دراسات وبحوث

في رحاب المدرسة الشَّاذليّة

مجدي ابراهيمعشنا ساعات نورانيّة في ظل مناقشة رسالة علميّة ممتازة في الأسبوع الماضي بعنوان (الجهاد لدى المدرسة الشاذليّة) رسالة نوقشت مؤخراً بكلية الآداب - جامعة المنصورة، مقدّمة من الباحث أحمد عبد المعبود يوسف لنيل درجة الماجستير في الآداب من قسم الفلسفة بإشراف الأستاذ الدكتور إبراهيم إبراهيم ياسين أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف ورئيس قسم الفلسفة الأسبق، وصاحب المؤلفات البديعة في حقل التصوف الإسلامي والتصوف الفلسفي، وعضوية كل من الأستاذ الدكتور عامر النجار أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف بكلية الآداب - جامعة قناة السويس؛ والأستاذ الدكتور مجدي محمد إبراهيم، كاتب هذه السطور ورئيس قسم الفلسفة ووكيل كلية الآداب لشئون الدراسات العليا والبحوث جامعة العريش (مصر).

ربما يكون من اللافت للنظر أن يكتب أحد أعضاء لجنة المناقشة عن رسالة شارك في مناقشتها؛ فأيَّا ما كانت قيمة الرسالة من الوجهة العلمية مقبولة؛ فكتابة أحد أعضاء اللجنة عنها شيءٌ يدعو إلى الغرابة في الأعراف الجامعيّة، ولكن الذي يرفع الغرابة لدى من يتبادر إلى ذهنه فيدور بخلده مثل هذا الخاطر هو أن التقاليد الجامعية وأصولها العريقة ليست تمنع من تشجع الباحثين الجادين على العمل المتواصل، وهو عين الجهاد، وبخاصّة فيما لو توافرت لديهم الإمكانات مع الاستعداد مثلما توافر في الباحث الذي كتب في موضوع الجهاد مثل هذا الكم الكبير بجهد ملحوظ في رسالته أقترب من أربعمائة صفحة.

عندما كتب عبد الرحمن بدوي رسالته للماجستير قال طه حسين، وقد كان أحد أعضاء لجنة مناقشته "هذا رجل أشعر بضاءلتي إذا ما اقترن اسمه باسمي"، ومن يومها انفتحت كل طاقات عبد الرحمن بدوي المعرفيّة بكلمة واحدة من رجل عظيم في مثل قامة طه حسين فقدَّم للمكتبة العربية ما لم يستطع سواه أن يقدّمه لها. وإذا كان الزمان قد تغيّر فالناس غير الناس، والاستعداد غير الاستعداد، ولست أنا بطه حسين، ولا الباحث بعبد الرحمن بدوي؛ فنحن في مسيس الحاجة إلى تشجيع الجادين في مجال البحث العلمي، وبخاصّة أولئك الذين نلمح لديهم الاستعداد للمواصلة مع حضور القيم العلميّة الفاعلة من جانبهم .. هذه واحدة.

أما الثانية؛ فقد ارتهنت عندي بموضوع صادف قبولاً في نفسي أنا شخصيّاً وهو الحديث عن الإمام أبي الحسن الشاذلي (ت656هـ) : شيوخه ومدرسته وتلاميذه، فقد كتبتُ عنه وعن تلميذه أبي العباس المرسي كتاباً مطولاً تناولت فيه هذه الشخصية المركزية الثانية في المدرسة الشاذليّة (أبو العباس المرسي؛ مذهبه وآراؤه الصوفية)، فهو من هنا له ولتلاميذه ومدرسته في قلبي مكانة تجعلني أبادر بمعرفة كل من حصَّل عنه شيئاً من بين بطون الكتب والمصادر.

أما الثالثة؛ فهى تلك الترجمة لأعلام المدرسة الشاذلية سواء في القديم أو الحديث فلم يغفل الباحث عن ترجمة شيوخ الشاذلي مثل ابن حرازم (ت633هـ) وأبو محمد عبد العزيز المهدوي (ت621هـ) وأبو سعيد الباجي (ت 638هـ) وأبو الفتح الواسطي (632هـ) وعبد السلام بن مشيش ( ت 622هـ). أو تلاميذه؛ كأبي العباس المرسي، وأبي القاسم القباري، وأبي محمد سلامة، وأبي الحسن بن على الحطاب، وعمرو بن الحاجب. أو زملائه : عز الدين عبد السلام، وتقي الدين بين دقيق العيد، وعبد العظيم المنذري، وابن الصلاح، وجمال الدين العصفوري، ونبيه الدين بن عوف، ومحي الدين بن سراقه، والعلم ياسين تلميذ بن عربي ممّن شهدوا صولات الشاذلي وجولاته في المدرسة الكاميلية بالقاهرة.

لكي نتحقق من المرجعية العلمية للطريقة الشاذلية تحقيقاً علمياً دقيقاً، يلزم الرجوع فيها إلى مصدرين أو إنْ شئت قلت طريقين : الأول، طريق أبو محمد ماضي بن سلطان خديم الشيخ أبي الحسن الشاذلي وتلميذه بالمباشرة ومنه إلى ابن الصباغ السيد الحميري صاحب "درة الأسرار" تلميذ الشيخ ماضي ثم الفروع. والطريق الآخر : طريق أبو العباس المرسي وارث سرّ الشيخ أبي الحسن الشاذلي وأفضل أصحابه على الإطلاق، ومنه إلى ابن عطاء الله السكندري ثم الفروع؛ فجميع ما كتب عن الطريقة الشاذلية ومؤسسها يستند إلى هذين المصدرين، وكل الكتابات الأخرى عالة عليهما، ولا يستغني باحث في تراث هذه المدرسة عن الطريقين ولا عن المصدرين ولا يؤثر طريق منهما على طريق، ولا مصدراً على مصدر لأنهما في الأصل طريق واحد.

حقيقة؛ وسَّعَ الباحث من دراسته فشمل مفهوم الجهاد من جميع معانيه؛ إذْ لم يجعله مقصوراً على العناية بجهاد النفس وتزكيتها وكفى، ولكنه أبرز الدور المرموق للمتصوفة إلى جانب جهاد النفس جهاداً في ميادين الحرب كما جرى مع الشاذلي نفسه في معركة المنصورة ضد الصليبين، من أجل إعلاء كلمة الله تعالى، وركز على أشهر الطرق الصوفية، وهى الطريقة الشاذليّة في محاولة للوصول إلى حقيقة موقفهم من الجهاد كونه مفهوماً وسلوكاً يمارس في إطار توجهات العقيدة الدينية التي يتنسبون إليها ويدينون لها بالولاء.

لم يكن بدُّ من الباحث أحمد عبد المعبود أن يجيء هدفه مشمولاً على إلقاء الضوء على الجهاد لدى المدرسة الشاذلية وفروعها المختلفة إنْ في القديم أو في الحديث، وإظهار مواقف أئمتها وأعلامها من مفهومه بمعناه الواسع الأمر الذي يقدح بالجملة فضلاً عن التفصيل في صحة نسبة التكاسل والانكفاء على النفس وخلق الحيل الهروبية والتقاعس عن الجهاد ممَّا يتنافي في المجمل مع أخلاق الصوفية عامة، والمدرسة الشاذليّة خاصّة، بمقدار ما يتنافي على الجملة مع آرائهم وآدابهم وتوجهاتهم الروحيّة.

فالتصوف بغير شك عملٌ متواصل وجهادٌ عنيف واقتدار يملك صاحبه القدرة على المواجهة في شتى ضروب الحياة. ومن أجل ذلك ركز الباحث في رسالته على المنهج التحليلي لبسط وتحليل الآراء وتقديم تفسير لها مضافاً إليه المنهج التاريخي في بعض المواضع لسرد الأحداث التي يقتضيها المنهج وتتبع الفكرة مع ملاحظة تطورها من مرحلة إلى أخرى، ولم يفته استخدام المنهج المقارن كلما دعت الضرورة إليه. هذا ما يشير إليه الباحث في المنهج المتبع في رسالته ويؤكد عليه، وهى خطوة أوليّة ضروريّة ما في ذلك شك. ولكن مع هذه الإشارة المهمة إلى أهميّة توظيف المناهج العلمية هنا، فاته أن يستخدم المنهج النقدي في إطار التحليل؛ وإني لأعتقد أن غياب هذا المنهج لديه لم يكن متعمداً بمقدار ما كان يُستَبدل في ذهن الباحث وهو يكتب رسالته بمنهج آخر لم يشر إليه من قريب أو من بعيد؛ وهو المنهج الأنسب والأهم في الكتابة عن التصوف في الإسلام عموماً، وهو المنهج النادر جداً استخدامه لدى الباحثين في حقل الدراسات الصوفيّة. هذا المنهج بغير شك هو المنهج الذوقي الأصيل لكل بحث صوفي، عارف بإشارات العارفين، مخلص في تناول نصوصهم بالتحليل والمقارنة واسترداد الفكرة لديهم إلى أصولها من الكتاب والسُّنة.

ظهر تأثر الباحث بالمنهج الذوقي بمقدار ما ظهر لديه استخدامه وتحقيقه؛ وهو منهج كما قلت أصيل عندي، ولكن من غير أن يشير إلى توظيفه في إطار النصوص التي تناولها بالعرض والتحليل، وهو من مزايا الرسالة على التعميم. فالنّص الصوفي لا يؤدلج. النص الصوفي يتذوق، ولسنا بحاجة شديدة إلى كثير عناء بكشف استخدامه لدى من يدرسون ويكتبون؛ فهو عندي من الأهمية بمكان؛ لأن الفارق أوضح بكثير بين أدلجة النص الصوفي من جهة وكشف ممكنات هذا النص في إطار فضاءاته المتنوعة. ومهمة الباحث في التصوف على وجه العموم فيما أتصوَّر أن يضفي من ذوقه الخاص وفكرته المستقلة تخريجاً لإشارات العارفين على هذا الذي أمامه ممَّا يقرأ أو ينظر أو يستسيغ أو يرفض بشرط أن تتوافر لديه إمكانيات التذوق للمقروء، ولا عليه في أن يجئ أمره من بعدُ رافضاً أو موافقاً. وعندي أن هذا المنهج الذوقي خاصّة لهو المنهج المناسب إنْ لم يكن الوحيد في تقديري لمعالجة موضوعات التصوف بعرفان يلائمها ويتناسب مع استبصارها الذوقي بالترقي إلى إدراك مواجيد أصحابها كلما ترقى المستخدم له في نفسه أولاً وقبل كل شئ.

أما أدلجة النص الصوفي وتحويله إلى نص عقلي يجوز عليه ما يجوز على النصوص الفلسفيّة والعقليّة من نقد أو تخريج، فهذا خبط عشواء لاختلاط مناهج العقل بمناهج الذوق والاستبصار. إذا أردنا أن نكون نقدة على الأصالة في هذا المجال فلا مناص لنا من أن يجيء نقدنا من الباطن نتمثل الوعي الصوفي ونتفهمه ذوقاً ومعرفة ومعايشة من الداخل، نحسّه ونستشعره ولا نخبط إزاءَه خبط عشواء كيما نقدّم رؤيتنا كليّة جامعة لتكون أقرب إلى الوصف والتصوير والتحليل والمقارنة منها إلى عشوائيّة النقض الهدام الذي يفسد النص الصوفي فلا يُبقي ولا يذر؛ لأنه لم يفهم منه دلالة ولا عبارة فضلاً عن غيبة وعيه بالإشارة أصلاً، أو بالاصطلاح الصوفي الدقيق أن نتعرف - قبل أن توقَّح - على مذهب أهل التصوف تماماً كما سَن الكلاباذي كتابه "التعرف لمذهب أهل التصوف" بتواضعه الشديد ليكون نموذجاً يحتذي حقيقةً إزاء علوم القوم ومعارفهم؛ لأن التَّعرف الصحيح للتصوف أسلم للباحث من الإنكار العقيم يستند عليه معول الهدم النقدي، وهو في الحق ليس نقداً بمقدار ما هو "توقح" يسفر عن ظلمة روحيّة وكدورة عقلية، ويكشف عن لوثة معرفيّة إزاء علوم الصوفية ومعارفهم.

هكذا أتصوّر حين يعمل النقد الفلسفي عمله السلبي إزاء النّص الصوفي فيفسده بغير تفرقة فيه بين غث وسمين. فالنقد في ميدان التصوف ذاتي جُوَّانيَّ من الداخل، ليس كالنقد في مجال الفلسفة يتسلط على كل فكرة ما بالهدم والتخريب، بغير تفرقة فيها بين نقد ونقض؛ فمَن حَرَمَ الذوق في حقل التصوف أنىَ له أن يمضي على بصيرة من إدراك لإشارات العارفين؟ وما يُقال في مجال الفلسفة نقداً لا يقال بنفس الكيفية في مجال التصوف.

وإذا كان التصوف تجربة ليس هو بالفلسفة، ولا هو بالنظرية؛ فمن المؤكد - رغم اتفاق المشرب الواحد والمنهج الواحد بين جميع الصوفيّة بغير استثناء - أن لكل متصوف خصوصيته، يضيف من خلال تجربته ما ليس موجوداً في تجارب سواه؛ حتى لو كان هذا السِّوى شيخه في التربية والترقية برغم وجود وحدة الروح التَّصوفية في الإسلام. ومن هذه النقطة الجوهريّة يجيء التأثير في مجال الفلسفة ليس هو التأثير القائم في حقل التصوف، ولن يكون، فيما لوعَوّلنا التعويل كله بدايةً على التجربة الصوفية واختلافها بالكلية عن الفكرة الفلسفيّة؛ فمن السهولة بمكان تحديد مصادر الفيلسوف ومعارفه التي أستقى منها فلسفته، وكذلك الأمر يُقال في المتكلم، في حين يصعب قوله في المتصوف؛ إذ ذاك يصعب تحديد مصادره من خلال أقوله. إنما التأثير في مجال التصوف انتقال سرّ إلى سرّ ووراثة حال عن حال وليس هو بتبني فكرة نظرية ووراثة مقال عقلي؛ وذلك لأن الصوفي يعطي من ذاته، ويجود من تجربته الخاصَّة، ويفيض من تلك التجربة فيما عَسَاهُ يتصور ويرتأى من مقبول الآراء. الصوفي يأخذ علمه عن الله مباشرة لا عن ميت بل عن الحي الذي لا يموت كما جاء في إشارة أبي يزيد البسطامي طيّب الله ثراه.

الصوفي ابن وقته، ومعنى كونه ابن وقته, يعني ابن حاله، وابن تجربته، وابن معاناته الخاصَّة، فكرته هى نفسه، ورأيه هو ذاته، وإشاراته ومعارفه وشذراته من أنفاسه خاصّة. يلزم لهذا كله من أجل ذلك كله، أن يكون منهج البحث في حقل التصوف مستمداً من طبيعة هذا العلم يوافقه ويوائمه وينهج في معالجة قضاياه نهج من يتعرف أولاً لكي لا يتوقح حتى إذا أقدَم على النقد وهو مشروط عندي بهذا الشرط، كان نقده ذاتياً نابعاً من الداخل في إطار ما يعلم وفي ضوء ما يفهم لا في إطار يخلو من الذوق ومن العلم ومن التّعرُّف، ولا في ضوء ما من شأنه أن يسقط الفهم حين يقدّم النقد عن المقروء والمكتوب.

أنا شخصياً كنت بيني وبين نفسي مغتبطاً للباحث وأنا اقرأ رسالته؛ إذ لم يشر إلى استخدام المنهج النقدي بمعناه الفلسفي، وحاول أن يتذوق المقروء من نصوص الصوفيّة، وإنْ أخذنا عليه ملاحظة شكليّة تنصب في المجمل على مجاوزة النقد إلى الاستغراق في فهم النص والحرص على تقييده، وهى ملاحظة تحسب له ولا تحسب عليه؛ فما أيسر أن يتداركها في مستقبل بحثه العلمي، ولكن ما أصعب أن ينغرس فيه ما ينبغي أن ينغرس في الباحث من مهمة البحث في حقل المعارف الذوقية؛ وهى مهمة مشروطة بشرط التعاطف مع الآراء الصوفيّة والمصالحة معها، والإحساس بالأقوال التي تدور في فلكها وتوافر الملكة البحثية، وكيفية استخدامها استخداماً صحيحاً والشعور بفاعلية الحركة الصوفية في ضوء التجربة قولاً وتسليكاً، وأخيراً استخدام المنهج الذوقي، فلئنْ لم يكن أشار إليه توظيفاً، فلم تفته الإشارة إليه تحقيقاً.

قسّم الباحث أحمد عبد المعبود رسالته إلى خمسة فصول تسبقها مقدمة وتلحقها خاتمة، جاء الفصل الأول في المدرسة الشاذليّة : الجذور والنشأة ومواجهة إشكاليّة تعدد الطرق الصوفية، ثم تناول حياة الشيخ الشاذلي ونسبه وتصحيح النسب، ورفع الخطأ في كتب الأقدمين ممّن وقع فيه العلماء حينما أسقطوا من النسب بما لا ينبغي لهم إسقاطه، ثم تكلم عن أصول الطريقة الشاذليّة الخمسة. وتناول في الفصل الثاني الجهاد وضرورته اللغوية والشرعية وتوابعه من الرباط والخنانقاه وأنواعه وأقسامه. وأفرد الفصل الثالث للحديث عن أنواع الجهاد الأصغر ومكانته في الإسلام مشيراً إلى معناه في القرآن والسنة، والحكمة من مشروعيته، ومركزاً على جهاد رسول الله، صلوات ربي وسلامه عليه، وجهاد الصحابة وجهاد الصوفية وجهاد الشاذليّة.

ثم يأتي الفصل الرابع ليتناول الجهاد الأكبر : مفهومه وخصائصه وأشراطه وأقسامه مركزاً على مجاهدة النفس لدى الشاذليّة وفيه نقطتان مهمتان : أمراض النفس القاطعة للسالك عن الوصول، والنقطة الثانية وهى وسائل الوصول. أما ألفصل الخامس والأخير فقد تضمّن أسباب المجاهدة ووسائلها وشمل كسائر تقسم الفصول السابقة تمهيداً ومبحثين. الأول، أسباب المجاهدة، ويلزم لها شيخ ناصح أمين، ويتوسّع الباحث في علاقة الشيخ بالمريد وحاجته إليه، إذ البحث عنه من جانب المريد من علامات الفلاح ليذكر من بعدُ حق الصحبة وشرائطها وفوائدها ثم لا يغفل دور العلم في المدرسة الشاذليّة وقواعد التعليم، وهو دورٌ من الأهميّة بمكان بحيث كان ينبغي ألا يترك في نهاية الرسالة بل يتصدَّرها. وجاء المبحث الثاني ليذكر أهم ما جاء عن الذكر في القرآن الكريم، وعند الصوفية ثم يفصله لدى المدرسة الشاذلية من حيث أنواعه وآدابه، وبخاصة فيما لو علمنا أن ابن عطاء الله السكندري أفرد كتاباً خاصّاً من كتاباته البديعة للذكر هو كتاب "مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح" خصيصاً لتنوير القلوب على النهج الشاذلي الأمثل.

ثم يأتي الصمت في الكتاب والسنة وأقسام الكلام وشروطه وفوائد الصمت فيما لو كان ذكراً يجري به القلب مجراه الموصول بالله. ومن الصمت يتنقل إلى الخلوة فيتناولها في الكتاب والسُّنة، ويفرِّق بينها وبين العزلة ويعرض لآراء الشيوخ في تفضيلها عن الجلوة والاختلاط، ويبيَّن آدابها وقواعدها العمليّة ممّا أجمع عليه الرواد والأقطاب لمن يريد أن يسلك بها منازل الوصول، ثم يعرج بالحديث عن آفاتها وما يعترض المريد السالك منها، ولكن في الوقت نفسه يجلو ما لها من فوائد يتحقق بها السالكون طريق الله. ومن الخلوة يلزم أن يتحدَّث عن الجوع (الصوم) كما في الكتاب والسنة، وفي المقابل يذكر أمراض الشبع وفوائد الجوع، وتلك هى في المجمل حلية الأبدال (العزلة والصمت والجوع والسّهر) يتخللها الذكر جميعاً، الأربعة التي وصل بها الأبدال إلى منازل الوصول كما جاء في حلية الأبدال لابن عربي أو هى قواطع الطريق كما سَمَّاها الغزالي قبله.

وحينما ينتهي الباحث إلى الخاتمة يعرض نتائج دراسته موجزة؛ لتكشف عن فهم لأسس الطريق الصوفي، وعن امتلاء داخلي بالمعاني الروحيّة كما حققها العارفون، وعن قدرة الباحث لتمحيص المذاقات الصوفيّة في إطار من عملية مسح شامل مكثف لجميع ضروب الجهاد الديني سواء كان بمفهوم الجهاد الأصغر أو بمفهوم الجهاد الأكبر، مع ترجمة حافلة للشيوخ الذين لا يكاد أغلب الباحثين يعرفوا عنهم شيئاً ممَّا يستحق أن تكتب عنهم رسائل علمية خاصَّة، مستعيناً بذلك بالمصادر والمراجع والمواقع والموسوعات الالكترونية لتوضح غرضه لتجيء الرسالة في المجل تطبيقاً عملياً لجهاد الباحث في مجال العلم؛ يعكس؛ فضلاً عن أمانته العلمية وإخلاصه الشديد، حبُّه للإسلام وللصوفيّة وللشاذليّة التي يتنسب إليها ويسلك طريقها تربية وترقية ووصولاً بفضل الله من أجل الله إلى طريق الله.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم