دراسات وبحوث

الأشباح والأرواح (22): بداية السلطة وتوظيف الوحي (3)

mutham aljanabi2ان الاستماع إلى نصائح الآخرين من الناحية المجردة فضيلة. والاستماع إلى ذوي العقل والمعرفة حكمة، أما الاستمتاع إلى سفهاء العقول وأهل المراوغة والخديعة فهو عين الرذيلة والغباء. وقد كان تاريخ الاسلام وشخصياته الكبرى، بدأ من النبي محمد وانتهاء بخلافة عمر بن الخطاب نموذجا للاستماع الفعلي لذوي العقل والحكمة والقيم الفاضلة. بينما تحول الاستماع زمن عثمان إلى أداة للوشاية والغواية. مع ما ترتب عليه من انحراف هائل في مفهوم السلطة والدولة. وعندما نتأمل المحادثات والنصائح السياسية التي أحاطت بعثمان بن عفان في كل مجرى خلافته السياسية، كما أوردتها اغلب الروايات السليمة وكتب التاريخ والسياسة، فإننا نعثر فيها ونكتشف طبيعة النخبة السياسية والتحول العاصف في بنية السلطة وأنموذج عقلها النظري والعملي.

ويكشف هذا الأنموذج عن أن بدايتها ونهايتها محكومة بقيم نفعية ضيقة وعارية من ابسط الفضائل الأخلاقية المميزة للرؤية الإسلامية العامة وتجارب الخلافة الرشيدة كما مثلها وجسدها قبله كل من أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب. فالنصيحة هنا ليست لله، بل لسلطة هي عين الرذيلة والخروج على الحق والحقيقة. ومجرد الاستماع إلى "نصائح" مهمتها الدعوة لقتل المعارضة وتشريد الصحابة وشراء الذمم والنظر إلى الأمة على أنها كمية من البطون التي لا همّ لها غير الطمع، تعكس طبيعة الرذيلة الكامنة في النخبة العثمانية. وتتمثل هذه الأصوات الصدى القائم في شخصية عثمان بن عفان. ولعل المحادثة الفعلية واستمرارها السياسي بينه وبين عمر بن العاص تمثل ما يمكن دعوته بزبدة السياسة وأخلاقيتها الخاصة. فقد كان لسان عمرو بن العاص الظاهري يقول ما تقوله المعارضة، أو صوت الضمير المعذب من رؤية الخروج على ما كان يعتقده حقا وحقيقة. لهذا وجد فيه عثمان أمرا غير جديا، بل اعتبره اقرب ما يكون إلى قمل يدب في فروة ابن العاص. وقد تقبل الداهية الكبير هذه "المهانة" في الظاهر، لأن حقيقة ما كان يسعى إليه هو "نشر" الشائعة والعمل بما يناقضها! بحيث يجعل منه شخصا مقبولا للمعارضة، ومن ثم إمكانية التجسس على خططها من اجل استغلالها بالشكل الذي يقوض دعائهما. وهي فلسفة عاصيّة (على وزن ميكيافلية) تكثف فحش البراعة المهينة التي قبلها عثمان!! بمعنى استعمال كل الأساليب الممكنة بما في ذلك اشد وأحط أساليب الغدر والخيانة والأدوات الرخيصة ضد من كان لا يطالب بشيء غير إتباع نموذج النبوة المحمدية والخلفاء الأوائل، بوصفه مطلبا أخلاقيا وحقوقيا واجتماعيا وإنسانيا وحكوميا.

وإذا كان عثمان قد سلك في نهاية المطاف كما اقترحه عليه "مستشاروه"، بحيث أبقى جميع عماله على أعمالهم وأمرهم بالتضييق على من قبلهم وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه، فإن ذلك يكشف عن طبيعة الانحراف والتحول الحاد في فكرة السلطة التي جعلت من نفسها مرجعية الوجود الكبرى، بحيث استعاضت عن الله والنبوة وتجارب الأسلاف والحق والأخلاق بما يناقضها. فالجدل والنصائح والمواقف المذكورة أعلاه وكثير غيرها مما تحتويه كتب التاريخ والسير يبرهن على حقيقة ونهاية واحدة، تقوم في أن عثمان لم ير ولم يسمع غير ما هو ملائم لنفسية السلطة الغدارة بقوة الثروة المنهوبة، والإرادة المسلوبة بقوة العائلة والقرابة، أي بأكثر النماذج والروابط انحطاطا وتخريبا بالنسبة للدولة والروح العقلي والأخلاقي. لهذا نراه يستمع إلى نصائح المخلصين الكبار مثل علي بن أبي طالب ويؤدي النصيحة المجردة وينقضها بالفعل للحال. ففي إحدى هذه الحالات نستمع إلى المحاورة السياسية بينه وبين علي بن أبي طالب بصدد إمكانية الفتنة وضرورة تذليها. حيث يبدأ عثمان الكلام قائلا:

- قد والله علمت ليقولن الذي قلت‏.‏ أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك ولا أسلمتك ولا عبت عليك، ولا جئت منكرا إن وصلت رحما، وسددت خَلة، وآويت ضائعا، ووليت شبيها بمن كان عمر يولي‏.‏ أنشدك الله يا عليُّ هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك‏؟‏

- نعم!

- فتعلم أن عمر ولاه‏؟‏

- نعم!

- فلم تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته‏.

- سأخبرك! إن عمر بن الخطاب كان كل من ولى فإنما يطأ على صماخه إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية وأنت لا تفعل‏.‏ ضعفت ورفقت على أقربائك‏.

- هم أقرباؤك أيضا‏.‏

- لعمري إن رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرها‏.

- هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها‏؟‏ فقد وليته!

- أنشدك الله! هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من غلام عمر منه‏؟

- نعم!

- فإن معاوية يقطع الأمور دونك وأنت تعلمها‏.‏ فيقول للناس هذا أمر عثمان فيبلغك ولا تغير على معاوية[1].

وتعكس هذه المحاورة طبيعة عثمان بن عفان ونفسيته وذهنيته، التي ليس فقط لا ترى ولا تسمع، بل ومجبولة على التبرير والغوص فيه، لأنها لا ترى في السلطة غير إرادتها فقط. بمعنى غياب أو اضمحلال وتلاشي فكرة الحق وجوهرية الأمة. من هنا ردود فعلها المباشر وانعدام الرؤية البعيدة المدى. والشيء الوحيد الثابت فيها هو رغبة الاحتفاظ بالسلطة والمغامرة بكل شيء من أجلها. وليس مصادفة أن يذهب عثمان إلى المنبر ويبدأ بالكلام والخطابة بعد المحاورة المذكورة أعلاه مع علي بن أبي طالب. وفيها وفي خاتمتها نعثر على انعكاس يكشف طبيعة ومستوى الانفصال والانفصام بين السلطة والدولة، والسلطة والمجتمع، والإسلامي العام والفردي الخاص في شخصيته ونفسيته وذهنيته. إذ يقول فيها:‏"‏أما بعد، فإن لكل شيء آفة، ولكل أمر عاهة! وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة‏‏ عيابون، طعانون، يرونكم ما تحبون ويسّرون ما تكرهون يقولون لكم ويقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق‏!‏ أحب مواردها إليها البعيد لا يشربون إلا نغصا ولا يردون إلا عكرا، لا يقوم لهم رائد وقد أعيتهم الأمور، وتعذرت عليهم المكاسب!‏ ألا فقد والله عبتم عليَّ بما أقررتم لإبن الخطاب بمثله ولكنه وطئكم برجله‏،‏ وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم! ولنت لكم وأوطأت لكم كتفي‏، وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم عليّ‏!‏ أما والله لأنا أعز نفرا، وأقرب ناصرا، وأكثرا عددا، وأقمن إن قلت هلم! أتي إليّ‏!‏ ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولا، وكشرت لكم عن نابي‏.‏ وأخرجتم مني خلقا لم أكن أحسنه، ومنطقا لم أنطق به، فكفوا عليكم ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم! فإني قد كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا! ألا فما تفقدون من حقكم‏! ‏والله ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ من قبلي!‏ ومن لم تكونوا تختلفون عليه فضلَ فضل من مال‏.‏ فما لي لا أصنع في الفضل ما أريد؟!.‏ فَلِمَ كنت إماما؟!‏"‏[2].

تكشف هذه الخطبة بصورة تامة مستوى الانحطاط السياسي والمعنوي والأخلاقي لعثمان وفكرة الخلافة. والقضية هنا ليس فقط في أنه لا يسمع ولا يرى، بل ويستمع ويرى النصيحة المحكومة بفكرة الدولة والمصالح العليا للدولة على أنها مهانة! حيث تصبح لغة التهديد والوعيد والاستنكار والفضيحة مضمون الخطاب السياسي. ويجري تتويجها بمصادرة الحقوق العامة باسم الخلافة، مع أن مضمون الخلافة هو استخلاف فكرة الحق الإسلامي، وليس السلطة. من هنا الفكرة الغريبة التي تستغرب بسذاجتها الوقحة "سلب حقوق" السلطة في فعل ما تريد وما ترغب به. وإلا فما هو معنى الخليفة والإمام؟ وهي "مرجعية" نموذجية لما أسميته ببداية وجوهرية السلطة في توظيف الوحي (النبوي)، التي وجدت مخرجها الوحيد في جزئية الإرادة وطابعها العابر والمتغير والنفسي، أي المنفصل والمتعارض مع العقل والحس السليم وحكمة الأسلاف. لكنها إرادة لا تصنع غير بركان النفور والاحتجاج وهوة الخراب الذاتي والخواء المعنوي. ومن ثم تلجأ السلطة إلى استعمال كل ما هو مباح ومكروه ومحرم دون أية ضوابط. والضابط الوحيد هو إرادتها فقط، بوصفها الرابط الوحيد والشديد بين السمع والبصر! ففي رسالته التي يستنجد بها من هو خارج المدينة ومكة نسمعه يقول، بأنه يرى ويسمع غليان الاحتجاج عليه. ووجد في تلك القوى مجرد "أعراب" و"أحزاب" الجاهلية ومن غزاهم بغزوة أحُد، وهو الذي هرب فيها!! ففيها نقرأ ما يلي:"‏إن الله بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا فبلغ عن الله ما أمر به. ثم مضى وقد قضى الذي عليه. وخلف فينا كتابه، فيه حلاله وحرامه، وبيَّن الأمور التي قدَّر، فأمضاها على ما أحب العباد وكرهوا. فكان الخليفة أبو بكر وعمر. ثم أدخلت في الشورى على غير علم ولا مسألة عن ملأ من الأمة! ثم أجمع أهل الشورى على ملأ منهم ومن الناس على غير طلب مني ولا محبة‏.‏ فعملت فيهم ما يعرفون ولا ينكرون، متبعا غير مبتدع. فلما انتهت الأمور وانتكث الشر بأهله بدت ضغائن وأهواء على غير إجرام. فطلبوا أمرا وأعلنوا غيره بغير حجة ولا عذر. فعابوا عليَّ أشياء مما كانوا يرغبون، وأشياء عن ملأ من أهل المدينة لا يصلح غيرها. فصبرت لهم نفسي، وكففتها عنهم منذ سنين. وأنا أرى وأسمع! فازدادوا على الله جرأة حتى أغاروا علينا في جوار رسول الله وحرمه، وأرض الهجرة. وثابت إليهم الأعراب! فهم كالأحزاب أيام الأحزاب، أو من غزانا بأحُد إلا ما يظهرون، فمن قدر على اللحاق بنا فليلحق‏"‏‏[3].‏

 إننا نعثر في هذه الرسالة على أبعاد وحجم وماهية الانفصام التاريخي الشامل بين الدولة والسلطة. بحيث تحول التاريخ والنبوة والحق وسيرة الأسلاف إلى أجزاء متناثرة في سمع السلطة وبصرها الخاليين من الاستماع إلى أنغام الوجود ورؤية ألوان الحياة المتنوعة، بحيث يصبح كل ما تسمعه ضجيجا وصخبا ولغوا ومؤامرة، وما تراه ظلاما وسوادا يعمي البصر. إذ تكشف هذه الصورة عن موت البصر والبصيرة والسماع والاستماع لحقيقة ما يجري. بحيث تتحول المدينة ومكة إلى سور الحصار المفروض من جانب القوى التي وجدت في كل ما تقوم به السلطة خروجا شاملا على الحق. أما المحاولات المستميتة الأخيرة من اجل كسب ما يمكن كسبه من أنصار بين الصحابة والناس، فإنها لم تكن في الواقع أكثر من مناورات لم تكن تخفى على المناهضين والرافضين له. بحيث توجت هذه المواجهة مرة برميه بالحصاة وهو يخطب! وقد كانت تلك حجارة السيل القادم، التي جعلت السلطة حصوات مرمية على أطراف تياره العارم. وقد تحسست السلطة هذا التيار، لكن عمى البصر والبصيرة وانعدام استرقاق السمع لحقيقة الأصوات قد اقفل عليها إمكانية حتى الحوار. من هنا عجزها عن محاورة شيء غير نفسها. وهي نفس خربة. من هنا تسارع خطوات الدراما التي أدت إلى مقتل عثمان. فنراه يكرر المشاورة مع علي بن أبي طالب، متقربا إليه بعبارة القرابة والنسب والدم. بينما هي علاقة لا علاقة للإمام علي بها. ثم أنها تعكس مدى الرجوع القهقري إلى قيم الجاهلية التي وجدها عثمان في دفاع "الأعراب والأحزاب" عن الحق!! لهذا نراه يكرر نفس الخطأ، لأن بدايته وغايته خطيئة! فنراه يدخل على علي بن أبي طالب مترجيا:

- يا ابن العم! إن قرابتي قريبة ولي عليك حق عظيم! وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم وهم مصبحي. ولك عند الناس قدر. وهم يسمعون منك، وأحب أن تركب إليهم فتردهم عني، فإن في دخولهم عليَّ توهينا لأمري وجراءة عليَّ‏.

- على أيِّ شيء أردهم عنك؟

- على أن أصير إلى ما أشرت إليه ورأيته لي‏.

- إني قد كلمتك مرة بعد أخرى فكل ذلك تخرج وتقول، ثم ترجع عنه! وهذا من فعل مروان وابن عامر ومعاوية وعبد الله بن سعد‏.‏ فإنك أطعتهم وعصيتني‏.‏

- فأنا أعصيهم وأطيعك!

فأمر علي بن أبي طالب الناس بالخروج. واخبر عثمان بما فعل وكلمه عما ينبغي القيام به من اجل تلافي الفتنة. وقبل عثمان بها. لكنه غيّر رأيه ومواقفه بعد سويعات عندما أقنعه مروان بن الحكم بضرورة إعلام الناس بأن المعارضين والمهاجمين قد رجعوا إلى ديارهم، وإن رجوعهم هو بسبب إدراكهم بأنهم كانوا على عدم بينة من الأمر، وإن ما كان عندهم هو باطل. وبالتالي استغلال هذه الفرصة من اجل انتظار العدة والعدد من المناطق الأخرى لتصفية الحساب مع الجميع! وقد أخذ عثمان بهذه "النصيحة". بحيث أجبرت حتى عمرو بن العاص على مخاطبته بكلمات:"اتق الله يا عثمان! فإنك قد ركبت أمورا، وركبناها معك فتب إلى الله نتب!". لكنها جلعته في الوقت نفسه يخرج عن طوره بحيث رد على عمرو ابن العاص بكلمات:"وإنك هنا يا ابن النابغة! قملت والله جبتك منذ عزلتك عن العمل!". وتعكس هذه المخاطبة طبيعة الخراب الداخلي لعثمان وانهياره المعنوي وفساد عقله. غير أن الضغط اللاحق اجبره على الاستجابة للتوبة العلنية. بحيث نراه يرفع يديه ويستقبل القبلة ويقول:"اللَّهم إني أول تائب‏"‏‏[4].‏

وقد سجلت كتب التاريخ والسير هذه المقطوعة الرقيقة التي لا تخلو من صدق ورذيلة في نفس الوقت! وقد كانت تلك نتيجة لما أسميته بوحدة الخطأ والخطيئة في سلوك عثمان وشخصيته. ففيها نسمعه يقول:"‏أما بعد، أيها الناس! فوالله ما عاب من عاب منكم شيئا أجهله! وما جئت شيئا إلا وأنا أعرفه! ولكني منتني نفسي وكذبتني وضلَّ عني رشدي! ولقد سمعت رسول الله يقول‏‏ ‏"‏من زلَّ فليتب! ومن أخطأ فليتب! ولا يتمادى في التهلكة". فأنا أول من اتعظ! وأستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه‏.‏ فمثلي نزع وتاب‏.‏ فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم لئن ردني الحق عبدا لأستنن بسّنة العبد، ولأذلنَّ ذل العبد ولأكونن كالمرقوق إن ملك صبر، وإن عتق شكر!"‏‏[5].

إننا نقف أمام توبة لا مثيل لها في تاريخ السلطة. بل يمكننا القول، بأنها قد تكون الوحيدة التي ترتقي إلى مصاف التوبة المتسامية بما في ذلك من حيث الصيغة والوجدان والمنطق والبيان. وقد تكون هي العبارة الأجمل والوحيدة التي تحتوي على قدر من الإخلاص في دراما الخبث السلطوي الذي ذهب عثمان ضحيته. لكنها الأكثر شرا بسبب كونها جزء من "منظومة الغدر". مما جعل منها أداة أضافية في توسيع منظومة الفصام والفطام بين الدولة والسلطة في الخلافة. وهو بداية انهيارها المعنوي ‏وسقوطها الشرعي.

وليس اعتباطا أن ترقّ الأسماع والقلوب لخطبته المذكورة أعلاه. لكنها سرعان ما احترقت في أتون المؤامرة والمغامرة الأموية التي شقت لنفسها الطريق على يد عثمان بن عفان، بوصفه أداتها التاريخية الأولى. وكشفت بالتالي عن أن أكثر الصيغ إحكاما للتوبة النصوح قد تتحول إلى أكثرها إحكاما للفعل الفسوق! وإذا كانت كتب التاريخ عادة ما تربط ذلك بوسوسة مروان لعثمان، فإن الشيطان ليس مروان "الكبير" بل عثمان الصغير القابع في هرم السلطة!

لقد فّضل عثمان الاستماع إلى مروان عوضا عن الاستماع إلى كلام زوجته التي وجدت في عدم الالتزام بالتوبة المعلنة موته. وخاطبته بهذا الصدد قائلة:"لا ينبغي له أن ينزع منها". لكنه انحاز في نهاية المطاف إلى الفكرة السياسية التي دغدغت أعماقه الخاوية. فقد انطلق مروان في محاولته ثني عثمان عن توبته والرجوع عنها من أن مقالته مقبولة لو كان هو "ممتنع منيع". لكنها صدرت عن ضعف واشتداد الضغوط. ومن هذه المقدمة توصل إلى استنتاج يخرق الشرعية وينفي أبسط قواعد الالتزام الأخلاقي عندما قال له:"بأن إقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوَّف عليها". وقد أقنعت هذه المقارنة عثمان للحال بحيث سمح له بالخروج إلى الناس ومخاطبتهم بعبارة:"‏جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا؟! ارجعوا إلى منازلكم، فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا!‏"‏‏. وقد احتوت هذه النتيجة في أعماقها على معنى القطيعة، التي لم يقطعها آنذاك شيء غير الموت. فقد استاء منه علي بن أبي طالب اشد الاستياء بحيث وصفه بجمل الظعينة يقاد حيث يسار بها. وهدده بأنه سوف لن يعود له، وإنه إنسان بلا شرف فاقد الإرادة[6]. وعكست هذه النتيجة أيضا مستوى التصادم البليغ بين السلطة والدولة. إذ لا تعني الرغبة في امتلاك الدولة من جانب السلطة سوى محاولة ابتلاع ما لا قدرة لها على هضمه. فاللقمة أكبر من البطن، والإنسان ليس أفعى! وبغض النظر عن أن السلطة أفعى لكنها ليست وجودية بل معنوية. وحالما تلتهم كل ما في طريقها فإن فحيحها لا يطرب، وسمومها لا تجذب. والنتيجة هروب أو هجوم. وفي كلتا الحالتين قتل وموت! وبدأت ملامح هذه الحالة تظهر بصورة جلية لا تقبل الجدل والمراوغة. لأن كل منهما لا يفعل في الواقع إلا على تسريعها لا تأجيلها. فالتأجيل وهم. بينما كان سائدا في عائلة عثمان. أما تسريعها فقد كان التيار الجارف في سيل الاندفاع الحانق ضد الانتهاك السافر لأبسط مقومات الرؤية الإسلامية التي مازالت طرية في الذاكرة وأشخاصها الأوائل من صحابة وجاهليين.

أما فاعلية الطراوة الحية للذاكرة التاريخية والاستعداد لشم روائحها العطرة، فإنها عادة ما تظهر في أنفاس المقاتلين بعد دفن ضحاياهم. وهي التقدمة السياسية التي تمتع بها عثمان قبيل قتله. لهذا كان يمكن للذاكرة التاريخية للمسلمين الأوائل ألا تلتهب تجاه مطاردة ونفي الصحابة أمثال أبو ذر الغفاري، وتجاهل رعيل الصحابة الأول. وتحوّل هذا التجاهل في الأيام الأخيرة من حكم عثمان إلى شيء أقرب ما يكون إلى همجية الخيال المريض. وليس اعتباطا أن يكون عثمان في الأيام الأخيرة من حياته قبل المقاطعة والحصار والقتل، أقرب إلى ألعوبة. وكل دقائق فعله وما أراده وما لم يرده يشير إلى أنه كان فاقد الضمير والإرادة. لقد أعمته السلطة للدرجة التي جعلت من حبه جنونا بلا مواقف صحو فيها! وجعلت هذه الحالة من توظيف الوحي جزءا من سياسة الخطأ والخطيئة. وهو الشيء الذي نعثر عليه فيما يسمى بكتاب عثمان إلى أهل مكة! وهو العائش بينهم! وقد قرأه ابن عباس عوضا عنه. وفيه نعثر على ما أسميته بتوظيف الوحي، الذي جعل من السلطة محور وجود الدولة، باعتباره التشوه التاريخي الروحي الأول للخلافة. أما نص الكتاب فهو التالي:‏‏"‏بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى المؤمنين والمسلمين‏.‏ سلام عليكم‏.‏ فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو‏.‏ أما بعد، فإني أذكركم بالله عز وجل الذي أنعم عليكم، وعلمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، وأراكم البينات، وأوسع عليكم من الرزق، ونصركم على العدو، وأسبغ عليكم نعمته‏.‏ فإن الله عز وجل يقول وقوله الحق‏‏ (وإن تعدّوا نعمت الله لا تحصوها. إن الإنسان لظلوم كفار). وقال عز وجل (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون. واعتصموا بحبل الله جميعا). وقال وقوله الحق (يا أيها الذين آمنوا... واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا). وقال وقوله الحق (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). وقال وقوله الحق (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله).

أما بعد، فإن الله عز وجل رضي لكم السمع والطاعة والجماعة، وحذركم المعصية والفرقة والاختلاف، ونبَّأكم ما قد فعله الذين من قبلكم، وتقدم إليكم فيه ليكون له الحجة عليكم إن عصيتموه، فاقبلوا نصيحة الله عز وجل واحذروا عذابه، فإنكم لن تجدوا أمة هلكت إلا من بعد أن تختلف، إلا أن يكون لها رأس يجمعها، ومتى ما تفعلوا ذلك لا تقيموا الصلاة جميعا وسلط عليكم عدوكم ويستحل بعضكم حرم بعض، ومتى يفعل ذلك لا يقم لله سبحانه دين، وتكونوا شيعا. وقد قال الله لرسوله (إن الذين فرقوا في دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء. إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون). وإني أوصيكم بما أوصاكم الله، وأحذركم عذابه، فإن شعيبا قال لقومه (ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح).

أما بعد، فإن أقواما ممن كان يقول في هذا الحديث، أظهروا للناس إنما يدعون إلى كتاب الله والحق، ولا يريدون الدنيا ولا المنازعة فيها‏.‏ فلما عرض عليهم الحق إذا الناس في ذلك شتى، منهم آخذ للحق ونازع عنه حين يعطاه، ومنهم تارك للحق ونازل عنه في الأمر يريد أن يبتزه بغير الحق‏.‏ طال عليهم عمري، وراث عليهم أملهم إلا مرة فاستعجلوا القدر، وقد كتبوا إليكم أنهم قد رجعوا بالذي أعطيتهم، ولا أعلم أني تركت من الذي عاهدتهم عليه شيئا كانوا زعموا أنهم يطلبون الحدود فقلت‏:أقيموها على من علمتم تعداها‏.‏ أقيموها على من ظلمكم من قريب أو بعيد قالوا‏:‏كتاب الله يتلى‏.‏ فقلت‏:فليتله من تلاه غير غال فيه بغير ما أنزل الله في الكتاب، وقالوا‏:المحروم يرزق والمال يوفى ليستن فيه السنة الحسنة ولا يعتدى في الخمس، ولا في الصدقة، ويؤمر ذو القوة والأمانة، وتردّ مظالم الناس إلى أهلها فرضيت بذلك واصطبرت له وجئت نسوة رسول الله حتى كلمتهن فقلت‏:ما تأمرنني‏؟‏‏‏ فقلن‏:‏تؤمر عمرو بن العاص وعبد الله بن قيس، وتدع معاوية، فإنما أمَّره أمير قبلك فإنه مصلح لأرضه راض به جنده، واردد عمرا فإن جنده راضون به وأمره فليصلح أرضه فكل ذلك فعلت‏.‏ وأنه اعتدي علي بعد ذلك وعدا على الحق‏.‏

كتبت إليكم وأصحابي الذين زعموا في الأمر استعجلوا القدر، ومنعوا مني الصلاة، وحالوا بيني وبين الصلاة، وابتزوا مما قدروا عليه بالمدينة. كتبت إليكم كتابي هذا وهم يخبرونني إحدى ثلاث‏:إما يقيدونني بكل رجل أصبته خطأ أو صوابا غير متروك منه شيء، وإما أعتزل الأمر فيؤمرون آخر غيري، وإما يرسلون إلى من أطاعهم من الأجناد وأهل المدينة فيتبرؤون من الذي جعل الله لي عليهم من السمع والطاعة. أما إقادتي من نفسي فقد كان من قبلي خلفاء تخطئ وتصيب فلم يستقد من أحد منهم، وقد علمت إنما يريدون نفسي‏.‏ وأما أن أتبرأ من الإمارة فإن يكبلوني أحب إليَّ من أن أتبرأ من عمل الله وخلافته.‏

وأما قولكم يرسلون إلى الأجناد وأهل المدينة فيتبرؤون من طاعتي فلست عليكم بوكيل، ولم أكن استكرهتهم من قبل على السمع والطاعة‏.‏ ولكن أتوها طائعين يبتغون مرضاة الله، وإصلاح ذات البين‏.‏ ومن يكن منكم إنما يبتغي الدنيا فليس بنائل منها إلا ما كتب الله، ومن يكن إنما يريد وجه الله والدار الآخرة وصلاح الأمة وابتغاء مرضاة الله والسنة ‏الحسنة التي استنّ بها رسول الله والخليفتان من بعده، فإنما يجزي بذلكم الله‏.‏ وليس بيدي جزاؤكم ولو أعطيتكم الدنيا كلها لم يكن في ذلك ثمن لدينكم ولم يغن عنكم شيئا‏.‏ فاتقوا الله واحتسبوا ما عنده فمن يرضى بالنكث منكم فإني لا أرضاه له ولا يرضى الله أن تنكثوا عهده‏.‏ وأما الذي يخبرونني فإنما كله النزع والتأمير فملكت نفسي ومن معي ونظرت حكم الله وتغيير النعمة من الله وكرهت سنّة السوء وشقاق الأمة وسفك الدماء فإني أنشدكم بالله والإسلام ألا تأخذوا إلا الحق وتعطوه مني، وترك البغي على أهله وخذوا بيننا بالعدل كما أمركم الله، فإني أنشدكم الله الذي جعل عليكم العهد والمؤازرة في أمر الله فإن الله قال وقوله الحق (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا). فإن هذه معذرة إلى الله ولعلكم تذكرون.

أما بعد، فإني لا أبرئ نفسي! إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، إن ربي غفور رحيم‏.‏ وإن عاقبت أقواما فما أبتغي بذلك إلا الخير، وإني أتوب إلى الله من كل عمل عملته وأستغفره إنه لا يغفر الذنوب إلا هو‏.‏ إن رحمة ربي وسعت كل شيء إنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون، وإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون‏.‏ وأنا أسأل الله عز وجل أن يغفر لي ولكم وأن يؤلف قلوب هذه الأمة على الخير ويكرّه إليها الفسق"[7]‏.‏

إننا نعثر في هذه الرسالة على ذروة التطويع السياسي للوحي، بحيث تصبح الآية القرآنية خادما وضيعا للإرادة المبتورة برغبة الاحتفاظ بالسلطة. وتشبه إرادته وصيته التي لا تحتوي على أكثر من عبارات يرددها المسلمون بوصفها الصيغة القابعة في وعي ولا وعي الإيمان من انه "لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أن الله يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه‏.‏ وأن الله لا يخلف الميعاد". أما دفنه فقد كان هو الآخر فضيحة بمعايير السلطة والتاريخ والقيم الأخلاقية. فقد بقي ثلاثة أيام لم يدفن. بل وقعد بعض من المعارضين على قارعة الطريق يتربصون جثمانه بالحجارة. بل وحاول البعض حتى منع الصلاة عليه. ودفنوه غفلة قرب أحد حيطان المدينة يسمى حَش كوكب، بحيث حملوه على إحدى الأبواب لدفنه مسرعين لتلافي نظرات المتمردين بحيث كان رأسه يقرع الباب التي وضعوه عليها. ودفن في ثيابه بدمائه، لم يغسل[8]‏. ولم يقل فيه كلمة غير ابنته عائشة وزوجته نائلة! لكنها تبقى مجرد مأثرة لإخلاص النساء لا علاقة لها بعثمان. أنها خاتمة مهينة! لهذا لم يكن بإمكان أي شيء فيه أن يتحول إلى قيمة غير قميصه ليصبح راية الصراع السياسي المرير وبيرق الخبث والرذيلة والمغامرة من جانب القوى التي ناصبت فيما مضى محمدا العداء والاستهزاء، والرغبة في الاستيلاء على ميراثه الإمبراطوري الآن. وهي عملية أنتجت على قدر ما فيها من درامية واحتدام في صراع المصالح والقيم، أشباحها وأرواحها، أي مستبدين أشداء ومثقفين خلصاء.

***

 

ا. د. ميثم الجنانبي

.....................

[1] ‏‏الطبري: تاريخ الأمم والملوك ج 2،ص 645، ابن الأثير: الكامل في التاريخ ج 3،ص 44‏

[2] الطبري: تاريخ الأمم والملوك ج 2،ص645، ابن الأثير: الكامل في التاريخ ج 3،ص 44‏‏

[3] الطبري: تاريخ الأمم والملوك ج 2، ص653.

[4] الطبري: تاريخ الأمم والملوك ج 2، ص657، ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 3، ص54‏.

[5] الطبري: تاريخ الأمم والملوك ج 2، ص658، ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 3، 54‏.‏‏

[6] الطبري: تاريخ الأمم والملوك ج 2، ص660، ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 3، ص57.

[7] الطبري: تاريخ الأمم والملوك ج 2، ص685‏.

[8] الطبري: تاريخ الأمم والملوك ج 2، ص687، ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 3، ص69‏

 

 

في المثقف اليوم