دراسات وبحوث

الأشباح والأرواح (23): بداية الدولة السياسية.. السلطة ومأساة الروح (1)

mutham aljanabi2إن للقدر لعبته مع الأفراد والأمم! فهو يدرجهما في حركة المصير والذاكرة. وذلك لأن قدر الأفراد والأمم على قدر مكانتهم في التاريخ والزمن، أي على قدر بقاءهم في سريان الروح ووعي الذات الثقافي، أو اضمحلالهم في الدهر البارد. ولا يشذ عن هذه الفكرة تقدير وتقرير المأثرة التاريخية للأفراد أو اللعنة الأبدية الممكنة في نسيان فاحش أو إدانة أفحش، بوصفها الخاتمة التي طبعت من حيث الجوهر حياة وممات عثمان بن عفان. فقد كانت حياته سلسلة متقطعة من زمن الانسياق البارد وراء ملذات عابرة، بينما كان مماته تفاهة اكبر ورذيلة تامة عندما يجري تقييمها على أساس موقعه في هرم السلطة الإمبراطورية الهائجة بتراثها الروحي المسكون بحب الاستشهاد من اجل القيم المتسامية. وليس مصادفة أن يتحول قميصه فقط إلى بيرق الصراع من اجل السلطة بالنسبة لأولئك الذين تغلغل في أعمق أعماقهم حب الجاه والمال. إذ لا شيء في عثمان كان يمكنه أن يغري العقل والضمير. لهذا اندثر في وقت لاحق بين "محبيه" و"كارهيه"، لأنه لم يكن شيئا. وقد كانت تلك من اعنف مفارقات التاريخ السايسي والروحي للخلافة العربية الإسلامية الأولى.

فقد كان عثمان من حيث النفسية والشخصية رخوا، ضعيفا، هشا، مسلوب الإرادة، محكوما بقوة الغريزة. تربع هرم الدولة الصاعدة في اشد مراحل اندفاعها وعنفوانها! ومن الممكن فهم سرّ هذه المفارقة على أنها جزء من مغامرة النفس الجاهلية القابعة في أعمق أعماق الأغلبية من صحابة العصر آنذاك، ومن اعتبر صكوك "التبشير بالجنة" وثيقة التحرر التام من الالتزام الأخلاقي. فقد كانت فكرة "المبشرين بالجنة" الوثيقة الأولية لإفساد الروح المعنوي. وذلك لما فيها من إمكانية متعارضة بين الإرادة والمصير. فقد كان المصير معلوما والإرادة مجهولة. بحيث جعلت هذه المعادلة المقلوبة من الممكن استثارة النفس الغضبية والشهوانية دون أي رادع أخلاقي، لأن الأفعال أيا كانت تصبح جزء من "حكمة الله" المضمونة بحسن الخاتمة الأبدية! وفي هذا يكمن سبب خاتمة عثمان المخزية. كما أنها النهاية التي تكشف عن أن قدر التاريخ الفعلي هو الوحيد الذي يتمتع بواقعية تتجاوز وتذلل كل الاعتبارات الأيديولوجية أيا كان مصدرها. لاسيما وأن ورع عثمان الكاذب وعوده الرخو ورياءه المتميز قد جعل من الأحكام والتصورات الأيديولوجية تطويعا سياسيا فجا للوحي القرآني. بحيث جعل من الآية القرآنية خادما وضيعا للإرادة المبتورة برغبة الاحتفاظ بالسلطة. لهذا كانت خاتمته الفردية مهينة في بداية مهيبة للدولة! وقد واجه الإمام علي بن أبي طالب هذه الحالة، وجعلت منه بمعنى ما ضحية هذه المفارقة الخشنة. إذ وضعته صفته المكتسبة الكبرى، بوصفه "خشنا في ذات الله" على محك التاريخ السياسي والروحي للدولة الجديدة. بمعنى وضع تماسكه الروحي الذاتي على محك التاريخ السياسي للدولة والأمة، مع ما ترتب عليه من مأساة كبرى جعلت منه أنموذجا للفكرة المتسامية وقيم المعنى والرؤية الأبدية.

فقد صنعت ثلاثية الفكرة الروحية وقيم المعنى ورؤية الأبد المتماسكة في شخصيته كينونته الواقعية والمجردة. وجعلت منه في الوقت نفسه الشخصية الأكثر تمثيلا لما يمكن دعوته بالممثل الفعلي للتاريخ الروحي (العربي والإسلامي). وفي هذا كان وما يزال يكمن بريقها الخاطف ومأساويتها المثيرة للعقل والضمير. وذلك لأن تحقيق هذه الوحدة المتماسكة لثلاثية الروح والمعنى والرؤية المتسامية في ميدان السياسة عادة ما يستثير كوامن الرذيلة المتأصلة في الجسد والغريزة البشرية. وبالأخص عند أولئك الذين تراكمت في جينات وعيهم ولاوعيهم الفردي والعائلي حب المال والجاه (السلطة). إذ حالما تصبح السياسة ميدان التحقيق الفعلي لثلاثية الروح والمعنى والرؤية المتسامية، فإنها تولد بالضرورة شرارة الوجد والوجود، والعقل والضمير، والظاهر والباطن. حيث أخذت هذه الشرارة بالتطاير في مجرى الصراع الضاري الذي استتبع مقتل أبن عفان، وانتهى باغتيال الإمام علي من جانب أولئك الذين كان هو نفسه يمثل الأبعاد غير المتناهية وغير المدركة فيما كانوا يسعون إليه. وجسّدت هذه الخاتمة مأساة الموت البطولي، بوصفه النتيجة المعكوسة لزمن النخر الخبيث للدولة والمجتمع والروح الذي جسدته العفانية[1]. فقد كانت العفانية عفونة قاتلة أعمت الجميع وشوهت أذواق النخبة السياسية، التي وجدت في رفع الجماهير المنتفضة للإمام علي إلى سدة الحكم حكما عليها بالموت! من هنا ثائرتها التي أخذت تثور في مختلف أصقاع الإمبراطورية الكبرى التي استحوذ عليها بقوة السيف والسلم والفكرة. وليس اعتباطا أن تظهر المواجهة الارستقراطية المباشرة بعد أول انتخاب فعلي له من جانب الأمة المنتفضة ضد القهر وانعدام العدالة الذي ميز خلافة ابن عفان. بمعنى إننا نقف أمام ظاهرة الصراع التاريخي الكبير بين اتجاهين، الأول وهو الاحتكام إلى قوة الرأي العام وموقف الأمة، والثاني المتمسك بغريزة القوة العارية وجنوح الارستقراطية للاستفراد والهيمنة. وهو صراع تاريخي كان يتراكم في كل مجرى الخلافة قبل استلام الإمام علي للحكم.

لقد كان هذا الصراع المتراكم أيضا خطوة هائلة إلى الأمام في المسار المعقد لوحدة الأمة السياسية، التي سيشاطرها علي بن أبي طالب نفسه في وقت لاحق. لكنه نظر إليها من خلال تصوراته عن حقائق الإسلام ومبادئه وقيمه وغاياته. فالصراعات الداخلية التي شكلت أسلوب نشوء الوحدة الجديدة أسهمت أيضا في إنتاج ثنائية اليقين والقلق، إي المكونات التي عادة ما يحدد مضامينها الحقيقية وتأثيرها المباشر في الفعل السياسي طبيعة وكيفية احتكاكها بما ندعوه الآن برؤية المهمات الملحة. فعندما استشاره الخليفة عمر بن الخطاب حول شخوصه بنفسه لقتال الفرس، فإن عليا أجابه بفكرة تربط في كلّ واحد اليقين بالأمة والقلق عليها. فقد كان ذا ثقة بقوة العرب بالإسلام وكثرتهم بالإيمان لكنه خوّفه من إمكانية الانتفاضة والردة من الأعراب في حالة خروجه من المدينة باعتباره رمز القوة السياسية. وعبّر عن ذلك بنصيحة سياسية دعاه عبرها بضرورة البقاء في المدينة والقيام منها بإدارة شؤون الحرب (السياسة الخارجية). وشدد في نصيحته على "أن العرب وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام وعزيزون بالاجتماع"[2]. وحذّره في الوقت نفسه من أن خروج الخليفة من المدينة قد يؤدي إلى أن تنتفض عليه العرب "من أطرافها وأقطارها"[3]. ولم يظهر هذا التحذير عن فراغ، إي انه كان يستلزم على الأقل وجود من هو قادر على الخروج والانتفاض وأسباب كامنة وراء ذلك.

وإذا كان من الصعب تحديد عمق وقوة الاحتجاج الاجتماعي المختبئ آنذاك في أعماق "الأعراب"، فإن مما لا شك فيه هو أن الفتوحات الإسلامية استقطبت أغلب طاقات الاحتجاج الداخلي وعدم الرضا، الذي لا يمكن القضاء عليه أو استنفاده الكلي في ظروف الدولة ومؤسساتها. فإذا كانت خلافة عمر بن الخطاب قد عمّقت قوة السياسة في الأمة وتثوير طاقاتها الاجتماعية وتوجيه جهودها نحو تأسيس الدولة المتماسكة، فإن التحذير الذي أطلقه الإمام علي يبدو كما لو أنه يحتوي على نزوع رمزي في رؤيته لملامح الانتقال المأساوية. لقد طلب من عمر بن الخطاب أن يكون قطباً يستدير بها رحى العرب. وفي الوقت الذي طالبه بالبقاء في المدينة، فإنه نفسه سينزع إلى مغادرتها في وقت لاحق. وإذا كان يرى في بقاء عمر بن الخطاب مصدرا للقوة، فإن مغادرته لها تبدو إنهاء لقيمة هذا المصدر. لكن هذه المقارنات الشاعرية تبقى من إبداع اللغة المعاصرة وتأملها المترفّع عما كان يجرى آنذاك. فقد كانت هذه المجريات آنذاك "غيبا" ينبغي خوض غماره من أجل رؤية فضائله ورذائله، عظمته وسخافته.

فقد كان الوجود الإسلامي آنذاك في طور التكوين الحكومي، الذي ألهم الجميع مشاعر الاعتزاز والتحدي. فالسلطة ذاتها أثارت شرارة المواجهة، ومن ثم أحرقت مشاعر المؤمنين في تأمل لهيبها. وبهذا المعنى فإن مواقف الإمام علي من السلطة، التي مثلت في كينونتها طبيعة التحولات الجارية، لم تكن مبنية بالضرورة على رؤية كل حيثيات الواقع ومجرياته. لقد كان بإمكان الردة السابقة وحركاتها التي أقلقت حياة أبي بكر، أن تثير في أعماقه شعور القلق السياسي تجاه يقينيات الأمة. وفي هذه العملية كان من الممكن أن تتحول الكثير من العقائد الإسلامية المختلفة إلى بديهيات سياسية.

فقد سلك الإمام علي في أحد مستويات نشاطه السياسي قبل صعوده لسدة الحكم، سلوك الوزير (المستشار)، الذي أثبط لحد ما عزيمته في الصعود للسلطة. بحيث نراه يرفض الخلافة عندما طالبه الجمهور بتقلدها بعد مقتل عثمان بن عفان. بل ونراه يفضل أن يكون لهم وزيرا من أن يكون أميرا. بينما قذفه الصراع الاجتماعي اللاحق إلى المقدمة بحيث جعله ممثل الجماهير المنتفضة ضد السلطة. فقد خاطب عثمان مرة قائلا:"إن الناس ورائي وقد استفسروني بينك وبينهم ...فالله الله في نفسك. فإنك والله ما تبصر من عمى ولا تعلم من جهل. وإن الطرق لواضحة، وإن أعلام الدين لقائمة"[4]. وتكشف هذه العبارة عن طبيعة الصراع الاجتماعي وتناقضاته. وفيها نعثر على تصوير للواقع وتعبير عنه، لم يكن مقتل عثمان بن عفان سوى نهايته الخجولة وبدايته الصريحة. وهو صراع واقعي عبّر عنه بكلمات مقتضبة عميقة المغزى عندما صور ملامحه بصيغة بلاغية قائلا:"أقبل مزبدا كالتيار لا يبالي ما غرّق، أو كوقع النار في الهشيم لا يجفل بما حرّق"[5]. غير أن الصراع ليس قوة مغتربة. وقد أدرك علي أسبابه بوضوح متزايد مع تنوع وتعمق تجربته السياسية والأخلاقية. فالمسلمون الأوائل، كما يقول علي، كانوا يقاتلون مع النبي بغض النظر عن أن القتل يختطف الآباء والأبناء والأخوات والقرابات، بمعنى جريانه على أساس العقيدة الحقة. ولم يفعل ذلك سوى أن يزيدهم بعد كل مصيبة على إيمانهم ومضيهم على الحق تسليماً للأمر وصبراً على مضض الجراح"[6]. أما الآن فإن البحث عن القلوب "التي وهبت لله وتوقدت على طاعته" أصبح في صياغة التمني (المتعجب). مما استثار فيه شعور التألم الأخلاقي الفعال، وبالتالي رؤية الواقع بعيون الرؤية المتسامية.

ذلك يعني أنه أخذ ينظر إلى الواقع من زاوية الحساسية المرهفة لتجمير شعلتها الدائمة. فعندما استفسرت أعماقه بصوت مسموع في إحدى خطبه:"أين العقول المستصحبة بمصابيح الهدى، والأبصار اللامحة إلى منار التقوى، والقلوب التي وهبت لله وتوقدت إلى طاعته؟" فإنه لم ينف وجودها بقدر ما أنه أرادها دائمة الفعل. ومن غير الدقة اتهامه بالقفز على الواقع. فبغض النظر عن البدايات المميزة للحركات العقائدية الكبرى ومحاولاتها تأسيس آلية "الوحدة والحق" والتضحية من أجلها بالغالي والثمين، فإن هذه الخميرة الجوهرية تنحل بالضرورة حال تحولها من بؤرة الروح إلي ميدان السياسة. وهو تحول عادة ما يقلب العالم ويعيد صنعه على مثال مكوناتها. وذلك لأنها لا تعمل في الواقع إلا على صنع واقعٍ له مقدماته التي لا تحددها بالضرورة متطلبات الفكر وأهدافه المعلنة.

ومن الصعب حصر هذه العملية في إطار ما محدد وتعيين نتائجها الملازمة بالضرورة. فالقضية هنا لا تقوم في تتبع كل جوانب وخصوصية هذه العملية التي أدت إلى ما آلت إليه من نتائج في المرحلة السابقة لخلافة الإمام علي، بل من أجل الإشارة إلى الطبيعة العامة للمتغيرات الاجتماعية الأخلاقية والسياسية وانعكاسها في رؤيته لها. فقد تبينت له طبيعة التباين الجوهري بين صراع الماضي والحاضر. فإذا كان الصراع السابق يستند إلى العقيدة والحق، فإن الواقع المعاصر يشير إلى توجه معاكس بحيث أصبح من الصعب رؤية الشخصيات التي تضع نصب أعينها هدف الحق المطلق، أو حسب عبارته، "تلك القلوب التي وهبت نفسها لله". وإن هذا التعجب ليبدو حزيناً بفعل تأسفه المرير، الذي يستثيره "ازدحام الناس على الحطام"[7]، أي المصالح الدنيوية العابرة!

فالمستقبل الذي بشر به الإسلام والقرآن بيقين قاطع، لم يعد يمتلك سحره الغابر. فآية الصافات القائلة، (لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين وإن جندنا لهم الغالبون) أخذت تفسح المجال للتنبؤات المشحونة بتخوف الزمن الآتي، الذي سوف لن يكون به "شيئاً أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل"[8]، "الزمان الذي لن تكون فيه" سلعة أبور من الكتاب (القرآن) إذا تلي حق تلاوته ولا أنفق منه إذا حرّف عن مواضعه"[9]. وبغض النظر عن إمكانية انتحال أو وضع هذه العبارات وأمثالها على لسانه، إلا أن مضمونها يتوافق مع آرائه العامة ومثله الحياتية العملية. إضافة إلى أن ممارسة التنبؤ الإسلامية لم تكن سحرية الطابع ولا أسطورية المعنى. فقد عاش علي بن أبي طالب في تلك المرحلة التي كشفت بوضوح كيفية "تحريف مواضع الكتاب". بصيغة أخرى، أن القضية لا تقوم فقط في أن هذا التنبؤ يستند إلى تقاليد عربية وواقعية، بل ولأن معطيات الصراع التاريخية لتلك المرحلة تكشف عن واقع تحول القرآن أحياناً إلى غطاء، وفي حالات أخرى إلى وسيلة للمكر السافر، كما جرى معه في معارك صفين.

لقد تحولت الآيات القرآنية إلى بديهيات سياسية. لكن مفارقتها تقوم في أنها بديهيات ينبغي أن تخدم مصالح القوى المتعارضة. مما أدى، كما يقول الإمام علي، إلى أن تصبح الناس "أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم"[10]، وبالتالي تحويل الآيات القرآنية إلى جزء من البديهيات السياسية قبل أن ترتقي مفاهيم القرآن إلى هذه الحالة. ذلك يعني أن المصدر الأساسي للأيديولوجيات الإسلامية أصبح منبوذا من قبل حملته، منسيا من حفظته السالفين! ووراء كل ذلك تقف قوة الثروة التي رافقت نشوء الدولة وتطورها. وإذا كان علي قد حدس سرّ الدرهم وقوته، التي أصبحت معها ضربة السيف على المؤمن هينة الوقع[11]، فإنه لم ير في كل هذه العملية سوى تراجع إلى الوراء ونكوص عن المبادئ والقيم وتثليم "حصن الله بأحكام الجاهلية" الجديدة[12].

فالانقلاب الذي أحدثه الإسلام في حياة العرب مازال قائما، لكن أسسه الروحية آخذة في التسوس. وكل ما حوله يشير إلى الانحلال والتعبير عن انحراف مناف للخير الإلهي. ففي كل مكان، كما يقول في إحدى كلماته "لم يعد يوجد إلا فقيرا يكابد فقرا أو غنيا بدّل النعمة كفرا، أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا، أو متمردا كأن بأذانه عن سمع المواعظ وقرا"[13]. فالعالم الجديد الذي صنعه تيار الإسلام الجارف أفرز في غضون عقود قليلة من صيرورة الخلافة (الدولة) وسلطاتها "أشباحاً بلا أرواح ونساكاً بلا صلاح"[14] بل أن نشاط الناس ليبدو عبثاً، أو حسب عبارته، كتجارة بلا أرباح. فالناس نوّم في يقظتهم، عمي في نظراتهم، وفي نطقهم بكم، تائهة ضحية المذاهب والمشارب. ولم يعن ذلك وقوفه بالضد من التنوع والتباين بقدر ما أنه وجد في هذا الانهماك المتهالك وراء الخلافات تباين المصالح الدنيوية لا مصالح الحق.

ولعل أعمق عبارة صوّر بها هذا الواقع الجديد وانسلاخ الإسلام التاريخي عن فاعليته السابقة بوصفه دين الحركة الاجتماعية الصاعدة وأيديولوجيتها، هي كلماته التي وصف بها حال الإسلام المعاصر له بعبارة "لبس الإسلام لبس الفرو مقلوباً[15]. ومن الصعب القول بان علياً قد وعي كل جوانب ما ندعوه الآن بالعملية التاريخية لصيرورة الدولة، لكنه تحسس وقاوم الاتجاه الصلد في تطور مكوناتها التي أخذت تهشّم الوحدة القديمة لتنشأ على أشلائها وحدة جديدة. لكنها وحدة لم يعد الإسلام فيها قوة تلقائية، بل قوة مؤدلجة وتراثاً يمكن التلاعب به وتطويعه بالصيغة التي يخدم فيها مصالح القوى المتحاربة.

ولا يعني ذلك بأن علياً سعى لمعارضة هذه العملية في تكون الدولة ومؤسساتها. فهو شأن كل رجال المبدأ الكبار وإصلاحيي الروح الأخلاقي العظام كان لابد وأن تضطرب في أعماقه هواجس قوى المعارضة المتسامية للنفس الغضبية (المتسلطة). وبهذا المعنى كان لابد له من أن يفترض في أي موقف ايجابي من السلطة نزع سلطويتها. لكن هذا التعارض الفعلي بين المسار الواقعي لصيرورة الدولة وبين مضامينها العملية التي سعى لتنفيذ برنامجه من خلالها، كان لابد وأن يضع ويثّور معضلات تشكل في حصيلتها الموشور المتشنج لرؤية الماضي والآفاق، وتقييم التجربة الدائمة. وفي الحالة المعنية، كان موقفه المعارض للاتجاه الصلد في تهشيم الوحدة الروحية القديمة باعتبارها المثال الأعلى لحقيقة السلطة، لم يعن تهاونا أو تهادنا أو هجوما ضد بنائها الجديد، بقدر ما كان يعادل سعيه لتمتين وحدتها الداخلية من خلال الرجوع الدائم إلى يقينها الأول.

بعبارة أخرى، لم تكن معارضته سوى المظهر الأنبل لحقيقة الدولة ومؤسساتها. وهو أمر جلي سواء في حياته قبل استلامه السلطة وبعدها. بحيث يمكن رؤية بعض ملامحها في الاتهامات التي وجهت إليه قبل صعوده لسدة الخلافة، بما في ذلك المنسوب منها للخليفة عمر بن الخطاب، التي انتقد فيها ما أسماه بحبه للسلطة ورغبته فيها. وهو انتقاد لا أصالة فيه ولا إخلاص للحق والحقيقة. لكنه ممكن ومحتمل بمعايير الصراع السياسي والرغبة الدفينة في الريادة والسيادة التي كانت تطبع نفسية عمر بن الخطاب نفسه. من هنا يمكن النظر إلى سعي الإمام علي للسلطة، مع ما في هذه العبارة من تجاوز على حقيقة ما كان يعتمل فيه، هو سعي الروح المبدئي وهمومه المتحرقة تجاه إشكاليات الأمة والدولة والحق. فالإمام علي لم يكن رجل السلطة، بل رجل الدولة، ورجل السلطة الإنساني في أدق وأعمق وأجلى معانيها الروحية. وذلك لأن همومه الكبرى كما سيكشف عنها تاريخ الصراع العنيف اللاحق، كانت هموم الإصلاح النوعي للدولة والقانون والروح الأخلاقي العام والخاص. الأمر الذي يفسر سرّ رجوعه المتحمس إلى التجربة المحمدية وإبراز أولوية العمل بها. ولم يكن ذلك معزولا أيضا عن نضوج الصراع السياسي وتحوله إلى صراع مكشوف وعلني لا مواربة فيه ولا رياء. وليس مصادفة أن يؤكد في وصيته لعبد الله بن العباس في محاججته للخوارج على ألا يحاججهم بالقرآن لأنه حمّال أوجه (أي يحمل معاني كثيرة)، بل ماججتهم بالسّنة[16].

إن احتلال العمل مركز الصدارة لم يعن من الناحية التاريخية، سوى كونه المقدمة الضرورية للتطور الاجتماعي السياسي والفكري اللاحق. فقد أحدث انتصار الإسلام انعطافا حاسما في الحياة الاجتماعية والروحية للعرب آنذاك. لكنه شأن كل انتصار سياسي فكري تاريخي كان لابد له من أن يتجزأ ويعيد صياغة نفسه. فتوحيدية الإسلام لم تعق اختلاف الآراء وتنافرها. لقد وفّرت غطاء، وكانت لحد ما مصدرا للمواقف المتباينة تجاه كل ما يجري. وذلك لأن القوة الفاعلة في تحديد المواقف كانت محكومة بالتوجه الاجتماعي للقوى المتصارعة. فالممارسة الاجتماعية السياسية لم تكن آنذاك عميقة للدرجة التي يصبح معها صراع الأفكار قضية أولى، أو أن يندفع فيها هذا الصراع إلى المقدمة باعتباره التعبير المثالي والانعكاس الروحي لأحداث العالم. ومع ذلك ظل الفعل والعمل معيارا نهائيا سواء وعت ذلك القوى المتصارعة أم لم تعيه.

فالسّنة النبوية هي أيضا التعبير العملي النظري عما جرى، والذي بإمكانه أن يكون مثالا (واجبا) لما يجري. فالكلمة تمتلك إمكانية التأويل المتباين بما في ذلك كلمات القرآن. بينما الفعل - الحدث له حكمه القاطع. وفي هذا يكمن سبب توكيد الإمام علي بن أبي طالب على أن تكون السّنة حجيج ابن عباس ضد خصومه. ثم أن السّنة رمز الوحدة في الممارسة. ففي مراحل الصراع الاجتماعي الحاد يصبح الفعل مضمون الكلمة. وإذا كان بإمكان الكلمة أن تكون مصدر خلاف بين ممثلي المعسكر الاجتماعي الواحد، فإن الفعل لا يمكنه أن يؤدي في حالة الاختلاف عليه سوى إلى تجزئة المواقف، ثم الميول والاتجاهات، وفي نهاية المطاف سيحتدم الصراع بوصفه صراعاً لا مهادنة فيه. فالممارسة هي الوحيدة القادرة على أن تكون معيار الحقيقة المطلقة زمن الصراع الذي لا مساومة فيه ولا هوادة. أنها تكشف عن توجه القوى الاجتماعية. وفي هذا الواقع، لم يكن بإمكان الإمام علي تجنب تأثير عملية التفكك والتآلف الجديدة في المجتمع العربي الإسلامي.

***

 

ا. د. ميثم الجنابي – مفكر وباحث عراقي

......................

[1] المقصود بالعفانية نسبة إلى عثمان بن عفان. وكان الأولى قول العثمانية. ولكي لا يجري الخلط بينها وبين العثمانية (التركية) من هنا جرى نحت هذا المصطلح. وكونها أموية أولية ينبع من كونها هي التي غرست بذور النزعة الأموية وعقدها في الموقف من الدولة والأمة والسلطة والإنسان والقيم والحقوق. ومن الممكن القول، بان العانية هي جنين الأموية. أما بمقاييس التاريخ والروح والعقل والسياسة وفكرة الدولة، فإنها كانت خروجا على منطق الحق والعدالة والنزعة الإنسانية.

[2] علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج2، ص29.

[3] علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج2، ص29.

[4] علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج2، ص69

[5] علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج2، ص27-28.

[6] علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج1، ص236.

[7] علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج2، ص28.

[8] علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج2، ص30

[9] علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج2، ص31.

[10] علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج2، 126.

[11] علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج2، ص126

[12] علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج2، ص154.

[13] علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، 2، ص11-12.

[14] علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج1، ص207.

[15] علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج1، ص209.

[16] علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج3، ص136.

 

 

في المثقف اليوم