دراسات وبحوث

حديث الولاية: وادي الحمقاء

مجدي ابراهيمنَفَذَ شَاعرُنَا العربي ببصيرته إلى حقيقة النفس البشرية عندما قال إنها باستمرار تنزع إلى الرغبات إذا هى وجدت المساندة من صاحبها؛ فيشتد بها هذا النزوع حين يدفعها إلى ذلك، لكنها في الوقت نفسه تكتفي بالقليل لو إنها ارتدعت وكفَّت عن النزوع إلى الكثير الذي تريده؛ فحيث يكون الرضى ترضى، وحيث تكون الرغبة ترغب، وما يُقال عن الرضى والرغبة يُقَالُ كذلك عن إرادة الامتناع، فحيث يكون المنع تمتنع، وحيث تكون الرغبة ترغب، وحيث تكون القناعة تقنع :

والنفسُ راغبة إذا رَغَّبتها       وإذا تُرَدُ إلى قليل تقنع

غير أن القانون في علوم الطائفة يبدأ بالصبر والمقاومة والإرادة: مَطَالبُ النفس القوية العجيبة لكن الذي يدفعك إلى الصبر هو "الحب"، والذي يدفعك إلى الحب هو "الإيمان": والصبر نصف الإيمان، والنصف الثاني فَتْحٌ من عند الله غير أنه توفيق، لكأنما الشاعر يريد أن يقول لك من بعيد: أصبر نصف دينك، وانتظر رحمة الله في النصف الآخر. إنما الصبر فضيلة عظيمة، هى الفضيلة الباقية من جوهر الإنسان، كانت موجودة ولا زالت في جميع الثقافات والحضارات الإنسانية، كانت تسمى إرادة جبارة، أو عزيمة فعالة، أو كانت تسمى تنبُّهاً وتركيزاً شديدين، وهما في الواقع عبارة عن "الصبر" بالاصطلاح الديني، وإنْ اتخذ هذا الاصطلاح أشكالاً من التعبير الفني في الثقافات المختلفة.

قلة الصبر على المكاره وابْتعَاث الإرادة في وادي الحمقاء لهو عينه الهلاك المحقق للذين فقدوا إرادتهم حين فقدوا الصبر ولم يتحلوا بالتصبُّر وركلوا الاصطبار؛ ومع فقدان الإرادة وفقدان العزم النافذ والتصميم الفاعل تنبعث الإرادة الإنسانية لتصير كما السائمة في وادي الحُمَقَاء !

وادي الحُمَقَاء .. وما هو وادي الحُمَقَاء؟!

هو وادي لأناس تصوَّروا جهلاً أو غَفْلةً أنهم أعرف الناس بالناس، وأعرف الناس بأنفسهم حتى إذا ما راجعت أحدهم في كلمة قالها أو فكرة تشبث بها أو رأي ارتضاه لنفسه أو حتى خطة من خططه المقلوبة، قال لك من فوره: إني لأعرف جيداً نفسي! وهو في الحق كاذب أو مخدوع؛ لأن درجة معرفة النفس على حقيقتها من الصعوبة بمكان بحيث تنعدم معرفتها أو تكاد. وفي الغالب لا تكاد أن تكون متاحة لكل أحد ولا لأي أحد من الوهلة الأولى: كل الأمور تهون، ولا تهون قط معرفة الإنسان لنفسه؛ فالأحمق هو الذي يدَّعي أبداً أنه أعَرَفُ الناس بنفسه فضلاً عن دعواه بأنه أعَرَفُ الناس بالناس، تقوده الدعوى هذه التي يقرر فيها أنه عَرَفَ نفسه حتى انقشعت عنه ظلماتها فإذا هى أمامه نور أو ما يُشْبه النور إلى جهل محقق مغموس بعكارة الغرور؛ لا معرفة فيه ولا هداية ولا بصيرة بكل تأكيد.

لم يكن "سقراط" يقولها عبثاً تلك الحكمة الخالدة التي وجدها مكتوبة على معبد دلْفس بأحرف من ذهب: " أعرف نفسك "؛ ولم يكن تمسكه بها نهجاً فلسفياً لمعرفة الحقيقة وكفى ولكنه كان فتحاً روحياً بالنسبة له في عالم المعرفة وعالم التفكير؛ إذ التفكير الذي لا يقود إلى عرفان المرء لنفسه هو تفكير أخْرَق مُركب مع الحماقة، وإنما صواب التفكير يعطي أن كل إنسان يحمل في باطنه "مبدأ المعرفة " وشرارتها المنقدحة في قلبه وله أن يطمر هذا وله أن يظهره، بإمكانه ذلك وفي مقدوره، لكن منهجية سقراط قضت أن يَتَوَصَّل المرء إلى ذلك النور المعرفي بطريقين: طريق التهكم وطريق التوليد. غير أن عرفان المرء لنفسه من المؤكد في جهله بها على الدوام؛ لأن هذه المعرفة نفسها فيما لو تحققت من جهة أخرى لتحققت معها معرفة الله، وقد أجمع الصوفية على أنه:" مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ ".

ليس هذا من التناقض في شيء، بل غاية المعرفة هى في هذا الجهل، غاية المعرفة في الحيرة التي تقف المرء على قلة معرفته بنفسه، فضلاً عن معرفتها بربه، إنها بئر غائر سحيقُ قلما يصبر الماهر على الغوص فيها حتى الأعماق، وما أصدق حكمة الأستاذ الإمام محمد عبده حين قال:" أخْفَىَ شيء على الإنسان نَفْسُهُ، وليس من السَّهل أن يعرف دخائلها ".

وبما أن الإنسان مسئولاً عن نفسه أمام ربه، كانت محاسبته لها تزيد من إيمانه، وإهماله لها أيضاً تنقص زيادة الإيمان، من أجل ذلك؛ قال الإمام محمد عبده في حكمة أخرى: " محاسبة النفس وخلجات القلب ركنُ كبير من أركان الإيمان، وقد جَعَلَهَا الصوفية شَرْطَاً مهماً في نجاح الإنسان"؛ لكأنما نجاح الإنسان - إنْ في الدنيا وإنْ في الآخرة - مُتَوَقفُ على مدى معالجته لنفسه تماماً كما هو مُتَوَقف في الوقت عينه على مدى قدرته في معاملة هذه النفس حين يضعها وجهاً لوجه أمام خالقها بحيث لا يطيعها في أمر ولا في نهي.

كان الإمام عبد القادر الجيلاني - طيَّبَ الله ثراه - (ت651 هـ) من الصوفية الأقطاب البارزين في أحكام الطريق شأنه شأن الشاذلي وأبي العباس المرسي؛ وهو صاحب كتاب "الغُنية لطلَّاب طريق الحق"، كتب كتابه "فتوح الغيب" مقالات جاوزت السابعة والسبعون، عبارة عن إشارات ومعاني ترشد إلى قيم السلوك الصوفي، كلمات ظهرت لمولانا من فتوح الغيب، فَحَلَّتْ - كما قال - في جنانه فأشعلت المكان فأنتجها وأبرزها صدق الحال، فتولى لإبرازها لطف المنان ورحمة ربِّ الأنام في قالب صواب المقال، لمريدي الحق والطلاب " (فتوح الغيب؛ مكتبة مصطفي الحلبي؛ الطبعة الثالثة؛ القاهرة سنة 1392هـ - 1973م ؛ ص 6).

تبدأ المقالة الأولى بعد خطبة الكتاب بعنوان " فيما لابد لكل مؤمن"، وهى إشارة هامة ولمَّاحة، مفرطة في ذكاء الروح: أن تجيء المقالة الأولى لتقول: لابد لكل مؤمن في سائر أحواله من ثلاثة أشياء: أمْرُ يمتثله، ونهي يجتنبه، وقدر يرضى به، فأقل حالة المؤمن لا يخلو فيها من أحد هذه الأشياء الثلاثة، فينبغي له أن يَلْزم همُّها قلبه؛ وليحدِّث بها نفسه، ويؤاخذ بها في سائر جوارحه ". ثم تتعاقب مقالات الكتاب على صغر حجمه إلى أن تصل للمقالة الثامنة والسبعين معنونة بعنوان: " في أهل المجاهدة والمحاسبة وأولي العزم؛ وبيان خصالهم " (فتوح الغيب؛ ص 171).

كتابُ ممتع يُذَاق كالشهد الطيب كما تذاق مقالات العارفين؛ مُطَرَّز في النهاية بلمح من قصائده رحمة الله عليه، مسبوقة بشيء عن حياته ووصاياه لأولاده ومريديه، وتاريخ وفاته، ودخوله لبغداد، وشيء من سيرته رضى الله عنه. أما المقالة التي أريد أن أضعها هنا أمام قلب القارئ لا بصره بل بصيرته، ليذوق منها ما من شأنه أن يريحه من همِّ نفسه حين تجيء هذه النفس جماع الهموم التي ينبغي أن يرتاح منها صاحب الهمِّ النكِد الطويل، فهى المقالة السابعة من الكتاب، فيها على التحقيق "صفة العارف" وأهمها فكرة "إسقاط التدبير". هاهنا، رياض المعرفة وربانيتها، ومتاع الذوق وخصوصيته، ورقي الحياة الروحية العامرة بتجاريب أصحابها القادرين عليها الموفقين من الله إليها، هاهنا الرَّوْعة, وهاهنا الجلال، وهاهنا العلاج، هاهنا الطمأنينة القلبية، وهاهنا البصيرة الذوقية، وهاهنا الرياض المبهجة للعقل والقلب، هاهنا ما لا يحصى وصفه بلسان ولا تتسع لتصوره كلمات، وليس يُحسن بالمرء أصلاً رسمه بقلم، وإنما الأوصاف تقريبية لا تفصيلية، مرشدة ودالة لكنها لا تمسِّ الحقيقة في شيء.

التجربة هى التي تَقفُكَ على الحقيقة إنما الأوصاف لا تعطي الحقيقة ولا شيء منها مما تراه فيك أنت وحدك ولا يراه غيرك منك، جرِّب فقط لتدرك! ذُقْ مَذَاق القوم ثم أنظر ماذا ترى، واعْلم أن القوم ليسوا أهل أقوال ولكنهم أصحاب أفعال، وأن علومهم ليست علوم أفكار ولكنها علوم أذكار: جَرِّب .. ! فإن رأيت مَنْهَلاً أعذب من هذا المنهل فرُدَّه, جرِّب وكفى !

عنوان المقالة هو "في إذهاب غمِّ القلب"، هى السابعة كما قلنا في ترتيب مقالات الكتاب، ترانا نحيطها أولاً بلفظ الشيخ على حرفه هو، ثم نوالي التعليق عليها تباعاً بما أمكن، قال الشيخ:" اخرج عن نفسك وتنح عنها، وانعزل عن ملكك، وسلِّم الكل إلى الله، فكن بوابه على قلبك، وامتثل أمره في إدخال من يأمرك بإدخاله، وأنته بنهيه في صدِّ من يأمرك بصده، فلا تدخل الهوى قلبك بعد أن خرج منه، فإخراج الهوى من القلب بمخافته، وترك متابعته في الأحوال كلها، وإدخاله في القلب بمتابعته وموافاته، فلا ترد غير إرادته، وغير ذلك منك تمنِّ، وهو "وادي الحمقاء"؛ وفيه حتفك وهلاكك وسقوطك من عينه وحجابك عنه. أحفظ أبداً أمره، وأنته أبداً نهيه، وسلم أبداً لمقدوره، ولا تشركه بشيء من خلقه، فإرادتك وهواك وشهواتك من خلقه، فلا ترد ولا تهوى ولا تشته كيلا تكون مشركاً؛ قال تعالى:" فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لقَاءَ رَبّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالحَاً وَلا يُشْركْ بعبَادة رَبّه أَحَدَاً " (الكهف: آية 110).

ولتنظر إلى هذه العبارات تجد مبدأ إسقاط التدبير يشملها تماماً لكأنه حقيقة ماثلة لدى أكابر الأولياء. نتابع قول الشيخ: ليس الشركُ عبادة الأصنام فحسب، بل هو متابعتك هواك، وأنت تختار مع ربك شيئاً سواه من الدنيا وما فيها والآخرة وما فيها؛ فما سواه عز وجل غيره، فإذا ركنت إلى غيره فقد أشركت به عز وجل غيره. فاحْذَر ولا تركن، وخف ولا تأمن، وفتش فلا تغفل فتطمئن، ولا تضف إلى نفسك حالاً ولا مقاماً، ولا تدع شيئاً من ذلك، فإن أعطيت حالاً أو أقمت في مقام فلا تختر شيئاً واحداً من ذلك؛ فإن الله كل يوم في شأن، في تغيير وتبديل، وأنه يحول بين المرء وقلبه، فيزيلك عمَّا أخبرت به، ويغيرك عما تخليت ثباته وبقائه، فتخجل عند من أخبرته بذلك، بل أحفظ ذلك فيك ولا تعده إلى غيرك؛ فإنه كل الثبات والبقاء، فتعلم أنه موهبة وتسأل التوفيق للشكر واستر رؤيته، وإنْ كان غير ذلك، كان فيه زيادة علم ومعرفة ونور وتيقظ وتأديب، قال الله عز وجل:" مَا نَنسَخْ منْ آيَة أوْ نُنسهَا نَأت بخَيْر مّنْهَا أوْ مثْلهَا, أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلّ شَيء قَديرٌ " (البقرة: آية 106). فلا تعجز الله في قدرته، ولا تتهمه في تقديره ولا تدبيره، ولا تشك في وعده، فليكن لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة: نسخت الآيات والسور النازلة عليه، المعمولة بها، المقروءة في المحاريب، المكتوبة في المصاحف، ورفعت، وبدلت، وأثبت غيرها مكانها، ونقل صلى الله عليه وسلم إلى غيرها، هذا في ظاهر الشرع. وأما في الباطن والعلم والحال فيما بينه وبين الله عز وجل فكان يقول:" إنه ليُغان على قلبي فأستغفر الله في كل يوم سبعين مرة"؛ ويروى" مائة مرة ". (والغَيْنُ: غين أنوار لا غين أغيار أو أكدار كما قال الشاذلي؛ والحديث أخرجه مسلم من حديث الأغَرّ المزني إلا أنه قال "في اليوم مائة مرة "، وكذا عند أبي داود. وللبخاري من حديث أبي هريرة " إني أستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة". وفي رواية البَيْهقى في الشعب "سَبْعين" لم يقل أكثر (راجع الحافظ العراقي: المغني عن حمل الأسفار، على هامش الإحياء جـ3، ص242). وتظهر المؤثرات الروحيّة المباشرة في تصوف الجيلاني هنا تماماً كما هى في تصوف الشاذلي والمرسي وابن عطاء، وهى مؤثرات سنية بحتة موصولة بالغزالي مباشرة، إذْ تكاد العبارات الأخيرة من كلام الجيلاني تكون منقولة بحرفها من الغزالي)

وكان صلى الله عليه وسلم ينقل من حال إلى أخرى ويسير به في منازل القُرْب وميادين الغيب، ويغير عليه خلع الأنوار، فتبين الحالة الأولى عند ثانيها ظلمة ونقصاناً وتقصيراً في حفظ الحدود فيلقن الاستغفار؛ لأنه أحسن حال العبد، والتوبة في سائر الأحوال؛ لأن فيها اعتراف بذنبه وقصوره، وهما صفتا العبد في سائر الأحوال، فهما وراثة أبي البشر آدَم عليه السلام إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم حين اعتورت صفاء حاله ظلمة النسيان للعهد والميثاق، وإرادة الخلود في دار السلام، ومجاورة الحبيب المنان، ودخول الملائكة الكرام عليه بالتحية والسلام، فوجدت هناك نفسه مشاركة إرادته لإرادة الحق، فانكسرت لذلك تلك الإرادة وزالت تلك الحالة، وانعزلت تلك الولاية، فانهبطت تلك المنزلة، وأظلمت تلك الأنوار، وتكدر ذلك الصفاء، ثم تنبَّه وذكر صفي الرحمن، فعرف الاعتراف بالذنب والنسيان ولقن الإقرار فقال:" رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإنْ لَّمْ تَغْفرْ لَنَا وَتَرْحَمَنَا لَنَكُونَنَّ منَ الخَاسَرينَ " (الأعراف: آية 23) . وجاءت أنوار الهداية وعلوم التوبة ومعارفها، والمصالح المدفونة فيها ما كان غائباً من قبل، فلم تظهر إلا بها، فبدلت تلك الإرادة بغيرها والحالة الأولى بأخرى، وجاءته الولاية الكبرى والسكون في الدنيا ثم في العقبى، فصارت الدنيا له ولذريته منزلاً، والعقبى لهم موئلاً ومرجعاً وخُلْداً؛ فلك برسول الله وحبيبه المصطفى وأبيه آدم صَفي الله عنصر الأحباب والأخلاء أسوة في الاعتراف بالقصور والاستغفار في الأحوال كلها (فتوح الغيب؛ ص 16- 19).

ولنذكر ما كان قاله الإمام أبي الحسن الشاذلي:" أحْصَنُ الحصون ما أخبرك عنه في الاستغفار؛ وحقيقته أن لا يكون لك مع غير الله قرار، قال تعالى في كتابه:" وَمَا كَانَ اللهُ ليُعَذّبَهُم وَأنْتَ فيهم، وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفرُونَ" (الأنفال، آية 33). ولنلحظ: وحدة الاتجاه بين الشاذلي والجيلانى ممثلاً في إسقاط التدبير ورفض دعوى الإرادة في هذه المقالة؛ ووحدة المشرب الروحي الواحد، ووحدة القصد من وراء التأثر بذوق الطريق، لا بل تأثر ذَوْق الطريق نفسه بهما، وانتهاج هذا الذوق ليكون معبراً عن جانب عظيم في الإسلام، واقتفاء هذا الأثر على طول الخط؛ محافظةً على التصوف السُّني الخالص، واستخلاص أثره الباقي في الحياة الروحية في الإسلام.

هذه هى المقالة التي دبَّجها يَراع الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمة الله عليه في إذهاب غمِّ القلب وأنت ترى فيها أولاً: مقاصد العبودية ومطالبها صريحة في إسقاط التدبير؛ كما يُقَدّمها نظام التَّعَبُّد الصوفي لدى أعلام الحياة الروحيّة معراجاً روحياً فوق كونه تكريماً آدمياً: إزاحة الهوى أولاً، وتنحية الشركاء والأغيار ثانياً، والتغلب على إرادة النفس وشهوات الأهواء والمخالفات ثالثاً، والتوجه بكل الهمة إلى الله تعالى طلباً للمساعدة والتوفيق. هذا المعراج قد وَصَفَه الغزالي في "الإحياء" من قبل، وبين حالات الارتقاء فيه بالنسبة لمعراج النبي صلوات الله وسلامه عليه، والاعتبار به، وَشَرَحَ حالات تطوره الروحي شرحاً مستفيضاً بما لا مزيد عليه.

ثم ترى فيها ثانياً: أن الوادي الذي يهيم فيه الحمقاء هو وادي"دعوى الإرادة" في غير محل للإرادة وفي غير اعتبار لها؛ فالحمقاء هم الذين يريدون غير إرادة الله باعتمادهم على إرادة أنفسهم فيما تصوره لهم أهواؤها، فلذلك قال الجيلاني "فلا ترد غير إرادته، وغير ذلك منك تمن، وهو وادي الحمقاء". لكن هذه الإرادة إذا هى كانت على النحو الذي قرره الشيخ تصبح طلباً للكمال. وطلب الكمال صفة من صفات الروح الإنساني ولازم من لوازم تطلعه الروحاني، بل هو النتيجة الملازمة لكل تلك العواطف والميول والقوى التي رُكبت في هذا الفؤاد الخفَّاق الساكن بين الجوانح: طلب الكمال طلب للتحرير وتأكيد للذات من جانب المعرفة؛ لأنه مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ؛ ولأنه طلبٌ لحقيقة الإنسان الوجودية الأصيلة فيه؛ فمتى تحرَّر وَجَدَ نَفْسَهُ وَشَهَدَ حقيقته الأصلية ولازم إنسانيته في أرفع مطالبها، وترقى صعداً من لوثة التراب المجبول إلى أفق الأرواح والعقول.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم