دراسات وبحوث

سفيان الثوري.. مثقف الاجتهاد الحر والالتزام العملي (3)

ميثم الجنابيالزهد وأجنة الفكرة الصوفيةتوّج سفيان الثوري في شخصيته العلمية والعملية الحالة الثقافية والروحية التي جمعت بين الزهد والمعرفة. الأمر الذي جعل منه الممثل النموذجي الأول في الثقافة الإسلامية لوحدة الزهد والمعرفة، أي وحدة العلم والعمل. وهي ذاتها وحدة المعرفة والعمل بموجبها. اذ ليس هناك أكثر من حقائق المعرفة المسبوكة بمبادئ السلوك الأخلاقي الرفيع ممن صَنع وحدة الشخصية المتماسكة وإبداعها الحر. ذلك يعني، ان الزهد بالنسبة له هو اداة السمو الاخلاقي والمعرفة العملية. بل وارتقى ي حالات عنه الى مصاف الاختبار الفعلي لحقيقة الشخصية. من هنا فكرته عن ان حقيقة الزهد ليست "أكل الغليظ ولبس الخشن، ولكن قصر الأمل، وارتقاب الموت". وذلك لأن الشيء الجوهري هنا يقوم فيما اصطلح عليه سفيان الثوري بعبارة الكسب الطيب والعناية بالروح والجسد بما يتوافق مع حقيقة العمل وغايته. اذ ينقل عنه احدهم كيفية لقاءه بسفيان الثوري حالما قدم عليه. حينذاك طبخ له قدر سِكْباج (اللحم المطبوخ بالخل) فأكلَ، ثم أتاه بزبيبِ الطائف فأكلَ. بعدها قال له سفيان "اعْلِف الحمار". ثم قام يصلي حتى الصباح. سكباج وحمار وصلاة كلهم واحد بالنسبة له، لان لكل منهم موقعه واهميته بالنسبة للروح والجسد. بينما يخبرنا آخر عنه كيفية دخوله على سفيان الثوري وهو يأكل طباهج (اللحم المشرّحُ بالبيض)، فكلّمه في ذلك، فأجابه سفيان: لم آمركم أن لا تأكلوا طيباً. اكتسبوا طيباً وكلوا! وضمن هذا السياق يمكن فهم موقفه القائل "لأن أخلِّف عشرة آلاف درهم، يحاسبني الله عليها، أحبُّ إليّ من أن أحتاج إلى الناس". وهذا الموقف يستند بدوره الى ادراكه الحر والواقعي من اهمية ويمة المال بالنسبة للحرية الفردية والفكرية في عالم اخذ المال يتحول فيه الى قوة حاكمة وفاعلة في كل شيئ! من هنا قوله "كان المال فيما مضى يكره، فأما اليوم فهو ترس المؤمن". وضمن هذا السياق يمكن فهم مضمون موقفه السابق. اذ اعتبر "المال داء هذه الأمة". من هنا قوله "لا تقتدوا بصاحب عيال لأنه دوما يتعلل بعياله". بينما نسمعه يخاطب في حالة اخرى احدهم قائلا: "عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال والانفاق على العيال". وفي نادرة اخرى تنقل عنه وقد نظر إليه رجل وفي يده دنانير فقال:

- يا أبا عبد الله تمسك هذه الدنانير؟!

- اسكت: فلولاها لتمندل بنا الملوك"، أي لجعلونا كالمنديل يمسحون به أرجلهم.

ورفع تجاربه الشخصية بهذا الصدد الى فكرة عامة تقول، بأن "الزهد زهدان، زهد فريضة وزهد نافلة. فالفريضة أن تدع الفخر والكبر والعلو، والرياء والسُّمعة، والتزيُّن للناس. أما زهد النافلة فهو أن تدع ما أعطاك الله من الحلال. فإذا تركت شيئا من ذلك صار فريضة عليكَ ألا تتركه إلا لله". وأن يتوصل في حالة أخرى إلى أن "الزهد هو سقوط المنزلة". ولا يعني "سقوط المنزلة" هنا سوى الرجوع إلى الحقائق الأولية المتعلقة بحقيقة المعنى في كل شيء. وكل شيء في الإنسان هو الإنسان نفسه بمختلف مواقفه العلنية والمستترة. وبالتالي، فإن اسقاط المنزلة يعادل معنى التحرر والتخلص من شوائب الزيف السائد في مختلف مظاهر الوجود والحياة. ولهذا شدد في احد مواقفه بهذا الصدد عن انه لم ير اشد صعوبة للتحقق بحقيقة الزهد أكثر مما في حب الرياسة. وأوصله ذلك إلى فكرة عميقة تقول بأن "الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس"، وأوله الزهد في النفس. فبالزهد تبصر عورات الدنيا، أي نواقصها وخللها. ذلك يعني أن الزهد هو المنفذ الى عوالم المعرفة الدقيقة وبلوغ حقيقتها كما هي. من هنا قوله، بأن الإنسان حالما يزهد في الدنيا، فإن الله ينبت الحكمة في قلبه، ويطلق لسانه، ويبصرّه عيوب الدنيا وداءها ودواءها. بل وتوصل إلى فكرة عميقة تقول، بأنه "لا تصلح القراءة الا بالزهد".

لقد حوّل سفيان الثوري الزهد العملي المرتبط بتقاليد الورع الإسلامي الأول إلى فكرة وأسلوب تتناغم فيهما وحدة المعرفة النظرية والعملية. إذ حدّه من حيث هو فكرة بما اسماه بزهد الفريضة والنوافل. وكلاهما بالنسبة له كلّ واحد. وذلك لأن حقيقة الزهد تبتدأ بالزهد بالنفس وتنتهي بتحقيقه في العلم والعمل. وليس تحقيقه سوى النتيجة المترتبة عليه بوصفه أسلوبا في إدراك حقيقة الأشياء كما هي وما اسماه بأثره في إنبات الحكمة في القلب وطلاقة اللسان بالحق ورؤية اسباب العيوب والنواقص وكيفية علاجها. ذلك يعني أن حقيقة الزهد هي علم وعمل بقدر واحد. من هنا اهمية ماهية المعرفة وحقيقتها.

اننا نعثر في الشخصية الروحية والعقلية لسفيان الثوري على ما يمكن دعوته بأجنة الفكرة الصوفية، بمعنى الارتقاء من الزهد والمواقف الأخلاقية والعقلية من الواقع الى مستوى الذوق الصوفي العملي.

فقد ساهم سفيان الثوري في وضع الأسس الخفية لما ستطلق عليه تقاليد الصوفية لاحقا فكرة وحدة الشريعة والطريقة، والشريعة والحقيقة، ولكن بمعايير الزهد والورع الإسلامي وليس بمعايير الحقيقة الصوفية أو فكرة المتصوفة عن الحقيقة بوصفها نهاية الطريق، أو الذروة المترتبة على اعتصار الطريقة للشريعة بقواعد النقاء الحر ونفيها الدائم للأحوال في المقامات. لقد تراكمت ضمن سياق تجارب روحية وعقلية وعملية من طراز آخر، كان يجري إلى جانب النموذج الذي جسّده وحققه سفيان الثوري بذاته. بمعنى انه حقق ذلك عبر تجربته الفقهية النظرية والعملية التي أدخل فيها أو توصل من خلالها إلى عدد من المواقف المنهجية التي أسس لها التصوف ورفعها إلى مصاف متسامية عبر انزالها إلى أعمق أعماق الغور الروحي للإنسان العارف. ونعثر على ذلك في بلورته لفكرة العلاقة بين السر والعلانية، وقضية البلاء الروحي والمعرفي، وفكرة الصبر، والمضمون المعرفي لعلاقة الحياة والموت، وجوهرية "الله" في السلوك الظاهر والباطن بالنسبة للعارف الحق. ففيما يخص علاقة السر والعلانية يقول، بأن "من كانت سريرته أفضل من علانيته فذك الأفضل. ومن كانت سريرته شر من علانيته فذلك الجور". و"اذا عملت ذنبا في السر فتب إلى الله في السر. وإذا عملت ذنبا في العلانية فتب إلى الله في العلانية". اما موقفه من النعمة والبلاء فقد بلوره في عبارة تقول "ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة". أما ما يخص المضمون المعرفي لإدراك طبيعة العلاقة بين الحياة والموت فقد وضعها في فكرة عميقة، تحولت الى عنصر جوهري في الذوق الصوفي، والمقصود بذلك عبارته القائلة: "الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا". والشيء نفسه يمكن قوله عن موقع "الله" بالنسبة للعالم الروحي للإنسان ومواقفه العملية بشكل عام والارادة بشكل خاص. فقد توصل هو باثر تجربته بهذا الصدد الى القول، بانه "عرف الله بفسخ العزم ونقض الهمة"، بمعنى بلوغ معنى وحقيقة الحق من خلال الباطن بوصفها العملية التلقائية للمعرفة. ووجدت هذه الفكرة استكمالها في موقفه الذي خاطب به المرء قائلا: "لا تحب إلا في الله، ولا تبغض إلا في الله". ولا يعني الله هنا سوى فكرة المقياس أو المعيار الأعلى والأسمى للإخلاص المجرد من الأهواء والمصالح بما يخدم الانسان والحقيقة.

واستكمل ما اسميته ببلورة الأجنة الأولية للذوق الصوفي في بلورته الدقيقة على مستوى المواقف والفكر مفاهيم وقيم وقواعد الورع، والعزلة، وفكرة القلب الأخلاقي والمعرفي، ومن ثم ساهم، ضمن سياق وتقاليد الزهد الإسلامي الأول، في بلورة وتحديد الأفكار الأولية عن الحال بوصفه ادبا، ثم قاعدة، ثم مبدأ، ثم طريقة. كما انه أرسى، إلى جانب كل تقاليد الزهد الأول، فكرة وضع الحال في أساس المقام من الناحية التاريخية، والمقام في أساس الحال من الناحية النظرية.

لقد اعطى للقلب اهميته الجوهرية في الاختيار والاختبار والارادة. من هنا قوله "ما استودعت قلبي شيئا قط فخانني". بل ووضع الاحتكام الى القلب تجاه كل دقائق ومظاهر الحياة والسلوك. من هنا قوله: "لا تجيبوا دعوة الا دعوة من ترون قلوبكم تصح على طعامه". وعندما سألوه مرة عن البناء الذي بنوه حول الكعبة، أجاب: "لا تنظروا إليه، فإنهم، إنما بنوه لتنظروا اليه". بعبارة أخرى، انه أراد تفريغ القلب من كل ما لا علاقة له بتوحيد الأنا بمكونات الوحدة الفعلية، أي العمل بتلقائية الحال الصادق. ومن الصعب بلوغ هذا الحال دون الخلوة والعزلة، بوصفهما أدوات وأساليب تربية الإرادة وتنقيتها. ولا يمكن تحقيق ذلك دون ما أسماه سفيان الثوري بتصحيح النية، باعتبارها البداية الأولية، أو الأساس الضروري لتربية الإرادة. من هنا قوله عن نفسه "احب أن أكون في موضع لا أعرف ولا استذل"، و"وددت انني اتخذت نعلي هذه ثم جلست حيث شئت لا يعرفني أحد"، و"اني لأفرح إذا جاء الليل ليس إلا لأستريح من رؤية الناس"، وأن "كثرة الإخوان من سخافة الدين"، و"السلامة في أن لا تحبَّ أن تُعرف". بل أوصلته هذه المواقف والتجارب الحياتية في إحدى الحالات الحرجة فيما يبدو إلى القول: "ما رأيتُ للإنسان خيراً من أن يدخل جُحْراً"! أما الخروج منه فقد وجده كما قال عن نفسه، بين الغرباء، كما في عبارته التالية: "وجدتُ قلبي يصلح بين مكة والمدينة مع قوم غرباء أصحاب صوفٍ وعباءة".

استمد هذا الاقتراب من عالم "الروح الصوفي" مقوماته الأساسية من تجربته الفكرية والأخلاقية التي أوصلته آنذاك إلى أولوية العلم والعمل ووحدتهما المتلازمة في الروح والجسد والمواقف. ففي هذه الثنائية الجوهرية المميزة للفكرة الصوفية وجد سفيان الثوري معيار الفقه وحقيقة الرؤية والمواقف، أي معيار كل شيء. وهنا تكمن القيمة العميقة والتاريخية لسفيان الثوري في المساهمة النظرية والعملية لما يمكن دعوته بلبنات أو عناصر الفكرة التأسيسية في الثقافة الإسلامية. وهي فكرة لها أصولها وجذورها وتاريخها الخاص. لكن خصوصية إبداعه بهذا الصدد تقوم في كونه إحدى الشخصيات الكبرى التي أرست أسس مرجعية الفقه الحر، ومرجعية الاجتهاد الحر، ومرجعية الالتزام بالتفكر ونتائجه. وهذه بدورها كان لابد لها من أن توسع وتعمّق تقاليد الفكرة التأسيسية. فالثقافة التأسيسية، سواء بمعايير الفكرة التاريخية أو التجربة الشخصية، (وكلاهما متوحدان بالضرورة من حيث تطابقهما المنطقي)، هي علمية - عملية، أي قول وعمل، أو فكرة وتحقيقها العملي.

واتخذت وحدة العلم العمل عند سفيان الثوري صيغ ومستويات متنوعة وتحقيق لها في مختلف المجالات والمواقف، لكنها موحدة بما يمكن دعوته بهاجس الحرية ومبدأ الاستقلال الفردي. فقد وصف الكثير من أولئك الذين قيموا شخصية الثوري بهذا الصدد، على إن أحدهم لم ير "عالما يعمل بعلمه إلا سفيان". فقد توصل سفيان الثوري في مجرى تجاربه الشخصية العلمية والعملية إلى أن العلم إنما يراد للعمل. من مطالبته المرء بعبارة: "لا تدع طلب العلم للعمل، ولا تدع العمل بطلب العلم". كما اوصلته تجربته الفردية بهذا الصدد لأن يؤسس لسلسلة العلم والعمل بالشكل التالي: "لا يستقيم قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنّة". إننا نعثر في هذه الفكرة على جعل العمل مرجعية جوهرية بالنسبة للعلم، لكنه ربطها في الوقت نفسه بالنيّة والسنّة. بعبارة اخرى، إننا نعثر في هذه الفكرة على نفي تأسيسي لحقيقة العلم والعمل بوصفها حلقات مترابطة بالنيّة ومرجعيات الثقافة، التي كانت "السنّة" (النبوية) أحد مصادرها الأساسية. من هنا اهتمامه الكبير بشخصية العالم واثره بالنسبة لماهية وحقيقة العلم ووظيفة المعرفة. فقد كان من المعروف عنه انه اذا التقى شيخا سأله: هل سمعت من العلم شيئا؟ (فإن اجاب لا) عندها كان يقول: "لا جزاك الله عن الإسلام خيرا". بمعنى إن الإسلام بالنسبة علم ومعرفة على الاقل بما فيه. وعندما سألوه مرة "اي شيء شر؟"، اجاب: "العلماء اذا فسدوا". بل وكان يتعوّذ بعبارة: "نعوذ بالله من فتنة العابد الجاهل والعالم الفاجر". من هنا قوله عن ان "العالم مثل الطبيب لا يضع الدواء إلا على موقع الداء". ومن هنا أيضا ابتعاده عن الجهلة و"سفل الناس" بحيث كان لا يحدّث النبط وسفل الناس. وعندما قيل له بذلك، قال "العلم إنما أخذ عن العرب، فاذا صار إلى النبط وسفل الناس قلبوا العلم". ويقصد بذلك النوع الجاهل من البشر وأهل البلادة من العوام. كما أنه موقف يدخل ضمن الرؤية القائلة، بانه ليس من ليس من مهمة رجل العلم أو المثقف الكبير مجادلة وتصحيح "رؤية" الحمال والاسكافي والحوذي في قضايا العلم والمعرفة.

***

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم