دراسات وبحوث

أدبيات أذواق الصوفية (2-2)

مجدي ابراهيمكان الإمام أبو حامد الغزالي - طيَّب الله ثراه - قد بحث هذا الجانب من ميل النفس البشرية فأصاب الحقيقة في بحثه عن تربية الإرادة؛ ففي عبارة موجزة ومختصرة وشديدة التركيز يطلعنا عن كيفية "تربية الإرادة" إذْ يقول إنها تتربَّى عن طريق:" تكرار طاعة الميل المحمود، وتكرار مجاهدة الميل المذموم". فهذه عبارة في تقديري معجزة من الإعجاز؛ فللنفس كما ترى ميلان الأول: مانع . والثاني: دافع. أحدهما: يقتضي التخلي. والثاني يتطلب التحلي. فالذي يقتضي المنع والتخلي ميلٌ مذموم، والذي يتطلب الدفع والتحلي ميلٌ محمود، وكلاهما يحتاج إلى "تكرار"؛ ليرسَخ في النفس فعل المقاومة عادة وجبلة. وهذا التكرار من الأهمية بمكان؛ فتكرار طاعة الميل المحمود فعلُ إيجابي يحتاج إلى تضخيم التفكير الإيجابي فيه، ودوام الفكرة في فعل الطاعة باستمرار لترسخ، وتكرارُ مجاهدة الميل المذموم تقتضي أن يسقط المرء من حسابه هذا الميل، فلا يعود إليه أبداً لأنه فعل سلبي، لكن تكرار المجاهدة نفسها فاعلية إيجابية لا غنى عنها؛ فإن لم يستطع المجاهد الذي يكرر تلك الفاعلية الإيجابية أن يسقط ميله بالمرة دفعة واحدة، فعليه أن يقوم بضوئلة الفكرة فيه، وتحديدها وتقزيمها حتى يخفيها تماماً من اعتباره تمهيداً للإسقاط.

نأتي إلى نص الغزالي الممتاز حيث يقول في كتابه الموسوعة "الإحياء": " إذا حَصَلَ أصلُ الميل بالمعرفة، فإنما يقوى بالعمل بمقتضى الميل والمواظبة. فإنّ المواظبة على مقتضى صفات القلب تجري مجرى الغذاء والقوت لتلك الصفات. فالمائل إلى طلب العلم أو طلب الرياسة مثلاً، لا يكون ميله في الابتداء إلا ضعيفاً، فإنْ اتبع مقتضى الميل، واشتغل بالعلم، وتربية الرياسة والأعمال المطلوبة لذلك، تأكد ميله ورسخ، وعسر عليه النزوع. وإنْ خالف مقتضى ميله، ضعف ميله، وأنكسر، وربما زال ..".

الغزالي هنا يقرِّر حقيقة جُبَلت عليها النفس البشرية فطرة وغريزة؛ فهو إذْ يقرر أولاً أن "الميل" إلى الاستعداد المغروز في الفطرة البشرية إذا هو توجَّه إلى الفعل، يلزمه أن يقوى بالعمل والمواظبة عليه؛ فلئن كان الميل إلى المحمود؛ فمقتضى الميل عملاً دائماً في هذا المحمود. ولئن كان الميل إلى المذموم؛ فمقتضى الميل جهاداً دائماً في مخالفة هذا المذموم. وغنيٌ عن البيان؛ أن هذا العمل الدائم في الحالة الأولى, وهذا الجهاد الدائب في الحالة الثانية, هما فعل "المواظبة". والمواظبة على مقتضى صفات القلب تجرى كما قال مجرى الغذاء والقوت لتلك العقبات. "والمواظبة" تعني "التكرار"؛ والتكرار يفيد رسوخ العادات.

ثم ضرب الغزالي مثلاً ثانياً على رسوخ الميل؛ بالتكرار والممارسة والتعوِّد والمران، وهو ما يعرف بـ "الملكة"؛ فالمائل إلى طلب العلم، ذلك الذي يجد في نفسه ميولاً إلى طلب العلم والاشتغال به؛ إذا هو قام بالأعمال المطلوبة لذلك، وواظب عليها تأكدت في القلب، واندفعت (= القوة الدافعة) من الجوارح آثارها إلى القلب فرسخت، فيصير عالماً بمقتضى العمل بالميل. ثم أخذ الغزالي يتدفق ويسهب كما عودنا دائماً على التدفق والإسهاب ضارباً مثلاً هاماً يعرفه كل من يجرِّبه تجريباً حياتياً ملموساً في وقائع الأحياء فيقول:" بل الذي ينظر إلى وجه حسن مثلاً فيميل إليه طبعه ميلاً ضعيفاً، لو تبعه وعمل بمقتضاه فداوم على النظر، والمجالسة، والمخالطة، والمجاورة، تأكد ميله حتى يخرج أمره عن اختاره، فلا يقدر على النزوع عنه. ولو فطم نفسه ابتداء، وخالف ميله لكان ذلك كقطع القوت والغذاء عن صفة الميل (ولنلحظ أن صفة الميل هذه صفة قلبية) ويكون ذلك دافعاً في وجهه حتى يضعف ... لأن بين الجوارح والقلب علاقة حتى أنه ليتأثر كل واحد منهما بالآخر. إلا أن القلب هو الأصل المتبوع؛ فكأنه الأمير والراعي. والجوارح كالخدم والرعايا والأتباع " (الإحياء؛ جـ 3, ص66) .

هذا تحليلُ رجل عارف خبيرٌ بمعالجة الأفكار الكبرى، وبخاصّة في مجالي التربية وعلم النفس؛ تحليل مَنْ وافقت أفكاره حياته، ومَنْ انطبعت حياته بفكره، ومَنْ جرَّب المعاني تجريباً عملياً، ولم ينفصل مدد الذوق لديه عن التجربة والمعايشة والحياة. هذا هو الصوفي الكبير الذي لم يفترق لديه العلم عن الإدراك. وتلك هى المنهجية الصوفية اللازمة لمعرفة التصوف أو دراسته والارتقاء به إلى مستواه الأعلى من شئون الروح وشئون العمل وشئون التهذيب، وتلك هى غايات التصوف الحقيقية: الوصول إلى الحقيقة الإلهية بالتزكية والتطهير.

أعودُ إلى ما كنت بصدده قبل أن أستطرد مع الغزالي في تحليله الفلسفي وفي رؤيته النفسية مستدلاً به على مكامن هاتين القوتين العظيمتين في أطواء النفس البشرية وأغوارها الدفينة الباطنة؛ فبهاتين القوتين الفاعلتين: قوة التخلي (= المنع)، وقوة التحلي (= الدفع) تتحقق فضيلة الجهاد الذي يهتدي بفضله المجاهدون إلى طريق الله كما في قوله تعالى:" والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا"؛ فالسبيلُ إلى الله لا يتمُّ إلا بجهاد، ومعناه: انتقال النفس على الدوام من جهاد إلى جهاد كيما يتم الوصول. ففي الأمر - كل الأمر- مجاهدة ومكابدة يتحقق فيهما إدراك المتصوف وتذوقه لحلاوة الإيمان. وفي طبيعة المتصوف الداخلية، وفي قدرته القادرة - أو غير القادرة !- على مثل هذا الإدراك (= الإدراك الذوقي العرفاني) ما من شأنه أن يبرر تلك الوحدة المنشودة ظاهرة بلا خفاء بين "العلم" و"الإدراك"، ويجعل من الإدراك مادة خصبة لتمايز عبارات الصوفية واختلافها من متصوف إلى آخر، وإنْ كانت كلها، كلها، تتوارد من معين واحد، وتستقي من معدن واحد لا خلاف عليه في ضوء التجربة الصوفية هو: معين الروح ومعدن الأخلاق.

ولكن هذا التمايز والاختلاف في العبارة التي يقولها المتصوف فيختلف بها عن إخوانه إنما تأتي بمقدار القابلية التجريبية التي تنبثق من داخلية الوجدان الديني لديه. وعليه؛ فلامناص للذوق العرفاني من أن يكون مصدراً لكل اللطائف والأدبيات والإشارات والنظريات الكبرى، ما دامت أصل العلاقة بين المتصوف وخالقه كلها أدباً، ومعرفة، ومحبة، وعرفاناً.

والخُلقُ الصوفي الرفيع - خُلق التجربة والممارسة والتسليك - هو في الحقيقة أدبٌ تتهذب به النفس وتسمو منطلقة في مدارج التربية والتهذيب؛ لأنه الأدب الذي ينفرد به المتصوف خلال التحقق وعياً في بطن التجربة، ويزيدُ على ذلك أنه لا يكتفي بالإطار النظري بل يشفع النظر بالممارسة، ويسيطر على النظرية بمقدار ما يسيطر على الممارسة فينشأ من خلال هذا وذاك حدس في مجال الأخلاق والمعرفة قلما يتاح أصلاً لغير المتصوف. والمعرفة الإلهية والمحبة التي يهبها الله عطية غير مجزوزة لعارفيه، هما كذلك ضرب من ضروب الأدب. والعرفان الذوقي فيه من الخصائص الأدبية واللطائف المعرفية ما لا يمكن عزله عن أدبيات أذواق الصوفية بحال إذا لم يكن في الأصل (أي العرفان الصوفي الذوقي) هو المصدر لتلك الأذواق والمعارف والمواجيد.

على أننا لا نعني بالأدب هنا عناية اللغويين به من حيث أنه الشعر الذي يقرضه الشعراء أو النثر الذي تسوقه طبائع الأدباء والبلغاء، ولكن عنايتنا تنصرف إلى ذلك الأدب الصوفي بمعناه الدقيق، باعتباره مقاماً يصعد بمقتضاه العارف دوماً وبغير انقطاع في معارج المعرفة ومدارج السلوك: نقل أبو القاسم القشيري (ت 465 هـ) صاحب الرسالة القشيرية عن أبي نصر السراج الطوسي (ت 378 هـ) صاحب كتاب "اللمع في التصوف" قوله:" الناس في الأدب ثلاث طبقات: أما أهل الدنيا؛ فأكثر آدابهم في الفصاحة والبلاغة وحفظ العلوم وأسماء الملوك وأشعار العرب. وأما أهل الدين؛ فأكثر آدابهم في رياضة النفوس وتأديب الجوارح وحفظ الحدود وترك الشهوات. وأما أهل الخصوصية (= الأولياء والعارفين بالله)؛ فأكثر آدابهم في طهارة القلوب، ومراعاة الأسرار، والوفاء بالعهود، وحفظ الوقت، وقلة الالتفات إلى الخواطر، وحسن الأدب في مواقف الطلب وأوقات الحضور ومقامات القرب. وروى كذلك عن سَهل بن عبد الله التُّسْتَري (ت 383 هـ) أنه قال:" من قهر نفسه بالأدب، فهو يعبد الله تعالى بالإخلاص".

وقيل في إطار هذا الذوق الصوفي المتحقق بالتجربة والفياض بلوعة المعايشة، قيل إن: كمالُ الأدب لا يصفو إلا للأنبياء عليهم السلام والصديقين. فهذا الأدب المقصود على ما تقدَّم من أوصاف إنما هو أدبٌ داخلي من طبيعة العرفان الذوقي الذي يختص به العارف عَمَّن سواه؛ هو أدب نفس تتهذب في حجر المعروف، أو هو - كما قال الصوفي الكبير ذو النون المصري:" أدبُ العارف فوق كل أدب، لأن معروفه يؤدِّب قلبه". ومن تخريجات الصوفية في هذا الصدد أن أحد العارفين قال: يقول الحق سبحانه: من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب، ومن كشفت له عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب، فاختر لنفسك أيهما شئت: الأدب أو العطب.

وإذا رحنا نجتهد في تخريج هذه الإشارة، يُلزمنا القول بما يتبادر إلى الخاطر من دلالتها، إن حقيقة الذات الصمدية من المحالات التي إذا هى تحققت نتج عنها العطب، وفي العطب تلف الأرواح، وتلف الأرواح يقتضي سقوط شروط الأدب ليحل محله العطب والتلف. وعندما يكون التلف واقعاً محققاً على الروح تكون المحبة وارداً قوياً له ما يبرره إذا ما كان "الفناء" في الذات الإلهية. ومع وجود المحبة يقع الفناء، وفي الفناء غيبة صارخة بعطب الحواس وتلف الأرواح، ومن ثمَّ سقوط شروط الأدب. ولعل هذا المعنى تفسره إشارة الجنيد (ت 297 هـ) حيث قال:" إذا صحَّت المحبة سقطت شروط الأدب". وقيل: سقوط شروط الأدب هنا يكون تكلفاً لا وجوداً.

ولما كان موقع الأدب عظيماً في التصوف، صارت إشارات الصوفية فيه لها مغزاها المعرفي ومعيارها الخلق، فقد لا يخلو متصوف من حديث عن الأدب بوجه من الوجوه. إنه أبو حفص الحداد (ت260 هـ) هو الذي قال:" التصوف كله آداب، لكل وقت أدب، ولكل حال أدب، ولكل مقام أدب؛ فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال، ومن ضيع الآداب؛ فهو بعيدُ من حيث يظن القرب ومردودُ من حيث يظن القبول".

وقال أبو عبد الله بن خفيف (ت 371 هـ):" قال لي رُوَيْم (ت 303 هـ):" يا بُنيَّ أجعل عملك ملحاً، وأدبك دقيقاً". وفي أقوال بعضهم:" ألزم الأدب ظاهراً وباطناً، فما أساء أحدُ الأدب ظاهراً إلا عوقب ظاهراً، وما أساء أحدُ الأدب باطناً إلا عوقب باطناً".

وقال ذو النون المصري إذا خرج المريد عن استعمال الأدب؛ فإنه يرجع من حيث جاء "؛ فمن المؤكد الذي لاشك فيه عندنا، أن هذه النماذج المقتضبة من إشارات العارفين تفيدنا - بما لا يدع محلاً للشك - بأن الأدب العرفاني كله أخلاق حسنة، وكله سلوك طيب يشي بالأدلة الكافية على صدوره بالجملة عن "ذَوْق العرفان"، فإن حُسن الأدب في الظاهر عنوان حُسن الأدب في الباطن".

ومن أجل ذلك؛ صار الأدبُ مع الله هو أدب نفس تتهذب، وترتفع بالتهذيب في مدارج المعرفة والتوحيد؛ فإذا النفس على طريق الأدب منذ البداية، تتأدَّب بأفضل ما تتأدَّبُ به النفوس وتجاهد ليكون أدبها خلقاً كريماً يجيدُ فنون التعامل مع الله؛ لتصل من بعدُ بفضل الله تعالى إلى الله؛ فلا جَرَمَ في أن يكون وصولها أدباً رفيعاً وحكمة ربانية خالصة: إنه الأدب الداخلي الذي تهتمُّ به هِممُ النفوس الأبية وتهيم فيه، حتى إذا ما أخرجته كلمات وإشارات ولطائف وتعبيرات، بل ونظريات كبرى لها خطرها في مجال التصوف الفلسفي، بات واضحاً من خلاله كيف تفهم تعبيرات هذه النفوس عن ذواتها: شعراً كان أو نثراً أو إشارة من الإشارات التي لا حَصر لها عند الصوفية ولا حدود لأسرارها ومعانيها الباطنة الخفية. والأصلُ في هذا - كما تقدَّم فسبقت إليه الإشارة - هو في الذوق العرفاني وقيم الأخلاق التي يتعارف عليها منطق الوجدان الديني عند الصوفية بغير استثناء .

ولعَلَّ قائلاً يقول: ما فائدة هذا الكلام، وما هى غايته في عصر لم يعد يعترف قيد أنملة بقيم الروح وأخلاق العرفان؟ ما فائدة الكتابة في التصوف وما غايتها في عصر تقاسُ كل ذرة فيه بمقاييس المادية المُوغلة في الطفاسة والدناءة وانقلاب الأوضاع؟ إننا مقبلون على شطط أهوج يختل فيه التوازن المنشود بين قيم الروح ومطالب المادة؛ فمن الطبيعي والمنطقي أن يجيء ردَّ الفعل - شئنا أم أبينا - تعلقاً بقيم الروح وحيوية الضمير وأخلاق العرفان. إننا نعيش زمناً تتفشى فيه غيبة الأدب وانتكاس الأخلاق، والظلمُ البيِّن للشعوب وللحضارات، بل وللإنسان العربي على وجه الخصوص, والإساءة إلى مقدساتنا الدينية كل في فترة وفي كل حين؛ فنحن نبحث عن الأدب فلا نجده، وعن السلام والمحبة والتراحم والوئام، فلا نتحقق من هذه الأشياء إلا أسماءها؛ فإذا الحُريات التي حُفيت في سبيل الدعوة إليها أقلام كبار الفلاسفة والمفكرين مكبَّلة بل ومفقودة، وإذا القيمُ الصريحة في مواجهة الطغيان منتكسة بل ومسلوبة؛ فلا مناص لنا من انطلاقة رحبة تتسع ولا تنقبض عن لقاء تلك المعاني والمدركات العليا؛ وفي التصوف عموماً، وفي حياة الأولياء والعارفين تكون نقطة الانطلاق .. فهلا كان لقاء بعد طول غياب؟!

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم