دراسات وبحوث

نقد تقاليد الاستبداد (6): الحجاج.. صنم السلطان والخصيان!

ميثم الجنابي"هلاك هذه الأمة إذا ملك الخصيان"

(سفيان الثوري)

لقد سردت في نهاية الحلقة السابقة الى الحالة التي تصف فيها موقف الحجاج الثقفي بعد قتله لسعيد بن جبير الى ما يسمى بارتجاج عقل، او حسب وصف القدماء "إن الحجاج لم يفرغ من قتله حتى خولط في عقله"، وجعل يصيح "قيودنا، قيودنا"، ويعني بذلك القيود التي كانت في رجل سعيد بن جبير! الأمر الذي جعل ابن قتيبة يقول: "متى كان الحجاج يسأل عن القيود أو يعبأ بها!". وهي كلمة لها مذاقها الاخلاقي. اما في الواقع، فقد اخطأ ابن قتيبة بهذا الصدد، وذلك لأن الحجاج هو الأكثر من كان يسأل عن القيود ويعتني بها لكي يستعملها من جديد.

ومع ذلك استند التعليق الدقيق الذي بلوره ابن قتيبة إلى وقائع التاريخ الفعلي وشخصية الحجاج الخالية من أية مشاعر وأحاسيس وقيم ومفاهيم، باستثناء صنمية العبودية للسلطة، والتي نعثر عليها في كلمات خالد بن عبد الله القسري في استعداده لدك الكعبة حجرا حجرا مرضاة لمالكه عبد الملك بن مروان. وقد نفّذ الحجاج هذه الرغبة بحذافيرها قبل ذلك بسنوات. كما نعثر عليها في طبيعة الحوار ونتائجه التي أدت بحياة سعيد بن جبير إلى فناءه في تقاليد الروح وتاريخ الثقافة الحية، وبقاء الحجاج في شتيمة الذاكرة وإدانتها الأبدية. ونعثر على الوجه الآخر لهذه المفارقة في إحدى القصص والحوارات التي دارت بين الحجاج وبين الغضبان الشيباني (إحدى الشخصيات البهلوانية) الذي قبض عليه الحجاج بسبب قوله لابن الأشعث: "تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك"، رغم انه كان من أتباع الحجاج. وهي قصة وثيقة الارتباط بشخصية سعيد بن جبير الذي حاول في بادئ الأمر إقناع ابن الأشعث بالكف عن التمرد، لكنه مال إليه في نهاية الأمر. غير أن لكل منهما مصيره في حياة الحجاج السياسية. فإذا كان مصير سعيد بن جبير القتل، فان مصير الغضبان الشيباني الصفح والضحك! إذ تنقل لنا كتب التاريخ والسير والأدب الحوار التالي بينهما بعد أن رجع الغضبان الشيباني من كرمان (منطقة ابن الأشعث آنذاك). فقد بادره الحجاج قائلا:

- أنت شاعر؟

- لست بشاعر، ولكني خابر!

- أفعرّاف أنت؟

- بل وّصاف!

- كيف وجدت أرض كرمان؟

- ارض ماؤها وشل، وسهلها جبل، وثمرها دقل، ولصها بطل. إن كثر الجيش بها جاعوا، وان قلّ بها ضاعوا.

- صدقت! أعلمت من كان الإعرابي؟[1]

- لا!

- كان ملكا خاصمك فلم تفقه عنه لبذخك.

عندها قال الحجاج لمن في إمرته:

- اذهبوا به إلى السجن! فانه صاحب المقالة "تغّد بالحجاج قبل أن يتعشى بك!"، وأنت يا غضبان قد أنذرك خصمك على نطق لسانك. فما الذي بك دهاك؟

- جعلني الله فداك أيها الأمير! أما أنها لا تنفع من قيلت له، ولا تضر من قيلت فيه!

- اجل! ولكن أتراك تنجو مني بهذا؟ والله لأقطعن يديك ورجليك ولأضرّبن بلسانك عينيك!

- أصلح الله الأمير! قد آذاني الحديد، واهون ساقي القيود، فما يخاف من عدلك البريء، ولا يقطع من رجائك المسيء.

- انك لسمين!

- القيد والرتعة! ومن يك ضيف الأمير يسمن.

- إنا حاملوك على الأدهم

- مثلا الأمير، أصلحه الله يحمل على الأدهم والأشقر؟

- انه لحديد

- لأن يكون حديد خيرا من أن يكون بليدا

- اذهبوا به الى السجن!

- "فلا تستطيعون توصية ولا إلى اهلهم يرجعون"[2]

وقضى الغضبان الشيباني في السجن فترة طويلة إلى أن أنهى الحجاج بناء مدينة واسط. وعندما أتمها قال لندمائه:

- كيف ترون هذه القبة؟

- ما رأينا مثلها قط!

- أما أن لها عيبا، فما هو؟!

- ما نرى بها عيبا.

- سأبعث الى من يخبرني به!

وعندما بعث على الغضبان الشيباني، واقبلوا به وهو يرسف بقيوده، عند ذاك قال له الحجاج:

- يا غضبان! كيف قبتي هذه؟

- أصلح الله الأمير! نعم القبة، حسنة!

- اخبرني بعيبها

- بنيتها في غير بلدك! لا يسكنها ولدك. ومع ذلك فانه لا يبقى بناؤها ولا يدوم مرانها. وما لا يبقى ولا يدوم فكأنه لم يكن!

- صدقت! أرجعوه الى السجن!

- أصلح الله الأمير! قد أكلني الحديد، واوهن ساقي القيود، وما أطيق المشي.

- احملوه. (فلما حملوه على الأيدي قال الغضبان)

- "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كانا له مقرنين"[3].

- انزلوه! (ولما انزلوه، قال:

- "رب! أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين"[4].

- جرّوه (ولما جروه قال):

- "بسم الله مجراها ومرساها، أن ربي لغفور رحيم".

- اضربوا به الأرض (ولما ضربوه بالأرض قال):

- "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى"[5].

عندها اخذ الحجاج بالضحك بحيث استلقى على قفاه ثم قال:

- ويحكم! قد غلبني والله هذا الخبيث! أطلقوه! إلى صفحي عنه

- "فاصفح عنهم وقل سلم"[6].

وهي الحالة التي تصورها ما يرويه الأصمعي عن عمه القائل، بان الحجاج لما فرغ من ابن الزبير وقدم إلى المدينة، التقى بشيخ خارج منها، فسأله عن حال أهل المدينة، فأجاب:

- بشرّ حال! قتل ابن حواري رسول الله!

- ومن قتله؟

- الفاجر اللعين الحجاج عليه لعائن الله وتهلكته!

- أيها الشيخ! أتعرف الحجاج إذا رأيته؟

- نعم! فلا عرفه الله خيرا ولا وقاه ضرا!

وعندما كشف الحجاج عن لثامه وقال له:

- ستعلم أيها الشيخ الآن إذا سال دمك الساعة

- والله أن هذا لهو العجب يا حجاج! لو كنت تعرفني ما قلت هذه المقالة! أنا العباس بن أبي داوود، اصرع كل يوم خمس مرات!(بمعنى اصابته بالصرع).

- انطلق فلا شفى الله الأبعد من جنونه ولا عافا!

إننا نرى في هذه النماذج والأمثلة حقيقة الحجاج وشخصيته. بمعنى قسوته غير المتناهية في معارضة ومواجهة الحق والحقيقة، وليونته ولطفه أمام السخرية والتلهية العابثة بكل شيء مازال ذلك لا يمس السلطة بشيء ولا يعرقل عليها تلذذها السمج بخوائها الذاتي.

وقد كانت تلك الصفة التي ميزت عقيدته السياسية والعملية. بمعنى الخنوع المطلق أمام صنم السلطة الغاشمة، والتيمم بغرائب الاستبداد، والتلذذ برعشة الارتماء أمامها بوصفه رئيس سدنتها. ويمكن رؤية هذه الحالة على مثال محاورة الشعبي وما تبعها من نوادر وسلوك. إذ تنقل لنا كتب التاريخ كيف أن الحجاج بعد قتل ابن الأشعث أقام أياما لا يمر عليه يوم إلا ويأتون إليه بالأسرى. فلما رأى كثرتهم ازداد حنقا وغيظا. فاخذ يأمر بقتلهم. وبما أن اغلبهم كانوا من أتباع الخوارج، ورغبة منه باستئصالهم، فانه اخذ بامتحانهم بالسؤال التالي: أمؤمن أنت أم كافر؟ من اجل أن يعرف الخوارج من غيرهم. فمن قال عن نفسه بأنه كافر منافق أطلق سراحه، ومن قال انه مؤمن قتله! وذلك لمعرفته بصدق الخوارج! وهي الحالة التي جعلت من الرذيلة فضيلة وجرى رفعها الى مصاف النكتة والنوادر المضحكة المبكية بالنسبة للروح الثقافي وتاريخ العدل. فعندما وقع عامر بن سعيد الشعبي في الأسر، وقد كان مع ابن الأشعث في جميع حروبه وقريب المنزلة منه، ليس لأحد منه مثلها باستثناء حال سعيد بن جبير. وأتى الشعبي إلى الحجاج في سورة غضبه وهو يقتل الأسرى، إلا من اعترف وأقرّ على نفسه بالكفر والنفاق! فلما سار عامر بن سعيد الشعبي إلى الدخول عليه لقيه رجل من صحابة الحجاج يقال له بريد بن أبي مسلم وكان مولى الحجاج وحاجبه. فقال للشعبي: "يا شعبي لهفي بالعلم الذي بين دفتيك وليس هذا بيوم شفاعة! إذا دخلت على الأمير فأوله بالكفر والنفاق عسى أن تنجو!" فلما دخل الشعبي على الحجاج صادفه واضعا رأسه لم يشعر. فلما رفع رأسه رآه قال له:

- وأنت أيضا يا شعبي فيمن أعان علينا وألب!

- أصلح الله الأمير إني أمرت بأشياء أقولها لك أرضيك بها وأسخط الرب ولست أفعل! ولكني أقول أصلح الله الأمير وأصدقك القول فإن كان شيء ينفع لديك فهو في الصدق. إن شاء الله أحزن بنا المنزل وأجدب الجناب واكتحلنا السهر واستحلنا الخوف وضاق بنا البلد العريض فوقعنا في خزية لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء.

- كذلك!

- نعم! أصلح الله الأمير وأمتع به (فنظر الحجاج إلى أهل الشام وقال):

- صدق والله يا أهل الشام! ما كانوا بررة أتقياء فيتورعوا عن قتالنا ولا فجرة أقوياء فيقووا علينا! (ثم قال) انطلق يا شعبي فقد عفونا عنك فأنت أحق بالعفو ممن يأتينا وقد تلطخ بالدماء ثم يقول كان وكان.

وكان قد أحضر بالباب رجلان أحدهما من قبيلة بكر بن وائل والآخر من قبيلة تميم. وكانا قد سمعا ما قيل للشعبي بالباب. فلما أدخلوهما على الحجاج، فانه ابتدر البكري قائلا:

- أمنافق أنت؟

- نعم أصلح الله الأمير! لكن أخو بني تميم لا يبوء على نفسه بالنفاق!

عندها قال التميمي "أنا على دمي أخدع! بل أنا أصلح الله الأمير منافق مشرك!!". عندها ابتسم الحجاج وأمر بإخلاء سبيلهما!! تكشف هذه الحالة بصورة نموذجية لا مثيل لها في التاريخ الإسلامي قبل الحجاج عن طبيعة وحقيقة النزعة الأموية التي تمثل الحجاج رحيقها الفعلي.

لقد كانت هذه النماذج المتنوعة في الامتحان، والمتنوعة في كشفها عن طبيعة العقيدة السياسية للحجاج، أحد الأمثلة الواقعية عن طبيعة الأموية ومضمونها الفعلي، بوصفها همجية الزمن السلطوي. وليس مصادفة أن يقشعر جلد الحجاج حالما دل وسواسه يوما على إمكانية البحث عن "عفو" عند السلطة لبعض ممن اعتقد انهم لم يكونوا خطرين عليها. وعندما رد عليه عبد الملك بن مروان قائلا: "لم أبعثك مشفعا وإنما بعثتك منفذا مناجزا لأهل الخلاف والمعصية". وهو اليقين الجديد الذي حفز مكنونات الشخصية الأموية في نفسية الحجاج وذهنيته بحيث نرى ارتعاشها المتلذذ بقسم الإيمان الدموي حالما وقف أمامه ممن أراد الشفاعة بهم من وجوه قريش مثل عمرو بن موسى التميمي ومحمد بن سعد بن وقاص. حينذاك أخرجهم الحجاج (وكانوا اثني عشرا) وقال لعمرو بن موسى وكان شابا جميلا:

- يا عاتق قريش! مالك أنت وللخروج؟ إنما أنت عاتق صاحب ثياب ولعب!

- أيها الرجل امض لما تريد! فإنما نزلت بعهد الله وميثاقه فإن شئت فأرسل يدي وبرئت مني الذمة

- كلا! حتى أقدمك إلى النار!

فضربت رقبته ثم جيء بمحمد بن سعد وكان رجلا طويلا، فقال له:

- يا ظل الشيطان! ألست بصاحب كل موطن؟ أنت صاحب الحرة، وصاحب يوم الزاوية، وصاحب الجماجم!

- إنما نزلت بعهد الله وميثاقه! فإن شئت فأرسل يدي وبرئت مني الذمة.

- لا! حتى أقدمك إلى النار!

ثم قال لرجل من أهل الشام اضرب لي مفرق رأسه! فضرب ضربة فلقته فلقتين. ثم أخذ بقتل الباقين.

***

 

ا. د. ميثم الجنابي

........................

[1] المقصود به جاسوس الحجاج، الذي أرسله لتتبع أخبار الغضبان الشيباني وحالة ابن الأشعث.

[2] هنا، كما في الأجوبة الأخرى هو "استلهام" القرآن بمعايير الملهاة. (سورة يس، الآية 50).

[3] القرآن: سورة الزخرف، الآية 13.

[4] القرآن: سورة المؤمنون، الآية 29.

[5] القرآن: سورة، الآية 55.

[6] القرآن: سورة الزخرف، الآية 89.

 

 

في المثقف اليوم