنية الحشوية الجديدة، التي أغرته بإمكانية القول، بان العيش فترة زمنية قصيرة في فرنسا وتعلم الفرنسية كافية لتسطير حكايات مقنعة وطريفة لبسطاء المستمعين!! أو كما قال شكسبير، بان الأعور بين العميان ملك! وهذه مفارقة أخرى بالنسبة لحالة طه حسين!(يتبع....)

***

 ا. د. ميثم الجنابي

...................

[1] طه حسين: مع المتنبي، دار المعارف، القاهرة، 1986، ط13، ص379.

[2] طه حسين: مع المتنبي، ص 12- 14.

[3] طه حسين: مع المتنبي، ص 10.

[4] طه حسين: مع المتنبي، ، ص8.

[5] طه حسين: مع المتنبي، ص 378.

[6] طه حسين: ألوان، ص5- 8.

[7] طه حسين: حديث الأربعاء، ج2، ص4-5.

[8] طه حسين: حديث الأربعاء، ج2، ص10.

[9] طه حسين: حديث الأربعاء، ج2، ص10.

[10] طه حسين: حديث الأربعاء، ج2، ص.12

[11] طه حسين: حديث الأربعاء، ج2، ص12.

[12] طه حسين: جنة الشوك، ص9.

[13] طه حسين: نظام الأثينيين، دار المعارف، القاهرة،

[14] طه حسين: من أدب التمثيل الغربي، دار العلم للملايين، بيروت، ،1983، ص29

[15] طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر، ص126.

[16] طه حسين: جنة الحيوان، ص61

[17]  وينطبق هذا في الواقع على الكتب الأدبية الكبرى. فإنها أيضا قليلة العدد. إنني افهم وأتحسس هذه الحالة والحصيلة بالنسبة لطه حسين بسبب حالة العمى، لكنها لا تكفي بالنسبة "لعميد الأدب العربي"! فقد أصيب قبله المعرى بنفس الداء. لكن مقارنة الاثنين بهذا الصدد تكشف عن البون الشاسع بينهما. والسبب هو ان المعري نتاج مرحلة الرقي الثقافي العربي الاسلامي ومدارسه الأدبية والفلسفية والشعرية، بينما كل ما في جعبة طه حسين هو تقاليد أزهرية ميتة وفتات ثقافة أوربية لم يكن بإمكانه قراءة حتى الجزء اليسير جدا منها. فالاستماع إلى قراءة من يقرأ لكي تستمع يؤدي بالضرورة إلى تفعيل نفسية الحفظ والذاكرة السردية. وهذا لا يمكنه ان ينتج عقلا نظريا. من هنا كراهية طه حسين للفكر الفلسفي، لأنه يحتاج بالضرورة للقراءة المتفحصة والتأمل والمقارنة. وهذه كلها شروط غير متوفرة في حالته. ان قيمة طه حسين تقوم في نموذج تحدي الارادة من اجل نيل أصول المعرفة الأولية وجزئيات تناثرها في المعارف الشفوية. 

[18] طه حسين: البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر، ضمن كتاب (نقد النثر) المنسوب لأبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1982، ص12.

[19] طه حسين: البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر، ص13.

[20] طه حسين: البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر، ص31.

في المثقف اليوم