دراسات وبحوث

تصوف ومتصوفة: ثابت البناني.. دبيب الروح الثابت

ميثم الجنابييمثل ثابت البناني (ت-123 للهجرة) إحدى الشخصيات الأولى التي ساهمت في تهذيب أسلوب تنقية الإرادة وهيكلة الروح الأخلاقي والمعرفي من خلال الوسيلة. فهو أول من جعل الصلاة أسلوبا لبلوغ الحق من خلال جعلها وسيلة الأنا الباحثة عن الارتباط بالمطلق والانسجام معه في الأقوال والأفعال. وليس مصادفة ألا نعرف عنه أكثر من كونه مصليا عابدا. لهذا قيل عنه "من أراد أن ينظر إلى اعبد أهل زمانه فلينظر إلى ثابت البناني". بحيث جعلته هذه الصفة كما يقول انس بن مالك "مفتاحا للخير" كما في قوله "إن للخير مفاتيح! وإن ثابتا مفتاح من مفاتيح الخير".

وهو مفتاح فتح أولا وقبل كل شيء ذاته أمام ذاته من خلال حصر مكونات الروح والجسد وتذويبهما في فعل الصلاة الدائمة، أي الخشوع أمام المطلق. من هنا قوله "لا يسمّ عابد أبدا عابدا، وإن كان فيه كل خصلة خير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان – الصوم والصلاة، لأنهما من لحمه ودمه".

بعبارة أخرى، إن العبودية الحقيقية لله تفترض التحرر مما غيره من خلال جعل العلاقة بينهما تسري في اللحم والدم، أي في كل وجدان الروح والجسد وكل حركة يقوما بها. وليس مصادفة أن يقول البناني إن "الصلاة خدمة الله في الأرض". من هنا كثرة الحالات الغريبة المنقولة عنه، مثل أن يقال عنه، بان ثابت البناني ربما يمشي فلا يمر بمسجد إلا دخل فصلى فيه. ربما مشى معه امرؤ فإذا عاد مريضا بدأ بالمسجد الذي في بيت المريض. فركع ثم يأتي المريض. من هنا قوله "كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة".

لقد كانت الصلاة بالنسبة له سريان الروح في الروح. من هنا وحدة وتناغم المكابدة والسعادة فيها. وصنعت هذه المعادلة صيرورته وكينونته. بحيث نراه يحصر رغبته الأبدية والغاية النهائية من وجوده في ديمومة الصلاة. من هنا دعاءه "اللهم إن كنت أعطيت احد من خلقك أن يصلي لك في قبره فأعطني ذلك".

وقد جرى وضع أساطير على ذلك مثل سماع الناس صلاته في القبر، وسماعهم لتلاوته القرآن وما شابه ذلك. لقد أراد ثابت البناني أن يجعل من حياته وموته وحدة متجانسة لديمومة العلاقة الوجدانية التامة بالمطلق. وفيها يمكننا العثور على المقدمة الخفية والضرورية التي تجعل من موقف المثقف تجاه كل شيء لوحة مرئية من وراء دموع الوجدان الدافئة.

ومن الممكن رؤية بعض الملامح الظاهرية لهذه الحالة في التصوير الذي قدمه البعض عنه عندما رسم لنا شخصية البناني الباكية بعبارة:"رأيت ثابتا البناني يبكي حتى أرى أضلاعه تختلف". وقد لا تكون هذه الحالة معزولة عن الأثر السحري الذي تركته عبارة أنس بن مالك الذي قال له مرة:"ما أشبه عينيك بعيني رسول الله!"، فما زال يبكي حتى عمشت عيناه. لكنه عمش العيون المعذبة بعذوبة الرؤية الوجدانية التي ترغم المثقف الكبير على مواجهة سيلان الحياة وصلادة البشر! بحيث تجعل من هذه المفارقة التي يواجهها المثقف الكبير امتحانا دائم. وليس مصادفة أن تؤدي به هذه الحالة إلى إمكانية تلف العين. وعندما جاءوا بطبيب يعالجها، فانه قال له:

- أعالجها على أن تطيعني!

- وأي شيء؟

- على أن لا تبكي!

- فما خيرهما أن لم تبكيا؟!

وأبى أن يتعالج! وليس لهذا الموقف أدنى ارتباط بإدراك معنى الطب والتطبب ووظيفته العملية، بقدر ما له صلة بموقف المثقف المبني مما أسميته بالعلاقة التي تجعل من موقفه تجاهه كل شيء لوحة مرئية من وراء دموع الوجدان الدافئة. إذ تجعله هذه العلاقة يتعامل مع كل ما هو موجود وممكن ومحتمل بمعايير الوحدة السارية للروح في كل مكونات ومسام الجسد. لهذا نراه يقول مرة لأصحابه:

- إني لأعلم حين يذكرني ربي.

- تعلم حين يذكرك ربك؟!

- نعم!

- متى؟

- إذا ذكرته ذكرني! واني لأعلم حين يستجيب لي ربي.

- تعلم حين يستجيب لك ربك؟!

- نعم!

- وكيف تعلم ذلك؟

- إذا وجل قلبي واقشعر جلدي وفاضت عيناي وفتح لي في الدعاء!

تعكس صيغ الإجابات المتنوعة الوحدة الظاهرة والمستترة فيما يمكن دعوته بسريان الإبداع من خلال تكامل الحق في الرؤية والمواقف، أي المتحررين من النصوص "المقدسة" أيا كان شكلها ومحتواها. ومن بين طرائف حياته أن يتجلى هذا التحرر في يوم زفافه. فقد حمله رجل على عنقه إلى امرأته ليلة دخل بها! ومن الممكن تخيل صورة البناني العراقية، أي السريالية المتوجة بوحدة الخروج على المألوف والبقاء بها بوصفها الوحدة الظاهرية لما تدعوه المتصوفة بوحدة الفناء والبقاء. بل يمكننا تخيل كمية ونوعية العبارات المحتملة هنا في وصفها لحالة البناني من الابتسامة الخفية والفرح المجنون حتى الشتيمة والشماتة. ووراء كل ذلك تختبئ شخصية ثابت البناني وذوبانها في الخيال الجميل بوصفها دبيب الروح، أو في الخيال المريض بوصفها دبيب الدود! لكن الشيء الأهم والأكثر ديمومة ومعنى هو قدرته وأثره على صنع خيال بلا حدود! أما بمعايير الحقيقة فانه تجسيد للثبات أي على اسمه!

 

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم