دراسات وبحوث

شخصيات وأفكار وقيم من التراث: زياد بن أبيه

mutham aljanabi2ولد في عام أول للهجرة وتوفي عام 53 للهجرة. هو احد أكمل الشخصيات تمثلا وتمثيلا للأموية. وهي شخصية توسطت بكافة المعاني ما بين المغيرة بن شعبة والحجاج الثقفي. ومن ثم كان الحلقة الرابطة بينهما بوصفه الممثل "الشرعي" للأموية. وهي مفارقة تحتمل التعويض الشخصي للخلل أو العقدة الشخصية التي صنعت كينونته الفردية والسياسية. فقد كانت أمه بغيا (وليس مصادفة أن يدعوه أهل العراق بابن سمية مقابل عبارة زيادة بن أبيه). وبالتالي لم يكن اعتراف معاوية بن أبي سفيان به أخا سوى الوسيلة الضرورية لسحبه إلى جانب الوقوف ضد التيار العلوي. وهي حالة واقعية تعكس من حيث رمزيتها العقدة الأموية – السفيانية. بمعنى استقطاب كل الشخصيات القلقة والعصابية المزمنة وذوي الدهاء والمكر من اجل دمجها في آلة القمع والإرهاب. فقد كان زياد بن أبيه أيضا من دهاة العرب المسلمين. من هنا احتلاله موقع النموذج المتقدم للأموية. وإذا كانت إحدى فضائل أبو سفيان تقوم في اعترافه بزياد ابنا "شرعيا"، فإن هذا الاعتراف سرعان ما تحول بفعل ما في الأموية نفسها من رذيلة متجوهرة، إلى أداة لتأسيس نفسية وذهنية الخراب التاريخية الذي تعرضت له الدولة والأمة. وقد نفذ زياد بن أبيه كل المهمات التي أناطها معاوية إليه. وهو تنفيذ لم يكن معزولا عن مقدرات زياد بن أبي سفيان. فقد كان الرجل يتمتع بقدرة كبيرة على إدارة الحرب. كما كان يتمتع بالاستعداد المتشدد في حسم المواقف واستعمال كل الوسائل من اجل بلوغ الغاية. فقد تولى فارس وكرمان والبصرة زمن علي. غير أن اسمه وشخصيته، صعوده وهبوطه ارتبط بمعاوية. ولم ينقذه دهاءه من نهايته المخزية. فقد ولي العراق عام 48 وتوفي عام 53 للهجرة. وسواء كان ذلك بسبب إصابته بالطاعون أو قتل مسموما من جانب معاوية، فإنها تعكس ما دعته تقاليد العوام بشكوى الروح المعذبة أو النفس الماكرة للسلطة. وكلاهما يصبان في سيلان الذاكرة المتشددة في معارضتها لرذيلة زياد بن أبيه التاريخية. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن موته كان بأثر مواقفه المعارضة من فكرة توريث السلطة ليزيد بن معاوية. وسواء كانت مواقفه مبنية على أساس رغبته الشخصية بها (بعد إن جرى الاعتراف به أخا لمعاوية) أو لأنه وجد في يزيد شخصية خربة بحاجة إلى ترميم قبل تقديمها، فإننا نقف في كلتا الحالتين على حالة ابن زياد الفعلية بوصفه عبدا من عبيد السلطة وخدمها. وهي شخصية كان معاوية يدرك حيثياتها بصورة تامة. لهذا نراه يدعوه قبل التحضير لإعلان فكرته عن توريث السلطة ليزيد مع تعمد أهانته الشكلية أيضا. إذ تنقل كتب التاريخ كيف انه لم يستقبله أو يخصص له مكانا للجلوس. بل ووجه مضمون خطبته ضده عندما قال فيها:"هذه الخلافة أمر من أمور الله! وقضاء من قضاء الله. وإنها لا تكون لمنافق، ولا لمن صلى خلف إمام منافق (يقصد الإمام علي! ويشير إلى زياد). وهي فكرة تنزع من زياد بن أبيه كل عنجهية السلطة وأبهة الغرور التي كان يمارسها ضد الناس. والقضية هنا ليس في قبوله بفكرة أن الخلافة أمر من أمور الله وأنها جزء من القضاء والقدر، بمعنى إزالتها من إرادة البشر وحشرها بنوايا معاوية فقط! بل وبقبول أن يكون منافقا ذليلا أمام "علية" القوم! وهو الوجه الحقيقي لعبودية النفس المميزة لكل أزلام الأموية، التي يمكن العثور عليها فيما يسمى بخطبة البتراء. وهي خطبة تكشف بقدر واحد شخصية زياد بن أبيه وطبيعة الأموية، بوصفها خروجا تاما على فكرة الحق والقانون والشرعية، والاستعاضة عنها بالقوة والإرهاب والإرادة السلطوية المتحررة من كل القيم النبيلة، والقبول بالخنوع والاستسلام بوصفه سلاما وإسلاما ضروريا للروح والجسد، والدين والدنيا! وهي خطبة لا مكان فيها لغير الغريزة وامتهان الروح والعقل. كما تعكس بصورة نموذجية نفسية وذهنية زياد بن أبيه والفكرة الأموية في الموقف من الدولة والأمة والإنسان والأخلاق والسلوك والمصلحة والدين والدينا. ففيها نقرأ ما يلي:"فان الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء، والغي الموفى بأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، ينبت (يشب) فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير.. كأنكم لم تقرؤوا كتاب الله ولم تسمعوا ما اعد  الله من الثواب الكبير لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول. أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية ولا تذكرون إنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه، من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله. هذه المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر والعدد غير قليل. ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار. قربتم القرابة وباعدتم الدين. تعتذرون بغير العذر، وتغضون على المختلس. كل امرئ منكم يذب عن سفيه صنيع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادا. ما انتم بالحلماء. وقد اتبعتم السفهاء. فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونه حتى انتهكوا حرم الإسلام. ثم اطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب. حرام عليّ الطعام الشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقا... إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله. لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف. واني لأقسم بالله لأخذن الولي بالمولى، والقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منك في نفسه بالسقيم، حتى يلقي الرجل منكم أخاه فيقول:"انج سعد، فقد هلك سعيد، أو تستقيم قناتكم. إن كذبة المنبر بلقاء مشهورة. فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي. فإذا سمعتموها مني فاغتمزوها في. واعلموا أن عندي أمثالها. من نقب منكم عليه فانا ضامن له ما ذهب منه. فإياي ودلج الليل. فاني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه. وقد أجلتكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم. وإياي ودعوى الجاهلية فأنني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثا لم تكن. ولقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة. فمن غرّق قوما غرقناه، ومن احرق قوما أحرقناه، ومن نقب بيتا نقبا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفناه حيا فيه. فكفوا عني أيديكم وألسنتكم اكفف عنكم يدي ولساني. ولا تظهر من احد منكم ريبة بخلاف ما عليه عمامتكم إلا ضربت عنقه. وقد كانت بيني وبين أقوام إحن فجعلت ذلك دبر إذني وتحت قدمي. فمن كان منكم محسننا فليزدد إحسانا، ومن كن منكم مسيئا فلينزع عن إساءته. إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم اكشف له قناعا، ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته. فإذا فعل ذلك لم أناظره. فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم. فرب مبتئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس. أيها الناس! إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذاذة. نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا. ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا. فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا. فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا. واعلموا إنهما مهما قصرت عنه فلن اقصر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقا بليل، ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن إبانه، ولا مجمرا لكم بعثا. فادعوا الله بالصلاح لائمتكم. فإنهم ساستكم المؤدبون لكم، كهفكم الذي إليه تأوون. ومتى يصلحوا تصلحوا. ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم. ولا تدركوا له حاجتكم مع انه لو استجيب لكم فيهم لكان شرا لكم. اسأل الله أن يعين كلا على كل. وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فإنفذوه على إذلاله. وأيم الله أن لي فيكم لصرعى كثيرة. فليحذر كل منكم أن يكون من صرعاي".

وهي خطبة كلاسيكية لتأسيس فلسفة القهر والاستبداد، مهمتها تنفيذ ما دعاه معاوية بن أبي سفيان مرة بضرورة فطم أهل العراق في مواجهة السلطة وتحديها من جهة، وفطمهم من حب علي وآل بيته من جهة أخرى. وليس مصادفة أن زياد بن أبيه كان يجمع أهل العراق في المسجد ويعرض عليهم البراءة من علي بن أبي طالب! وهي السياسة التي تعكس مزاج الأشباح. من هنا تبخرها مع مرور الزمن. بحيث لم يبق بالعراق مكان لزياد بن أبيه غير  أسم ابن سمية بوصفه الاتهام والشماتة الأبدية لفقدان الشرعية والأخلاق.

***

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم