دراسات وبحوث

علي صغير: سؤال العقل والأخلاق في الفلسفة الإغريقيَّة القديمة

لَعَلَّنَا لا نبتعد من جادة الصَّواب إنْ قلنا إنَّ تاريخ الحضارة الإنسانيَّة تَرَافَقَ، تقليديًّا، مع تقييمها الأخلاقيّ انطلاقًا من القناعة القائلة بسيادة الأخلاق وأولويَّتها بصفتها المعيار الأعلى الَّذِي ينبغي أنْ تتقولب وَفْقًا لمنطوقه جميع علاقات البشر ونشاطاتهم. وقد عنى ذلك ألاَّ يُسَلَّم بشرعيَّة ومصداقيَّة أيِّ شيء يخالف المنظور الأخلاقيّ ويتعارض معه. ويستوي هنا الفلاسفة القائلون بوجود تعارض أصليّ وتَنَاسُب عكسيّ بين الحضارة والأخلاق، وأولئك الفلاسفة القائلون بالتَّلازم الجدليّ والتَّناسُب الطَّرديّ بين النِّصَابين. فكلا الطَّرفين لم يُخْضِعا للشَّكِّ مشروعيَّة النَّظرة الأخلاقيَّة إلى العالم وجدواها. لكن، يبدو أنَّ عالمنا اليوم يشهد تَحَوُّلاً حادًّا من النَّقد الأخلاقيّ للحضارة إلى النَّقد الحضاريّ للأخلاق والحَطِّ من أهمِّيَّتها وجلال قَدْرِها، وذلك على المستويين: النَّظريّ-الفلسفيّ؛ والعمليّ-الاجتماعيّ. ومؤشرات هذا الانقلاب كثيرة لا تخفى على عين الباحث في شؤون الحضارة والفكر المعاصرَين. فعلى المستوى الأوَّل ثَمَّة شيوع متزايد للرَّأي القائل بأنَّ ليس ثَمَّة ما يُبَرِّر للأخلاق تطلعاتها الكونيَّة ومطامحها الشُّموليَّة. فهي، وَفْقًا لهذا الرَّأي، ليست إلاَّ واحدة من أبعاد الحياة الاجتماعيَّة إلى جانب غيرها من الأبعاد الحقوقيَّة-القانونيَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّة والدِّينيَّة، ومن ثُمَّ، لا فَضْلَ ولا امتياز لها على سواها. والأدهى من ذلك هو لامبالاة الفكر العلميّ والفلسفيّ المعاصر بالأخلاق وانتقاصه من أهمِّيَّتها بحيث صارت المقاربات والمبادئ الأخلاقيَّة إمَّا مدعاةً للاستهزاء والتَّسفيه، أو، على الأقَلِّ، شأنًا غير عقلانيّ على ما تزعمه الفلسفة الوضعيَّة وغيرها من التَّيارات الفكريَّة المعاصرة. واللافت أيضًا على هذا المستوى هو اختزال معايير التَّطَوُّر الحضاريّ وحصرها بالإنجازات العلميَّة والتِّقنيَّة والتَّرف الماديّ مع تجاهل تامٍّ للمسألة الأهم وهي نوع العلاقة بين البشر. وعلى المستوى العمليّ-الاجتماعيّ، فإنَّنا نلاحظ أنَّ الشَّخصيَّة الشَّاذة والمنبوذة اليوم هي تلك الشَّخصيَّة الَّتِي تُقيم وزنًا للمبادئ الأخلاقيَّة قولاً وعملاً، لا تلك الشَّخصيَّة الَّتِي تُنكر أهمِّيَّتها وتدوس عليها بنعالها. ليس الرَّذيلة في أيَّامِنا عَجَبًا، بل الفضيلة فيها أعجَبُ العَجَبِ.

لكن، ينبغي القول إنَّ النَّزعة الفكريَّة والعمليَّة المعاصرة الَّتِي تلقي ظلالاً من الشَّكِّ على الدَّور الحاسم للبُعد الأخلاقيّ في الوجود الإنسانيّ ليست عرضيَّة ولا هي وليدة اللَّحظة الرَّاهنة. فهي تضرب جذورها عميقًا في واقع التَّاريخ البشريّ وتقاليده الثَّقافيَّة. ولَمَّا كان التَّاريخ هو المفتاح لفهم ذواتنا وحاضرنا، كما يقال عادًة، كانت العودة إلى الفلسفة الإغريقيَّة، في السِّياق الَّذِي يعنينا، أمرًا لا غنى عنه، وذلك لأنَّ هذه الفلسفة بالذَّات كانت الأم المولِّدة والحاضنة والمرضعة لفكرة قدسيَّة العقل وعُلُوِّهِ المُطْلَق، وأولويَّة الحقيقة العلميَّة على القيمة الأخلاقيَّة. وللإبانة عن ذلك لا بدَّ من الكلام على الكيفيَّة الَّتِي تناولت بها الفلسفة المذكورة مسألة العلاقة المتبادلة بين العقل والأخلاق.

دَأَبَ الفكر الفلسفي منذ الإغريق على التَّأكيد أنَّ العقل هو جوهر الإنسان وميزته بما هو إنسان كما يَدُلُّ على ذلك التَّعريف الشَّائع للإنسان باعتباره كائنًا عاقلاً أو حيوانًا ناطقًا. وقصد الفلاسفة بذلك قدرة الإنسان، بخلاف باقي الكائنات، على إدراك ذاته وإدراك العالم وحقيقة الموجودات من جهة، وتتويج العقل مرجعًا أعلى  للبتِّ في جميع المسائل الخلافيَّة الملازمة للحياة الإنسانيَّة، من جهة أُخرى. أمَّا سِرُّ امتياز العقل  وسحره، إنَّمَا يعود إلى كونه يعرف كثيرًا ويرى بعيدًا بما يكفي تمامًا لإصدار أحكام سديدة وإتخاذ قرارات مستقلة ومسؤولة ورشيدة. ناهيك بكونه الجوهر الَّذِي يرقُّ به الإنسان ويرقى، يخلد ويسعد. والحال أنَّه ما كان لهذا الإطراء الرَّفيع الَّذِي حَظِيَ به العقل إلاَّ أنْ يزيده غرورًا يُغَذِّي مطامحه "الإمبرياليَّة" إلى الاستئثار بالحقِّ المطلق في كتابة فصل المقال في شأن كُلِّ أمْرٍ وإشكال. وبالفعل، لم يتلكأ العقل في المبادرة إلى نشر سلطانه وفرض وصايته على الميادين كافة، بما فيها الفضاء الأخلاقيّ، من دون منازع أو حسيب أو رقيب. وسرعان ما بدأت هذه المطامح بالتَّطاول على حقوق وصلاحيَّات مَلَكَة إنسانيَّة أُخرى ألا وهي الأخلاق الَّتِي عدَّها النَّاس المَثَل والمثال والكنز الَّذِي لا تضاهيه قِيْمًة دُرر الكون وإنْ اجتمعت. وأيًّا كان تعريفنا للأخلاق، فإنَّها، بلا ريب، لا تُختَزَل بالمعرفة وحدَها، ولا هي مُلْزَمة بالسَّير على هُداها وتَرَسُّم خطى مناهجها. إذ إنَّ للأخلاق اعتباراتِها الخاصَّة الَّتِي قد لا تتطابق بالضَّرورة مع المعرفة. ولئن كانت الأخلاق على صلة وطيدة بالعقل، فإنَّها ليست متجذِّرة في العقل وحده. فالأخير لا يستغرقها استغراقًا تامًّا ولا يستنفد عين حقيقتها. فالأحكام الصَّحيحة والصَّادقة لا تُتَرْجَم بالضَّرورة إلى أفعالٍ فاضلة ومحمودة. فلكم رأى البشر الخير ونظموا فيه مدائح شعريَّة ونثريَّة، لكنهم آثروا السَّير على دروب الرَّذيلة والرَّقص على أنغام مواجيدها. وهذه حقيقة عبَّر عنها الشَّاعر الرُّومانيّ القديم أوفيديوس (43ق.م -17م) بقوله: "أرى الخير وأثني عليه، لكني أهوى المفاسد"(1). وإلى المعنى نفسه ذهب رائد العقلانيَّة والتَّنوير في الحضارة العربيَّة-الإسلاميَّة الوسيطة أبو العلاء المعرِّي (973م-1057م) بقوله: "نهاني عقلي عن أمور كثيرة وطبعي إليها بالغريزة جاذبي"(2).

لم يعد خافيًا أنَّ المنافسة بين العقل والأخلاق على اعتلاء عرش القِيَم الإنسانيَّة الملكي جرى حسمه لمصلحة العقل عبر ما يُسَمَّى بمسألة تأسيس الأخلاق. ذلك أنًّ التَّأسيس أو التَّسويغ هو شأن عقليّ بامتياز. فالكلام على تأسيس الأخلاق يتضمن في ثناياه بصورة مُضمَرة إقرارًا بأنَّ الأخلاق مُلْزَمَة بتبرير ذاتها أمام محكمة العقل، وأنْ تحصل منه على حقِّ المواطَنة الوجوديَّة، ناهيك بكونه يتضمَّن اعترافًا مُسْبَقًا باستواء العقل النَّظريّ (القُوَّة العالمة) على سُدَّةِ الرِّئاسة حَتَّى قبل أنْ يُثبت أحَقِّيته بها وأهليَّته لها. إذ كان بالإمكان الكلام على التَّأسيس الأخلاقيّ للمعرفة ومشروعيَّة العقل الأخلاقيَّة عوضًا عن الكلام على التَّأسيس العقلانيّ للأخلاق. ولكانت هذه المقاربة، من دون أدنى شَكٍّ، قد أفضت إلى نتائج مغايرة تمامًا. إلاَّ أنَّ ذلك لم يحصل. فما حدث هو إمعان الفلسفة الإغريقيَّة في تأليه العقل إلى حدٍّ أمْسَت به الأخلاقُ امتدادًا للمعرفة، وسيلًة لا غاية. فهي، في الحقيقة، ما زانت الأخلاقَ بالعقلِ، لكنها زانت العقلَ بالأخلاقِ.

وكما هو معلوم، فقد كان السوفسطائيون أوَّلَ القائلين بجبروت المعرفة ودهاء العقل، وأشَدَّ الموقنين بقدرته السِّحريَّة على تبرير كل مصلحة وقضية. فهو، في اعتقادهم، السُّلطان الَّذِي لا يُقهر والسَّيف الَّذِي لا يُكسَر. وكانوا أيضًا رواد المذهب النِّسبيّ في الأخلاق وحَمَلَة رايته. وعلى الرَّغْمِ من صحَّة ما يقال عن أنَّ السوفسطائيين لم يوهنوا عقولهم في دراسة الطَّبيعة والتَّنقيب عن الأصل أو المبدأ الأوَّل الَّذِي صدرت عنه الأشياء، إلاَّ أنَّ نسبيَّتهم الأخلاقيَّة إنَّمَا نهضت على مصادرتين اثنتين: واحدة أنطولوجيَّة والأُخرى غنوصيولوجيَّة. وتنصُّ الأولى على أنَّ الصِّفة الجوهريَّة للمادة هي التَّغيُّر والسَّيلان. فالذَّات والموضوع في تغيُّر دائم. لذا، من المستحيل استحمام الشَّخص الواحد نفسه في النَّهر الواحد ذاته في الوقت عينه حَتَّى مَرَّة واحدة. فلا شيء يوجد بحد ذاته ولا قوام له بذاته. والكل يوجد وينشأ فقط في علاقته بالآخر، ولا شيء يتغير اعتباطًا، إنَّمَا يحتوي كل شيء في ذاته على ضِدِّهِ. أمَّا المصادرة الغنوصيولوجيَّة فتؤكِّد أنَّ ما من مسألة إلاَّ وهي ساحة تباينات وبيانات متضاربة، وأنَّ الحقيقة نسبيَّة متحوِّلة. فما هو صواب هنا قد لا يكون كذلك هناك وبالعكس، بل قُلْ لا يوجد خطأ وصواب إطلاقًا. وقد أدَّى إسقاط السوفسطائيين هاتين المصادرتين على مجال الأخلاق إلى القول بالطَّابع النِّسبيّ-الذَّاتانيّ للخير والشَّرِّ، للفضيلة والرَّذيلة. كما أنَّه لا وجود لِبَرْدٍ وحَرٍّ موضوعيَّين، فكذلك لا وجود لخير وشرٍّ موضوعيَّين ولا حَتَّى لفوارق موضوعيَّة بينهما. فما هو خير للبعض يمكن أنْ يكون شَرًّا للبعض الآخر، والعكس صحيح. علاوة على ذلك، فما قد يبدو حَتَّى للإنسان الواحد عينه خيرًا في حين من الأحيان قد يبدو له شَرًّا مستطيرًا في أحيان أُخرى. فالأفعال والأشياء والعلاقات تستحيل خيرًا أو شَرًّا حسب الأشخاص، وتبعًا للهوى ومقتضيات الظَّرْف والمصلحة. بَيْدَ أنَّ هذا الإسقاط لثابتة التَّغيُّر والسَّيلان الكونيّ الدَّائمين على الميدان الاجتماعيّ والأخلاقيّ ليس المقصود به أنَّ الإنسان مجرد امتداد بسيط للطبيعة أو نُسْخَة مصغرة عنها، وأنَّ الأخيرة تحدِّد قِيَمه واتِّجاهات حياته، إنَّمَا المقصود به فقط هو القول إنَّ الطَّبيعة أوَّل وتتقدَّم على الإنسان بالطَّبع والسَّبب، لكن الإنسان أوْلَى ومتقدِّم عليها بالمرتبة والشَّرف. وذلك مردَّه إلى ما يمتاز به الإنسان من عقل ومن تحرُّك بالإرادة وفعل بالرَّويَّة والاختيار. هذا هو بيت القصيد في مقولة بروتاغورس الشَّهيرة: "الإنسان مقياس الأشياء كلها الموجودة بما هي موجودة وغير الموجودة بما هي غير موجودة"(3). والحال، إنَّ هذه المقولة لم تقلب اتِّجاه بوصلة النَّظر الفلسفيّ من الطَّبيعة إلى الوجود الاجتماعيّ للإنسان، ومن الموضوع إلى الذَّات فحسب، بل رفعت الإنسان إلى مقام خالق القِيَم وبؤرة المعنى وسَيِّد الوجود والعدم أيضًا. فلا تُعقل قِيمَة أو حقيقة من غير الإنسان. فالحقائق والقِيَم هي فقط بالإنسان وله وبالإضافة إليه وحده. فهي توجد بوجوده وتنعدم بانعدامه. ومآل ذلك أنَّ الإنسان لا يستمد قيمته من الأشياء، بل هو من يفرض حقيقته عليها.

وفي عصر الدِّيمقراطيَّة الأثينيَّة المباشرة الَّذِي اتَّسم بفسحة شاسعة  من الحُرِّيَّة الفكريَّة سمحت بتعدُّد المذاهب وتنوُّع المشارب كان من البديهيّ ظهور من يُدْلِي بِدَلْوِهِ بين الدِّلاء ويجادل السوفسطائيين في ما نطقوا به من آراء(4). وفي طليعة هؤلاء سطع نجم سقراط الَّذِي تصدَّر حملة النَّقد الفلسفيّ لأطروحات السوفسطائيين الأخلاقيَّة من دون أنْ يعني ذلك إحداث قطيعة معرفيَّة تامَّة معهم. فالفريقان يلتقيان على عناوين عدة من أبرزها الاعتقاد الرَّاسخ ببراعة العقل وقُوَّة المعرفة، والقول بأنَّ المسألة الأساسيَّة والأهم بالنسبة إلى الفلسفة هي مسألة الإنسان نَفْسَهُ. بَيْدَ أنَّ تشابه العناوين العامَّة لا يطمس تباين المضامين واختلاف الاستنتاجات المعياريَّة بينهما. 

يشاطر سقراط قناعات مواطنيه القائلة بأنَّ الفضائل الأخلاقيَّة هي أهم السِّمات الجوهريَّة المؤلِّفة للهُوِيَّة الإنسانيَّة، وإنَّ الكلام عليها هو خير الكلام وأطيبه. وإذا كانت الفضيلة حقًّا هي القيمة الأسمى من بين سائر الأمور الأُخرى الَّتِي يكدُّ النَّاس في طلبها ويغدقون الثَّناء عليها، فالأجدى عندئذ المباشرة في تحديد معناها والوقوف على ماهيَّتها وتبيان شروط إمكانها وتحقيقها على خير منوال وأتَمِّ حال.

وهكذا، شرع سقراط في اقتحام لُجَّة هذا البحر المضطرب العميق متنقلاً بين ساحات أثينا وأزقَّتها متوغِّلاً في أعماق كل مظلمة، ومُحَلِّقًا في آفاق كل مسألة مستكشفًا حقيقة المفاهيم الأخلاقيَّة المتداولة على ألْسِنَةِ النَّاس من مثل العدالة والشَّجاعة والخير والسَّعادة، فأقبل بجدٍّ كبير وبحماسة منقطعة النَّظير يناقش هذه المفاهيم مع أهلها الَّذيِنَ امتازوا بها وخبروها علَّه يعثر عندهم على النَّبأ العظيم  الَّذِي يُشْبِع  تعطشه إلى دَرْك حقائق الأمور ويَهْدِيه إلى الخير والصَّواب. وعلى هذا الطَّريق لم يغادر سقراط شجاعًا إلاَّ وأحبَّ أنْ يطَّلع منه على سِرِّ شجاعته، ولا فاضلاً إلاَّ وأشتعل شغفًا وفضولاً للوقوف على كُنْهِ فضيلته. لكن وفي كُلِّ مَرَّةٍ كانت المحصلة مخيبة للآمال حَتَّى بدا لسقراط وكأنَّ النَّاس حيارى وأشباه سكارى أو نيام يعيشون في حلم أو صرعى في ديارهم لا يفقهون حقيقة ما يقولون وما يفعلون. فقد هاله عجز النَّاس عن أنْ يقولوا قولاً يُعْتَدُّ به في ما يعدُّونه أشرف وأجَلَّ ما في الوجود، والمرجع الأعلى لتسويغ أفكارهم وأفعالهم. وهنا لا بدَّ من القول إنَّ حرص سقراط الشَّديد على وضع تعاريف كُلِّيَّة لألفاظ من مثل العدالة والشَّجاعة والخير وما شابه للقبض على ماهيَّة المُسَمَّى والواقع الَّذِي تعبِّر عنه، إنَّمَا كان يستهدف الوصول إلى معايير موضوعيَّة يهتدي بها الإنسان في حياته من جهة، وتدحض نسبيَّة السوفسطائيين الأخلاقيَّة ومغالطاتهم المنطقيَّة من جهة أُخرى. ففي ظِلِّ اِلْتِبَاسِ المفاهيم واضطراب المعنى والمعيار، حسبما يرى سقراط، لا يستقيم فهم وحوار، ولا ترسى مفاضلة واختيار. فالاعتقاد بوجود حقيقة موضوعيَّة يعني بالنسبة إلى سقراط وجود معايير أخلاقيَّة موضوعيَّة، وبالتَّالي، فإنَّ الفرق بين الخطأ والصَّواب، بين الخير والشَّرِّ ليس ذاتانيًّا نسبيًّا، بل موضوعيّ ومطلق. فكيف ذلك؟

يرى سقراط أنَّ النَّاس جميعًا يطلبون الملذَّات على أنواعها الموافِقة لما يعدُّونه خيرهم وسعادتهم. لكن ومع أنَّ اللَّذَّة مُؤثِرة ومحبوبة، والمُؤثِر بدوره لذيذ، إلاَّ أنَّها لا تصلح البتَّة لأنْ تُتَّخَذ قانونًا للسلوك الإنسانيّ ومنارةً تنير معالم طريق الإنسان في المسالك الحياتيَّة الشَّائكة. والأصل في ذلك يعود إلى كون الملذَّات على درجة كبيرة من التَّباين والتَّفاضل الكمِّيّ والنَّوعيّ، ومن التَّعقيد على غير مستوى وصعيد، ناهيك بكونها مشوبة على الدَّوام بقدر قَلَّ أو كثر من المعاناة وآلالام، ومتغيِّرة تختلف من موضوع إلى آخر، ومن ذات إلى أُخرى، بل ومن مرحلة إلى أُخرى عند الفرد الواحد عينه. ولهذه الأسباب نَفْسها يعيب سقراط أيضًا على السوفسطائيين مماهاتهم الفضيلة  بالمنفعة، مُؤكِّدًا أنَّ المنفعة الحقيقيَّة تكمن في الفضيلة حصرًا باعتبار أنَّ كل ما هو أخلاقيّ هو بالضَّرورة نافع، وليس كل ما هو نافع بالضَّرورة أخلاقيّ. فالتَّمسُّك بالأخلاق هو في صميم منفعة البشر ومصلحتهم أفرادًا وجماعات. ولما كانت اللَّذَّة والمنفعة لا تستغرقان الفضيلة ولا تفيانها حقَّها كان لا مناص من البحث عن تعريف آخر أكثر إصابًة لماهيَّتها، وايجاد المعيار المناسب الَّذِي يمكن على أساسه تسويغ اختيار غاية من بين الغايات الحياتيَّة المتباينة والمتنافسة، وبيان تفوُّقها على غيرها من الغايات. وبعد تأملات ومداولات فكريَّة طوال توصَّل سقراط إلى مقولته المركزيَّة القائلة بأنَّ الفضيلة هي المعرفة، والأخيرة وحدها هي أساس الاختيار ووحدة القياس والمعيار. وتعني هذه الوصاية الحصريَّة التي منحها سقراط للمعرفة على الفضيلة أنَّ الاختيار المسؤول أخلاقيًّا يتطابق مع القرار المؤسَّس عقلانيًّا، وأنَّ القناعة الأخلاقيَّة تكتسب قُوَّةً شرعيَّة في صورة إلزام منطقيّ حصرًا. وبيانه أنَّ الأخلاق تتوقَّف على المعرفة، وهي ثمرتها الطَّيِّبة. وإذا كانت المعرفة هي مقدمة الخير وعلَّته، فإنَّ الشَّرَّ، في المقابل، هو نتيجة الجهل وثمرته الفاسدة. فالصِّلة بين الأخلاق والمعرفة ليست وثيقة فحسب، وإنَّمَا ضروريَّة منطقيًّا ومفهوميًّا أيضًا. ذلك أنَّ معرفة الإنسان لما هو خير تحمله حتمًا على إتيانه والالتزام به، كما أنَّ معرفته لما هو شَرٌّ تحمله حتمًا على اجتنابه. فالشَّرُّ المتعمَّد، على ما يرى سقراط، هو قول متناقض بالتَّعريف. إذ لا يُعقل أنْ يفعل الإنسان الشَّرَّ وهو عالِم به ومتيقِّن من مفاعيله الضَّارة. وخلاف ذلك يعني الوقوع في محظور التَّناقض مع البديهة القائلة إنَّ الإنسان بطبيعته يطلب الخير لنفسه ويتأبى الشَّرَّ لها، وإنَّ الخير يتطابق مع ميل البشر الطَّبيعيّ إلى نيل الملذَّات والمنفعة والسَّعادة. ويعني أيضًا فَرْض محالٍ وكأنَّ الإنسان يريد ما لا يريده ويختار عن عمد وبملء إرادته الأسوأ لا الأحسن. لذا، لا يمكن أنْ يكون المرء فاضلاً ما لم يعرف نَفْسَهُ وما لم يعرف معنى الفضيلة ويعي معرفته بهما. وهكذا، أنْ يكون المرء عاقلاً وأنْ يكون فاضلاً هما وجهان لحقيقة واحدة لا انفكاك لأحدهما من الآخر. وحده الإنسان الشُّجاع هو ذاك الَّذِي يعرف ما هي الشَّجاعة، ومعرفة ما هي الشَّجاعة تجعل الإنسان شُجاعًا. وهكذا قس على سائر الفضائل الأُخرى.

عاب بعض فلاسفة العصر القديم، بخاصة أرسطو، على عقلانيَّة سقراط الأخلاقيَّة مماهاتها الفضيلة مع الجزء العاقل من النَّفْسِ الإنسانيَّة وتعاميها الفاضح عن جزءها غير العاقل. وبالفعل، تجاهل سقراط الجزء غير العاقل من النَّفْسِ الإنسانيّة، ولكنه لم يجهله ولم ينكر وجوده. والحقُّ، إنَّه لم يغب عن باله البتَّة أنَّ النَّفْسَ الإنسانيَّة تنطوي في ذاتها على أصل أو جزء غير عاقل. والدَّليل على ذلك هو كلام سقراط المتواصل على الطَّبيعة غير العقلانيَّة للقرين أو الصَّوت الدَّاخليّ والإلهام الأخلاقيّ الغامض الَّذِي لم يتوانَ لحظًة واحدة عن تأنيبه عندما كانت تزيِّن له نَفْسُهُ مسايرةَ التَّصوُّرات المُشَوَّهة عن الفضيلة أو الإقدام على بعض التَّصرُّفات المشينة. وعلى الرَّغْمِ من إصرار سقراط على البحث عن ماهيَّة الفضيلة في فضاء المعرفة، وأنَّ قُوَّةً ما أوحت إليه وأملت عليه ذلك، إلاَّ أنَّ هذه القُوَّة نَفْسها لم تكن معرفة بالمعنى الحصريّ والدَّقيق للكلمة. ذلك أنَّ هذا القرين (سواء أكان إلهامًا ووحيًا أم حدسًا أم ضميرًا)، وإنْ حذَّر سقراط عند الضَّرورة من مغبة القيام ببعض الأفعال ونهاه عنها، فإنَّه لم يُعَلِّل البتَّة الأسباب الكامنة وراء تحذيراته ونواهيه. واللافت أنَّ توجيهاته كانت صائبة على الدَّوام رغم كل الغموض الَّذِي يكتنف طبيعته المتمايزة عن أنوار العقل الكاشفة. فقد حدثَ أنْ بلغ هذا الصَّوت الباطنيّ كُنْهَ الفضيلة على نحو أعمق من عقل سقراط المبدع لأروع التُّحف الفكريَّة الفائقة الجودة. بعبارة أُخرى، كان سقراط متيقنًا من وجود أعماق غير عقلانيَّة للحياة ومصادر غير عقليَّة للمعرفة الأخلاقيَّة، لكنَّه آثر عدم إيلائهما أهمِّيَّة حاسمة لئلا تفلت الأخلاق من عِقَالِهَا وتتملَّص حُرِّيَّة الإنسان من المسؤوليَّة والمساءلة. فالمعرفة هي القناة الرَّئيسة الَّتِي يضفي الإنسان من خلالها مقاييسه على الأشياء. وهي، تحديدًا، ما يتيح له العمل على نحو حُرٍّ ومسؤول.

إذا كانت الحياة الفاضلة تتوقَّف بالتَّمام والكمال على المعرفة وتتعلَّق بها، فإنَّ السُّؤال الَّذِي يتبادر إلى الذِّهن فورًا هو: هل حَظِيَ سقراط نَفْسه أو أيُّ واحد آخر غيره بمثل هذه المعرفة؟ الجواب هو بالنَّفي لاعتبارين اثنين: أوَّلهما واقعيّ؛ وثانيهما منطقيّ. فإذا كانت الفضيلة هي المعرفة، وكان هناك من يعلن جازمًا امتلاكه هذه المعرفة، فإنه يكون قد صار فاضلاً، ولكان في مستطاع الآخرين عندئذ الاقتداء به ليصيروا بدورهم فضلاء وسعداء. غير أنَّ واقع الحال هو خلافُ ذلك تمامًا، حيث أنَّ الخُلُقيات السَّائدة بين النَّاس أبعد ما تكون من الفضيلة، وحياتهم أتعس وأشقى من أنْ تُنْعَت بالسَّعيدة. علاوة على ذلك، إنَّ امتلاك معرفة كهذه يبدو مُمْتَنَعًا حَتَّى من منظور منطقيّ بحتْ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنَّ المضمون الحقيقيّ لمصطلح الفضيلة الإنسانيَّة عند سقراط هو الكمال الإنسانيّ بالذَّات. وعليه، فالكلام على كمال متجسد وناجز هو تمامًا كمثل الكلام على حدٍّ ما لا يُحَدّ وعَدِّ ما لا يُعَدّ. وما هذا وذاك إلاَّ لَغْو فارغ لا معنى له. وتحت وطأة  هذه الاعتبارات وغيرها وجد سقراط نَفْسَهُ مضطرًا إلى اختتام نَسَقِهِ الأخلاقيّ بالقول صراحًة: "أعرف أنَّني لا أعرف شيئًا". وبالفعل، فإنَّ هذا القول-المُفَارَقَة لا يُعَبِّر عن حكمة سقراط كلها ومشروعه الأخلاقيّ فحسب، وإنَّمَا عن مأزقه أيضًا. فهو، وفي الوقت الَّذِي أكَّدَ فيه مرارًا وتكرارًا  إمكان معرفة الفضيلة عقليًّا، ما لبث أنْ خلُص إلى اعتبارها شأنًا عَصِيًّا على الحدِّ والتَّقييد، وأعظم من أنْ تُدرَك بالعقل وتُشْرَح حقيقتها بالنطق.

صحيح أنَّ هذه الخلاصة السقراطيَّة حمَّالة أوجه تأويليَّة شَتَّى، لكن إذا ما صرفناها إلى معنى معياريّ تحتمله، فإنَّها، بلا أدنى ريب، دعوة إلى التَّواضع المعرفيّ والورع الأخلاقيّ تفتح آفاقًا رحبة لترقِّي الإنسان وتساميه أخلاقيًّا. فإذا كانت الفضيلة هي المعرفة، وكان الإنسان "عارفًا لا معرفته" ومُدْرِكًا مَوَاطِنَ نقصه وجهله، فإنَّ التَّحَدِّي الأبرز الَّذِي ينتصب أمامه هو مضاعفة الاشتغال على الذَّات ومتابعة البحث وتجديد الفهم والأدوات.

 لكن ومع ذلك، فإنَّ المهمة المباشرة والمُلِحَّة الَّتِي وضعها سقراط نُصْبَ عينيه والمتمثلة في إضاءة فضاء الحياة الأخلاقيَّة بنور العقل السَّاطع بقيت عالقة من دون حَلٍّ. إذ سرعان ما آلت عقلانيته الأخلاقيَّة إلى نتيجة سلبيَّة تجلَّت إخفاقًا في بناء صرح الأخلاق على أساس عقلانيّ متين. فهو لم يُوفَّق لا في حَلِّ إشكاليَّة أصل المفاهيم الأخلاقيَّة وما يطابقها في العالم الواقعيّ، ولا في تحديد طبيعة تلك القُوَّة الَّتِي أوحت إليه التَّنقُّل بين أزقَّة أثينا وأروقتها مُعْرِضًا عن مغريات الحياة وملذَّاتها طمعًا في القبض على ماهيَّة الفضيلة. وإذا كانت معرفة الفضيلة قد أشكلت واستعصت على سقراط، فهل سيفلح تلميذه الألمعي أفلاطون حيث أخفق المُعَلِّم؟

وبالفعل، يتابع أفلاطون البحث ويستأنف التَّساؤل عن الأصل الَّذِي صدرت عنه تصوُّرات البشر عن العدالة والخير وغيرهما من الفضائل والقِيَم في هذا العالم الممتلئ بالشُّرور والأباطيل والظُّلم والفساد. ألا تهبط هذه التَّصَوُّرات من عالم السَّماء يا ترى؟ ولِمَ لا؟ فإذا كان حضور الفضيلة باهتًا وضعيفًا، والحَيِّز الَّذِي تشغله في هذا العالم محدودًا وضئيلاً، فأليس، من المُرَجَّحِ، وجود عالم آخر يكون بمنزلة موطنها الحقيقيّ، وتُشَكِّل، بالتَّالي، مفاهيمنا وتصوُّراتنا الأخلاقيَّة انعكاسًا له وتعبيرًا عنه؟

وبالاتِّفاق مع هذا الافتراض المتوقَّع، شَرَعَ أفلاطون يمدُّ الجُسُور بين عالم الأرض وعالم السَّماء عاقدًا العزم على اكتشاف مصدر القِيَم والمُثُل الأخلاقيَّة، وبناء موطن لائق لها حرصًا منه على ألاَّ تبقى ضائعة في الفضاء بلا هُوِيَّة وعنوان. وهذا بِالضَّبْطِ ما أقْدَمَ عليه أفلاطون بعدما أنْ وجد نَفْسَهُ أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما: إمَّا التَّخَلِّي عن المفاهيم الأخلاقيَّة والعبث بها تعسُّفيًّا على ما يحلو  للسوفسطائيين فعله أو المبادرة إلى إصلاح ما أفسده هؤلاء وايجاد عالم آخر جديد يليق بمقامها وتليق به. وهكذا، بدأ أفلاطون بتشييد عالم المُثُل الَّذِي تتبوأ فيه فكرة الخير أسمى المراتب وأقدسها. ومملكة المُثُل هذه ليست أفضل من العالم الواقعيّ فحسب، بل هي أفضل العوالم الممكنة وأكملها أيضًا. كما أنَّها تُشَكِّل بالنسبة إلى الأخير المبدأ والسَّبب، المَثَل والمثال. والفرق بين العالَمَين هو تمامًا كالفرق بين الأصيل والوكيل، بين المعدن النَّفيس والمعدن الخسيس. فما من شيء رائع وجميل في هذا العالم إلاَّ وهو صورة لشيء أروع من ذلك العالم. وهكذا، ينحو أفلاطون إلى تأمل معنى الفضيلة والحقيقة والجمال من خلال المتعاليّ والمُطْلَق والثَّابت والمماثل.

وإلى جانب الاعتبارات النَّظريَّة المحض فقد كان لمثاليَّة أفلاطون الأخلاقيَّة أسبابها الشَّخصيَّة-السيكولوجيَّة. إذ حفرت محاكمة سقراط الجائرة وإعدامه في نَفْسِ أفلاطون جرحًا لا يُلأم ولوعًة لا تسأم من الاستهجان والإدانة والتَّساؤل: كيف ولِمَ يقتلون أشرف الخلق وأنبلهم خُلُقًا؟!!! وما يفاقم المأساة ويزيد الطِّين بِلَّةً أنَّهم لم يقتلوه بمحض المُصادَفة والخطأ، بل عن سابق إصرار وتصميم وبمقتضى أحكام قوانين النِّظام الدِّيمقراطيّ. ثم ما هي دلالات هذا الحدث الجلل المتمثل في عجز العالم عن تَحَمُّلِ إنسان فاضل وتَقَبُّل مواطنٍ صالحٍ من أمثال سقراط؟!!! أيُّ عالَمٍ هو هذا الَّذِي ترتد فيه الفضيلة على صاحبها وَبَالاً ونَكَالاً، وتُفضي بِدَاعِيَتها الموهوب إلى الشَّقاء والهلاك رائيًا بأم عينه أملاكه وأمواله قد صودرت، وسُمْعَتَه قد شُوِّهت، وعائلته قد اُذِلَّت وتحطمت؟ أيُّ عدالةٍ هي هذه الَّتِي ينقلب فيها الحقُّ باطلاً، والباطل حقًّا وتُكَافِىء الفاسدين وتُعاقبُ العصاميين؟ أليس من الحقِّ والعدل أنْ ينال أمثال سقراط السَّعادة القصوى وأرفع أوسمة التَّقدير وأسمى آيات الثَّناء والتَّبجيل، وأنْ تُقام له أجمل الأنْصَاب التِّذكاريَّة والتَّماثيل؟ ألا تبرهن مأساة سقراط بوضوح أنَّ الطُّغاة والأنذال هُمْ أعلى النَّاس شأنًا وقيمًة، وأسعدهم حظًّا في كل مكان وزمان، وأنَّ السَّعادة على تضاد مع الحياة الفاضلة؟ وفي خِضَمِّ هذه التَّساؤلات المُثْقَلة بالأسى والمرارة، وعلى درب الوفاء لسقراط وإعادة الاعتبار للحقيقة الأخلاقيَّة انقدحت في ذهن أفلاطون فكرةٌ مفادها أنَّ العالَم الَّذِي يقتل الأفاضل الأبرار ويذل الأخيار ليس جديرًا ولا من المعقول بأنْ يكون هو العالَم الوحيد الممكن والحقيقيّ. وعليه، يُرَجِّح أفلاطون وجود مملكة أُخرى لا يُظلَم فيها سقراط وأمثاله، بل يُبَجَّلون، ولا يشقى فيها الفضلاء، بل يُسْعَدون.

وعلى هذا الطَّريق يُؤكِّد أفلاطون إمكان تأصيل الأخلاق على المستويين المعرفيّ-النَّظريّ والعمليّ. فيعمد على المستوى الأوَّل إلى استحضار أسطورة تقمُّص النُّفُوس والتَّذَكُّر، ويلجأ على المستوى الثَّاني إلى بناء أوتوبيا ثكنيَّة أو ما يُسَمَّى بالجمهوريَّة الفاضلة تضمن تجسيد المُثُل الأخلاقيَّة في الواقع وتكفل عَقْدَ قران وثيق ورباط وطيد بين الفضيلة والسَّعادة. إذ لا مجال عند أفلاطون للفصل بين السِّياسة والأخلاق. فلا سعادة للفرد إلاَّ في كنف دولة عادلة، ولا دولة عادلة من دون فرد فاضل. وانطلاقًا من هذا يتعرض أفلاطون بالنَّقد الحاسم لجميع أشكال أنظمة الحكم السِّياسيّ الَّتِي تفتقر، في رأيه، لأبسط مقومات العدالة والفضيلة. والأنظمة الَّتِي يرميها أفلاطون بسهامه النَّقديَّة هي: النِّظام الدِّيمقراطيّ؛ والأوليغارشيّ(حكم الأغنياء)؛  والثيموقراطيّ (حكم العسكر)؛ والاستبداديّ(5). أمَّا السَّبب في افتقار الأنظمة المذكورة إلى العدالة هو تكريسها لأنماط وضروب معيَّنة من اللامساواة الاجتماعيَّة مغايرة كُلِّيًّا ومُخَالِفَة تمامًا لنظام اللامساواة الطَّبيعيَّة الحقَّة بين النَّاس. فالنظام الاجتماعيّ-السِّياسيّ الأمثل والأصلح هو فقط ذاك النِّظام الَّذِي يحاكي الفوارق والتَّفاوتات الطَّبيعيَّة بين النَّاس ويتطابق مع تراتبيَّة قوى الإنسان الجسمانيَّة والنَّفْسيَّة واختلاف وظائفها. وبالاتِّفاق مع هذا اتَّخذ أفلاطون من التَّراتبيَّة الهَرَمِيَّة لقوى النَّفْسِ الإنسانيَّة الثَّلاث: القُوَّة العاقلة؛ والقُوَّة الغضبيَّة؛ والقُوَّة الشَّهوانيَّة أنموذجًا قياسيًّا لما ينبغي أنْ تكون عليه البِنْيَة التَّراتبيَّة لِكُلٍّ من الجمهورية الفاضلة وأمَّات الفضائل على حدٍّ سواء. فلكل قُوَّة نَفْسيَّة ما يَخُصُّها من الكمال واللَّذَّة، وما يناسبها من الفئات الاجتماعيَّة، وما يليق بها من الفضائل. فالقُوَّة العاقلة تُنَاسِبها من المدينة-الدَّولة فئة الفلاسفة، ومن الفضائل الحكمة. أمَّا القُوَّة الغضبيَّة فتقابلها اجتماعيًّا فئة الحُرَّاس(الجند)، ومن الفضائل الشَّجاعة. وأخيرًا في أدنى سُلَّم قوى النَّفْس الإنسانيَّة تأتي القُوَّة الشَّهوانيَّة وتُنَاسِبها اجتماعيًّا طبقة الحرفيين والزرَّاع، وفضيلتها العِفَّة. وفي ما يخص العدالة وهي الفضيلة الرَّابعة من أمَّات الفضائل الأفلاطونيَّة فليس لها من قوى النَّفْس الإنسانيَّة ومن الفئات الاجتماعيَّة قُوَّة وفئة خاصَّتَين بها. فهي ليست فضيلة خاصَّة وجزئيَّة مثل الحكمة والشَّجاعة والعِفَّة، إنَّمَا هي فضيلة عامَّة على الصَّعيدين الفرديّ والجماعيّ. وعلى الصَّعيد الفرديّ، فهي تُعَبِّرُ عن مدى تناغم وانسجام قوى النَّفْس الإنسانيَّة في ما بينها وإذعانها لإمْرَةِ العقل وإشارته، في حين أنَّها ترمز، على الصَّعيد الجماعيّ، إلى مقدار تآلف فئات المدينة-الدَّولة في ما بينها، والتزام كل واحدة بوظيفتها الخاصَّة بها من غير أدنى تعدٍّ على أدوار الآخرين وتَصَرُّفٍ بملكهم، وانقيادها لأمْرِ الحاكم-الفيلسوف. ولما كانت القُوَّة العاقلة هي مزيَّة الإنْسَانِ وخاصِّيَّته وأعلى وأشرف ما فيه، كانت الحكمة رأس الفضائل كلها وأعظمها شأنًا باعتبارها الخير الأسمى وكمال العقل وذروة ارتقائه في معارج معرفة الحقيقة والخير والجمال، وكان الفلاسفة هُمْ درَّة تاج الجمهوريَّة الفاضلة والأجدر برئاستها لما يمتازون به من مَلَكَات نادرة ومواهب فائقة تؤهَّلهم للتَّماهي مع عالم المثل-الأصل وتَعَقُّل ماهيَّة الأشياء والخير بالذَّات. باختصار، هذه هي الصُّورة أو البِنْيَة الحقيقيَّة لما ينبغي أنْ يكون عليه كل اجتماع إنسانيّ يطمح لأنْ يكون اجتماعًا فاضلاً. فقط في رحاب هذا النِّظام "الفيلوصوقراطيّ" (الحاكميَّة الفلسفيَّة) الَّذِي يرأسه الفلاسفة لا الدَّهْمَاء، العقل لا الأهواء يستقيم أمر العدالة ويطيب العيش وتحيا كل فئة وطبقة حياتها وسعادتها بما يتوافق مع طبيعتها الخاصَّة وموقعها في التَّقسيم الاجتماعيّ للعمل.

لا شَكَّ في أنَّ اشتراط أفلاطون تسليم مقاليد الحُكْم وتنظيم المجتمع وإدارة شؤون الدَّولة للفيلسوف إنَّمَا ينهض على جملة مسلَّمات مترابطة، ومن أبرزها: أ- القول بأوَّليَّة العقل على الوجود؛ ب- القول بأوَّليَّة الوجوب على الوجود، والأخلاق على الإنسان؛ ج- الاعتقاد أنَّ أهمِّيَّة الفيلسوف ونسبته إلى المدينة-الدَّولة كنسبة الإله إلى الموجودات، وكأهمِّيَّة العقل إلى الإنسان؛ د- الاعتقاد أنَّ النَّاس ليسوا سواء لا في استعدادتهم الفكريَّة وقرائحهم المعرفيَّة ولا في طُرُقِ التَّصَوُّر والتَّصديق، وكلما كان الإنسان أكثر حذاقًة وتفعيلاً لملكاته العقليَّة ازداد حَظُّهُ في الرِّئاسة وقَلَّ نصيبه من الخدمة، والعكس صحيح؛ ه- الفصل الحاد والجوهريّ بين المحسوس والمعقول، بين الجسمانيّ والرُّوحانيّ، بين العمل اليدويّ والعمل الذِّهنيّ مصحوبًا بالثَّناء على الرُّوحيّ وازدراء الماديّ؛ و- اعتبار الفيلسوف هو الجهة الأدق تمثُّلاً والأصدق تمثيلاً للحقيقة الخيِّرة والخير الحقيقيّ.

لنعد الآن إلى سؤالنا الأساسيّ: هل نجح أفلاطون باختراعه الجمهوريَّة الفاضلة، واختراعه عالم المُثُل في حَلِّ ما أشْكَل على سقراط وأحْكَمَ وصْل ما انفصل بين الفضيلة والسَّعادة، القيمة والمنفعة، بين المعرفة والسِّياسة والأخلاق؟ والجواب هنا أيضًا هو بالنَّفي. والإخفاق مردَّه على مستوى المدينة الفاضلة إلى إيغال أفلاطون في المثاليَّة والطوبى بالقدر الَّذِي تَصَوَّر فيه اجتماعًا إنسانيًّا تَسُودُهُ الأُلْفَة والتَّعاون والتَّكامل لا تَشَاكُس فيه، ويَسُوسَه فلاسفة تجرَّدوا بالكُلِّيَّة من العيوب والنَّواقص البشريَّة. ولعلَّ امثولة الحوذي والجوادين الأفلاطونيَّة الشَّهيرة في بُعدها السِّياسيّ تُعَبِّرُ أبلغ تعبير عن الآمال الاستثنائيَّة الَّتِي عقدها أفلاطون على الدَّور الحاسم للفلاسفة في سَوّْسِ المجتمع وتحديد وجهة التَّاريخ. ومن غير أنْ نبخس الفلسفة والفلاسفة حقَّهما واسهاماتهما الخلَّاقة في تفسير العالم وتغييره نشير إلى أنَّ الرَّؤية الأفلاطونيَّة هذه تعاني عيوبًا عِدَّة لا يُستهان بها تضعها في مرمى النَّقد على غير مستوى وصعيد. ومن هذه العيوب والثَّغرات ما يتَّصل بالمسكوت عنه، ومنها ما هو ذو طبيعة منطقيَّة وأُخرى واقعيَّة. فعلى مستوى المسكوت عنه يمكن القول إنَّ أفلاطون سكت، أقلَّه، عن ثلاثة أمور جوهريَّة في المسألة. الأمر الأوَّل، إذا كان أفلاطون قد أحْسَنَ الإفصاح عمَّا يريده الحوذي (الفيلسوف، العقل) من الجوادين (يرمزان إلى القُوَّة الغضبيَّة والقُوَّة الشَّهوانيَّة في النَّفْسِ الإنسانيَّة، وإلى كُلٍّ من الجند والحرفيين والزرَّاع في المجتمع)، فإنَّه لم ينبئنا بشيء عمَّا يريده الجوادان من الحوذي ولا عمَّا يريده كُلُّ جواد من الجواد الآخر. إذ إنَّه ليس من المُؤكَّدِ وجود تَوَافُق بين رغبات هؤلاء الفرقاء أو وجود وئام وانسجام بينهم. والأمر الثَّاني المسكوت عنه يتعلَّق بكيفيَّة نشوء السُّلْطَة السِّياسيَّة وانتقالها إلى يد الفيلسوف. فأفلاطون لا يقول شيئًا في هذا الخصوص غير التَّعويل على صدفة سعيدة ما والرِّهان على أمل خروج عاشق حقيقيّ للفلسفة إلى النُّور من أصلاب الحُكَّام وأوساط القياصرة(6). وإذا كان ترؤوس الفلاسفة للمدينة الفاضلة نتيجة متوقَّعَة لنظرة أفلاطون الأنثروبومورفيَّة إلى الاجتماع  والسِّياسة الفاضلَين (وهي النَّظرة الَّتِي تتَّخذ من صورة الإنسان ومثاله وتراتبيَّة قواه النَّفْسِيَّة واختلاف وظائف أعضائه الجسمانيَّة أنموذجًا قياسيًّا لما ينبغي أنْ تكون عليه بِنْيَة المدينة الفاضلة)، فإنَّ هذا لا يعني بعد أنَّ رياح عالم السِّياسة تجري بما تشتهيه سفن طموحات فيلسوفنا. فالسُّلْطَة السِّياسيَّة ليست نشاطًا معرفيًّا ولا هي جائزة كبرى يفوز بها صاحب البرهان الأروع والبيان الأبلغ، إنَّمَا هي حصيلة صراع قوى متنافسة ومصالح اقتصاديَّة متضاربة. والسُّلْطَة لمن غلب. والغلبة تُكْتَب للأقوى، أيْ لمن امتلك الثَّروات وقبض على وسائل الإنتاج ومفاصل الحياة. فالمصالح تدير العالَم، والاجتماع ميدان لازدحام الأغراض تتصارع فيه الآراء كما المصالح والأهواء. وإذا ما دخلت مصالح النَّاس الأنانيَّة في تعارض مع الحقائق الرِّياضيَّة الَّتِي لا غبار على موضوعيَّتها، فإنَّهم يميلون، في الأغلب، إلى طمس الأخيرة وتكذيبها أكثر منه إلى إعادة النَّظر في مشروعيَّة مصالحهم ذاتها. فَهُمْ يُؤثِرون المنفعة على القيمة، المصلحة على الحقِّ والحقيقة. وهذا واقع تاريخيّ مُعاش لا مجال لإغفاله أيًّا يكن موقفنا منه، وسواء أحببناه أم كرهناه، قبلناه أم رفضناه. والأمر الثَّالث المسكوت عنه هو تعامي أفلاطون عن التَّباينات والتَّناقضات (مع معرفته العميقة بهما) الَّتِي تعتمل داخل معسكر الفلاسفة المُعَوَّل عليهم تصدُّر راية الإصلاح ورئاسة المدينة الفاضلة. فالفلاسفة ليسوا كتلة متجانسة من جهة مذاهبهم الوجوديَّة والمعرفيَّة والإيديولوجيَّة، ولا هُمْ سواء في تصوراتهم للخير والعدالة. لذا لا يبدو أنَّ حُكْمَ الفلاسفة، على افتراض حدوثه، يمكن أنْ يُشَكِّل  ضمانًة موثوقة لقيام دولة عادلة ومدينة فاضلة بالمعنى الَّذِي قصده أفلاطون. وفي ما يتعدَّى المسكوت عنه ثَمَّة خلل مُرَكَّب آخر يخترق الأساس الَّذِي بنى عليه أفلاطون تنظيره لأحقِّيَّة الفلاسفة الحصريَّة في الاستئثار برئاسة الجمهوريَّة الفاضلة على نحو دائم ومطلق. وكما هو معلوم، فقد جعل أفلاطون من تفوُّق الفلاسفة الفكريّ وتَصَدُّرهم للمشهد المعرفيّ أساسًا كافيًّا لِسُمُوِّهم  الأخلاقيّ وامتيازهم السِّياسيّ. والمشكلة في هذا الادِّعاء أنَّ لا شيء في الواقع يؤيده، ولا شيء في المنطق يُسَوِّغه، بل الأقرب إلى الصَّواب هو قول الفيلسوف أبي حامد الغزالي: "إنَّ الحاذق في صناعة واحدة ليس يلزم أنْ يكون حاذقًا في كل صناعة، فلا يلزم أنْ يكون الحاذق في الفقه والكلام حاذقًا في الطِّبِّ ولا أنْ يكون الجاهل في العقليَّات جاهلاً في النَّحْوِ، بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها رتبة البراعة والسَّبق، وإنْ كان الحمق والجهل قد يلزمهم في غيرها"(7). زيادة على ذلك، يمكن القول حَتَّى إنَّه "ليس من المُحَقَّقِ أنَّ العالِم أو الفيلسوف يستخدم عقله في تدبير معاشه على نحوٍ أتَمَّ وأفضل مما يفعله أيُّ واحد من سائر النَّاس، على ما يُعَبِّر الفيلسوف علي حرب"(8). وقياسًا على ذلك يمكن القول إنَّه لا يلزم أنْ يُشَكِّل التَّفَوُّق العقليّ أساسًا حاسمًا لتفاضل النَّاس الأخلاقيّ، وللتمييز في حقوقهم المدنيَّة والسِّياسيَّة. وفي المقابل، ليس يلزم أنْ يُتَّخَذ من السُّمُوِّ الأخلاقيّ دليلاً قاطعًا على مدى تفوُّق الإنسان العقليّ. صحيح أنَّ البلادة ليست زينة ولا فضيلة، وأنَّ الجهل ليس مأثرة ولا مفخرة، لكن المهارات والمواهب العقليَّة ليست هي هي الخصال والشَّمائل الأخلاقيَّة، ولا هذه الأخيرة هي هي الأولى. إضافة إلى ذلك، إنَّ إسناد أفلاطون سُدَّةِ القِيَم إلى العقل والحكمة قاده، موضوعيًّا، إلى إزاحة الخير وتنحية الأخلاق عن عرش القِيَم والكمالات واستبدال المعرفة والحقيقة بهما، وإلى التَّوَرُّطِ، بالتَّالي، في تناقض منطقيّ فاضح مع مصادرته الرَّئيسة القائلة بأنَّ لا شيء يعلو مثال الخير عَظَمًة ومقامًا. فأفلاطون الَّذِي ما اِنْفَكَّ يُؤكِّد كُلَّمَا تطرَّق إلى موضوع المُثُل أنَّ مثال الخير هو رأس الكمالات والمُثُل كلها عاد ونَقَضَ، من حيث لا يحتسب، ما كان قد وَضَعَهُ وأقَرَّهُ مُوَطِّدًا تَقَدُّم العقل على الأخلاق بالطَّبع والسَّبب والشَّرف. وما كان لهذا التَّهافت إلاَّ أنْ ينعكس إخفاقًا في حَلِّ أفلاطون لمعضلة تأسيس الأخلاق. فالعقل الَّذِي أخذ على عاتقه تبيان ما تكونه الفضيلة انتحل شخصيَّتها وأعلن نَفْسه وصيًّا عليها كَمَثَلِ اللِّصِّ الَّذِي سرق من تعهَّد حراسته وما اؤتمن عليه. وهكذا، استحال التَّفسير المعرفيّ للأخلاق على يد أفلاطون تقديسًا وتأليهًا أخلاقيًّا للمعرفة. فقد رام فيلسوفنا إثبات أوَّليَّة الخير وأولويَّته فأثبت أوَّليَّة الحقيقة وأولويَّتها. ورام إثبات أنَّ الأخلاق عقلانيَّة، لكنه أثبت، في المحصلة، أنَّ العقل أخلاقيّ. والفرق بين القولين عظيم جدًا.

قد يبدو، للوهلة الأولى، أنَّ ما أفسدته جمهوريَّة أفلاطون الفاضلة في حَلِّ معضلة تأسيس الأخلاق يمكن أنْ يصلحه افتراض عالم المُثُل. لكن أفلاطون بافتراضه هذا لم يأت بجديد آخر غير قلب المشكلة ذاتها رأسًا على عقب ووضع عربة الأخلاق أمام حصان الوجود الاجتماعيّ للإنسان. فما أنْ عَدَّ أفلاطون الأخلاق بديهًة ومُسَلَّمًة أوَّليَّة حَتَّى انقلبت المسألة عنده من البحث عن جذرها الدُّنيويّ وأصلها الأرضيّ، ومن الكشف عن أسُسها الموضوعيَّة إلى البحث في المصداقيَّة الأخلاقيَّة للعالم ومدى مطابقته  للأصل المثاليّ-المتعالي وموافقته له. وبذلك يكون أفلاطون قد قلب المُقَدَّمَ تاليًا، والتَّالي مُقَدَّمًا، والسَّبب نتيجًة، والنَّتيجة سببًا، والأصل نُسْخًة، والنُّسْخَة أصلاً.

وبالانتقال إلى أرسطو الذي أتْقَنَ فنون فكِّ رموز الشِّيفرة السِّرِّية لتعاليم أفلاطون فقد انْصَبَّ اهتمامه في مجال الأخلاق على وضع حدٍّ لشطحات صديقه ومُعَلِّمه الفلسفيَّة الجامحة واستبعاد كل ما يتعذر برهنته منطقيًّا والتَّحقُّق منه عمليًّا. وعلى هذا الطَّريق يبادر أرسطو إلى تشذيب أجنحة النَّفْس الأخلاقيَّة الأفلاطونيَّة المرفرفة بعيدًا وعاليًا فوق سماء العالم الواقعيّ حرصًا منه على أنْ تبقى في الوسْط بين حدَّي الإفراط والتَّفريط المذمومَين، بين الإلهيِّ والطَّبيعيِّ. وللإبانة عن ذلك لا بدَّ من الوقوف على حدِّ الفضيلة وسِمَاتها وشروطها وأنواعها.

بادئ بدء ينبغي القول إنَّ الأخلاق عمومًا والفضائل خصوصًا، وَفْقًا لأرسطو، هي بُعدٌ مميَّز أو سِمَة خاصَّة بالوجود الإنسانيّ وحده. فالإلهة أعلى من الفضائل، لأنَّها عقل محض غير مشوب بالشَّهوات والأهواء، أمَّا الحيوانات فهي أدنى من الفضائل، لكونها كائنات شهوانيَّة خالصة لا عقل لها. أمَّا جعل الفضائل والرَّذائل الأخلاقيَّة حكرًا على الإنسان وحده فيعزوه أرسطو إلى طبيعة الإنسان الفريدة وبنيته المُرَكَّبَة وموقعه الوسطيّ في هَرَمِيَّة الوجود. فالإنسان هو الكائن الوحيد الَّذِي يجمع بين البُعدين الطَّبيعيّ والإلهيّ، بين الجوهرين الجسمانيّ والرُّوحانيّ، ولديه ما يتماهى به مع النبات والحيوان من جهة، وما ينفتح به على الأفق الإلهيّ من جهة أُخرى. وإلى ذلك يربط أرسطو نشوء الفضائل الأخلاقيَّة بالبنية المعقَّدة للنفْس الإنسانيَّة والصِّراع بين ميول اجزائها المختلفة، وتحديدًا، بين الجزء العاقل (مُمَثَّلاً بالعقل العمليّ وبالعقل النَّظريّ) والجزء غير العاقل (مُمَثَّلا بقوى النَّفْس النُّزوعيَّة كالقوى الشَّهوانيَّة والغضبيَّة). وليس نشوء الفضائل وحده هو ما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالبنية التَّراتبيَّة للنفس الإنسانيَّة، وإنَّمَا تقسيمها وتفاضلها أيضًا. وبالاتِّفاق مع تقسيم النَّفْس الإنسانيَّة إلى جزءين أساسيَّين عاقل وغير عاقل مَيَّزَ أرسطو بين نوعين من الفضائل: فكريَّة من مثل الحكمة والفطنة وجودة الذِّهن؛ وأخلاقيَّة من مثل الكَرَم والشَّجاعة والعِفَّة. هذا وتؤلِّف الفضائل الفكريَّة السَّعادة القصوى والخير الأسمى، في حين تؤلِّف الفضائل الأخلاقيَّة السَّعادة الثَّانية. والفضائل كلها مُكْتَسَبَة الفكريَّة منها والأخلاقيَّة. وهي ليست معطاة لنا من الطَّبيعة ولا بالضدِّ منها. فالمعطى للإنسان من الطَّبيعة هو شرط إمكان الفضيلة والقابلية لها فقط. فالفضيلة، على ما يرى أرسطو، هي صفات محمودة مُكْتَسَبَة للنفس(9). لكن ولئن كان كلا النَّوعين من الفضائل متشابهين في طابعهما الاكتسابيّ، فإنَّهما متباينَين في التَّوجُّه والغاية، وفي طريقة التَّحصيل والاكتساب أيضًا. ذلك أنَّ غاية الفضائل الفكريَّة هي غاية معرفيَّة-نظريَّة خالصة، وتُعَبِّر عن كمال القُوَّة العالمة في تأمل مبادئ الوجود الأولى، بينما تنطوي الفضائل الأخلاقيَّة على توجُّه عمليّ، وتصف سلوك الإنسان وانفعالاته من منظور المكانة الَّتِي يحتلها كل من العقل والأهواء الحِسِّيَّة فيهما. وفي ما يَخُصُّ الاختلاف بين طريقة تحصيل الفضائل الفكريَّة وتلك الأخلاقيَّة يقول أرسطو إنَّ الأولى تُكْتَسَب بالعلم والتَّعَلُّم المتواصل، وأمَّا الثَّانية فيجري تحصيلها بالعمل والاعتياد على طول الزمان. فالإنسان لا يولد صالحًا أو طالحًا، فاضلاً أو رذيلاً، حكيمًا عالمًا أو غافلاً، إنَّمَا يصير كذلك. وفي الحقيقة، يبدو لأرسطو أنَّ لا فرق جوهريًّا بين الكيفيَّة الَّتِي يزخرف بها الفنان المبدع لوحاته والكيفيَّة الَّتِي يصقل بها الإنسان الفاضل طباعه ويهذب أخلاقه ويُنَمِّي مَلَكَاته.

بَيْدَ أنَّ القول بالطَّابع الاكتسابيّ للفضائل لا يستنفد حقيقتها ومعناها. ثَمَّة عناصر أو محمولات أُخرى يُدخلها أرسطو في تعريف الفضائل الأخلاقيَّة. وفي مقدم هذه المحمولات يأتي الاعتدال والحُرِّيَّة والعلم والثَّبات (المواظَبة) والرَّويَّة. فالفضيلة الأخلاقيَّة هي اعتدال النَّفْس وكمالها. وبعبارة أكثر دِقَّة، الفضيلة هي الوسْط الذَّهبيّ المحمود بين حالتين متضادتين مذمومتين، بين رذيلتي الإفراط والتَّفريط. وهي ليست وَسَطًا حسابيًّا يقع على مسافة واحدة متساوية من الحدَّين المتقابلين، بل هي وَسْط أقرب دائمًا إلى حدِّ التَّفريط منه إلى حدِّ الإفراط. فالشجاعة، مثلاً، هي وَسْط الجبن والتَّهوُّر، لكنها أقرب إلى التَّهوُّرِ منه إلى الجبن، والعِفَّة وسْط الخمود والشَّرَه، والكَرَم وسْط التَّقتير (البخل) والتَّبذير (الإسراف). وقس على ذلك سائر الفضائل الأخلاقيَّة الأُخرى. كما أنَّ لكل فعل ولكل انفعال وَسْطه الخاص به، فكذلك هي الحال بالنسبة إلى الإنسان. فالوسْط ليس واحدًا لجميع النَّاس. وإذا ما صدرت الأفعال عن إنسان فاضل في أوانها، وفي الموضع والظَّرْف المناسِبَين، وفي حقِّ من يستحقها، ولأسباب وجيهة، فإنَّها تُوافِق، عندئذ، الوسْط الذَّهبيّ وتُعَدُّ أفعالاً كاملة فاضلة. وما يليق بإنسان قد لا يليق بإنسان آخر، وما يَحسُن بفعل أو شيء قد لا يَحسُن به آخر (10).

وتمتاز الفضائل الأخلاقيَّة أيضًا بطابعها الإراديّ-القصديّ والواعي. ومن أجْلِ أنْ نُحْسِنَ فهم نمط تصرُّفات الشَّخصيَّة الإنسانيَّة وتقييمه أخلاقيًّا لا بدَّ، على ما يرى أرسطو، من التَّمييز بين ضربين من الأفعال: الأفعال الإراديَّة والأفعال غير الإراديَّة. وهذه الأخيرة هي تلك الأفعال الَّتِي يقع مبدؤها خارج الشَّخص الفاعل وتجري بالرغم من إرادته وبالضدِّ منها إمَّا عن طريق الإكراه المباشر أو الجهل أو بتأثير عوامل قاهرة وظروف طارئة. وهي، غالبًا، ما تتَّسم بالقلق والتَّوتُّر والمعاناة. وأما الأفعال الإراديَّة فهي تلك الأفعال الَّتِي يقع مبدؤها في الشَّخص الفاعل نفسه وتحدث عندما تكون الحيثيَّات والظُّروف المتعلقة بها معلومًة له(11).  بعبارة أُخرى، إنَّ الأفعال الإراديَّة هي التَّرجمة العمليَّة الطَّوعيَّة والحُرَّة لرغبات الفاعل الخاصَّة وخياراته. لكن الرَّغبات نَفْسها غاية في التَّنَوُّع ويمكنها أنْ تتعارض كما في ما بينها، كذلك مع العقل أيضًا. لذا، ولئن كانت جميع الأفعال الفاضلة دائمًا إراديَّة، فليست كل الأفعال الإراديَّة فاضلة. وعلى الرَّغْمِ من كون الأفعال الإراديَّة شرطًا أوَّليًّا ضروريًا للإلزام الأخلاقيّ، إلاَّ أنَّه غير كاف. فإلى جانب الطَّابع الإراديّ للأفعال المحمودة هناك أيضًا الرَّويَّة والقصد (العزم) اللَّذان يشكلان حَلْقَة الوصل الأساسيَّة بين الرَّغبة والفعل. فالرَّغبات لا تتحوَّل إلى فعل إلاَّ بعد أنْ يقرُّها العقل وينعقد عليها العزم. وإذا كان التَّمييز بين الأفعال الإراديَّة والأفعال غير الإراديَّة يبين أين يقع السَّبب القريب للأفعال- داخل الفرد أم خارجه- فإنَّ مفهوم العزم يُبَيِّن الدَّافع إلى الفعل في الفرد ذاته.

ويمضي أرسطو قُدُمًا في سبر أغوار الفضيلة الأخلاقيَّة وصولاً إلى البحث في مسألة معيار التَّمييز بين الأفعال المحمودة والأفعال القبيحة المرذولة. وأبرز ما يقوله الخطاب الأرسطي في هذا الشَّأن إنَّه لا وجود لمعايير ثابتة تتخطى الأشخاص والفروقات بينهم، تصلح لأنْ نقرر بموجبها مسبقًا أيُّ الأفعال هو الحسن وأيُّها هو القبيح. فلا يكفي أنْ تمتلك الأفعال سِمَات معيَّنة لكي يحق لنا نعتها بالفاضلة ولِتُعَدّ، بالتَّالي، أفعالاً واجبة وحسنة من الوجهة الأخلاقيَّة. فالعامل الحاسم في التَّقييم الأخلاقيّ للفعل بالنسبة إلى فيلسوفنا ليس طبيعة الفعل- لكونه فعلاً من نوع معيَّن- بل الشَّخص الفاعل نفسه. وهنا من المهم والضَّروريّ جدًا معرفة ما إذا كانت الأفعال صادرة عن قناعة وهيئة راسخة في نَفْسِ الشَّخص الفاعل أم أنَّها عرضيَّة تمَّت بمحض المُصادَفة أو على سبيل الرِّياء أو من باب الإكراه؟ وما هي دوافع الفاعل وغايته؟ ومن هُمْ الأشخاص المستهدَفون بهذه الأفعال؟ وهل تُؤتَى هذه الأفعال في موضعها وأوانها؟ واللافت هنا هو إصرار أرسطو على أنَّ السُّؤال عن حُسْنِ هذا الفعل أو ذاك، وخيرية هذا الإنسان أو ذاك ينبغي أنْ يُحَلَّ في كُلِّ مَرَّةٍ وفي كُلِّ حالةٍ على حدةٍ وبشكل ملموس مُشَدِّدًا على استحالة استواء الفصل مع التواء الأصل، واستقامة الظِّلِّ (الفعل) مع اعوجاج صاحب أو مصدر الظِّلِّ (الإنسان الفاعل). فالفاضل والرَّذيل، الصَّالح والطَّالح، الطَّيِّب والخبيث هُمْ النَّاس بأعيانهم، لا الأفعال بحدِّ ذاتها. وعلى الرَّغْمِ من المغالطة الَّتِي ينطوي عليها هذا الاستنتاج الأرسطي، فإنَّه يزخر بمعنَيين عقلانيَّين ثمينَين. ويتمثل المعنى الأوَّل في وقوف أرسطو، موضوعيًّا، ضد الفكرة السُّقراطيَّة-الأفلاطونيَّة القائلة بوجود قوانين وتعريفات أخلاقيَّة مُطْلَقة عامَّة وفوق شخصيَّة متعالية على الوجود الاجتماعيّ للإنسان، وهي الفكرة الَّتِي شَكَّلَت، في المناسَبة، قدرًا مشؤومًا لعلم الأخلاق في كل الأزمنة اللاحقة. ويتمثل المعنى الثَّاني في التَّأكيد أنَّ الأفعال الأخلاقيَّة هي، في الحقيقة، تلك الأفعال الاختياريَّة الَّتِي ينبغي أنْ تحظى بِمُسَوِّغها في الوعي الذَّاتيّ للإنسان الفاعل، ويتحمَّل كامل المسؤوليَّة عنها. ولتقييم التَّصرُّف على نحو صحيح من الضَّروريّ جدًا تبيان الدَّوافع والنِّيات الكامنة خلفه. لكن إذا كان الإنسان هو مصدر القيمة الأخلاقيَّة للأفعال ومقياسها، على ما يصرُّ أرسطو، فإنَّ السُّؤال الَّذِي لا مهرب منه هو: وبم يُحْكَم أخلاقيًّا على الإنسان نَفْسِهِ؟ الجواب الَّذِي يزوِّدنا به أرسطو هو أنَّ الإنسان يصير عادلاً بإتيانه أفعالاً عادلة، كريمًا بإتيانه فعل الجود. فالأفعال هي مصنع الفضيلة ومقياس خُلُقيَّة الإنسان والتُّرجُمان الحقيقيّ لنياته ودوافعه. لكن هذا ما لا يمكن استجلاؤه من خلال فعل واحد. فأرسطو مُحِقٌّ تمامًا في عدم جواز الحكم على الإنسان أخلاقيًّا بالاستناد إلى فعل جزئي منفرد، لأنَّه ليس من المُسْتَبْعَد قيام الإنسان الفاضل بعمل شنيع أخلاقيًّا، وكذلك ليس من المحال إتيان الإنسان الفاسق، لسبب أو لآخر، عملاً مُسْتَحَبًّا من الوجهة الأخلاقيَّة. وكما أنَّ خطَّافة (سنونو) واحدة تائهة مغرِّدة خارج سربها لا تدل على الرَّبيع ولا تُبَشِّر بإطلالته، لا هي ولا يوم صحو واحد، فكذلك لا يجعل فعل واحد الإنسان فاضلاً أو فاسدًا. فالإنسان لا يُنعَت بالسعيد لمجرد أنَّه ذاق طعم السَّعادة ليوم واحد أو حَتَّى لو عاش سعيدًا بعضًا من الزَّمن(12). ولكي نرسم لوحة أخلاقيَّة مطابقة عن الإنسان لا مناص من التَّمَعُّنِ مَلِيًّا في خَطِّ سلوكه ونهج أفعاله في مختلف مجالاتها وتنوُّع أشكالها وعلى امتداد فترة طويلة من الزَّمن.

ومع أهمِّيَّة الأفكار الَّتِي يتحفنا بها أرسطو في مبحث الفضيلة، إلاّ أنَّه لم ينجح في تجاوز ما انطوت عليه من مغالطات وشُبهات. وأولى هذه المغالطات هي وقوع أرسطو في فخ دوامة الحَلْقَة المنطقيَّة المفرغة في معرض تعريفه لكل من الإنسان الفاضل والأفعال الفاضلة: "الأفعال يمكن أنْ تُسَمَّى عادلة ومعتدلة حينما يأتيها إنسان عادل ومعتدل، والإنسان يصير عادلاً بإتيانه أفعالاً عادلة، ومعتدلاً بإتيانه أفعالاً معتدلة. وإذا كان الإنسان لا يمارس البتَّة أفعالاً كهذه فمن المحال عليه أيًّا كان أنْ يصير فاضلاً"(13). وثاني هذه الشُّبهات يكمن في إنكار فيلسوفنا وجود معايير أخلاقيَّة خارج شخصيَّة. فهو وإذ يغالي في التَّشديد على البُعد الذَّاتيّ-الشَّخصيّ للأخلاق، إنَّمَا يُجَرِّدها، فعليًا، من مضمونها القيميّ العام والمشروط موضوعيًّا. بالطَّبع، لا جدال في أنَّ كل فعل أخلاقيّ مرتبط على نحو وثيق بالذَّات الإنسانيَّة الفاعلة، إلاّ أنَّه لا ينفصل، في الوقت عينه، عن المنطق الموضوعيّ للعلاقات الاجتماعيَّة. وإذا كان فصل القِيَم والأفعال الأخلاقيَّة عن الإنسان وَهْمًا، فإنَّ فصلها عن الشُّروط الحياتيَّة والثَّقافيَّة المحيطة به هو وَهْم أكبر وأخطر. فالفعل بذاته بما هو فعل من نوع معيَّن وبصرف النَّظر عن فاعله والآمر به سواءً أكان فردًا أم جماعات (ممارسات المنظمات والطَّبقات الاجتماعيَّة وما شابه) يخضع للتقييم والحكم الأخلاقيّ. والشَّيء ذاته يسري على المؤسَّسَات والسَّيرورات الاجتماعيَّة والتَّاريخيَّة. وثالث هذه الشُّبهات يختصُّ بتعيين الوسْط المحمود. فالفعل الفاضل، حسبما يرى أرسطو، هو الفعل المتوافق مع العقل والحكم الصحيح، وأمَّا معيار الاتِّفاق فهو إذعان الجزء غير العاقل من النَّفْسِ لأمر العقل وسلطانه. لكن إذا ما ذهبنا إلى ما هو أبعد من ذلك وتساءلنا علاَم يرتكز العقل نفسه في سيرورة المفاضلة بين مختلف الرَّغبات المتنافسة؟ وكيف نقرر متى وأين تكون الانفعالات والأهواء سائرة على مقتضى العقل ومتناغمة مع أوامره؟ فعن هذه الأسئلة الممكنة والمشروعة يجيب أرسطو بالقول: " فذلك تعيينه أمر ليس بالسَّهل، إنَّمَا ينبغي لإجادة فهمه الشُّعُور به، والحكم لا يمكن أنْ يتعلق إلاَّ بالإحساس الَّذِي يشعر به كُلُّ واحد". إذ إنَّ إدراك الوسْط (الفضيلة) في كل أمر عسير جدًا. فهذه كفاءة ليست لجميع النَّاس وليس من السَّهل حيازتها"(14). وهكذا يمكن القول إنَّ أرسطو، وفي مبحث الفضيلة الأخلاقيَّة، وصل إلى تلك النُّقطة حيث صار الحُكْمُ البرهانيّ مُمْتَنَعًا، لذا، تَحَتَّمَ تَقَبُّل الحقيقة مُسْبَقًا من دون الإشارة إلى أسُسِها والأخذ بأسبابها.

يتَّضح مما سبق أنَّ أرسطو يمنح الفضائل الأخلاقيَّة طابعًا عمليًّا-وسيليًّا لخدمة الفضائل الفكريَّة. فالنَّموذج القياسيّ الَّذِي يرسمه أرسطو للإنسان الكامل هو على صورة إنسان مالك لزمام أموره، متحرر من عبوديَّة الأهواء ومراوغاتها وأفانين الشَّهوات وغواياتها، يأبى العيش خبط عشواء، مقبل بكل همة وعزم على بلوغ غاية رئيسة مطلوبة لذاتها لا لغيرها. فما هي هذه الغاية الَّتِي لا تعلوها قيمًة وسُمُوًّا  وشرفًا أيُّ غاية أُخرى؟ الإجابة عن هذا السُّؤال تنقلنا إلى مبحث الخير الأسمى، وهو، في المناسَبة، المبحث الَّذِي يستهل به أرسطو مؤلَّفه الثَّمين "علم الأخلاق إلى نيقوماخوس".

في الحقيقة، ثَمَّة مفاهيم عدة ترد في تعريف هذه الغاية من مثل الكمال الأقصى والخير الأسمى والسَّعادة العظمى. إذ قَلَّما ذكر أرسطو أحدها من دون الآخر. وترد هذه المفاهيم دومًا متحايثة إنْ لم نَقُلْ مترادفة. فإذا ما بلغ الإنسان كماله الأقصى كان قد بلغ خيره الأسمى ونال سعادته العظمى. لكن لمزيد من الوضوح لا مناص من تحديد معنى الكمال ذاته. فالكمال هو حضور الصِّفات المحمودة واللائقة بالشَّيء والموافقة لخاصِّيَّته الجوهريَّة الَّتِي تميزه من غيره من الأشياء والكائنات. ولكل نوع من الكائنات كماله الخاص به وذلك تبعًا لطبيعته ووظيفته والغاية التي وُجِدَ وخُلِقَ من أجلها. فكمال العين وفضيلتها، مثلاً، تختلف اختلافًا لا لَبْسَ فيه عن كمال الحصان. فالعين كمالها في حُسْنِ الأبصار وتأدية وظيفتها الخاصَّة بها على أتَمِّ وجه. أمَّا الحصان فكماله في سرعة الْعَدْوِ وحمل فارسه ومقاومة صدمة الأعداء. وإذا كانت الكمالات تختلف باختلاف الماهيَّات، فإنَّها تتفاوت بتفاوتها أيضًا. ولكن ما هو الكمال الخاص بالإنسان؟ وما هي خاصِّيَّته؟

يضع أرسطو تعريفين للإنسان: فهو كائن عاقل؛ وهو كائن مدنيّ سياسيّ. وهذان التَّعريفان مترابطان في ما بينهما على نحو وثيق. وطبيعة الصِّلة بينهما مهمة جدًا لفهم تعاليم أرسطو الأخلاقيَّة. فالإنسان لا يكتسب كينونتة الأخلاقيَّة إلاَّ في المدينة وبفضلها. إذ ليس في مقدور الإنسان أنْ يلبي أبسط حاجاته وأنْ يبلغ أفضل كمالاته إلاَّ بالاجتماع والتَّعاون مع أبناء جنسه. وبالاتِّفاق مع التَّعريف الأوَّل الذي مَيَّزَ الإنسان بالعقل وخصَّه به تصبح سعادة الإنسان العظمى وخيره الأسمى وكماله الأقصى مماثلة مفهوميًّا لمزاولة ملكاته الفكريَّة وتفعيل قدراته العقليَّة في تحصيل العلوم واكتساب المعارف وتأمل الجواهر الميتافيزيقيَّة، أيْ المبادئ الثَّابتة للوجود. ومن ثُمَّ، فإنَّ نصيب كُلِّ إنسان من الكمال والخير والسَّعادة يتناسب طرديًّا مع قدر ما نال من العلم وحضر من الحكمة. وإذا كانت العلوم والمعارف تتباين بتباين موضوعاتها، فإنَّها تتفاضل أيضًا في ما بينها من جهة القِيمَة والشَّرف. ذلك أنَّ العلوم تُشَكِّل جملة متراتبة متفاضلة تتدرج تصاعديًّا من الأدنى إلى الأعلى، من العلوم العمليَّة والنَّظريَّة-الجزئيَّة ارتقاءً إلى العلم الكُلِّي والفلسفة الأولى. ولئن كانت العلوم الجزئيَّة أكثر ضرورة عملانيًّا من الفلسفة الأولى، فإنَّ لا واحد منها يعلوها قيمًة وشرفًا(15). فقيمة العلم، على ما يرى أرسطو، رهن بجلال قدر موضوعه. والفرق بين الفلسفة الأولى والعلوم الجزئيَّة هو تمامًا كالفرق بين مكانة الإنسان الحُرِّ ومكانة العبيد. وكما أننا ننعت الإنسان الَّذِي يعيش من أجْلِ نفسه، لا من أجْلِ الآخر، بالإنسان الحُرِّ، فكذلك بالضَّبْطِ، هو مقام الفلسفة، فهي العلم الوحيد الحُرُّ، لأنَّها توجد من أجْلِ ذاتها(16).  يبدو أنَّ هذه التَّشبيه الَّذِي يعقده أرسطو بين العلوم الجزئيَّة والعبيد، وبين الفلسفة الأولى والإنسان الحُرِّ ليس البتَّة من باب الاستعارة والمجاز، بل يُعَبِّر حقيقًة عن مدى تأثير الإيديولوجيا والواقع الاجتماعيّ حَتَّى في شأن موضوعيّ بحت إلى أبعد الحدود كمسألة تصنيف العلوم.

والحال، إنَّ انحياز أرسطو الإيديولوجيّ الأرستقراطيّ يتجلَّى بأوضح ما يكون في تعاليمه الأخلاقيَّة والسِّياسيَّة. فالنموذج القياسيّ الَّذِي رسمته هذه التَّعاليم للشخصيَّة الفاضلة والإنسان الكامل هو، في حقيقة الأمر، نموذج نخبوي أرستقراطيّ بامتياز مُفَصَّل بإتقان على مقاس الطَّبقة العليا المهيمنة. وذلك لأنَّ شروط إمكان تجسيده في ظِلِّ نمط الإنتاج العبوديّ غير متاحة واقعيًّا سوى للأحرار والأسياد (مالكي العبيد). ولتوضيح ذلك لا بدَّ من تذكير القارئ، وباختصار شديد، بالمنطلقات الأساسيَّة لمنظومة أرسطو الأخلاقيَّة: أ) القول إنَّ الخير الأسمى الَّذِي يبحث فيه علم الأخلاق ليس مُطْلَقَ خيرٍ أو أيَّ خيرٍ اتُّفق، بل الخير اللائق بالإنسان والموافق لخاصِّيَّته والممكن له؛ ب) الاعتقاد بوجود علاقة لزوميَّة ضروريَّة بين تحقيق الإنسان لمعناه كإنسان وتفعيله لماهيَّته الحقَّة على قاعدة أنَّ الإنسان وُجِدَ من أجْلِ غاية معيَّنة، والغاية هذه تقررها ماهيَّته الجوهريَّة، وبتطويره وتنميته لها يبلغ الإنسان أفضل كمالاته؛ ج) مماهاة الخير الأسمى الخاص بالإنسان وكماله وسعادته القصوى بالحكمة والعلم؛ د) اعتبار الخير الأسمى هو الغرض العام لجميع آمالنا والغاية القصوى المطلوبة لذاتها لا لغيرها. فهو غاية الغايات وموحِّدها والبحر الَّذِي تصبو إليه وتصبُّ فيه جميع أنهار مساعي الإنسان على تنوُّعها واختلافها. فالخير الأسمى باتِّفاق الجميع وإجماعهم هو السَّعادة، حسبما يُؤكِّد أرسطو(17).

وإدراكًا منه بأنَّ هذه الغاية العليا ليست هِبَةً تهبط من علٍّ ولا هي عَطِيَّة مجَّانيَّة سارع أرسطو إلى تحديد شروط إمكانها الموضوعيَّة والذَّاتيَّة، وإلى تبيان الوسائل الضَّروريَّة الموصلة إليها. ومن جملة هذه الشُّروط والأسباب الَّتِي يُسَمِّيها أرسطو أيضًا فضائل وخيرات، لأنَّ الموصل إلى الخير خير، والمُعِين على الفضيلة فضيلة، يذكر فيلسوفنا الفضائل البدنيَّة كالصِّحَّة والقُوَّة والجمال وطول العمر، والفضائل الخارجيَّة كالأصدقاء والثَّروة والنُّفوذ السِّياسيّ والحظِّ. وهذه الأمور جارية مجرى آلات المسهلة للمقصود. فهي تُيَسِّر وتُذلِّل للإنسان من الصِّعاب الحياتيَّة ما يطول أو حَتَّى يتعذر عليه إنجازه لو افتقر إليها أو عاش في عزلة. فحال الفقير في طلب الكمال كحال السَّاعي إلى الهيجاء بغير سلاح، والبازي المتصيد بلا جناح. ومن عُدم الثَّروة والجاه والمال صار مستغرق الوقت والجهد والبال في طلب القوت واللباس والمسكن وضرورات الحياة، وبالتَّالي، لن يتمكن البتَّة من التَّفَرُّغِ لاقتناء العلم وتحصيل سعادته الخاصَّة. إذ كلما تخففت الأشغال والهموم الحياتيَّة ازداد حَظُّ الإنسان في التَّفَرُّغِ للعلم والتَّأمل على اعتبار أنَّ العلم لا يعطينا بعضه ما لم نعطه كلنا. لكن هذه الشُّروط لا تفي وحدها بالغرض ما لم يكن الإنسان ذاته حُرًّا مريدًا لأفعاله ومُدْرِكًا لغاياته وخياراته. إذ لا أمل في الوصول إلى أمَّات الفضائل الَّتِي عدَّها أرسطو مكتسبة بامتياز بالبطالة والعطالة والجهالة. وإذا ما أخذنا الآن بعين الاعتبار كل هذه المعطيات والشُّروط، فسرعان ما تنجلي الهُوِيَّة الطَّبقيَّة-الأرستقراطيَّة للسعداء "المحظيين والمبشَّرين بالنَّعيم والفوز العظيم". وأمَّا الطَّبقات الاجتماعيَّة الدُّنيا المستعبَدة الَّتِي سُلِبَت إرادتها وصودرت حُرِّيتها، والمُقَيَّدة بأصفاد الإنتاج الماديّ والعمل الجسديّ المضني فهيهات حَتَّى أنْ تحلم بالسَّعادة فما بالك أنْ تستطيع سبيلا إلى الاستضاءة بنور شمس المعارف الكبرى وعزف لحن سعادتها القصوى.

يَدُلُّ مجمل ما سبق من قول على السُّمُوِّ المطلق للعقل في العصر القديم. فالإنسان لا يتجوهر ولا يتألق إلاَّ بقدر ما يهتدي بنور العقل ويعشقه أولاً وأخيرًا. وليست قوة الإنسان وحدها مرتبطة بالعقل، إنَّمَا عزَّته وكرامته أيضًا. لكن ماذا عن الأخلاق وتطلعاتها إلى المطلق والاستقلاليَّة والقدسيَّة؟ وفي هذه المسألة يحذو أرسطو، ببساطة شديدة، حَذْوَ مُعَلِّمه أفلاطون ويقوم بنقل هذه المطامح الأخلاقيَّة إلى سلطان العقل والمعرفة. فالعقل لا ينتج معرفة فحسب، وإنَّمَا يعطينا أيضًا كل ما هو نافع وجميل ولذيذ ولائق. هذا فضلاً عن أنَّ الأخلاق نفسها، شأن جميع المقاصد الإنسانيَّة، لا يمكن أنْ تتمتَّع بالقبول والشَّرعيَّة إلاَّ بعد اجتيازها إمتحان الجدارة العقلانيَّة. ومن شأن هذه المقاربة الأرسطيَّة الَّتِي تَرُدُّ الخير الأسمى إلى المعرفة باعتبارها الغاية القصوى المطلوبة لذاتها أنْ تفضي إلى منح علم الأخلاق والفضائل الأخلاقيَّة طابعًا تطبيقيًّا وظيفيًّا وثانويًّا، وإلى استبعاد النَّظر في مسألة المبادئ الأخلاقيَّة والمعايير العامَّة للتمييز بين الخير والشَّرِّ. وبذلك يكون أرسطو قد اشترى مطلقيَّة العقل مقابل نسبنة الأخلاق وعلى حسابها. ولا عجب في ذلك ما دام العقل هو قدس الأقداس الَّذِي لا تُبخَل ولا تعزُّ على مذابحه كل الأضاحي والقرابين بما فيها الأخلاق ذاتها. فلا حرج، وَفْقًا لأرسطو، في المجاهرة: "اننا لصالح الحقيقة ننتقد حَتَّى آراءنا الخاصَّة، خصوصًا، ما دمت أدَّعي أنِّي فيلسوف. وعلى هذا فبين الصَّداقة وبين الحقيقة اللَّذَين هما كلاهما عزيز على أنفسنا نرى فرضًا علينا أنْ نُؤثِر الحقيقة على كل ما عداها"(18). هذه القناعة ليست مجرد عبارة ذائعة ومشهورة، إنَّمَا هي كلمة سِرِّ العصر القديم ورُوحه.

تثير أطروحات أرسطو في مبحث الخير الأسمى كما في مبحث الفضيلة إشكالات وتساؤلات منطقيَّة ومفهوميَّة وإبستيميَّة شَتَّى سبق أنْ اُشِيرَ إلى بعضها تكرارًا ومرارًا في المجرى اللاحق لتطوُّر الفكر الأخلاقيّ. وأبرز هذه الإشكالات هي تلك المتعلقة بأطروحة أرسطو الرَّئيسة القائلة بوجود علاقة ضروريَّة بين ماهيَّة الإنسان وخيره الأسمى وكماله الأخلاقيّ. والمشكلة هنا هي أنَّى يمكن أنْ نحوِّل حُكْمًا وجوديًا إلى حُكْمِ قيمة، أيْ كيف يمكن، استدلاليًّا، تسويغ الانتقال من الوجود إلى الوجوب، من معرفتنا لما هو كائن إلى ما ينبغي أنْ يكون؟ لنفترض أنَّ الشَّرَّ في الجَدِّ القديم غريزةٌ وفي كُلِّ نَفْسٍ منه عِرقٌ ضاربُ، وأنَّنا عدوانيون وأنانيون بالطبع والطَّبيعة، بالفطرة والسَّليقة، فهل ما يتوجب علينا فعله أخلاقيًّا في هذه الحالة هو مجاراة طبيعتنا وإطلاق العنان لها؟ الجواب هو طبعًا بالنفي. فإذا كانت طبيعتنا على النَّحو الَّذِي افترضناه، فإنَّ ما ينبغي لنا فعله، من منظور أخلاقيّ، هو العكس تمامًا، أيْ السِّباحة في الإتِّجاه المعاكس لتيارها. ومن هنا، فإن معرفتنا لما هو كائن في الواقع لا تكفي بمفردها لكي نستنتج منها حُكْمًا وجوبيًّا بالمعنى الأخلاقيّ للوجوب(19).

ثَمَّة إشكال آخر ويطال هذه المَرَّة التَّضارب الحاصل في الموقف الأرسطي من أطروحة سقراط المركزيَّة القائلة بوحدة الفضيلة (الخير) والمعرفة. من المعلوم أنَّ أرسطو يعيب وبِحَقٍّ على سقراط مقولته هذه مُؤكِّدًا أنَّها تخالف أبسط البداهات وتتعارض مع وقائع الحياة. فليس بالمعرفة وحدها يصير الإنسان فاضلاً. فالعلم بالدَّاء وحُسْن الإصغاء إلى نصائح الأطبَّاء، من دون تناول ما يناسبه من دواء، لا يكفيان البتَّة للشفاء. فأنْ يعرف المرء أنَّ الشَّجاعة هي وسْط بين رذيلتين مذمومتين لا يعني بعد تَمَكُّنه من ايجاد هذا الوسْط في الواقع، ولا يعني أيضًا أنَّه صار شجاعًا بالفعل. فإلى جانب معرفة الإنسان لما هو الخير، على أهمِّيَّتها الكبرى، لا بدَّ له كذلك من أنْ يريد ويرغب في مزاولة ما يعرفه، ومن أنْ يقدر على ترجمة ما يعرفه ويريده، ومن أنْ يُحْسِن المواءمة بين ما يعرفه وما يريده وما يستطيعه. صحيح أنَّ الفضيلة والمعرفة على تماسٍ وإتِّصال إلاَّ أنَّهما ليسا شيئًا واحدًا. قد يتساءل القارئ أين مكمن تخبُّط أرسطو وتهافته في المسألة الَّتِي نحن في صددها؟ للإجابة عن هذا التَّساؤل الممكن والمشروع أوَدُّ أنْ ألفت عناية القارئ إلى أنَّ تناقض أرسطو لا يكمن في نقده لأطروحة سقراط المذكورة أعلاه، وهو النَّقد الَّذِي لا غبار عليه، ولا لَبْسَ فيه، إنَّمَا في تَبَنِّيه وإثباته لما ينكره ويعيبه عليها. فالتمييز الَّذِي خَطَّهُ أرسطو بين العلم والعمل، بين الفضيلة والمعرفة لم يعصمه البتَّة لا من إعادة إلقاء الأخلاق في حضن المعرفة ولا من إسباغ الأخيرة بمعانٍ ونعوت أخلاقيَّة. فبأيِّ حقٍّ وعلى أيِّ أساس يصف أرسطو التَّأمل النَّظريّ بأنَّه الفضيلة والسَّعادة الأولى والخير الأسمى؟ ومن أين صدر مفهوم الفضيلة ذاته؟ فهل هو من قاموس المعرفة وحقلها المعجمي؟ وهل يُشَكِّل الخير النَّواة السِّيمانتيَّة الجوهريَّة لمفهوم المعرفة؟ ثُمَّ ألم تظهر الفضيلة ممارسًة ومصطلحًا حَتَّى قبل أنْ يبادر النَّاس إلى النَّظر العقليّ في مدلولها ومحتواها؟ وقصارى القول، يقع أرسطو في تناقض لا يُغتفر لشيخ المناطقة وزعيمهم الأوَّل: فهو يضع المعرفة في مرتبة أعلى من الأخلاق، لكنه لتأسيس هذا وتسويغه يقوم بتفسير المعرفة مستعينًا بالمفاهيم الأخلاقيَّة.

  وفي المرحلة اللاحقة على أرسطو اخذت الشَّخصيَّة الفاضلة بالانفصال تدريجيًا عن حياتها المدينيَّة، على ما يتجلَّى ذلك في المنظومات الأخلاقيَّة لكل من الرَّيبيَّة والرُّواقيَّة والأبيقوريَّة. فقد أعطت هذه المذاهب الشَّخصيَّة الإنسانيَّة أهَمِّيًّة غائيَّة قائمة بذاتها. فقد حاولت هذه المدارس الأخلاقيَّة إثبات الفكرة القائلة بقدرة الإنسان الذَّاتية على إيجاد سعادته في السَّكينة الدَّاخليَّة وحدها فقط، وذلك من خلال اللامبالاة تجاه العالم الواقعيّ ونفيه. صحيح أنَّ الفلسفة اليونانيَّة الَّتِي ربطت عَظَمَة الإنسان بنشاطاته ومؤهلاته العقليَّة-الإبداعيَّة حفَّزت التَّقدُّم في شَتَّى مناحي الحياة والمعرفة، إلاَّ أنَّها، وعلى الرَّغْمِ من تَنَوُّع البدائل والنَّماذج الأخلاقيَّة الَّتِي رسمتها، كانت تعاني قصورًا فاضحًا في مواكبة تغيرات الواقع الاجتماعيّ واستيعابها، وكانت أوهن من أنْ تتحمل أثقال مآسي العصر القديم وويلاته، وأبعد من أنْ تُعَبِّر عن آمال المُضْطَهَدين والمُعَذَبين الَّذِينَ سحقتهم الآلة العسكريَّة الجبارة للأمبراطوريَّة الرُّومانيَّة وممارسات أباطرتها المَرَضِيَّة-الجنونيَّة والدَّمويَّة. وبالفعل، فقد كانت هذه النَّماذج المعياريَّة، بحكم طابعها الأرستقراطيّ ونزوع بعضها إلى الانعزال عن العالم والتَّقوقع على الذَّات المُكابر، عَصِيًّة جدًا على أفهام العوام وبعيدة من همومهم الحياتيَّة والإمكانات المتاحة لهم واقعيًّا. فقد اقتضت ضرورات الكفاح ضد البؤس القاتل والمستشري والاستعباد المتزايد البحث عن مُخَلِّصين وسبل أُخرى للخلاص غير تلك الَّتِي نجدها في التَّيارات الأخلاقيَّة السَّائدة من مثل الإيديمونيَّة (مذهب السَّعادة)، والهيدونيَّة (مذهب اللَّذَّة)، والأتاراكسيا (مذهب الطَّمأنينة الدَّاخليَّة). وهذا الأمل بالخلاص هو، بِالضَّبْطِ، ما بَشَّرت المسيحيَّة به حاملًة على أكتافها صليبه وآخِذًة على عاتقها إنارة معالم طريقه: "تعالوا إليَّ يا جميع المُتْعَبِين والثَّقيلي الأحمال، وأنا أريحكم"(20). لذا، لم يكن من قبيل المُصادَفة أنْ تُعمِل المسيحيَّة، من منطلق شعبيّ-إنسانيّ سليم، مبضع التَّشهير الأخلاقيّ بكل الشُّرور المؤلِّفة للحم مجتمع الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة العبوديّ ودمه، وأنْ تتوعَّد مرتكبيها بسوء الخاتمة وبئس المصير. ومن جملة هذه الخطايا والشُّرور الَّتِي ذمَّتها المسيحيَّة وَدَعَت إلى اجتثاثها غير المشروط نذكر، على سبيل المثال لا الحصر: القتل والعنف، تكديس الثَّروة، الكراهية، الزِّنا، الكذب، الاضطهاد السُّلْطَوي، التَّمييز القوميّ والتَّفرقة القَبيلِيَّة. ولم تكتف المسيحيَّة بالإدانة والذَّمِّ اللَّفظيَّين لهذه الشُّرور وغيرها، بل سارع رجالاتها الأوائل، على ما نقرأ في أعمال الرُّسُلِ، إلى مواجهة العلاقات الاستغلاليَّة ومناهضتها عبر تفعيل أنماط جديدة من العلاقات الحياتيَّة مفعمًة بالمحبة والتَّفاني والرُّوح الجماعيَّة-التَّشاركيَّة: "وكان لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمنوا قلبٌ واحدٌ ونَفْسٌ واحدةٌ، ولم يكن أحدٌ يقول إنَّ شيئًا من أمواله له، بل كان عِنْدَهُمْ كُلُّ شيءٍ مُشْترَكًا. إذ لم يكن فيهم أحدٌ محتاجًا، لأنَّ كُلَّ الَّذِينَ كانوا أصحابَ حقول أو بيوتٍ كانوا يبيعونها، ويأتون بأثمان المبيعات ويضعونها عند أرْجُلِ الرُّسُلِ، فكان يُوزَّعُ على كُلِّ أحدٍ كما يكون له احتياج"(21). وفي موازاة هذه الإجراءات العمليَّة، فقد أحْدَثَ ظهور المسيحيَّة وانتشارها السَّريع انقلابًا جذريًّا في فلسفة الأخلاق غَيَّرَ جهازها المفهوميّ ورُوحها العامَّة وجملة الأفكار الَّتِي نهض عليها صرحها كله. أمَّا الإضاءة العيانيَّة على مختلف جوانب هذا الانْقلِاب الجذريّ الدِّينيّ وما يثيره من إشكالات فلسفيَّة فتتطلب بحثًا معمَّقًا ومستفيضًا ومستقلاً لا يتَّسع له المجال في هذا المقال.

***

د. علي صغير / كاتب وباحث لبناني

.........................

المراجع والهوامش:

1- أوفيديوس ببليوس ناسو: التَّحوُّلات. موسكو، دار الأدب الرِّوائيّ. 1977. ص 170. (باللُّغة الرُّوسيَّة).

2- أبو العلاء المعرِّي: اللُّزُوميَّات. تحقيق أمين عبد العزيز الخانجي. الجزء الأوَّل. منشورات مكتبة الهلال- بيروت/مكتبة الخانجي-القاهرة. ص 113.

3- دليل الفلسفة العالميَّة الشَّامل. المُجَلَّد الأوَّل، الجزء الأوَّل. موسكو. دار الفكر. 1969. ص 316. (باللُّغة الرُّوسيَّة)

4- في المناسَبة، لقد بدت الدِّيمقراطيَّة الأثينيَّة المباشرة، من بعض الوجوه، أكثر شفافية من أيِّ نظام ديمقراطيّ معاصر على الرَّغْمِ من آفتها النُّخبويَّة الطَّبقيَّة الخطيرة المتمثلة في اقصائها العبيد والإماء عن المشاركة في تقرير سياسات الشَّأن العام الدَّاخليَّة منها والخارجيَّة على حدٍّ سواء.

 5- لمزيد من التَّفصيل حول آفات هذه الأنظمة السِّياسيَّة من المنظور الأفلاطوني أنظر الكتاب الثَّامن من مُؤَلَّف أفلاطون: الجمهوريَّة (المحاورات الكاملة). المُجَلَّد الأوَّل. نقلها إلى العربيَّة شوقي داود تمراز. بيروت. دار الأهليَّة للنشر والتَّوزيع. 1994.

6- المصدر السَّابق. ص ص 263، 298.

7- أبو حامد الغزالي: المنقذ من الضَّلال والموصل إلى ذي العزَّة والجلال. بيروت. اللَّجنة اللُّبنانيَّة لترجمة الرَّوائع. الطَّبعة الثَّانية. 1969. ص 21.

8- علي حرب: التَّأويل والحقيقة (قراءات تأويليَّة في الثَّقافة العربيَّة). بيروت. دار التَّنوير. الطَّبعة الأولى، 1985. ص 149.

9- أرسطو: علم الأخلاق إلى نيقوماخوس. الجزء الأوَّل. نقله إلى العربيَّة أحمد لطفي السَّيِّد. القاهرة. مطبعة دار الكتب المصرية. 1924. الكتاب الثَّاني، الباب الأوَّل. ص 226.

10- أنظر المصدر السَّابق. الكتاب الثَّاني، الباب السَّادس. ص 247.

11- أنظر المصدر السَّابق. الكتاب الثَّالث، الباب الأوَّل. ص 266-267.

12- المصدر السَّابق. الكتاب الأوَّل، الباب الرَّابع. ص 195.

13- المصدر السَّابق. الكتاب الثَّاني، الباب الرَّابع. ص 238-239.

14- المصدر السَّابق. الكتاب الثَّاني، الباب التَّاسع. ص 264.

15- أنظر أرسطو: الميتافيزيقا. الكتاب الأوَّل، الباب الثَّاني. ص 22. (باللُّغة الرُّوسيَّة).   

16- المصدر السَّابق.

17- أرسطو: علم الأخلاق إلى نيقوماخوس. الكتاب الأوَّل، الباب الثَّاني. ص 175.  

18- المصدر السَّابق. الكتاب الأوَّل، الباب الثَّالث. ص 181. 

19- كان الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (1711-1776) أول المُنَبِّهين على لامشروعية وعدم جواز ما يجري في الدِّراسات الأخلاقيَّة من انتقال من أحكام أنطولوجيَّة إلى أحكام معياريَّة، من ما هو كائن إلى ما ينبغي أنْ يكون: لا يمكن أنْ نستنتج حُكْمًا متَّصلاً بالرابطة "يجب" أو "ينبغي" من أحكام ومُقْدِّمات خالية تمامًا على نحو صريح أو مُضْمَر من الرَّابطة "يجب". وإلى المعنى نفسه ذهب الفيلسوف والرِّياضي الفرنسي الشَّهير هنري بوانكاريه(1854-1912) بقوله: إنَّ استنتاجًا أمريًّا لا يمكن أنْ يُشْتَق من استدلالٍ ليس فيه أيُّ مُقَدِّمَةٍ أمريَّة.

20- الكتاب المقدَّس. العهد الجديد. إنجيل مَتَّى، الإصحاح 11: 28.

21- الكتاب المقدَّس. العهد الجديد، أعمال الرُّسُلِ، الإصحاح 4: 32، 34، 35.

في المثقف اليوم