دراسات وبحوث

سفيان الثوري.. مثقف الاجتهاد الحر والالتزام العملي (2)

ميثم الجنابيشخصية سفيان الثوري وتقييمه في الثقافة الإسلامية

أرست الأموية ما يمكن دعوته بمبدأ حق التسلط. من هنا يمكن فهم موقفه القائل، بأن "الائمة خمسة فقط" (الخلفاء الراشدون وعمر بن عبد العزيز)، ومن ثم ازال الشرعية عن كل خلفاء بني امية وبني العباس. الامر الذي يفسر سبب عدم ادراج مدرسته الفقهية ضمن ما يسمى بالمدارس الكبرى كالمالكية والشافعية والحنفية والحنبلية، مع انه يفوق عليهم جميعا. طبعا ان ذلك لا يقلل من القيمة الروحية والاخلاقية لفقهاء الاسلام الكبار، بقدر ما يشير الى النوعية التي ميزت شخصية سفيان الثوري. فقد كانت حياة ائمة الفقه متعرجة من حيث الامكانية والكفاءة والمنهج، لكنهم جميعا كانوا يشتركون بالأخلاق العالية. ولكل منهم تاريخ الخاص والشخصي في مواجهة محنة السلطة. واذا كان الاشهر من بينها محنة ابن حنبل، فان ذلك بسبب بساطته وسهولة ما فيه واستجابته لمعنى العوام وخشونة اللسان وجسد الامة. بينما يختلف الحال بالنسبة لسفيان الثوري. انه كان يمثل فكرة العقل والروح والارادة المتسامية.

فقد وجد البعض فيه "أمير المؤمنين في الحديث"، و"إمام الناس في زمانه" و"عالم الأمة وعابدها" و"أفقه الناس". وتنوعت فيه الأحكام بما يتوافق مع اذواق قائليها ووعيهم الشخصي وتجاربهم الذاتية. فقد قال الأوزاعي عنه مرة "لو قيل لي اختر لهذه الأمة رجلاً يقوم فيها بكتاب الله وسنة نبيه لاخترت لهم سفيان الثوري". وفي حالة اخرى قال عنه "ما رأيت عالما يعمل بعلمه الا سفيان". بينما قال ابن المبارك فيه: "ما نُعت إلي أحد فرأيته إلا كان دون نعته، إلا سفيان الثوري". ومقارنة برجال الحديث الفقه الكبار آنذاك، جرى الاقرار بأفضليته في العلم ومعرفة الحديث والورع. فقد قال عنه يحيى بن سعيد القطان: "سفيان أشد من شعبة وأعلم بالرجال"، وانه ليس أحد أحب إليه من شعبة، ولا يعدله أحد عنده. وضمن هذا السياق قال أبو حاتم الرازي عنه "سفيان فقيه، حافظ، زاهد، إمام، هو أحفظ من شعبة". بل ان شعبة نفسه قال :"سفيان أحفظ مني". بينما قال عبد الرحمن بن مهدي: "كان وهيب يقدم سفيان في الحفظ على مالك"، وفي موقف اخر قال عنه "ما رأت عيناي مثل أربعة: ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري، ولا أشد تقشفاً من شعبة، ولا أعقل من مالك بن أنس، ولا أنصح للأمة من ابن المبارك"، وقال علي بن الحسن بن شقيق عنه "ما أعلم على الأرض أعلم من سفيان".

جمع سفيان الثوري بإقرار الاغلبية "بين العلم والورع والعفة والزهد". فقد قال شعبة عنه "ساد سفيان الناس بالورع والعلم". بينما قال اخرون "لا اعقل من مالك ولا اعلم من سفيان". فيحين قال اخر عنه "لولا الله ثم سفيان لمات الورع".

وقد يكون وصف المتأخرين له وبالأخص عند الذهبي من بين اكثرها تعميما لتجارب الاسلاف كما هو الحال في وصفه سفيان الثري قائلا: "هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، المجتهد، مصّنف كتاب الجامع".

اما الصيغة العميقة والدقيقة عن شخصيته، فهي تلك التي بلور معالمها الزهاد والمتصوفة. فقد قال فيه الزهاد امثال ابن المبارك "كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان". بينما قال عنه ابن عيينة "ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري". وفي معرض مخاطبته لابن حنبل حول شخصية سفيان الثوري قال "لن ترى بعينك مثل سفيان الثوري حتى تموت". في حين كان يحيى بن معين لا يقدِّم على سفيان أحداً في زمانه، في الفقه والحديث والزهد، بل وكل شيء. أما ايوب السختياني فقد قال عنه "ما قدم علينا من الكوفة أفضل من سفيان الثوري". في حين قالت عنه المتصوفة بما يتوافق مع تجارب افرادها وتأثرهم به. اذ ينقل عن بشر الحافي قوله "كان الثوري عندنا إمام الناس". في حين اعتبره الفضيل بن عياض "اعلم من ابي حنيفة". وعندما قيل له من هو امامك فيما تذهب اليه من بعض الورع، اجاب: "سفيان الثوري". اما يوسف بن اسباط فقد قال عنه: "الناس سيعاقبون، أنه لا يوجد بينهم مثل سفيان". وهذه من بين الافكار الرفيعة والدقيقة والعميقة التي تشير الى جوهرية العالم العامل بالنسبة لكينونة الانسان والجماعة والامة. وذلك لان انعدام وجود شخصيات مرجعي بمعايير الروح الخلص للحق والحقيقة سوف يؤدي بالضرورة الى تحلل الانسان والقيم الرفيعة. بمعنى تعرّض الانسان والجماعة والامة الى عقوبة ذاتية بكافة المعايير والنتائج.

ان هذه الحصيلة التي توصلت اليها الرؤية النقدية المتفحصة لحقيقة الشخصية الفكرية والعلمية والاخلاقية لسفيان الثوري قد ظلت عائمة في سماء الرؤية الثقافية النقية، بينما في واقعيتها فقد كانت تعاني من حيث وجودها الواقعي من اثم الوجود نفسه بوصفه صيرورة قاسية. وهو امر لابد منه بالنسبة لصيرورة الروح الثقافي والشخصية الكبرى. فالصيرورة القاسية هي الوحيدة القادرة على سنّ معالم الروح والجسد، شأن كل ابداع عظيم. فنحت الهيكل الجميل في الصخر هو الوجه الاخر لتذليل قبح الواقع او انها العملية التي لابد منها لكي يكون المثال تجسيدا للصورة المركبة من تفاعل العقل والوجدان والارادة الحية.

كانت حياة وممات سفيان الثوري صيرورة قاسية شحذت ملامحها على مسّن الوجود الاثم للسلطة، اي على مسّن الوعي المتراكم في شخصيته من اجل احقاق الحق والعمل بموجبه. ونعثر على بعض مظاهر هذه الحالة والصيرورة الشخصية لسفيان الثوري في الرؤية والاحساس الشخصي لمن حوله ومعرفة به. ففي مجال الفقه والفتيا جرى ملاحظة شخصيته منذ مراحل مبكرة حتى اخر ايامه. اذ ينقل لنا الوليد بن مسلم ملاحظته التي قال فيها: "رأيت سفيان الثوري بمكة يستفتى ولم يخط وجهه بعد". بينما ينقل لنا محمد بن عبيد الطنافسي ملاحظته التالية: "لا أذكر سفيان الثوري إلا وهو يفتي. أذكره منذ سبعين سنة ونحن في الكتَّاب، تمر بنا المرأة والرجل فيسترشدوننا إلى سفيان يستفتونه ويفتيهم". في حين ينقل احدهم ما يلي: "سمعت الناس بمرو يقولون: قد جاء الثوري! قد جاء الثوري! فخرجت أنظر إليه فإذا هو غلام قد بقل وجهه".

بينما يلاحظ البعض سلوكه ومواقفه التي لا تصنع فيها، كما في قول مروان بن معاوية: "شهدت سفيان الثوري وسألوه عن مسألة في الطلاق، فسكت وقال: إنما هي الفروج". والمقصود بذلك انه يخاف الإفتاء بها بالحل وهي محرمة عليه، مما يتسبب في الوقيعة والوقوع في فرج لا تحلّ له. بينما ينقل لنا ابن أسباط الحالة التالية: سئل الثوري وهو يشتري عن مسألة فقال للسائل: دعني! فإن قلبي عند درهمي فلست متفرغاً لأفتيك، وقد أخطئ وأنا منشغل بالبيع والشراء. بمعنى إن الإفتاء ينبغي أن يستند إلى تفرّغ القلب وصحة الدراية. فالإفتاء بالنسبة له عقل ودراية واخلاص.

وليست هذه المظاهر الجزئية سوى الصيغة العابرة والمتذبذبة لاستقامة الروح المعنوي المميز لشخصية سفيان الثوري. اذ ينقل لنا عطاء الخفاف ملامح هذه الشخصية في قوله: "ما لقيت سفيان الثوري إلا باكيا! فقلت: ما شأنك؟ فقال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيا!". بينما ينقل لنا احدهم مشاهدته لسفيان الثوري واستماعه له قائلا: "كنت لا أستطيع سماع قراءة سفيان من كثرة بكائه". وينطبق هذا على سلوكه في العبادات. اذ ينقل لنا علي بن فضيل: "رأيت سفيان الثوري ساجدا حول البيت، فطفت سبعة أشواط قبل أن يرفع رأسه". في حين قال مؤمل بن إسماعيل عنه: "أقام سفيان بمكة سنة، فما فتر من العبادة سوى من بعد العصر إلى المغرب. كان يجلس مع أصحاب الحديث وذلك عبادة". في حال قال احدهم عنه: "كنت أرمق سفيان في الليلة بعد الليلة ينهض مرعوباً ينادي: النار النار! شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات". كما ينقل لنا اخر حالة الثوري بقوله: "رأيت الثوري في المسجد الحرام بعد المغرب، صلى ثم سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نودى لصلاة العشاء". وهي الحالة التي يصورها لنا يوسف بن أسباط في قوله: "قال سفيان الثوري وقد صلينا العشاء الآخرة: ناولني المطهرة! فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على نحره ونمت. فاستيقظت وقد طلع الفجر فنظرت فإذا المطهرة بيمينه كما هي. فقلت له: "هذا الفجر قد طلع!"، فأجاب: "لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة". من هنا قول قبيصة بن عقبة: "ما رأيت أحداً كان أكثر ذكراً للموت منه". بينما وصفه اخر بعبارة تقول: "كنا نكون عند سفيان الثوري، فكأنه قد اوقف للحساب".

من هنا الانطباع الظاهري الذي خلفته شخصيته المتماسكة في اعماقها بحيث اعتقدوا بجنونه. من هنا قول احدهم عنه: ربما كان يأخذ سفيان في التفكر، فينظر اليه الناظر فيقول "مجنون". كما نعثر على هذه الحالة في قوله عن نفسه: "امرّ بالحائك يغني، فأسدّ اذني". وليس المقصود بذلك كره الغناء وما شابه ذلك، بقدر ما يعني التعبير عن صمت الأصوات الخارجية من أجل استرقاق السمع إلى معزوفة الباطن! فهي الحالة المميزة والملازمة للشخصية المتماسكة في كلّها، ومن ثم القائمة في وجدها ووجودها وعلمها وعملها بحالة التفكر العميق والخروج به إلى عوالم الكينونة الحرة. إذ كل حر عظيم مجنون، بينما ليس كل مجنون عظيم! فالجنون كما يقال فنون! وما كان مميزا لسفيان الثوري العالم المجتهد هو الانغماس في المعرفة والذوبان في تأمل حقائقها. الأمر الذي يجعله غريبا. والغريب مجنون!

وليس مصادفة أن تبتدع الثقافة الإسلامية الفكرة القائلة بغرابة وغربة الانبياء والمصلحين لمن حولهم، وبالتالي رفعت هذه الحالة الى مصاف المثل الاعلى كما في قولها "طوبى للغرباء!". اما في الواقع، فإن الغريب هنا قريب من دبيب الوجود وإشكالاته. ونعثر على هذه الحالة في الوصف الذي قال به احدهم "كنت اخرج مع سفيان الثوري، فما يكاد لسانه يفتر عن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبا وراجعا". في حين قال آخر عنه بهذا الصدد: "ما رأيت أحدا أصفق وجها في ذات الله من سفيان الثوري". لهذا نراه يقول مرة "اذا رأيتموني قد تغيرت عن الحال الذي أنا فيه، فاعلموا أني قد بدلت". وأن يقول في موقف آخر: "مثل المتعبد ببغداد كمثل المتعبد في الكنيف!".

لقد بحث سفيان الثوري عن الحقيقة في أعماقه وأعماقها فوجدها فيما اسميته بكوفة الحقيقة والمعنى، التي وجدت تعبيرها في توليف المعرفة بتحقيقها الذاتي. وقد يكون الزهد المتسامي بالعلم والمعرفة هو مظهرها الخاص عنده. ولعل الوصف الذي قدمه البعض عنه بهذا الصدد نموذجيا بكل ما فيه كما في قوله: "رأيت سفيان الثوري في طريق مكة، قوّمت كل شيء عليه حتى نعله: درهما وأربع دوانق!".(يتبع....)

***

 

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم