دراسات وبحوث

من الرسالة إلى الدلالة

مجدي ابراهيميقودنا التأمل في مدلول "الرسالة"، فنراه على الحقيقة يشمل روح الدين وجوهره، غاياته وأهدافه ومقاصده، تماماً كما أن الرسالة هى روح النبوة ومقاصدها الكريمة السامية، هى النموذج الأعلى يحتذيه كل فرد يؤمن بالله، ويريد أن يكون على منهاج النبوة من طريق البلاغ والهداية والرحمة المهداة إلى ربِّ العالمين.

ولكن قبل أن أدخل مباشرة في لبّ الموضوع أجدُ لزاماً عليّ أن أبدأ بتقرير هذه البديهة المعرفيّة منهجاً هو عندي من الأهميّة بمكان فأقول: تستطيع أن تصل بجهدك وعقلك إلى أي فيلسوف أو عالم أو أديب أو كاتب أو عبقري من عباقرة البشريّة، فتعرف فكره وتحلل إنتاجه وتسبر غور المشكلات والقضايا التي تناولها ثم تقول فيه رأيك ناقداً ومؤاخذاً وتظل معه ولا يخفى عليك شيئاً ممّا ترك من آثار. كل هذا معروفٌ ومحققٌ ومدروسٌ، لكنك لو اقتربت من مشكاة النبّوة بنفس الأدوات التي كنت تجريها كشفاً لحقيقة هذا المفكر أو العالم أو الأديب أو الفيلسوف أو العبقري الطّلعة الشغوف، ضعت من فورك وضيّعت معك من يستمع إليك أو يثق لك في قول أو في تحليل، ستظل تخبط خبط عشواء في تيه من الظلام أو على أحسن الفروض تخبط في نور تستدعيه ولا تدري شيئاً عن خوافيه؛ كمن ظل زمناً في غرفة مُظلمة ثم في لحظة خاطفة فاجأه النور المبهج الوضئ فأصابه الغبش، ثم تحكم على أشياء لا تدريها، وبأدوات لست قادراً بالمطلق على تمثلها والتحقق بها، ما لم يفتح الله عليك بأدوات أخرى من نوع آخر غير ما تعرفه أو تجريه، بطريق التحقيق.

ومهما أفاء الله به عليك من العبقرية والنبوغ حقيقة لا دعوى، فأنت إزاء مشكاة النبوة لن تصل فيها إلى شئ إلا بجمعيّة مع قبضة النور، قد تكون شذرة، أو نظرة، أو طيف خيال يواريك، أو فيض دمع جرى من مقلتيك شوقاً إليه، غير إنه يجافيك. من أجل ذلك؛ كانت علوم تلك المشكاة النبويّة لا تدوّن في كتب ولا تحصيها أقلام العلوم النظرية؛ لأنها علوم حقائق، غاية ما يستطيع زكي العقل تحصيله منها، وصلة روحيّة أو رشفة علوية تشدّ القلب شداً إلى أجواء المعيّة، وتربطه بوجوب الصحبة رفقاً وتولُّهاً مع الحقيقة المصطفويّة، في بحور تجليات الأنوار الإلهيّة: أعني وصلة قُربة، وتفرّد روح، واختصاص.

وأعودُ على ما بدأته فأقول؛ يقودنا التأمل في مفهوم الرسالة فنجده يشمل جميع الأعمال النافعة لخدمة الفرد أو خدمة النوع خدمة المجتمع الذي يعش فيه الأفراد، إذا هم اضطلعوا بالأعمال الهادفة والإصلاح الوطني لمصلحة المجموع. وربما توسع الكتاب والمفكرون المعاصرون في استخدام مدلول الرسالة ونقلها من الأجواء الدينية إلى التصورات الفكرية؛ للدلالة على أن كل إنسان مدفوع بتأثير ميوله الطبيعية للاضطلاع بالأعمال العامة التي توثر بالإيجاب في الأفراد والمتجمعات وينتفع بها الوطن كمحصّلة أخيرة، وتجيء في الأصل، إذا صحَّت النية خالصة، مرضاة لله تعالى، وهم بذلك ما خرجوا قط عن مقاصد التصور الديني لمفهوم الرسالة، يعبر تمام التعبير عن روح الدين وجوهره ما دامت الغاية هى: خدمة الله بالأعمال.

الرسالة بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت، ولا زالت، رحمة لعباد الله بل رحمة من الله إلى خلق الله:" وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين". لم يبعث رسول الله ص لفئة دون فئة ولا لطائفة دون طائفة، ولا لقبيلة دون قبيلة، ولكنه بعث للناس كافة رحمة للعالمين فكانت رسالته ص ؛ وينبغي أن تكون على الدوام نقلة بعيدة يتحوّل فيها الناس من عبادة الوثن إلى عبادة ربّ العالمين .. كان هذا "التحول" هو الغاية من الرسالة في هذه الحياة وعلى هذه الأرض، وكان هو نفسه الدلالة .. كان الطريق مظلماً فأضحى بعد الرسالة نوراً يُضاء للسالكين.

فهو إذن الطريق الذي يسلكه الفرد فتتحوّل بمثل هذا السلوك حياته كلها من وجهة في العبوديّة إلى وجهة أخرى، تناقضها وتختلف عنها كل الاختلاف: في الغاية وفي التصور وفي الوسيلة وفي الإدراك.

وليس التحوّل سلوكاً فقط بل تحوّل فكرة وعقيدة وتحوّل قيم إيمانيّة هى التي يتقوَّم بها السلوك ويتهذب العمل وتتجلى فيها أسمى آيات الفاعليّة نحو الغاية والهدف والرمز المنشود .. التحوّل المقصود هنا هو "تحوّل باطني" من طريق إلى طريق، ومن اتجاه في الحياة إلى اتجاه، ومن فكر إلى فكر، ومن عبادة إلى عبادة: من طريق الشيطان إلى طريق الله، من اتجاه في الحياة نحو الغايات الترابية إلى اتجاه في الحياة نحو الغايات الهادية والسامية والنبيلة، هو تحوّل من فكرة تخدم القيم الماديّة إلى فكرة تخدم القيم الروحيّة والخلقية، ومن عبادة كل ما سوى الله إلى عبادة الله وحده لا شريك له.

لا ريب كان هذا التحوّل هو الذي يحدّد واجب المخلوق المكلف، إذ لم يكن قط سعياً وراء كل ما هو زائل تافه حقير، ولم يكن جرياً مع أهداف الذين لا يقدرون الحياة بما فيها من فعل إلهي قدرها، وفيما هم مجبولون عليه من طاقات روحية ومعنوية، تدفعهم نحو النظر إلى أعلى ونحو التعالِ على كل غريزة وضيعة وكل هدف مبتذل.

واجب المخلوق المُكلف إذا هو تحقق من الرسالة فعليّاً أن يكون له كفاحه المتصل من أجل الله لا أجل فكرة مادية أو مذهب سياسي أو طريق حياتي أو رأي يراه صاحبه هو الحقيق بالإصلاح كله دعوى بغير دليل، إذا هو أراده وتبنّاه فيتبعه ويلزم الآخرين أن يتبعوه؛ ليس هذا من الرسالة التي حازت كل صنوف الرحمة للعالمين في شيء. وليس هذا من ميراث النبوة في شيء، وليس هذا مرة ثالثة من مدرجة محمد صلوات ربي وسلامه عليه؛ فإن الفكرة في الله هى الأصل الأصيل في كل كفاح مضمون، والطريق إلى الله هو الأولى والأحق بالإتباع إذا كان إتباع المخلوقين من العباد يعود على التابع بكل ألوان الظلم والقهر والنكاية والإجحاف. ثم الرأي الذي ننشد من وراء معرفة الله هو الأهم والأقدر من كل رأي تخرجه لنا عقول الناس بين قوى وضعيف وراجح ومرجوح، وهو في النهاية لا يقدم شيئاً ينفع في حياة الناس.

التكليف نهج موفق ومضمون على نهج الرسالة المحمدية؛ فكل مسلم مكلف بهذه الرسالة مضطلع بها فيما يأتيه إذا لم تكن له رسالته التي يخدم بها الله في هذه الحياة الدنيا فتحوز كل أشكال الرحمة للناس جميعاً؛ فما فقه من إسلامه الذي يدين له بالولاء إلا القشرة الظاهرة والسطح البَرَّاني بغير مضمون يشهد فيه إسلام الوجه لله.

فالعنف والإرهاب والدمار والخراب والقتل والسرقة والعدوان وأكل حقوق الناس بالباطل والشر والرذائل على اختلاف ألوانها وأشكالها مدعاة للخروج عن نهج الرسالة. ليست فيها رحمة تفرضها مقومات الرسالة المحمدية؛ ومن ثمّ فهى عمل ينقض دلالتها: خروجٌ عن جوهر الدين وعن نهج الرسالة مادامت الرحمة بالإنسانية هى من الأسس القويّة لرسالة سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه.

فمن نَهَجَ نَهْج الرسالة كان مرحوماً بذاته رحيماً بغيره، وإنه مادام مرحوماً في ذاته، فلن تكون رحمته في نفسه إلا مشمولة بالعموم على جميع خلق الله تعالى عملاً بقوله:" وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين".

الرسالة قيمة علوية يتمُّ فيها ذلك التحوّل الباطني، فتكون من أقوى الدوافع الوجودية على إخلاص العمل لله لا إخلاصه لأجل غاية نفعية أو مادية أو حتى منفعة شخصية .. علينا أن نعمل ونتحرى الصدق في العمل وليس علينا إدراك النتائج كلما كانت قلوبنا واعية ومُعقلة على الله في التوجه، ولتكن بواعثنا على العمل أحرى بالعناية من غاياتنا، ولننتظر المثوبة من الله لا من الناس, وليتنا نغفل تماماً عن الجزاء على الأعمال، ولنطلب وجه الله المأمول بالعمل خالصاً مُخلصاً ليكون نفعنا من رسالتنا أخروي الجزاء.

حَطم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه الأصنام والأوثان ليقول لنا بأبلغ لسان: حرروا عقولكم وضمائركم وقلوبكم عن عبادة الأصنام، وستكون لكم في مستقبل الأيام - معشر المسلمين - أصناماً وأوثاناً تخلقونها على هواكم وتتصورها أوهامكم، وليست بالضرورة أن تكون حجراً أو قطعة من طين أو عجين؛ فلربما تكون قيمة تخلقها الغفلة، أو تكون لا فتة يتصورها الوهم، أو شارة ينسجها الخيال العاطل، أو تكون رباً من الأرباب تعبدونه من دون الله أو تكون منصباً أو جاهاً أو فكرة أو عقيدة تغشى عيون قلوبكم وتظلمها فلا ترون الحق أبداً وعلى قلوبكم غشاوة وفي أبصاركم غبش !

هذا هو الرمز، وتلك هى الدلالة من الرسالة الدائمة التي يجب على مفكري الإسلام وعارفي فضله الاضطلاع بها: تحطيم الأصنام والأرباب والأوثان التي تتراءىَ لنا صباح مساء، فتصرفنا عن روح الدين وجوهر العقيدة السمحة تماماً كما تصرفنا عن نهج الرسالة المحمديّة كونها رحمة للعالمين، في كفاحها المتصل وجهادها الجميل وصبرها الدائم الموصول على سبل الكفاح والجهاد؛ وليفتش كل مسلم عما هو موقور في داخله وليبحث عن الصنم الذي يعبده دون الله: المال، الجاه، المنصب، الرئاسة، وليتحرّر من كل هذا ليشهد الله على الحقيقة، وليعلم إنما الدنيا أسباب وراء أسباب؛ وإنه بهذه الأسباب لمحجوب عن الله بالسبب، فليعتق نفسه ليشهد تجلي الفعل الإلهي من خلف حجاب الأسباب.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم