تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

دراسات وبحوث

محمد بنيعيش: صحة نسب بني آدم بين التأصيل الشرعي والظرفية الوجودية

بادئ ذي بدء كتعريف لغوي يقال: نسب الرجل وصفه ذكر نسبه إلى فلان: أي عزاه. وناسبه مناسبة: ماثله وشاكله ولاءمه، أو شاركه في النسب وكان قريبه، والنسب والنسبة: القرابة أو إيقاع التعلق والارتباط بين الشيئين أو التماثل بين علاقات الأشياء أو الكميات.

فهذان المعنيان الأخيران أشمل وأكثر تجردا معرفيا في تحديد مفهوم النسب الذي يعني نسبة الشيء إلى آخر -أي إضافته إليه- وهذه الإضافة قد تكون جوهرية أي ذاتية لها ارتباط عضوي لصيق بالمنتسب إليه، أو شكلية ذات تقارب رسمي وجنسي غير أنها ليست عضوية رحمية، أو تجمع بين الأمرين: جوهرية وشكلية في آن واحد، وهذا هو النسب الذي يؤسس له الشرع ويبني عليه أحكاما ثابتة سواء تعلق الأمر بالنسب الكوني بما فيه الحيواني والنباتي والجمادي أو النسب الإنساني وكذا (الجنّْي ) لما يطبعهما من خاصية التكليف وإلزامهما بالتشريع في تحقيقه، وهذا المعنى الأخير هو الذي يفهم من قول الله "وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا "[1].

إذ النسب هو الذي يؤسس لما يصطلح عليه بالأرحام التي لا ينبغي تقطيعها أو بترها و إلا وقع الفساد في لحمة المجتمع وجذوره "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم الله فاصمهم و أعمى أبصارهم"[2]"وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله"[3].

ذلك كما يقول ابن خلدون حول النسب والعصبية إن "صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل، ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة، فان القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعا طب والمهالك، نزعة طبيعية في البشر منذ كانوا...

ومن هذا تفهم قوله صلى الله عليه وسلم "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم"بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة والنعرة... "[4].

كما أنه المقصود بتأسيس الصلاح في المجتمع وتوارثه "هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين"[5].

فمن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تتبين لنا معالم النسب وخصائصه وماله من أبعاد استدلالية في مجال العقيدة وارتباطه بالإيمان ارتباطا موضوعيا ووظيفيا، كما يستشف من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث في الناس كفر: الطعن في النسب و النياحة على الميت والاستسقاء بالنجوم"[6]وأيضا "ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر "وفي رواية" من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه فالجنة عليه حرام "[7] وأيضا "أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين"[8].

فباعتبار هذا البعد الإيماني للنسب وما يترتب عنه من نتائج سلبية على الفرد والمجتمع فإنه قد لا يقرر مقتضياته وشروطه وأحكامه إلا الشرع، ومن هنا يختلف عن الخلق المطلق- أي النسب العضوي المادي والغريزي المحض - بحيث أن هذا الخلق غير ذي قيمة في ربط الانتساب الأسري ببعضه وتوارث المصالح المادية والمعنوية بين الأفراد المتصلين به مادام لم يتأسس على قاعدة صحية وسليمة تضمن سريان الخيط الرحمي بين أصل النسب والمنتسب إليه، وهذا ما لخصه الفقيه المالكي أبو بكر بن العربي حينما عرف النسب بأنه "عبارة عن مرج الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع، فإن كان بمعصية كان خلقا مطلقا ولم يكن نسبا محققا". وهو ما نقله عنه القرطبي في تفسيره: أحكام القرآن عند آية النسب من سورة الفرقان، ممصدرا بأن: النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين...

فعند تحقيق هذا النسب بشروطه الشرعية تترتب حقوق وواجبات تحمي الطفل بالدرجة الأولى ثم أمه وأباه على حد سواء، ولتحديد هذه الحقوق وتفريعاتها و توظيفاتها سيكون من حيث السبر والتقسيم أن البنوة لا تحتمل سوى وجهين وهما: البنوة الشرعية والبنوة غير الشرعية.

أما التبني العادي فهو خارج عن هذا الإطار ويكون أقرب إلى البنوة غير الشرعية من حيث حكم منعه ؛اللهم إلا في اعتباره النفسي والتعويضي العاطفي مجازا أما حقيقة فلا...

فالبنوة الشرعية كما عرفت في مدونة الأحوال الشخصية المغربية سابقا، الفصل83"هي التي يتبع فيها الولد أباه في الدين والنسب ويبنى عليها الميراث وينتج عنها موانع الزواج ويترتب عليها حقوق وواجبات أبوية وبنوية ". وهذا الفصل صاغته مدونة الأسرة في المادة145 المتعلقة بالإستلحاق"متى ثبتت بنوة ولد مجهول النسب بالاستلحاق أو بحكم القاضي أصبح الولد شرعيا يتبع أباه في نسبه ودينه، ويتوارثان وينتج عنه موانع الزواج، ويترتب عليه حقوق وواجبات الأبوة والبنوة".

هذا التعريف يبقى قارا ومجمعا عليه لدى كل فقهاء الشرع مهما تغيرت صيغ القوانين ومدوناتها، وهو المحور الذي يشكل تكاملا بين القاعدة الشرعية والقاعدة الغريزية النوعية (البيولوجية) مما يستوجب تبعات تبادلية بين عنصر الأبوة والبنوة تتحدد في الدين والنسب والميراث وموانع الزواج وحقوق وواجبات على عدة مستويات وبواعث.

من هنا فلا بد من تحديد أحكام أساسية تتعلق بمفهوم البنوة الشرعية وهي مرتبطة بالزواج الشرعي أو غير مرتبطة به، إذ أن البنوة الشرعية لا تنحصر في الزواج الشرعي المتكامل الشروط والواجبات العادية فقط، وإنما مجالها أوسع وأدق، فتشمل استثناءات وطوارئ ونوادر لا يمكن إقصاؤها من الحسبان عند التقاضي.

لهذا فموضوع النسب قد يعتبر أهم من موضوع الزواج في حد ذاته لأنه يشمله ويزيد عليه، كما أنه يوسع للفقيه الآفاق للتغلغل في سبر التفرعات الاجتماعية و طوارئها ونوازلها واستثناءاتها.

لكن الزواج مع ذلك يبقى هو محور النسب والمعطي الرئيسي له، لأنه يبني عليه قاعدته ابتداء، كما أنه عرف منذ وجود الإنسان أي: منذ آدم وحواء عليهما السلام.

فما نسل عنهما يعتبر شرعيا لأنه قائم على الزواج الشرعي الذي شرعه الله لهما بحسب زمانهما وظرفهما وبحسب قوة النسبة إليهما لأنه لا منازع لهما في هذا النسب، أي أنه لم يكن يوجد رجل ثان أو مزاحم في دعوى النسب حتى يحتاج الأمر فيه[9] إلى إشهاد أو ولي، وإنما آدم أصل لحواء عند بدء الخلق وحواء فرع من آدم بغير وسائط، ومع ذلك كان هناك مهر معنوي أو مادي بحسب الأخبار الواردة في هذا الموضوع، كما أن آدم كان أصلا مباشرا لحواء، أي أنه كان مانحا لها وجودها بجزء من ذاته، وهذا في حد ذاته يعتبر مهرا غاليا جدا، إضافة إلى هذا فآدم كان نبيا؛ ومن ثم فهو مصدر التشريع والولي في زمانه، إذ سيشرع لنفسه ولزوجته ولذريته بإذن ربه، خاصة بعد حمل حواء وكبر ذريتهما، مما يقتضي الحفاظ على بقاء النوع واسترساله، وفي هذه الحالة سيكون من الضروري وجود تشريع لتحديد العلاقات الأسرية وضبطها والحفاظ على مفهوم البنوة الشرعية التي تعطي النسب والصهر والميراث معا.

فحسب ما يحكى أن أول صراع بين بني آدم كان بسبب التزام المشروعية واختراقها في مجال الزواج واعتبار النسب، والذي من خلاله سيتحدد القبول عند الله تعالى أو يرفض، كما يصوره لنا القرآن الكريم إجمالا في قوله تعالى:

"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال: لأقتلنك، قال: إنما يتقبل الله من المتقين"[10].

بحيث كما يفسر ابن عباس وابن مسعود: " أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ومعه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل، وكان قابيل صاحب زرع وكان هابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكان لهما أخت أحسن من أخت هابيل، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه، وقال هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها، وأنهما قربا قربانا إلى الله عز وجل أيهما أحق بالجارية، قرب هابيل جذعة سمينة، وقرب قابيل حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها، فنزلت النار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال هابيل: إنما يتقبل الله من المتقين"... "[11]

من هذا التفسير نستشف مبدأ التطور المحتمل في عالم الأحياء وظيفيا و تفريعيا، بحسب الزمان والمكان وواقع الكائنات في الاتصال والانفصال والتكاثر والتناقص، وذلك دون الإخلال بالقاعدة العامة التي سبق وارتكزنا عليها في تعريف الولادة، إذ يمكن أن تكون هناك خاصية لتوأمة متتالية فيها تحقيق لحكمة إلهية أراد الله بها أن يحدد وجه العلاقة بين النوع الإنساني وأفراده ؛تتحكم فيها قاعدة شرعية لا تصطدم مع سنن الله في الكون وتتقبلها العقول بفهم جيد وجلي...

***

الدكتور محمد بنيعيش - أستاذ الفكر والحضارة

وجدة - المملكة المغربية

..............................

[1] سورة الفرقان آية 54

[2] سورة محمد آية 22-23

[3] سورة الأنفال آية 76

[4] ابن خلدون: المقدمة، دار إحياء التراث العربي ص 128

[5] سورة لأعرف آية189

[6] رواه مسلم

[7] رواه البخاري في كتاب المغازي

[8] رواه أبو دود والنسائي عن أبي هريرة

[10] سورة المائدة آية 27

[11] محمد الصابوني: مختصر ابن كثير، دار القرآن الكريم بيروت ج1ص 506

 

في المثقف اليوم