دراسات وبحوث

سفيان الثوري – مثقف الاجتهاد الحر والالتزام العملي (5)

ميثم الجنابيالمواقف الاجتماعية والاخلاقية والسياسية

الموقف من السلطة والسلطان

إن المعيار الأكثر جوهرية في رؤية سفيان الثوري عن علاقة العلم بالعمل تبرز من خلال موقف العالم أو المثقف من السلطة والسلطان. وليس مصادفة أن تحتل أولوية نقد مرتزقة السلطة ومراقبة النفس والعمل بمعايير العلم وأحكامه والسير بها حتى النهاية، الأضلاع المكونة لهيكل فكرته بهذا الصدد. من هنا موقفه المتجانس في نقد ونبذ من أطلق عليهم كلمة "القراء"، التي تتماهى في نقده مع العالم الفاجر والمثقف المرتزق. بل نراه يطابق بينهم وبين مرتزقة السلطة. وكانت تلك إحدى الحالات التي ميزت عصره، بل كل العصور، بمعنى وجود من أسماهم قرّاء الله وقرّاء الشيطان، أو قرّاء الحق وقرّاء الباطل، قرّاء الفضيلة وقرّاء الرذيلة. لكن الصفة السلبية التي ميزت انطباعه بهذا الصدد تنبع أساسا من واقع المرحلة التي وصفها بعبارة: "قراء زماننا هذا لهم شره وليس لهم تقى". وفي معرض تقييمه لسلوكهم نسمعه يقول: "إذا رأيت القارئ يلوذ بباب السلطان فاعلم انه لص.. وإذا رأيته يلوذ بباب الأغنياء فاعلم انه مرائي". وفي هذا الوقف نعثر على واقع المرحلة التي جعلت القراء في الاغلب اما لصا او مرائيا. بل ونراه يندفع بهذا الاتجاه بالشكل الذي جعله يقول اذ لم يكن لله بالإنسان حاجة نبذه الى القراء. كما لو أن القارء هم مزبلة البشر! مما حدد موقفه الشخصي تجاههم للدرجة التي جعلته يقول "لأن اشتري من شاطر يتفّتى أحّب إليّ من أن اشتري من قارئ يتقّرأ". من هنا قوله أيضا "إياكم وصحبة القراء، وعليكم بصحبة الفتيان. ففي مواقفه هذه نعثر على إدراك خاص لأهمية القارئ (أو المثقف) بالنسبة للمجتمع والأخلاق والعلم. من هنا حكمه القائل: "لله قرّاء، وللشيطان قرّاء. وصنفان إذا صلحا صلح الناس، السلطان والقرّاء". بمعنى إدراكه للسبب الأساسي في خلل الوجود الإنساني ككل بكافة مجالاته ومستوياته. الأمر الذي يكشف بدوره عن إدراكه للأهمية القصوى لوحدة العلم والعمل، بوصفها محك ومعيار الحق والحقيقة. وقد حقق ذلك أولا وقبل كل شيء في ذاته لذاته.

فقد كانت حياة سفيان الثوري حلقات مستمرة من المواجهة الحية بمختلف اشكالها مع السلطة. لهذا كان البعض يسال عنه بالطريقة التالية "ما فعل الذي بالعراق؟ الذي يجفو على الامراء". بحيث تحولت حياته الى هروب واختفاء دائم منها ونقد لاذع يصل الى حد القطيعة المطلقة معها. فمن الناحية الفعلية لا يعني الهروب من السلطة ومواجهتها في الخفاء على مستوى السلوك الشخصي سوى عدم الاعتراف بشرعيتها. فالموقف النقدي الشامل من السلطة، والابتعاد عنها بكافة الطرق والسبل هو محك ودليل وبرهان على حقيقة الشخصية الباطنة. وبالتالي، فإن اختفاء أو هروب أو تجنب رجال الفقه الاسلامي الاوائل العظام من السلطة، والذي اكثر من جسّده وحققه سفيان الثوري، يعادل الاقرار بعدم شرعيتها. ووجدت الصيغة العامة والأولية والدقيقة لهذه النتيجة تعبيرها في تباين وتناقض وتعارض فكرة الملوكية وفكرة الخلافة. من هنا قوله عنه ان الائمة خمسة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز. وبالتالي، فإن كل من غيرهم بالنسبة لسفيان الثوري ليس إماما يتبع.

أما العلاقة بين سفيان الثوري والسلطة فقد اتسمت بما يمكن دعوته بالوقوف على حافة الهاوية. وبالتالي كانت تحتوي على عناصر الرهبة والخوف وحالة التعلق الدائم امام هوة الموت وعيون الملاك والشيطاين الشاخصة الى ما فيه. وتتكشف في هذه العلاقة معالم الشخصية السياسية والروحية لسفيان الثوري، بوصفها شخصية متمردة ولكن بمعايير الروح المعرفي والاخلاقي. الامر الذي جعل من حياته وحتى ماته "محنة" دائمة له وللسلطة على السواء. ولا تؤثر على هذه العلاقة كون الثوري لم يكن من دعاة الخروج بالقوة او السيف على السلطة. بل على العكس، كان يقف بالضد من اثار الفتنة المترتبة على الصراع الدموي المسلح. بعبارة اخرى، لقد كان روح التمرد فيه مبنيا على اساس الاصلاح الروحي والاخلاقي والعلمي.

لقد أسس سفيان الثوري لفكرة التمرد السلمي ضد السلطة، والمبنية على فكرة السمو الاخلاقي والعلمي الفردي والعام. وظل متجانسا في موقفه هذا حتى النهاية. فعندما سأله يوسف بن أسباط مرة

- معاملة الأمراء أحبُّ إليك أم غيرهم؟

- معاملة اليهود والنصارى أحبّ إليّ من معاملة هؤلاء.

لهذا نراه يقول "النظر إلى وجه الظالم خطيئة". من هنا مطالبة الناس قائلا: لا تنظروا إلى الأئمة المضلين إلا بإنكار من قلوبكم عليهم لئلا تحبط أعمالكم". واستكملها بموقف آخر يقول " لا تنظروا إلى دورهم ولا إليهم إذا مرُّوا على المراكب". واتمّ مواقفه هذه بحكم جازم يقول "القبول مما في أيديهم من استحلال المحارم، والتبّسم في وجوههم علامة الرضا بفعالهم، وإدمان النظر إليهم يميت القلب، من رأى منكم خرقةً سوداء فليدُّسها ولا يمسَّها مسَّاً". والمقصود بالخرقة السوداء هو راية العباسيين. بعبارة أخرى، لقد وجد في السلطة الظالمة والجائرة مصدر الحرام وتشويه الروح والعقل والقلب، أي التشويه الكامل للمرء. وليس مصادفة ان يطالب ابو جعفر المنصور بصلبه حال رؤيته والقبض عليه. وعندما وصل هذا الخبر اليه، بعد وصول الخشّابة والنجَّارون ونصبهم الخشب، عندها نادوا عليه للمثول. وقد كان آنذاك، حسب الروايات، متمددا رأسه في حجر الفضيل بن عياض، اما رجلاه ففي حجر ابن عيينة. عندها قالوا له: يا أبا عبد الله! اتق الله! لا تشمِّتْ بنا الأعداء! أي طالبوه بمواجهة الحالة كما هي. غير ان القدر شاء ان يعيش باثر موت ابو جعفر المنصور قبل دوله مكة. وعندما اعلموه بالخبر فانه لم يقبل شيئا. لقد تعامل مع الحدث تعامله مع تحقيق ما ينبغي تحقيقه من حقائق متراكمة في اعماقه عن مواجهة الجور والظلم بقوة الإرادة المتسامية.

ومع إن الخليفة المهدي، ابن ابي جعفر المنصور، اختلف عن سلوك أبيه في الظاهر، واتبع أساليب جديدة في استمالة أهل العلم، إلا أن سفيان ظل على وقفه. وتروي الحكايات التاريخية كيف أن المهدي طلبه عندما كان في مكة، لكن سفيان استطاع الخروج منها والذهاب سرا إلى البصرة بتواطؤ مع عامل الخلافة في مكة آنذاك محمد بن إبراهيم ابن أخي المنصور نفسه، الذي أراد انقاذ سفيان الثوري في حال عدم رغبته لاستجابة طلب الخليفة المهدي. واستمر تنقله واختفائه إلى أن اضطر في نهاية المطاف للذهاب إلى بغداد. وعندما دخل سفيان الثوري على الخليفة خلع المهدي خاتمه ورمى به إليه قائلا:

- يا أبا عبد الله هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنّة! فأخذ الثوري الخاتم بيده وقال:

- تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين؟

- نعم

- أتكلم على أني آمن؟

- نعم

- لا تبعث إلىّ حتى آتيك، ولا تعطني شيئا حتى أسألك! فغضب من ذلك وهمّ بقتله، حينذاك قال له كاتبه

- أليس قد أمنته يا أمير المؤمنين؟

- بلى!

فلما خرج حفّ به أصحابه فقالوا له "ما منعك يا أبا عبد الله وقد أمرك أن تعمل بالكتاب والسنّة؟"، فقال "استصغر عقولهم"، كما تقول الروايات. بعدها هرب من جديد إلى البصرة. وتنقل لنا بعض الروايات حادثة أخرى تحتوي على حوار مع الخليفة المهدي حول الحج وتكاليفه. فقد وجه سؤاله للخليفة المهدي قائلا:

- كم انفقت في حجتك؟

- لا أدري.

- ولكن عمر بن الخطاب يدري. انفق ستة عشر دينارا فاستكثرها.

لقد كان سفيان الثوري يدرك طبيعة وحقيقة الملك والسلطان المتلبّس بلباس الخلافة. إذ كانت آراءه ومواقفه واحكامه وسلوكه تجاههم مبنية على أساس تأمل الواقع والتجربة التاريخية للخلافة ككل. ولعل سر هروبه من مركز الخلافة والخليفة الذي أراد أن يقلّده مهمة "قاضي الأمة" يكمن فيما توصل إليه بهذا الصدد عندما قال: "لم أر للسلطان إلا مثلا ضرب على لسان ثعلب عندما قال: "عرفت للكلب نيفا وسبعين دستان ليس دستان خير من أن لا أرى الكلب ولا يراني". بينما نراه يضع مواقفه من السلطة ومهمة الابتعاد عنها في عدد من الآراء الجريئة، مثل قوله: "إياك والامراء أن تدنوا منهم وتخالطهم في شيء من الأشياء. إياك أن تخدع فيقال ملك تشّفع وتدرأ عن مظلوم.... إنما ذلك خديعة ابليس. وانما اتخذها فجّار القرّاء سلمّا. وكان يقال اتقوا فتنة العابد الجاهل والعالم الفاجر. فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون". بل ونراه يدفع هذه الفكر إلى اقصى مدى لها في إحدى نصائحه قائلا: "إياك وأبواب السلطان، وأبواب من يأتي أبوابهم، وأبواب من يهوى أبوابهم... إنهم لا يخالطون أحدا إلا دنّسوه". وعندما ذكروا السلطان مرة أمامه قال: "لو أكلوا الذهب لأكلنا الحصا"، واختتم هذا الموقف بنصيحة عامة يقول فيها "إياك والأهواء، إياك والخصومة، إياك والسلطان". بحيث نراه احيانا يغلو فيما كل ما له علاقة بالسلطة، كما هو الحال في موقفه من الشرطة، بوصفها ذراعها الخشن. إذ ينقل عنه أحدهم قائلا: كنت ليلة مع سفيان الثوري، فرأى نارا من بعيد، فقال

- ما هذا؟

- نار صاحب الشرطة

- اذهب بنا في طريق آخر. لا نستضيئ بنارهم.

بينما يروي آخر الحادثة التالية: "كنت مع سفيان فمررنا بشرطي نائم، وقد كان موعد الصلاة، فأردت إيقاظه، فنهرني سفيان. وعندما قلت له "يصلي". اجابني "دعه! لا صلى الله عليه. فما استراح الناس حتى نام هذا". بينما خاطب أحد رفاقه قائلا: "إذا استرشدك أحدهم (من الشرطة) الطريق فلا نرشده!".

جعل سفيان الثوري من موقفه تجاه السلطة قضية شخصية. بمعنى تطابق البعد المجرد والملوس في مواقفه وأحكامه وآراءه من السلطة والسلطان. ولم يكن هذا التطابق نتاج لنزعة عندية ضيقة، بقدر ما كان مبينا على أساس فهمه لحقيقة الإسلام والسوك النبوي المحدي (السّنة). اذ لم تكن "السنّة" بالنسبة له سوى "الانتهاء عن الحرام والمظالم". بمعنى أنها ذات أبعاد اجتماعية وأخلاقية صرف. أما العقائد فيها فهي اجتهاد وظنون. إذ ربط الإمامة الشرعية بالعدل. ولهذا قال "أئمة العدل خمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز". ومن ثم فغيرهم لا يتسم بالعدل، وبالتالي ليس إماما شرعيا بالمعنى الدقيق للكلمة. وحقق ذلك في كيانه وكينونته. فقد "عرضوا عليه الدنيا، فنفر منها" ما يقال عنه. واعتبر حرية رجل العلم المقدمة الضرورية لكل قول وعمل. من هنا قوله "إن اقتصرت على خبزك وبقلك لم تستعبدك هؤلاء"، أي الملوك والأمراء والخلفاء وأمثالهم. لهذا نراه مرة يجمع كومة من الحصا ويتكأ عليها ثم خاطب صاحبه: "يا ابراهيم! هذا خير من أسّرتهم". بينما نسمعه يقول في موقف آخر "لو خيّرت بين ذهاب بصري وبين أن أملأ بصري منهم لاخترت ذهاب بصري". وعندما قالوا له مرة بأن السلطان يطلبه، اجابهم: "أترون إني أخاف هوانهم؟! انما أخاف كرامتهم". بمعنى إدراكه لخطورة "الكرم" و"الحفاوة" التي تعادل فعل الرشوة المبطنة والتحنيط الناعم للإرادة الحرة في القول والعمل. وهو سلوك مميز للائمة الجور وصغار العقل الذين كانوا يتماهون في موقف تقييم سفيان الثوري مع المخصيين. من هنا قوله الشهير: "هلاك هذه الأمة إذا ملك الخصيان". ومن هنا أيضا وقفه الحاد منهم ودعوته مقاطعتهم في المعاشرة والكلام واللقاء والاكل والتبسم، باختصار في كل شيء، كما في دعوته القائلة: "إياك والظلم، وأن تكون عونا للظالم، وأن تصحبه أو تؤاكله أو تبتسم في وجه او تنال منه شيئا". بل نراه يعتبر "النظر الى وجه الظالم خطيئة". من ها مطالبته القوم بعبارة: "لا تنظروا الى الأئمة المضلين إلا بإنكار من قلوبكم عليهم لئلا تحبط أعمالكم".

وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى ما ينسب اليه على لسان شعيب بن حرب تحريفا محترفا من جانب "أهل السنّة والجماعة" أو السلطة العباسية. وكلاهما بهذه القضية كلّ واحد. إذ ينسب الى شعيب بن حرب قوله:

- قلت لسفيان الثوري حدّثني بحديث في السنّة ينفعني الله به فإذا وقفت بين يديه وسألني عنه قلت يا رب حدثني بهذا سفيان فأنجو أنا.

- اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ومن قال غير هذا فهو كافر. والإيمان قول وعمل ونية، يزيد وينقص. وتقدمة الشيخين. يا شعيب لا ينفعك ما كتبت حتى ترى المسح على الخفين، وحتى ترى أن إخفاء بسم الله الرحمن الرحيم أفضل من الجهر بها، وحتى تؤمن بالقدر، وحتى ترى الصلاة خلف كل بر وفاجر، والجهاد ماض إلى يوم القيامة، والصبر تحت لواء السلطان جار أو عدل.

انا نقف هنا أمام صيغة تتميز بالزيف والكذب والتحريف الموضوع المميز لتقاليد "أهل السنّة والجماعة". وذلك لان الفكرة الاساسية الموضوعة هنا تقوم في محاولة جعل شخصية سفيان الثوري، وبالأخص ما يتعلق منها بالموقف من السلطة والسلطان تابعة ليس لمواقف "اهل السنة والجماعة" بل ومندمجة في قواعد عقائدها بهذا الصدد. فالقاعدة الاساسية لعقائد "اهل السنة والجماعة" تقوم في تأسيس فكرة الخضوع للسلطان العادل والجائر على السواء، ورفض الخروج والاعتراض على ائمة الجور والظلم والاستبداد، وقبول كل ما يقوم به والصبر عليه! بينما مواقف واراء وحياة وموت سفيان الثوري تتعارض مع هذه القاعدة العقائدية والفكرة السياسية تعارضا تاما ومطلقا. اما موقفه مما يسمى "بتقدمة الشيخين"، اي افضلية او أحقية المسار التاريخي الذي ينبغي الاقرار بخلافة ابو بكر وعمر على علي بن ابي طالب، فأنها لم تكن بالنسبة لسفيان الثوري قضية او قاعدة عقائدية. انها كانت جزءا من رؤيته السياسية والتاريخية التي لا تجد في الخلاف حول الوقائع التاريخية ضرورة وبالأخص حالما تكون جزء من صراع المذاهب. اما قضايا الخلق، والقدم في "كلام الله"، وتحديد ماهية وكمية الايمان فهي قضايا كلامية قابلة للاجتهاد، بمعنى انها خلافات لاهوتية واجتهادات نظرية مميزة للفرق الاسلامية آنذاك بشكل عام والكلام بشكل خاص. ومن ثم، فان اراءه بهذا الصدد واحدة من بين مئات، اضافة الى انها لا ترتقي الى مصاف المنظومات الكلامية العقلية الكبرى وبالأخص عند المعتزلة. كما ان طابعها الموضوع والمزيف، وبالأخص ما يتعلق بالجدل حول قضايا ما اذا كان "لام الله" قديما او مخلوقا، فأنها كانت محل خلاف محتد وصراع فكري وسياسي شديد في زمن الخليفة المأمون (170-218 للهجرة). بمعنى أنها حدثت بصيغتها التاريخية المعروفة بعد موت سفيان الثوري بتسع سنوات. ومن ثم لم يكن بإمكانه ان يكون طرفا آنذاك في الصراع ومؤيدا لهذا الاتجاه أو ذاك. إضافة لذلك ليس معروفا عن سفيان الثوري اشتراكه في جدل الفرق الكلامية وقضايا الاختلاف العقائدي. اما الآراء القليلة المعروفة عنه بصدد الصراع والأختلاف الفكري بين فرق الكلام آنذاك فقد كانت عنده ليست آراء كلامية بالمعنى الدقيق للكلمة، بقدر ما كانت من حيث وظيفتها وغايتها أخلاقية عملية. زمن الممكن رؤية ذلك على بعض الامثلة بهذا الصدد مثل نكرانه قول من يقول "العبادات ليست من الإيمان"، او رده على سؤال متعلق بقضية الأسماء والصفات (الالهية) عن معنى الآية (وهو معكم أين ما كنتم)، بكلمة "علمه". بمعنى معارضة التجسيد وتقاليد الحشوية. ومن ثم اقرب الى فكرة وأسلوب المعتزلة بهذا الصدد. وعندا سألوه مرة عن أحاديث الصفات (الالهية)، اجاب "أَمِرُّوها كما جاءت". بمعنى رفضه الجدل حول هذه القضايا باعتبارها قضايا ليست جوهرية بالنسبة لغاية الفكرة الإسلامية.

أما قضية "المسح على الخفين" وما شابهها فهي مجرد شعائر عبادية كانت تحتوي في أعماقها على خلافات سياسية أكثر مما هي أشكال معبّرة عن حقيقة الإيمان بالمعنى الإسلامي الأول (الأصلي والحقيقي). وذلك لسخفها العقلي والروحي بالنسبة لمبادئ الإسلام الكبرى وحقائق رؤيته للدين والإيمان.

أما الصلاة خلف الفاجر والصبر تحت لواء السلطان الجائر فهو جزء من إسلام بني سفيان وآل أمية. وكلاهما وجهان لابي لهب! ومن ثم يتنافى مع حقيقة الإسلام المحمدي من حيث الأصل والمبدأ والغاية. والشيء نفسه ينطبق على خلافة بين العباس. وعموما هي قضايا سياسية من حيث الجوهر، تحوّل الاسلام كدين وعقائد الفرق فيها إلى أمور جزئية وتافهة في أغلب جوانبها، وسقيمة من حيث مضمونها الأخلاقي والعملي. بحيث تحوّل الإسلام بأثر ذلك إلى استسلام للاستبداد وعبودية للخطأ والخطيئة. كل ذلك يشير إلى أن هذه "السنّة" من حيث أصولها التاريخية السياسية أموية وليست محمدية. وبالتالي تتعارض، كما أشرت أعلاه، مع حقيقة سفيان الثوري. فقد حدد الثوري ماهية وحقيقة "السنّة" بعبارة تقول: "السنّة هي الانتهاء عن الحرام والمظالم". اضافة لذلك إن كل ما في شخصيته وأقواله وأعماله المحققة لا تشير إلى ذلك ولا تحتوي عليها. فالمعروف عنه والمحقق فكرته وقوله وحكمه عن أن الأئمة خمسة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز. وبالتالي، فإن كل من غيرهم بالنسبة لسفيان الثوري ليس إماما يتبع ومن ثم لا يطاع. وحياته الشخصية، دعك عن كل ما قاله عن الأمراء والخلفاء من آراء ومواقف ترميهم في هاوية الرذيلة.

إن حقيقة الفكرة السياسية والاجتماعية والأخلاقية لسفيان الثوري تتعارض من حيث الجوهر والأسلوب والغاية عن تقاليد ما يسمى "بأهل السنّة والجماعة"، وبالأخص في تيارها الحنبلي. اذ تقف آراء بالضد منها حالما نقارنها على سبيل المثال مع ما سيقوله ابن القيم الجوزية عن أن "إمامة الدين بالصبر واليقين"، بينما اراد سفيان الثوري تأسيس الفكرة القائلة، "بأنه بالعقل والهمة تحُلُّ إمامة الأمة".

وحقق سفيان الثوري هذه الحصيلة الفكرية العميقة حول أهمية العقل والعمل بما فيه من اجل حلّ مشاكل الأمة بما يتوافق مع حقيقة الفكرة الإسلامية. ومن الممكن رؤية صداها في مواقفه الشخصية من مختلف مشاكل الوجود الاجتماعي والسياسي والأخلاقي للأمة.

المواقف الاجتماعية والاخلاقية

أهم ما يميز مواقف سفيان الثوري بصدد كافة القضايا والمشاكل التي واجهها في حياته تقوم فيما يمكن دعوته بالتشدد مع النفس، بمعنى تحقيق مبدأ الوحدة الحية والصارمة للعلم والعمل بكافة حذافيرها وبما يتوافق مع اجتهاده الشخصي الحر. من هنا تلازم مواقفه واحكامه احيانا مع متناقضات "حية" هي جزء من حالة الوجود الفعلي للخلافة آنذاك وعنف الصراع الفكري والسياسي والعقائدي والمذهبي الذي يجعل من الصعب سلوك الحياد الدائم أو "الاستقامة" المجردة. أذ جعل على نفسه ثلاثة اشياء وهي "ان لا يخدمه احد"، "وأن لا تطوى له ثوب"، "وأن لا يضع لبنة على لبنة". من هنا موقفه القائل "احذر سخط الله في ثلاث: احذر أن تقصر فيما أمرك، احذر أن يراك وأنت لا ترضى بما قسم لك، وأن تطلب شيئاً من الدنيا فلا تجده أن تسخط على ربك". كما نراه في مطالبته المرء قائلا: "عليك بقلة الأكل تملك سهر الليل، وعليك بالصوم فإنه يسد عليك باب الفجور ويفتح عليك باب العبادة، وعليك بقلة الكلام يلين قلبك، وعليك بالصمت تملك الورع". كما نرى انعكاس هذه الرؤية في المواقف العملية من مظاهر وحالات الحياة والعيش، مثل قوله "إذا زارك أخوك فلا تقل له أتأكل أو أقدم إليك؟ ولكن قدِّم، فإن أكل وإلا فارفع"، أو أن يقول "لا تصحب من يكرم عليك، فإن ساويته في النفقة أضرّ بك، وإن تفضّل عليك استذلك"، أو أن يقول "عليكم ما عليه الحمّالة والنساء في البيوت، والصبيان في الكتاب، من الإقرار والعمل".

نعثر في هذه المواقف الجزئية والعابرة لحد ما والمبسطة في مظهرها عن حكمة عملية رفيعة المستوى، تقوم في إعلاء مبدأ الاعتزاز بالنفس، وحريتها، وكرامتها الشخصية، أي كل ما كان يميّز شخصيته الفردية.

بينما تتجسد حقيقته الشخصية في أحد افضل نماذجها في الدفاع عن الأمة وفئاتها المسحوقة، التي اطلقت عليها الثقافة الإسلامية كلمة المستضعفين. وكان هو بحد ذات تحقيقا له. فقد مات مستخفيا، وجعل من قميصه كيسا ملأها كتبا، كما وصفه التقييم النقدي الإسلامي. من هنا قول أحدهم "ما كنا نأتي سفيان إلا في خلقان ثيابنا". بينما كان البعض يسال عنه بالطريقة التالية: "ما فعل الذي بالعراق؟ الذي يدني الفقراء". بينما وصف حاله وحال من حوله قائلا: "ما رأيت الأغنياء أذلّ منهم في مجلس سفيان الثوري، ولا الفقراء أعزّ منهم في مجلسه". وكان عادة ما يقول لأصحاب الحديث: "تقدموا يا معشر الضعفاء!"

لقد كانت قضية الخلاف والاختلاف إحدى السمات الكبرى والعميقة في الوقت نفسه، التي ميزت الثقافة العربية الإسلامية بمختلف ميادينها ومستوياته. الأمر الذي يعكس ديناميكية تطورها الهائل. فقد كانت هذه الخلافات ليست شرا رغم مرارتها الواقعية والفعلية بالنسبة لمصير الأفراد والجماعات والأمة أيضا، لكنها كانت في الوقت نفسه مصدر الإبداع الهائل، ومن ثم تعميق وتأسيس قيم الأخلاق وقواعد القانون، ومبادئ العقل والنزعة الإنسانية وفكرة الحرية والاجتهاد والإبداع، ومن ثم ما يقبلها من قواعد التقليد، وتحجيم العقل، ومحاربة النزعة الإنسانية، وتكفير "البدع"، وأولية التحريم، وتأسيس قواعد العقائد المؤيدة للاستبداد والتجّبر والطغيان. باختصار إننا نقف أمام الصيغة المميزة والملازمة لنشوء وتطور وتعمّق وتوّسع الدولة الإمبراطورية. فالثقافة الإسلامية التي نشأت وتطورت في ظل الصراع الهائل والخلافات السياسية والاختلافات الفكرية والعقائدية قد أدت ليس فقط الى تأسيس إمبراطورية ثقافية تاريخية كبرى بل وإلى ما أدعوه بإمبراطورية الثقافة.

وضمن هذا السياق يمكن فهم البواعث العميقة وراء نزعة الاعتدال ولخروج من مضيق المذاهب والفرق إلى فضاء الوحدة والدفاع عنها بمعايير العقل، والاجتهاد الحر، والنزعة الإنسانية، والمقاومة السلمية والفكرية العميقة للسلطة المستبدة. ووضع ذلك في عدد من الأحكام والمواقف والآراء مثل قوله "اياك والأهواء، فإن أولها وآخرها باطل". وإن "من أصغى إلى صاحب بدعة فقد خرج من عصمة الله. كما أن "من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة، وهو يعلم، خرج من عصمة الله، ووكل إلى نفسه". وطالب المرء بأن لا ينقل البدع التي سمعها أو يسمعها إلى جلسائه، "ولا يُلْقها في قلوبهم". فالبدعة "أحب إلى إبليس من المعصية"، وذلك لأن "المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها". بل ونراه يتشدد أحيانا إلى حد القطيعة كما في موقفه عندما علم بموت ابو حنيقة، حيث قال "الحمد لله! كان ينقض عرى الإسلام عروة عروة". بينما نراه يرفض الصلاة على جنازة عبد العزيز بن أبي رواد، ومسعر بن كدام، لأنهما كانا يقولان بالإرجاء.

نعثر في هذه الصيغ الحادة، ضمن معايير المرحلة التاريخية ومذاق الثقافة الفكري، على إدراك عقلاني عميق لخطورة الأهواء، أو ما نطلق عليه الآن عبارة النزعة الايديولوجية الحادة. وفي جوهرها هي تعبير عن تجربته العلمية والعملية. فقد قال مرة: "ما خالفت رجلا في هواه إلا وجدته يغلي عليّ". وبالتالي يفترض فهم وإدراك المضمون الفعلي لآرائه ومواقفه من "البدعة والبدع" ضمن هذا السياق. وذلك لأن أغلب ما قام به في الأقوال والأعمال كانت تبدو بالنسبة للسلطة والكثير من الفرق "بدعة" ينبغي محاربتها والقضاء عليها. وقد دفع هو ثمنها على الدوام، ولكن بإدراكه المتجانس لأهمية هذه التضحية من أجل رفع شأن المبادئ والقيم الإنسانية الإسلامية وتأسيسها في العلم والعمل.

لقد كان الحافز والإدراك الواقعي لأحكامه ومفاهيمه ومواقفه العملية والفكرية يقوم فيما يمكن دعوته بالبحث عن الفكرة الموِّحدة. فعندما سألوه مرة: من آل محمد؟ اجاب: أمة محمد. وتعكس هذه الإجابة الرد غير المباشر على محاولة خصخصة عبارة "آل البيت" بحصرها في البيت العلوي. بينما في حقيقتها، حسب مفهوم سفيان الثوري، هم المسلمون جميعا بوصفهم أمة. أما محددات هذه الإجابة فتقوم في محاولاته البحث والتأسيس للفكرة الجامعة، ومن ثم تخفيف حدة الصراع السنّي- الشيعي. فقد كانت تلك مرحلة الغلو في الأحكام العقائدية والسياسية والاستعداد للاتهام السريع وتلفيق الأخبار ولصقها بالخصوم دون رادع علمي ووازع أخلاقي. وضمن هذا السياق يمكن فهم مواقفه "المتعارضة" في ظاهرها كما هو مشهور عنه مثل إذا دخل البصرة حدّث بفضائل عليّ. وإذا دخل الكوفة حدّث بفضائل عثمان. وكان يقول إذا كنت في الشام فاذكر مناقب علي. وإذا كنت في الكوفة فاذكر مناقب ابو بكر وعثمان". ولهذا قال احدهم عنه: "لا اعرف فضيلة أفضل من سلامة صدر سفيان الثوري لأصحاب محمد". من هنا قول سفيان الثوري: "لا يجتمع حب علي وعثمان إلا في قلوب النبلاء". فعندما قال احدهم مرة أمامه:

- انني لا أفّضل أحدا على آخر، لكنني أجد لعليّ من المحبة ما لا أجده لابي بكر وعمر.

- إن هذا رجل به داء ينبغي أن يسقى بدواء.

لقد اراد سفيان الثوري تذليل شحنة العداء باسم الإسلام الجامع. وهو سلوك يدخل ضمن ما يمكن دعوته بنفسية وذهنية الاعتدال والوسطية المميزة له. من هنا يمكن فهم مضمون قوله "منعتنا الشيعة أن نذكر فضائل علي". كما يمكن إدراج موقفه من الجهمية والقدرية ضمنها أيضا. فقد اعتبر "الجهمية كفار والقدرية كفار"، رغم كونهما أكثر الصيغ تجانسا في مواجهة السلطة الغاشمة للأموية.

بينما كانت حقيقة الأعماق السحيقة لسفيان الثوري تتسم بفكرة التسامح. ووضع ذلك في احد أفكاره القائلة: "نسمع التشديد فنخشى، ونسمع اللين فنرجوه إلى أهل القبلة. ولا نقضي على الموتى، ولا نحاسب الأحياء. ونَكِل ما لا نعلم إلى عالمه، ونتهم رأينا لرأيهم". وكذلك قوله: "أصلح سريرتك يصلح الله علانيتك، وأصلح فيما بينك وبين الله يصلح الله فيما بينك وبين الناس، واعمل لآخرتك يكفك الله أمر دنياك، وبع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً". وكذلك قوله "لا تبغض أحداً ممن يطيع الله، وكن رحيماً للعامة والخاصة، ولا تقطع رحمك وإن قطعك، وتجاوز عمن ظلمك تكن رفيق الأنبياء والشهداء"، و"اذا رأيت الرجل يعمل الذي قد اختلفت فيه، وانت ترى غيره فلا تتهمه".

لقد جمع سفيان الثوري في ذاته أغلب تناقضات العصر الذي عاش فيه، لكنه استطاع توليفها بالطريقة التي جعل منها جزء من تأسيس الفقه العقلي لرؤية مصادر الخلاف والوحدة، والالتزام العملي بإحدى المرجعيات الكبرى للثقافة الإسلامية آنذاك، ألا وهي مرجعية العدل والاعتدال وفكرة الجماعة.

***

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم