دراسات وبحوث

أدبيات أذواق الصوفية (1-2)

مجدي ابراهيميأسفُ المرء كثيراً حين يرى البعض منّا يخلط خلطاً عجيباً بين "الحقائق" و"الأوهام"، أو بين "العلم" و"الخُرَافة" أو بين "الصدق" وما يناقضه من أكاذيب وافتراءات. والتصوف - موضوعُ هذه المُدَارسَة - كعلم يعتدُ به ويعتز من عارفي فضله أيَّما اعتزاز، وهو كحقيقة تتوافر فيها مقومات الصدق، يخضع كثيراً اليوم كما كان يخضع في الماضي البعيد لافتراءات المفترين وأكاذيب المُدَّعين وتوقح المتوقحين. ومن عجب العجاب إنك لترى فئات تضفي على التصوف طابع الدروشة والاتكال على الخرافة، وتحاربه باسم العلم الحديث أو العقلانية الفلسفية النظرية أو التجريبية العلمية، وتنأى بما تضفي عليه من هذا الطابع عن حقائقه وعلومه ومعارفه الذوقية !

قبل سنوات، عندما كنا نقرأ عن التصوف والصوفيّة كلمات ناقدة مستفزة كان الحماس يدفعنا بلا تردد للرد عليها فوراً. واليوم لم نجد في أنفسنا حماسة لمجرد دفع اللغط المنفّر الذي يسوقه الجهل أو المرض. وقد تبيّن لنا إذْ ذاك إنها مجرد آراء صادرة عن أناس لا يتعمقون الرؤية أو ينساقون وراء معتقداتهم النظرية أو توجهاتهم العقلانيّة أو يندفعون بدوافع مرضية أو بواعث غير علمية تصرفهم عن التتبع والنظر العلمي الدقيق لظاهرة التصوف في الوجدان البشري كونها ظاهرة حضارية.

ما من أمة من الأمم العالمية إلا ووجد في قمتها التصوف، في قمتها لا في قاعها، لكنه يستند إلى مضمون العقيدة التي يدين لها بالولاء؛ ففي أمم الشرق القديم، مصر وفارس والهند والصين تصوف، وفي حضارة اليونان تصوف، وفي الأديان الكتابية وغير الكتابية تصوف، وفي اليهودية فِرَقٌ صوفية، وفي المسيحية تصوف، وفي الإسلام تصوف؛ لأن التصوف لاشك عمل روحي متصل بالروح الإنساني على التعميم لا يخلو منه دين ولا معتقد. لكن أمثال هؤلاء الذين يسبّون التصوف ويسيئون إليه ويعتبرونه سذاجة ودروشة وسبباً مباشراً لتخلف المسلمين، هم لا يعرفون عن الإنسان إلّا كتلته المادية وأشياؤه المحسوسة، ويتحركون في إطار ما ينظرون ويحسّون ويلمسون، هم مفلسون في القيم الدينية، الإيمانية والروحيّة على التحقيق.

كثير من الفلاسفة وعلماء النفس، عدوا التصوف هو العبقرية الدينية فعلاً، بلا تحيز؛ إذْ كانوا ليسوا بصوفية حقيقيين بل فلاسفة نظريين وعلماء تجريبين ركزوا دارستهم على الحالات الصوفيّة كونها فوق طور الوعي العادي. والوعي العالي لا يُقارن بالوعي العادي مطلقاً ... لا في اللغة ولا في الإشارة ولا في العبارة ولا في الفكرة ولا في التَّوَجُّه. ولسنا بحاجة إلى ذكر أسماء أكثر من الإشارة إلى كتابات هنرى برجسون ووليم جيمس (W. James)، وجومز (Jomes) وإريك فروم، أو كتابات ليوبا، وباستيد، وأندرهل (Underhill)، وثولس، وغيرهم من علماء النفس الديني للوقوف على تلك العبقرية الدينية في أعمال المتصوفة وإشاراتهم الرمزية.

النصوص الصوفية الممتازة لا تصدر عن وعي عادي مطلقاً، وهل كانت نصوص النّفري وابن عربي والصدر القونوي وابن سبعين أو حتى نصوص ابن عطاء الله السكندري والنوري والجنيد من قبله، صادرة عن وعي عادي؟ من يقول بهذا يجهل التصوف كما يجهل الكتابة عنه، وبالتالي لا يستمرء تذوق أشارت الصوفية، فيخبط فيها خبط عشواء؛ فيجيء كلامه من ثمَّ لا يستحق عناء الرد عليه؛ لأنه كلام فارغ من المعنى مضيعة للوقت والجهد. من أجل هذا؛ عزفنا عن الرد، وفقدنا الحماسة حتى في قراءة النقد

ولما كنتُ من المختصين في هذا الفن العالي، فقد يسوؤني أن أرى مثل هذا اللغط العجيب دالاً على فراغ العقل والوجدان من القيم العلوية؛ ولا يتحرك قلمي دفاعاً عن حقائق التصوف ضد أباطيل خصومه؛ ولست في الحق مَعْنيَّاً كما قلتُ في هذه العُجالة بالرد على أولئك الخصوم؛ فإنّ هذا ليس من شيم الصوفية ولا من آدابهم، بمقدار ما يعنيني أن أقدّم بين يدي القارئ الكريم كلمة عن الطريق : أدبياته وأذواقه في إطار المنهج والغاية، ليرى معي عما إذا كان التصوف حقيقاً بتلك الصفة، أو كان هو على النقيض تماماً لما يصفه الواصفون بأوصاف يجهلون فيها الحقائق كما هى عليه ليأخذون بما تبقى لديهم من أباطيل.

وإنه لشيء بغيض جداً أننا نروح فننكر - وتاريخ التصوف الإسلامي كله مُعَرَّض من أهل الغفلة والافتراء للإنكار! - ننكر الحقائق الواضحة بذاتها من طريق غير طريقها، وبأدوات لسنا بقادرين على امتلاكها أو حتى الوقوف عليها، ناهيك عما إذا كانت تلك الأدوات ملكات نفس باطنة ومواهب تُفَاض فيضاً في عالم التجريب.

يَكشفُ التَّصوف مخلصاً على الدوام عن "عنصر القيمة في الوجود الإنساني"، وتشرق في أبوابه وموضوعاته مثل هذه"القيمة" التي يفتقدها الباحثون في غير أبواب التصوف وموضوعاته. التصوف ليس دروشة ولا حذلقة ولا إدعاء، ولكنه حياة روحية خالصة في رحاب القيم . لك - إنْ شئت - أن تفك خيوط الحيوات التي يعيشها المتصوفة حالاً بعد حال، ومعراجاً وراء معراج، وفي كل حال حياة، وفي كل معراج ثورة باطنة فريدة يتميز بها الصوفي بمزية الصمود في الطريق الذي ينشده، وفي الغاية التي يرومها؛ فماذا تراك واجداً غير القيم العلوية الكبرى تضبط تلك الحيوات بضوابط التفرد والاستقلال؛ والطلاقة الروحية النادرة، يعزُّ وجودها إلا من الأفراد، الأفذاذ، الأبطال، القدراء؟

التصوف أسلوبُ متفرِّد في "الحياة الروحية"، وحركة منظمة من أجل العمل خدمة لله، يصدُر عن أناس مُتَفرِّدين، لهم في الحياة منهج، وطريقة، وصعود، ومعراج؛ فالإرادة التي يتمتعون بها قيمةُ من القيم الكريمة الباقية. والكمالُ الذي يتوخونه قيمةُ من القيم الكبرى الباقية. وكل فضيلة من الفضائل الإنسانية هى في أرقى مباهجها قيمة علوية من قيم التصوف سواء عرفناها نحن أم لم نعرفها، أدركنا حقيقتها أم لم ندركها، لكنها في مجملها هى الفضيلة التي تصدر من المتصوفة عن إدراك وتهذيب.

والذوقُ الصوفيُ (لا الحدس الفلسفي) هو الأصل الأصيل في المعنى الذي يصيبه إدراك المتصوف العرفاني حيث لا يرى لغيره معنى آخر غير الحق الذي يراه باستمرار حقيقاً بالإتباع والممارسة والمعايشة والحياة، حضوراً وتجربةً على الدوام بغير انقطاع.

وللذوق الصوفي (لا الحدس الفلسفي) أدبٌ عرفانيٌ جليل هو هو العنصر الحركي ذو الفاعلية "القيميَّة" التي تحكم بدورها طبيعة "التجربة الصوفية" في مسيرتها الفاعلة، يخوض غمارها المتصوف غير مشغول بعوارض الطريق.

هذا الأدب العرفاني هو في الأصل إدراكُ وتهذيب أو - إنْ شئت قُلْتَ - تهذيباً وإدراكاً هو نفسه التهذيب الذي تتجلى فيه "فاعلية القيمة" بمقدار ما تتجلى فيه تماماً تلك الصورة المُعَبرة عن مدارك صاحبها : عن وعيه وطاقاته الروحيّة، هذا من جهة.

ومن جهة ثانية؛ هو إدراك أولاً, ثم تهذيب ثانياً، بمعنى أن المتصوف في هذه الحالة يدرك الحقائق بوعي خاص به، هو ذلك الوعي المجمل الذي يتميز به عن غيره من جملة مدركين. فلئن كان هذا الإدراك العرفاني هو الوسيلة الوحيدة إلى التهذيب فيما لو كان التهذيب غاية يرومها العارفون؛ فهو هنا الكاشف لا محالة عن عنصر القيمة بإطلاق.

ولو إنك نظرت إلى الجهة المقابلة تجد أنه : لا إدراك إلا بتهذيب، حيث لا تدرك القيمة إلا بمقتضى ذلك التهذيب؛ فالتهذيب بدايةً فيه صورة أدبية تنقلها لنا شاعرية المتصوف ولطيفته الجوانيّة في عاطفة إيمانية نبيلة وقوية في آن، فهو من هذه الجهة وسيلة لاشك فيها تؤدي إلى الإدراك الذوقي حقيقة لا مجازاً؛ بخاصيّة العرفان الموقورة فيه والمستقرة في أعماقه الباطنة حتى إذا ما انتقلنا في التصوِّر درجة، نرى الإدراك الذوقي هذا هو بالضبط المعدن الأصيل لأدبيات أذواق الصوفية؛ فهو من تلك الجهة الأصل، أما الثمرة فهى التهذيب، وأنا أعني بالتهذيب هاهنا ذلك النظام الأخلاقي الكامل المتماسك - والكاشف أيضاً عن عنصر القيمة بوضوح لا غموض فيه - وهو الذي عُرفت به إشارات الصوفية ومواجيدهم الذوقية .

ومادام العرفانُ خاصية العارف الأولى والأخيرة، صارت الصورة الأدبية التي يعلمها هى هى الصورة الأدبية التي يدركها. وأقول؛ "يدركها"، وأنا أعني ما أقول، وأؤكد على هذا الإدراك؛ إذا نحن علمنا إن الإدراك يعنى هنا هو تلك الخاصة الذوقية يجيء دلالة وعلامة على إدراك العارفين. فالإدراك المقصود هنا إدراك ذوقي، وهو شيء آخر غير "العلم".

العلم شيء والإدراك شيء آخر، وليس بين العلم والإدراك لدى المتصوف فرقٌ كبيرُ. لكنما الفرقُ يظهر عند غير المتصوف : علمك بالشيء غير إدراكك له؛ فقد تعلم عن الشيء الكثير ومع ذلك لن تستطيع أن تتذوق من عبابه الفياض قطرة واحدة؛ فأنت من ثمَّ تعلم عنه علماً خارجياً بعيداً عن الإدراك. أمّا حين تدركه فأنت غائرٌ فيه من الداخل، عارفٌ بمعاناته، مدركٌ لمعطياته الباطنة بالفعل الذي لا زيادة لك فيه ولا وسع لديك أن تقدم سواه؛ خذ مثلاً على هذا مضروباً لك "بالإيمان" في أقرب مصادره ومسالكه : كلنا يدعي الإيمان، يدَّعيه بالكلمة مجرد إدعاء، ويروح فيعبِّر عن هذا الإدعاء بألفاظ يستوحيها بالكيفية التي تثبِّت له هذا الإدعاء؛ فمنَّا من يعلمه قشرة سطحية وظاهراً عرضياً؛ فيأتي علمه لفظاً ما جاوز الأشداق؛ فها هنا يكون مجال العلم وكفى.

ولكن مجال العلم غير مجال الإدراك، مجال الإدراك هذا يقتضي أن يغوص الفرد منا في الإيمان ليستغرقه من جميع أقطاره فيدركه إدراكاً ذوقياً وفق خبرة روحية هيأتها له حركة التجربة، وفي تلك التجربة يرسخ الإيمان في القلوب، لكنه إذْ يَرسخ لا مناص له من قوتين أساسيتين : أولاهما قوة "مانعة". وثانيتهما قوة "دافعة". وبغير هاتين القوتين لا محل للإيمان الراسخ في القلوب ولا مكان لتذوق حلاوته إذا نحن قطعنا النظر عن فاعلية القوة الأولى "المانعة" أو قطعناه عن فاعلية القوة الثانية"الدافعة". والقوتان هما مناط إدراك المدرك لفعل الإيمان، وهما أيضاً قوتان فاعلتان : إحداهما، وهى الأولى : مانعة حافظة حاجبة. والثانية : دافعة مثمرة حاصلة، وحصولها في أنها تسبِّب يقيناً مثل هذا الرسوخ المشار إليه سلفاً.

ولا يتأتى رسوخ الإيمان الحقيقي في القلب الصالح بغير تفعيل هاتين القوتين؛ فكلتاهما قوة إيجابية فاعلة, وليست أحداهما سلبية كما يُتوهم والأخرى إيجابية، ولكن كلتا القوتين إيجابية، وإيجابيتها في تقرير الحركة؛ إنْ من جهة المنع وإنْ من جهة الدفع، وهما معاً يعملان جنباً إلى جنب، وكلتاهما سيدة قرارها : تقرِّر الأولى فعل "المنع"، وتحقق الثانية فعل "الدفع". الأولى : مانعة للنفس من المعصية، وهذا عمل إيجابي في حد ذاته؛ وبمقتضاها يكون "التخلي" عن الآفات والشرور والقواطع والأغيار والأشواك والمعاطب وكل ما يقف حائلاً للمرء في طريقه. والثانية : دافعة للنفس إلى الطاعة وفعل الخيرات، وهذا فعل إيجابي كذلك ينمو ويذكو ويترقى، وبمقتضاه يكون "التحلِّي" بأفضل ما تتحلى به النفوس الصالحة.

الأولى : تحفظ النفس وتحجبها عن الشرور والآثام. والثانية تدفعها إلى الفضائل والخيرات، وهى في طريق هذا الدفع تثمر وتفيض وتعلو بصاحبها في سبيل الإدراك؛ فإذا بلغَتْ هذا المرتقي الكريم، فقد بلغَتْ من الإيمان مبلغه الراسخ في غير زعزعة وفي غير اضطراب، فيحصل من ثمَّ قوة مانعة عن أن تزيل رسوخ الإيمان من قلوب المؤمنين.

وليس يخفى أنه من تفاعل القوتين بعضهما مع بعض، شدَّاً وجذباً، ومنعاً ودفعاً، وتحلياً وتخلياً، تنشأ "الإرادة" وتتربَّى حتى تستقر طبعاً في النفس المريدة لا يزول.

وللحديث بقية

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم