دراسات وبحوث

شخصيات وأفكار وقيم من التراث: عبد الرحمن بن عوف

mutham aljanabi2تقديم عام: إن الغاية من سلسلة المقالات المتعلقة بتناول قضية (شخصيات وأفكار وقيم من التراث) التي اخصصها لتناول أفراد لهم أثرهم في تاريخ الفكر والروح والدولة،وأفكار وقيم مازالت فاعلة رغم عقمها أو خطأها، ترمي إلى وضعها ضمن سياق وجودهم التاريخي من جهة، وتحليل ما فيهم ضمن ثنائية السلطة – المثقف، والخير والشر، والجميل والقبيح من جهة أخرى. لاسيما وأن هذه العلاقات هي في الوقت نفسه إحدى المعضلات الكبرى للتاريخ الفعلي ووعي الذات القومي والثقافي. كما أنها باقية ما بقيت السلطة والدولة. وبالتالي يمكن النظر إليها باعتبارها "قضايا أبدية" ما لم يرتق الروح إلى مصاف الأبد، أي ما لم يجري تذليل مراحل الوجود الطبيعي للبشر والوعي ومؤسسات وجودهم التاريخي. وهو الخلاف الجوهري بين ثقافة الأشباح والأرواح، أي كل ما يمكننا رؤيته أيضا في سعة وانتشار ثقافة الارتزاق المعاصرة، وكثرة "المفكرين" الجهلة للسلطات والأحزاب، وتحويل الخير إلى شر وبالعكس، وجعل القبيح جميلا وبالعكس. بعبارة أخرى، ان المهمة الأساسية من وراء هذه المقالات الصغيرة هو شحذ الرؤية النقدية في الموقف مخ التراث وتنقيته من زيف "القداسة" وما شابه ذلك من تخريف للعقل وحشوه بخزعبلات التدين المزيف والإرادة المخذولة. أما الغاية النهائية فتقوم في بلورة الوعي النقدي والعقلاني من الماضي والمستقبل بما يخدم صنع الإجماع العلمي المحكوم بالنزعة الواقعية والعقلانية والإنسانية.

***

عبد الرحمن بن عوف

توفي عبد الرحمن بن عوف عام32- 33 للهجرة. اسلم بعد أن بلغ الثلاثين من العمر. وعادة ما يجري إدراجه ضمن أوائل المسلمين. وليس مصادفة أن يدخل ضمن ما يسمى بالعشرة المبشرين بالجنة. وهي العبارة التي تكشف عن قيمة واثر أولئك الذين كان إسلامهم دخولا في عالم مجهول. وبالتالي لم يكن التبشير بالجنة سوى الضوء الساطع في نهاية "الغيب" الذي قدمه الإسلام آنذاك.

كان اسمه الأول عبد عمرو فغيرّه النبي محمد إلى عبد الرحمن. اسلم وهو كبير الثروة. وتعرض بأثر ذلك لمضايقات قريش وأذاهم. واضطر للهجرة مرتين (الحبشة والمدينة). تبرع بأمواله من اجل الإسلام. حيث تصدق مرة بأربعين ألف دينار وخمسمائة فرس! وعندما اضطر للهجرة إلى المدينة، فانه رفض مقاسمة الأنصار أموالهم. وكان طلبه الوحيد معرفة مكان السوق! إذ كان رجلا عمليا مولعا بالتجارة وماهرا بشروطها وأسرارها. عندها اخذ بتوسيع الثروة. وإليه تنسب العبارة القائلة:"لو رفعتن حجرا لوجدت تحته ذهبا!". وليس مصادفة أن يجمع ثروة هائلة بحيث نراه يوصي منها لأهل السبيل فقط بخمسين ألف دينار. وترك مما لم يوص به ألف بعير، وثلاثة ألف شاة، ومائة فرس ترعى بالبقيع. بل ينقل عنه انه قال مرة عن نفسه "إني أخشى أن أكون قد هلكت! إني من أكثر قريش مالا". كما ينقل عنه بكاءه قبيل وفاته وقوله:"إن مصعب بن عمير كان خيرا مني ولم يكن له ما يكفن به. وان حمزة بن عبد المطلب كان خيرا مني لم نجد له كفنا. وإني أخشى أن أكون ممن عجلت له طيباته في الحياة الدنيا، وأخشى أن احتبس عن أصحابي بكثرة مالي".

وفي نفس الوقت كان متواضعا في سلوكه الحياتي، بحيث قيل عنه بأنه ما كان يعرف من بين عبيده بسبب تواضعه، كأنه مثل الرقيق يحمل كما يحملون، ويأكل كما يأكلون، ويسير كما يسيرون. وقد أثارت هذه الصفات المتضادة والمتعارضة في زمنه تعارض الآراء واختلافها حوله. لهذا قال بعض المسلمين عنه عندما تصّدق للمرة الأولى في المدينة بأربعة آلاف دينار:"إن عبد الرحمن لعظيم الرياء!". غير أن سلوكه هذا كان جزء من شخصيته الغريبة التي نعثر عليها أيضا في سلوكه الحياتي والسياسي والعقائدي.

فقد هاجر الهجرتين وشهد اغلب المعارك الأولى. ومن بين اكبر مآثره بهذا الصدد قتاله في معركة احد وإنقاذه النبي محمد وتعرضه إلى طعنات الحرب بحيث أصيب، كما يقال بأكثر من تسعين طعنة. وتعرض بأثر إحداها إلى شلل يده. بل أن كل ملامحه كانت تشير إلى اثر الحياة والمعارك من هتم وعسر وعرج! وبالقدر الذي كان يتصف باللين والنعومة، فانه كان شجاعا مقداما. وبالقدر الذي كان غنيا، فانه كان سخيا كريما. بحيث جعلت منه هذه الخصال، إضافة إلى كونه من أوائل المسلمين و"العشرة المبشرين بالجنة"، أن يدخل مجموعة الستة المكونين لهيئة الشورى.

لكن سلوكه الذي اتصف بالتخلي الشخصي عن الخلافة كان يحتوي على مؤامرة صغيرة في تسليمها لعثمان. إذ لم يخل هذا الموقف السياسي من رياء أخلاقي محكوم بالثروة وأثرها في بلورة المواقف العملية! خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما كان لهذا الفعل والموقف من اثر مباشر وغير مباشر في إثارة الحمية الأموية ونموها اللاحق، واندثار معالم الإسلام الأول. مع ما ترتب عليه من تحويل التضحيات الكبرى من اجل تحقيق المبادئ الاجتماعية والأخلاقية الكبرى للإسلام الأول إلى مجرد عبث وأنقاض لا قيمة لها.

إن حياة وممات عبد الرحمن بن عوف وأثره اللاحق، تكشف عما في الشخصية الإنسانية من تناقض يصعب حده أحيانا بمعايير المنطق، لكنها تبرهن في الوقت نفسه، بان حقيقتها لا تقوم في سماء اللاهوت أيا كان مصدره وشكله ومستواه، بل في قاع الضمير الأخلاقي والسياسي للأمم. الأمر الذي أبقى عليه واحدا من "عشرة مبشرين بالجنة" إلى جانب ملايين أو مليارات يمكنهم التعويل عليها، لكنه اضمحل وتلاشى من الذاكرة الحية لجنان الروح الإنساني ومغامرات البحث عن العدل والنظام الأمثل.

***

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم