دراسات وبحوث

تصوف ومتصوفة: أيوب السختياني.. صمت الروح المبدع

ميثم الجنابيهو كيسان بن أبي تميمة العنزي (68-131 للهجرة). ولد ومات بين طاعونين! وما بينهما ترامت حياته التي جعلت منه إماما للمتقين والزاهدين، ومرجعا لليقين الروحي والأخلاقي في مرحلة أتسمت بالحراك والصراع الشديدين. بحيث نرى انعكاسهما المتناقض في صقل شخصيته العصية على الوضع في قالب واحد، شأن شيخ القوم آنذاك الحسن البصري. بمعنى إننا نعثر فيه على ملامح ما يمكن دعوته بالثبات الحرّ زمن المتغيرات الجارفة. فالأخيرة عادة ما تجرف في سيولها كل ما هو عرضة للحمل السريع، أي كل ما يتدحرج بسهوله في تيارها. وفي هذا يكمن معنى إتباع السنّة في فكره وسلوكه، أي إتباع الروح النبوي بوصفها سنّة الحقيقة وليست سنّة السلطان والفرق (الأحزاب) والمذاهب. وضمن هذا السياق يمكن فهم حقيقة ومعنى جحوده "للبدعة" ومعارضته للاعتزال والخوارج. فقد كان يرى في المعتزلة وجدلها العقلي السافر قوة لا تقيم وزنا "لما في السماء"، أي لله وأصنامه الصغيرة المتراكمة في أزقة الخلافة وشطارها الأمويون! بينما لم يكن يرى في الخوارج سوى القوة التي تختلف في كل شيء لكنها تجتمع على السيف! ولم تكن هذه الرؤية والمواقف معزولة عن جملة من الوقائع والحقائق التي جرى تحسها وذوقها بمعايير الاجتهاد الشخصي والسلوك الفردي في مجتمع (عراقي) اتسم من حيث تقاليد وشخصيته (وما يزال، رغم فساده الهائل والعابر أيضا) بعقل الخلاف ونفسيه الاختلاف في كل شيء، بحيث جعلت من الممكن تصنيفهم ضمن "أهل الأهواء والبدع". مع أن الحقيقة وبلوغها غير معقولة دون الخلاف والاختلاف. فهو طريق الحريق التي تتهذب فيه وتتشذب كل عوالق الزمن العابر لتبقى نصاعة التاريخ فيه بوصفها إخلاصا للحق والحقيقة او تعبيرها عنها بوصفها تجربة ثقافية تاريخية.

فقد كان زمن أيوب السختياني زمن اللهيب الهائل لصيرورة الخلافة العربية الإسلامية التي لازمتها كمية غير متناهية من الاحتراب العنيف. الأمر الذي جعل من الجحود والمروق والخروج على المألوف وما شابه ذلك أمرا عاديا، بل وضروريا للوجود نفسه. تماما كما جعل من ظهور شخصياته الثابتة والراسخة القوة القادرة على مسك تربة الوجود التاريخي لكي تنمو فيها ما سيدعوه بعد قرون الفيلسوف الأندلسي ابن باجه، بالنوابت، أي الثوابت في شجرة الحياة الحية! وقد كانت شخصية السختياني ضمن هذا السياق تمثيلا للاستقامة زمن الصراعات الحادة.

بعبارة أخرى، مهما يكن من أمر مواقف السختياني هذه، فأنها تبقى جزئية وعابرة على ضفاف مجراه العارم صوب الهدوء في بحر الحقيقة والإخلاص لها بمعايير السلوك العملي. وفي هذا يكمن سرّ تحوله إلى إحدى الشخصيات التأسيسية الأولى للزهد الإسلامي والتصوف العملي. بمعنى من أولئك الذين ارسوا أسس التصوف الإسلامي من خلال تمرين الروح والجسد بمعايير الخروج على ما هو مألوف وعادي في فهم إشكاليات الوجود الاجتماعي والسياسي والأخلاقي. فقد شارك إلى جانب المئات ممن يمكن دعوتهم بالرعيل الأول الذائب في نحت الأفكار الجزئية والقيم العملية التي تناسبها. وهي النسبة التي يمكن رؤيتها في المقارنة والعبارات التي استعملها الحسن البصري عنه، وما قاله أيوب السختياني عن الحسن البصري. فقد قال الحسن البصري عنه مرة: "أيوب سيد شباب أهل البصرة"، كما لو انه يوازي بالمعنى التقليدي العبارات الوجدانية المتنوعة عن الحسن والحسين باعتبارهما سيدا شباب أهل الجنة، أو أبو بكر وعمر باعتبارهما سيدا كهول أهل الجنة أو مختلف الصيغ المشابهة. فالمضمون جلي. ومضمونه يقوم في محاولة البحث عن نماذج مثلى للتاريخ الفعلي من خلال رفعها إلى مصاف "السعادة التامة". وإذا كانت هذه "الأحاديث" النبوية، بما فيها الموضوعة (أي التي جرى صنعها لاحقا ووضعها على لسان محمد كما هو الحال بالنسبة للحديث المذكور أعلاه عن أبي بكر وعمر)، فان "حديث" الحسن البصري هو أولا وقبل كل شيء موقف فكري روحي لا نزاع فيه لمعترك العقائد والتحزب. بل ينبع من إخلاص الروح ومنطق التاريخ الفعلي للحياة نفسها.

بعبارة أخرى انه لا يتكلم عن "سيادة" وهمية متعالية ومقدسة، بل عن نموذج واقعي - مثالي لأهل البصرة. وهو موقف كوني أيضا. والقضية ليست فقط في أن البصرة آنذاك (وما زالت في أعماقها وإمكاناتها) هي قاعدة الروح الثقافي العربي الإسلامي، بل ولحدسها العميق القائل، بان المتعالي والمقدس تاريخي بالضرورة وفرداني بالمصير. وليس مصادفة أن نسمع السختياني مرة يقول عن الحسن البصري:" هذا سيد الفتيان!". إذ تنعكس في هذه العبارات رؤية الفرق بين الأبعاد المحلية والكونية.

فقد كان أيوب السختياني محليا وجزئيا بمعايير الرؤية الكونية التي بلورها الحسن البصري. لكنه المكوّن الضروري الذي جعل منه عنصرا فعالا في بناء صرح المرجعيات الروحية المتسامية للثقافة العربية الإسلامية.

فقد كان أيوب السختياني بنظر الكثيرين "جهبذ العلماء"، و"افقه أهل البصرة في دينه" وأصدقهم. فقد كان ابن سيرين يقول عنه "حدثني الصدوق". بل تحول إلى قبلة الاستلهام العملي لأولياء الثقافة الروحية المتراكمة في مجرى تصادم المثقف والسلطة المميز للمرحلة الأموية. فعندما قيل لأحدهم:

- نراك تتحرى لقاء العراقيين في الموسم؟

- والله ما افرح في سنتي إلا أيام الموسم! القي أقواما قد نوّر الله قلوبهم بالإيمان. فإذا رأيتهم ارتاح قلبي! منهم أيوب (السختياني)!

وهو لقاء ينبغي فهمه ضمن سياق المكانة التي احتلها أيوب السختياني في سلسلة الزهاد المصنوعة من معاناة التأمل العميقة لإشكاليات الوجود الفعلية والحياة العامة والخاصة. وليس مصادفة أن يقول بعضهم عنه "ما وعدت أيوب موعدا إلا وجدته قد سبقني إليه". بينما يقول عنه شخص آخر "ما رأيت رجلا قط اشد تبسما في وجوه الرجال من أيوب". وهي البسمة التي تعكس بكاءه الروحي. كما أنها المفارقة التي يمكن تحسسها في وعيه الذاتي ونقده للنفس، أي مراقبتها بالشكل الذي يجعل منها كيانا مخفيا من ملاحقة العيون المتطفلة. من هنا قوله "ذكرت وما أحب أن اذكر"، وانه "إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل". بل نراه يقول عن يزيد بن الوليد بعد توليه الخلافة، وقد كانوا أصدقاء قبل ذلك "اللهم انسه ذكري". وهو موقف مبني على فكرته القائلة بأنه "لا يستوي العبد (الإنسان) حتى يكون فيه خصلتان، اليأس مما في أيدي الناس، والتغافل عما يكن منهم". وهو موقف لا يأس فيه ولا انزواء بقدر ما يعكس تراكم المبدأ النظري والعملي في تنقيه النفس وجعلها روحا. من هنا بناءه هيكل الفضيلة الروحية والعملية بصمت. ووضع هذا المبدأ في عبارة تقول "ليتقي الله رجل وإن زهد، فلا يجعلن زهده عذابا على الناس، فلأن يخفي الرجل زهده خير من أن يعلنه". ووجدت هذه المعادلة تعبيرها فيما يمكن دعوته بالنفي الدائم للسمو الروحي بوصفه طريق السير الأبدي صوب الحق، كما نراها في فكرته عن الزهد. فقد قال بهذا الصدد "الزهد في الدنيا ثلاثة أشياء: أحبها وأعلاها وأعظمها ثوابا عند الله، الزهد في عبادة من عبد دون الله من ملك وصنم وحجر ووثن. ثم الزهد فيما حرم الله من الأخذ والعطاء. ثم يقبل علينا فيقول: زهدكم هذا يا معشر القراء فهو والله أخسّه عند الله! الزهد (الحقيقي) في حلال الله!". ويحتوي هذا الموقف في أعماقه على احتمال بلورة الفكرة القائلة، بأن حقيقة الزهد هي الزهد في الزهد.

غير أن تجربة السختياني كانت تدور آنذاك في تنقية اللسان والتفكّر بمعايير الروح الأخلاقي. من هنا إجابته على طلب احدهم أن يوصيه بشيء، قائلا:أقلّ الكلام! بينما أجاب في حالة أخرى على سؤال عن عدم مشاركته في جدل الآراء الدائر آنذاك في البصرة بعبارة: قيل مرة للحمار: ألا تجتر؟ فقال: اكره مضغ الباطل". وهو السبب الذي جعله يرد مرة على رجل من أهل الأهواء:

- أكلمك كلمة؟

- ولا نصف كلمة!

من هنا أفكاره المناهضة لجدل اللاهوت الفارغ والانهماك المتعصب في شحذ كل ما يمكنه العمل على إفراغ العقل والروح من مهمة العمل. فنراه مرة يقول "ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا". وليس مصادفة أن يربط هذا "الابتداع" المزيف بكلمة الاجتهاد، أي الانهماك في مهنة التحريف والتخريف التي ميزت ما كان القدماء يدعونه بفن أو صنعة القصص والقصاصين. لهذا نراه يقول، بأنه "ما افسد على الناس حديثهم إلا القصّاص"، وانه "لا خبيث أخبث من قارئ فاجر". بحيث جعله ذلك مرة يتهرب حتى من حديث أبي حنيفة. إذ ينقل عنه حادثة كيف أن أبا حنيفة دخل عليه مرة وهو بين أصحابه، فقال لهم:"قوموا بنا! لا يعدينا بجربه!". وهو سلوك لا تهرّب فيه، بقدر ما انه كان يضع الحرف والكلمة على ميزان المعاملة الروحية، أي عي ميزان المعاملة التي تختزن المعرفة وتضعها دوما على محك التجربة الذاتية وتختبرها بامتحان الإرادة. لهذا نراه ينصح احد مريده قائلا: "انك لا تبصر خطأ معلمك حتى تجالس غيره. جالس الناس!". بينما نسمعه يقول عن نفسه بهذا الصدد "لقد جالست الحسن البصري أربع سنين فما سألته هيبة له". وهي المفارقة التي كثفها في عبارة تمثلت تجاربه بهذا الصدد عندما قال "إذا لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون". وترك لنا هذه المفارقة في سلسلة روح المثقفين الأحرار وغيب التصوف.

***

 

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم