دراسات وبحوث

معيار الاستقلال الفكري للغزالي (2-2)

ميثم الجنابي"خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به

في طالع الشمس ما يغنيك عن زحل" 

تميزت المرحلة التي عاش فيها الغزالي باشتداد الصراع بين الفرق والمذاهب. ولم تكن هذه الظاهرة غريبة بالنسبة لواقع وتاريخ الخلافة منذ نشوئها حتى سقوط الدولة العباسية. إلا ان الفارق بين صراعات الخوارج والشيعة والجهمية والكرامية والمعتزلية والاشعرية وغيرها من الفرق والمذاهب في القرون الثلاثة الأولى والمتأخرة تقوم في كون صراعاتها الأولية كانت تجري ضمن مسار وصيرورة المدارس والفرق الفكرية والسياسية، أي ان الغالب عليها صراع الافكار. اما اندماجها اللاحق في صرح السلطة السياسية والحقوقية فقد ادى الى صنع نموذج جديد تداخل فيه الانتماء المذهبي والفكري بحيث ساهم في تأسيس نوع من التشابك المعقد في انعكاساته العملية. وقد أرّخ وصور كل من ابن الجوزي وسبط ابن الجوزي على امثلة ونماذج عديدة بهذا الصدد. اذ يورد لنا ابن الجوزي على سبيل المثال اضطرار محمد بن احمد بن الوليد المعتزلي (ت- 478 للهجرة) الذي درّس الاعتزال والفلسفة والمنطق ان يلازم بيته خمسين عاما لم يتجاسر خلالها على الظهور علنا[1]. كما ينقل لنا الكثير من الحوادث والأمثلة بهذا الصدد. في حين ينقل سبط ابن الجوزي عن الكياهراسي (ت- 504 للهجرة) زميل الغزالي في الدراسة وأستاذ المدرسة النظامية ببغداد، كيف اثارت محاضراته عن الأشعرية ودفاعه عنها ألى رميه بالحجارة واتهامه بالباطنية ومحاولة قتله لهذا السبب[2]. كما ينقل لنا ابن الجوزي صورا عديدة عن حوادث وصراع الحنابلة والأشاعرة على مثال تدريس عتيق البكري(ت- 467 للهجرة) بطلب من نظام الملك في نظامية بغداد، وكيفية مهاجمة الحنابلة له ورميه بالحجارة عندما قال مرة "ما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا، وما كفر احمد بن حنبل وإنما اصحابه"[3]. كما ينقل ابن الجوزي بعض الحوادث التي تشير إلى طلب بعض الشافعية النجدة من المستنصر بالله الفاطمي، إمام الإسماعيلية في مصر آنذاك، ضد طغيان الحنابلة[4]. وعموما هي الحالة التي وجدت احد انعكاساتها الفلسفية والنقدية العميقة في بعض اشعار الحكيم بن الشبل البغدادي(ت-474 للهجرة) كما صوّرها في إحدى قصائده:

بربـــك أيها الفــــــلك المدار   أقصــد ذا المسير أم اضطرار؟

وعندك ترفع الأرواح، أم هل   مـــع الاجساد يدركها البوار؟

فإن يك آدم أشـــــقى بنيه    بـــــــــذنب ما له منه اعتذار

فيا لك من أكلة مازال منها    علــــــــــــينا نقمة وعليه عار

نعاقب في الظهور وما ولدنا    ويـــــذبح في حشـا الأم الحوار

وننتــظر الرزايــا والبــلايا    وبعـــد فالبوعيد لــــــنا انتظار

فإذا الامتنــــان على وجود   لغـــــــير الموجودين به الخيار؟

وكانت انعما لــــو أن كونا    نخّير قبــــــــــله أو نستشار[5]

تكشف هذه الصورة عن الوسط المتصدع في صراعاته المذهبية والفرقية والعقائدية والفكرية الذي ابدع فيه الغزالي. وبالتالي لم يكن بإمكانه ألا يتأثر بها أو أن لا يستند عليها ويأخذها بنظر الاعتبار في ما كتبه آنذاك. غير أن مأثرته تقوم في سعيه ومحاولاته لانتزاع الفكر من ميدان المذاهب المتحاربة عبر نقله إلى مجال البحث عن الحقيقة في موقفه من الوجود والإنسان. وبهذا المعنى كان المسار الموضوعي لفكره يصب في اتجاه كسر وتهشيم العقائدية الضيقة، ووهم العصمة المذهبية، وتقليدية القناعة العقائدية، وبالتالي فسحه المجال أمام توسيع مدى الروح الحر.

فقد حارب الغزالي المذهبية أياً كان نوعها. وإذا كان بالإمكان الحديث عن مذهبية فهي مذهب البحث عن الحقيقة والاستقلال الفكري. فعندما حلل مفهوم المذهب وصراعات المذاهب، التي شبهها "بتناحر القبائل"[6]، فإنه انطلق من تحليل فكرة المذهب نفسها، ليتوصل في نهاية المطاف إلى أنه لا اتفاق حول حقيقة المذهب. بمعنى تعدد التصورات والأحكام عن المذهب بعدد المذاهب. مما حدد بدوره الانتقاد الخفي والمتجانس في آرائه للمذاهب التقليدية ككل. فالناس تختلف، كما يقول الغزالي، في مفهوم المذهب إلى اتجاهين عامين. ويشمل الاتجاه الأول ثلاث مراتب. المرتبة الأولى، وهي التي يتطابق فيها مفهوم المذهب مع التعصب الفكري والانتماء العقائدي، أو ما يدعوه بمذهب الآباء والأجداد ومذهب العلم وأهل البلد الذي يقطنه المرء. وهذا المذهب يختلف باختلاف الأقطار والبلدان والمعلمين. لهذا نرى أن من ينشأ في منطقة المعتزلة أو الأشعرية أو غيرها فإنه ينغرس في نفسه منذ الصبا التعصب لهذا المذهب. بصيغة أخرى، لا يعني هذا المذهب من حيث حقيقة محتواه إلا التعصب، أما من حيث توجهه أو وظيفته الاجتماعية السياسية والفكرية فهو مجرد وسيلة إخضاع العوام للسلطة. فهو يشير إلى أن "مبدأ هذا التعصب حرص جماعة على طلب الرياسة بإستتباع العوام. ولا ينبعث دواعي العوام إلا بجامع يحمل على التظاهر"[7]. وقد أدرك بحذاقته المعهودة الوظيفة الاجتماعية السياسية لاحتكار وعي العوام في إطار المذاهب (الايديولوجيات). فقد شدد على أن الحافز الأكبر والأكثر فاعلية في تصارع المذاهب واشتداد تعصبها يعود في الأغلب إلى الفئات السائدة ومحبي السلطة. حيث أدى بالبعض كما يقول الغزالي إلى تأجيج الخلافات استناداً حتى إلى صنع الرموز الجديدة من أجل شق المذهب نفسه في حال الضرورة، كما هو واضح في وضع الأمور التي تستدرج بها العوام كالعلم الأسود عند البعض والأحمر عند الآخر، الذي أدى في حالات عديدة إلى إثارة الخلافات المذهبية. وفي حالة نجاح ذلك فإنه يكون قد انتظم كما يقول الغزالي "مقصود الرؤساء في استتباع العوام بذلك القدر من المخالفة، وظن العوام إن ذلك مهم، وعرف الرؤساء الواضعون غرضهم من الوضع"[8].

أما المرتبة الثانية للمذهب من الاتجاه الأول فهي الصيغة المرتبطة بالإرشادات والتعليمات التي يلقيها صاحب المذهب لهذا الشخص أو ذاك. وبالتالي فإن مضمون هذا المذهب يتغير ويختلف بالارتباط مع شخصية ومستوى إدراك الشخص الراغب في الارشاد والتعلم، أي أنه هو الآخر ذو صلة بالايديولوجيا. أما المرتبة الثالثة من الاتجاه الأول فهو ما يعتقده الإنسان في نفسه، مما انكشف له من النظـريات، أو ما يعتقده الرجل "سراً بينه وبين الله" لا يطلع عليه غير الله ولا يذكره إلا مع من هو شريكه في الاطلاع على ما اطلع أو بلغ رتبة يقبل الاطلاع عليه ويفهمه.

أما الاتجاه الثاني، وهم الأغلبية، فأولئك الذين يقولون بأن المذهب واحد وهو المعتقد، أي الذي تنطبق عليه الصفتين الأولى والثانية، بمعنى ما نطق به الجميع تعليماً وإرشاداً، وهو الذي عادة ما يتعصب له المنتمي، كمذهب الاشعري والمعتزلي والكرامي وغيرهم[9]. مما سبق يتضح، بان الغزالي أراد الكشف عن الهوية الايديولوجية للمذهب (التقليدي) وطابعه المحدود، كما نراه في مواقفه اللاحقة من علم الكلام. إلا أنه يهمل في جدله صيغة المذهب في مرتبته الثالثة، أي ما يعتقده المرء مع نفسه. فقد رفع هذه الفردية إلى مستوى عال دون أن يطابقه مع الحقيقة. بمعنى أنه جعله الأسلوب الأكثر ضرورة لإدراك حقيقة المذهب التقليدي ومحاولة نفيه.

فهو يؤكد على أن الخلافات القائمة بين الاتجاهين العامين لم تعق التقائهما في الاقرار بأن المذهب واحد، وكذلك اشتراكهما في التعصب له. من هنا سؤاله الايجابي القائل "ما هي يا ترى منفعة طلب هذا المذهب أو ذاك مازال كل واحد يخالف الآخر، وليس مع أي منهم معجزة يترجح بها جانبه؟". من هنا مطالبته المرء "مجانبة الالتفات إلى المذاهب، وطلب الحق بطريق النظر لتكون صاحب مذهب"[10]. لقد دعا الغزالي إلى تعددية المذاهب في سعيها نحو الحقيقة، أو بصورة أدق إلى مذهب الحقيقة المستقل. وليس مصادفة ان يشدد على الشك باعتباره الأسلوب الضروري لبلوغ الحقيقة.

من كل ذلك يبدو واضحاً بأن الغزالي سعى لإظهار العقد الداخلي أو  القناعة الذاتية (الشخصية) إلى حيز التنظير المستقل والمستند إلى العمل من أجل طلب الحق. ولا يمكن إغفال ما في هذه الفكرة من قيمة معرفية أخلاقية رفيعة تضع على عاتقها مهمة الدفاع عن وحدة المعتقد والممارسة، والظاهر والباطن، والغاية والوسيلة ليس في مجال العمل فحسب، بل وفي مجال العلم، أي في التفكير ذاته. ذلك يعني فسحه المجال أمام حرية الفكر والتمعّن النظري كما بلوره في المبدأ العام الداعي إلى رفض الالتفات إلى المذاهب وطلب الحق بطريقة النظر (المستقل)، أو ما دعاه بضرورة أن يكون كل إنسان صاحب مذهب. فهو يبدو ههنا كممثل لأكثر النماذج تعبيرا عن حرية الفكر والتفكير، الذي ينظر إلى التقليد باعتباره مجافاة للحقيقة. فالحقيقة بنظر الغزالي، لا تمتلك معنى دون معاناة البحث الفردي المستقل.

من هنا رفضه للتقليد اياً كان، بحيث نراه يشدد في (الإحياء) على أنه "ليس من شرط المريد الانتماء إلى مذهب معين أصلاً"[11]. إذ ليس هناك من يستطيع أن يكون قائداً للناس في معرفة الحقيقة دون أنفسهم. فكل ما يحيط بالإنسان من وجود يمكنه أن يكون مؤشراً أو حافزاً لدعوته إلى إدراك الذات ومعنى الوجود. من هنا استنتاجه القائل بأنه "لا خلاص إلا بالإستقلال"[12]. تلك الفكرة التي عادة ما كان يرددها على شعر المتنبي القائل:

خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به     في طـالع الشمس ما يغنيك عن زحل

وهي ذات المفاهيم التي سيطور جملة من عناصرها في(الإحياء) وبالأخص موقفه من العلم كفرض عين. اذ يبلور هنا موقفه المؤسس لما يمكن دعوته بالأسلوب المتساهل الذي يفسح المجال أمام وحدة المعرفة الحية في نفيها للتقليد المذهبي، أي المستمرة في تراكمها وتدرجها بالشكل الذي يجعلها مقبولة ومعقولة بمعايير الثقافة. ومن ثم تغلغلها في الوعي دون اثارة حفيظته في الوقت نفسه. ذلك يعني سعيه النظري والمعرفي والمنهجي القادر على الحفاظ على الكلّ الاجتماعي الموحّد من جهة، وتوسيع مدى ارتباطه بالمطلق (الله) بوصفه مضمون العالم الوجودي والروحي للإنسان، من جهة أخرى[13].

وقدّم أمثلة كثيرة عن ضرورة التساهل التدريجي باعتباره مقدمة القناعة الدائمة. لهذا لم يضع، خلافاً لبعض الاتجاهات الفقهية، حدا مطلقاً أولياً ينبغي للمسلم أن يلمّ به مرة واحدة وإلى الأبد. ففي مجال التروك كما يقول الغزالي، لا يجب على الأبكم تعلم ما يحرّم من الكلام، ولا على الأعمى تعلم ما يحرّم من النظر. بعبارة أخرى، انه يجب تعلم ذلك بحسب ما يتجدد من الحال. وحاول أن يطبق ذلك على قضايا الفكر القائمة آنذاك، بما في ذلك الاعتقادات، من أجل تفتيت حدّة المذهبية الضيقة.

ولعل في موقفه المعارض للإجماع كدليل للحقيقة نموذجا لهذا الموقف والأسلوب. فالإجماع لا يمثّل الحقيقة ولا يتطابق بالضرورة معها. والغزالي يسير هنا، على الأقل في بداية الأمر، بالطريق الذي عبّدته المعتزلة خصوصاً النظّام (ت-226 للهجرة) والمستند إلى الأفكار والمواقف المؤيدة لحرية النظر والشك العلمي. فالغزالي من جهة، لا يرى في الإجماع حجة[14]، ومن جهة أخرى يشك بطابعه اليقيني[15]. وسوف نرى في وقت لاحق، إن معارضة الحجة بمفهوم اليقين تستند من حيث الجوهر إلى تثوير العقل من خلال مفهوم الالهام والوحي الصوفيين وطريقة التأويل والتعامل مع ما تدعوه الصوفية باستدراج أرواح المعاني وقيمه الملازمة من خلال مفهوم الآن الدائم. ففي هذه المنظومة المعرفية الأخلاقية لا يمكن للإجماع أن يمتلك قوة اليقين، وبالتالي ليست حرية الفكر سوى حرية التعامل مع موضوعه.

إن استقلال الغزالي الفكري لم يظهر في إطار تطور سعيه الخاص نحو بلوغ اليقين كما اورده في (المنقذ من الضلال). فالأخير لم يكن بإمكانه جمع حروفه دون عناصر التجربة الباحثة عن الحقيقة التي وضعته أمام "الحق الالهي" لرؤية موقع الإنسان والتعامل معه. ولم يكن هذا التعامل الحذر مع الأحكام الجامدة سوى نتاج شخصية الغزالي، وتقاليد الفقه العقلانية التي سارت في الاطار العام بين نفس الاتجاهين العامين السني المتشدد والعقلاني الإسلامي. وقد ظل أميناً للعقلانية الإسلامية وأسلوبها الداعي للاجتهاد الدائم. فالأعمال الفقهية للغزالي، وبالأخص تلك التي جعل المنطق أداتها الجوهرية كما نراه للمرة الأولى في كتاب (معيار للعلم) تبرز بوضوح سعيه النظري والمنهجي لعقلنة الفقه، بما في ذلك تذليل المعنى اللاعقلاني للعبادات من خلال احتوائها العقلاني باعتباره أسلوب الاجتهاد الدائم وحافزه الملازم في رؤية حقائقها (العبادات)، أي أنه يفسح المجال أمام فكرة الاحتمال الظنية وبالتالي إمكانية "التفاوت غير المحدود ولا المحصور، المختلف بالوقائع والأحكام، الأمر الذي ينبغي أن يكون موكولاً إلى المجتهد"[16]. إن هذا الاستنتاج هو حصيلة الفكرة الجوهرية في آرائه والقائلة بأن" الفقهيات كلها نظر من المجتهدين في إصلاح الخلق"[17]، أي تلك العملية النظرية المرتبطة بتطور الواقع الدائم، والذي لا يمكن حدّ حدوده بصورة مطلقة. وبهذا المعنى يصبح التقليد لا معنى له. من هنا الضرورة الدائمة للاجتهاد والاستقلالية في الحكم.

لقد وضع الغزالي أمامه مهمة إنجاز المساومة التاريخية الكبرى، التي توّج نتائجها في تآلفه الفكري. وقد كانت هذه الممارسة في تاريخيتها الصيغة الأكثر شمولا لتجاوز الخلافات المذهبية الضيقة. الأمر الذي جعل منه أحد ممثلي الفكر الحر العظام، والذي لم تعن له حرية الفكر سوى حرية بلوغ الحقيقة وتطوير الذات الأخلاقي. مما جعله شاكراً حتى لأعدائه لأنهم مرآة رؤية مساوئه. فعندما تكلم عن طرق التربية الذاتية (مراقبة النفس) فإنه يصوغ إلى جانب طرق عديدة أخرى فكرة ضرورة الاستفادة في معرفة "عيوب النفس من أَلْسِنة الأعداء، فإن عين السخط تبدي المساويا. فعدو مشاحن أفضل من صديق مداهن. رغم أن الطبع مجبول على تكذيب العدو… لكن البصير لا يخلو من الانتفاع بقول أعدائه فإن مساويه لابد وأن تنتشر على ألسنتهم"[18]، أي أن كل ما هو ثانوي بمعايير حقيقة الوجود والقيمة المطلقة للعالم الإنساني يصبح عابراً، دون أن يفقده ذلك باعث الملاحظة، أي تفتيت عناصر اللامبالاة في وعي الإنسان وممارسته تجاه كل ما هو موجود. وفي هذا الأسلوب يمكن ليس اكتشاف حقائق الأشياء فحسب، بل وإبداع الحقيقة أيضا. وهو مضمون السعادة. فحقيقة السعادة في إدراكها الشامل وفي تأمل نورها وبهائها الذي لا يطفئه شيء بما في ذلك الموت. بحيث يتحول الموت نفسه الى استيقاظ خاص لرؤيتها المتجددة.

ولم تكن حرية الفكر بالنسبة للغزالي معزولة عن رؤيته وإدراكه لمأزق الأحكام المذهبية ومحدودية المعرفة التاريخية كما ظهرت وتجسدت في التاريخ الإسلامي في علوم الكلام والفلسفة. إضافة إلى البواعث الاجتماعية النفسية والأخلاقية. فعندما يقارن فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبارها قضية اجتماعية سياسية وأخلاقية بالقضايا الميتافيزيقية واللاهوتية، فإنه يطرحهما على أسس ومستويات متباينة. إلا أنه يكشف في كل منها عن مستوى لحرية التعبير والبحث عن الحقيقة. فقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مستواها الفقهي والكلامي تبرز ضمن إطار فكرة "كل مجتهد مصيب" وذلك لأن معيار الحقيقة هنا هو الظن لا اليقين. أما في القضايا الكلامية الفلسفية فإنها ذات مستوى آخر. فأفكار المعتزلي حول القضايا المتعلقة بعدم إمكانية رؤية الله، وأن الخير من الله والشر من الناس، وإن كلام الله مخلوق، وآراء الحشوى من أن الله جسم وله مستوى ومستقر على العرش، وآراء الفلاسفة عن عدم بعث الأجساد وإنما تبعث النفوس… الخ، ليست اجتهادات فكرية بالمعنى الأول (الفقهي) إذ لا تعدد في الحقائق. بمعنى ان الحقيقة واحدة. ولا يمكن بالتالي لمفهوم الظن أن يؤدي نفس الوظيفة الاجتهادية الاجتماعية السياسية والحقوقية، كما هو الحال في الفقه.

إن الغزالي يرفض تعدد الحقائق. ولا يعني ذلك أو يتطابق مع رفض تباين الأفكار والحلول. فرفض تعدد الحقائق لا يعني اضطهاد الرأي والحقيقة بقدر ما يعكس في شكله الظاهري موقف الغزالي من واحدية الحقيقة. وينطبق هذا أيضا حتى على تلك الصيغ القائلة بضرورة الوقوف ضد البدع بحسم أبوابها وإن اعتقدوا إنها الحق كما هو الحال في التعامل مع اليهود والنصارى بردّ "كذبهم عليهم"، وإن اعتقدوا أنه الحق. إذ ليست هذه الحدية في آرائه جوابا نهائيا إلاّ في مجال الفكر المجرد (الكلامي العقائدي) لا في مجال الموقف من حرية الفكر. وبالتالي، فإن صيغتها النهائية الجازمة ليست في الواقع سوى احد مظاهر الوظيفة الأيديولوجية السياسية، التي لعبت تقاليد التقييم الإسلامية دوراً هائلاً في غرسها في منظومة الغزالي الفكرية، بمعنى السيطرة الموحدة للعقيدة الواحدة، التي أدت منذ البداية صيغة الخلاصة المكثفة والمباشرة للحقيقة المطلقة.

إلا أن التطور الثقافي كان يفرض بالضرورة تقبّل العناصر الجديدة المنبثقة من وعي الوجود التاريخي لتفاعل الحضارات والقيم والأفكار، أي أن الحدّية الصارمة لم تتطابق مع الدعوة المباشرة للتكفير، ولم تعن أيضاً التأييد غير المشروط لإعدام الفكر المناهض. إذ من الصعب العثور على صيغ كهذه حتى في أشد الأشكال "السلفية" وأقرانها، باستثناء مستواها الغوغائي عند العوام والحنابلة. فاتهامات التكفير تتطابق من حيث الجوهر مع اتهام التخطئة المنطقية في الفكر أو "الانحراف" عن المبادئ المهيمنة، أي مع ما حصل في عالم الإسلام على تسمية "البدعة". غير أنه ليس كل بدعة حرام. في حين شكّل معيار الموقف منها مؤشراً لغلو الفكر وطابعه السلفي المتشدد.

فالجديد يلاقي على الدوام مهمة تحمّل "العقوبة" من أجل أن يحيا بسلام، ولكي يعاقب بدوره ما سيبدو له لاحقاً تجاوزاً وتجنياً على إبداعه (جدارته)! وبهذا المعنى لا ينبغي فهم الموقف المعارض للبدعة على أنه موقف معارض لكل جديد. إذ ليس هذا التعارض سوى شكل من أشكال الدفاع عن القناعة الذاتية التقليدية.

والغزالي في صراعه ضد بعض "البدع" لم يتخط حدود العقلانية. على العكس! انه فسح المجال أمام الاعتراف بها، بدفعها لاحقاً إلى درجتها القصوى في مجرى محاولته تذليل قوة الاتهام الداخلية للنفس التقليدية. فقد خاطب المرء قائلاً، بأنه في حال النظر في كلام أحد الناس ممن اشتهر بعلم، فلا تنظره "بازدراء كمن يستغني عنه في الظاهر وله إليه كثير حاجة في الباطن. ولا تقف به من حيث وقف به كلامه. فالمعاني أوسع من العبارات، والصدور أفسح من الكتب المؤلفات. وكثير علم ما لم يعبّر عنه"[19]. ومع ذلك لا تعبر هذه الصيغة في آرائه إلا عن طبيعة الموقف العام، الذي ينبغي أن تذلل فيه مسبقاً "شرعية" الاتهام و"قيمة" القناعة المعارضة. لقد سعى إلى إبراز ما دعاه بالنظر القلبي، الذي لم يعن في الحالة المعنية سوى "أخذ الكلام إلى غاية ما يحتمل" فيه من مضمون ايجابي. غير أن هذا الاستنتاج ليس إلا المقدمة الفكرية الاخلاقية للبحث عن صيغة التسامح باعتباره أسلوب تعميق وعي الذات الأخلاقي والمعرفي. فقد حذّر طلاب المعرفة من أن يكونوا "كالذبابة لا تنزل إلا على أقذر ما تجده".

وشكل هذا الموقف العام المقدمة الضرورية للموقف الأكثر تشدداً في سعيه إلى الحقيقة المتجددة، التي عبر عنها بكلمات "ألا يقطع المرء لأي عالم أو إمام بصحة ولا يحكم عليه بفساد"[20]. إذ لكل عالم، كما يقول الغزالي "عورة وله في بعض ما يأتي به احتجاج"[21]. من هنا نستطيع القول، بأن الغزالي أراد رفع شعار "لا عصمة لمن يفكر ولا حرمة لمن يدعي الحقيقة". لقد وضع في كلّ واحد مهمة رفض التقليد المسبق واللاحق. ورفض الرفض المسبّق واللاحق باعتبارهما أسلوب تعايش نفي التقليد ودعم حرية الفكر.

إن هذه الحصيلة هي نتاج إدراكه لمحدودية المعرفة وتناقضات الفكر، أو بصورة أدق نتاج وعيه استحالة حسم المشكلات العقائدية (الفلسفية) الكبرى، بسبب كونها قناعات فردية وعندية أيضاً، أي أنه أدرك صعوبة رد القناعات أو تحريمها، لاسيما وأن القضايا وحلولها في هذا الميدان، هي تضادات خلف غير قابلة للحسم المطلق ضمن أطر الأشكال الفكرية السائدة آنذاك باستثناء عالم الصوفية الروحي.

فهو يؤكد على أنه مهما اعترض المرء على فكرة القدري من أن الشر ليس من عند الله، فهو سيعترض بدوره على فكرة أن الشر  من الله. وينطبق هذا على القضايا الأخرى للميتافيزيقيا الإلهية. وهذا ما يفسر سعيه اللاحق للبرهنة الأخلاقية على وجود الله. فقد أدرك الغزالي وتحسس المضمون الاجتماعي (والوظيفة السياسية) لتضادات الخلف الفكرية. فهو يؤكد على أن المبتدع محق عند نفسه، والمحق مبتدع عند المبدّع. وكل يدعي أنه محق وينكر كونه مبتدعاً.  بصيغة أخرى، إن الغزالي يدرك نسبية التبديع وأرضيته الهشة، مما أعطى له إمكانية الاقرار النسبي بالبدعة وتبديع الجزمية المطلقة، المبنية على أساس القناعة العقائدية الشخصية. وقد أسبغ هذا على آرائه ملامح الوظيفية الداعية للوحدة الاجتماعية، أي أنه يرّكز على الجانب الاجتماعي السياسي "للبدعة" من خلال الدعوة للموقف الملموس من مستوى فعاليتها وتأثيرها الفكري والسياسي والأخلاقي الآني والآتي. فهو يقف إلى جانب محاربتها في حالة كونها ضيقة التأثير وغريبة "الطبع" في الوسط الاجتماعي المعين. أما في حال تأثيرها المتكافئ سلباً وإيجاباً وفي حالة اثارتها "فتنة القتال" فمن الضروري بنظره الكف عنها وتوليتها للسلطان لحسمها[22]. إن هذا التناقض القائم في هذه العبارة (الفكرة) ما هو إلا انعكاس لتناقض المرحلة وتقاليدها الفكرية، أي أنها تحمل في أعماقها العناصر الجوهرية المميزة لمراحل التطور الاجتماعي الحقوقي والسياسي للحضارة.

إن قيمة آرائه تتجلى هنا أيضاً في إظهارها شرعية "الإبداع" الذي لا يفترض في الوقت نفسه سلوك الانتهاك الفوضوي لحرية الرأي. إنه الأسلوب غير المباشر في التعامل مع "البدع" بإرجاعها إلى الميدان الاجتماعي الحقوقي وأحكامه الجزئية الظنية، على عكس ما هو مميز للحقائق المتسامية.

فالغزالي ظل يربط على الدوام بين المتسامي والواقعي،و الملموس والمجرد، والاجتماعي والسياسي، والمطلق والأخلاقي في السعي نحو إدراك الحقيقة، أي تلك التعقيدات المميزة لمهمة إنجاز التآلف الفكري الشامل، أو السعي لإدراك وإنجاز الوحدة في عالم التجزئة، أو البحث عن مساومة تاريخية فكرية كبرى تستند إلى أسسها الخاصة وتمتلك تجانسها المتميز. لقد أراد الغزالي القول بأنه مع الجميع وبالضد منهم، تماماً كما سبق وأن صوّره السبكي بعبارة شاعرية لاهوتية في رده على اتهامات ابن الصلاح (ت-634 للهجرة) ويوسف الدمشقي قائلاً: "إن حال الغزالي حال فارس دخل في مجموع المسلمين قاتل وخرج سالماً وغسل الدم عنه، ودخل معهم في صلاتهم، فتوهموا أثر الدم عليه فأنكروا عليه"[23]،  أي كل ما رأيناه وسنراه في مواقفه من الاتجاهات الفكرية الرئيسية لعصره من فقهاء ومتكلمين وفلاسفة وباطنية وصوفية.

لقد حاول أن يجعل من "أنا"ته والبحث عن الحقيقة شيئا واحد. فذهنيته لم تكف عن حوافزها النقدية حتى في تلك المراحل التي أخذ يعي نفسه بها باعتباره "قطب" الوجود الروحي، أي عندما أصبح الكل بالنسبة له واحداً والتباين سواء. إلا أن الانتقاد والبحث عن الحقيقة لم يعد في هذه الحالة سوى الكشف الدائم عن الأخلاق المطلقة، التي ستلفّ في ردائها كل بديله النظري والعملي. وسوف يدفع بهذه الفكرة لاحقاً إلى أقصى درجاتها في محاولته التذليل الكلي للاتهام الداخلي للتباين كما هو جلي في الصيغة التي رد بها في (الإملاء) على الدعاوى التي اتهمته بالزيغ والضلال. وبالأخص عندما تكلم عن عدم خفقان أعلام المعرفة عند منتقديه وعدم ستر عوراتهم بلباس الخشية. تلك المعرفة العملية والأخلاقية التي قطع أشواطها في بلوغ "أحوال النقباء ومراتب النجباء وخصوصية البدلاء وكرامة الأوتاد وفوائد الأقطاب"[24]،  أو ما صاغه في (الإملاء) بنصيحته القائلة: "أيها الطالب للعلوم والناظر في التصانيف والمستشرف على كلام الناس وكتب الحكمة! ليكن نظرك فيما تنظر فيه بالله ولله وفي الله، لأنه إن لم يكن نظرك به وكّلك إلى نفسك أو إلى من جعلت نظرك به أياً كان غيره من فهم أو علم أو إمام أو صحة ميّز أو ما شاكل ذلك. وكذلك إن لم يكن نظرك له فقد صار علمك لغيره ونكصت على عقبيك وخسرت في الدارين صفقتك وعاد كل هول عليك"[25].

لقد رفع الحقيقة إلى مصاف المطلق. وبهذا لم تعد المذاهب والشخصيات باختلافها سوى مظاهر وشخصيات وتجليات للبحث عنها، أي أنها لا تمتلك بحد ذاتها معيار الحقيقة وحاكميتها النهائية. وطبّق هذا الموقف اولا وقبل كل شيء على نفسه. أما إلى أية درجة أفلح فتلك قضية أخرى لها مساس بتطور المعرفة ونسبيتها. لكنه استطاع في مجرى تطوره الفكري الروحي تأسيس التآلف اللاهوتي الفلسفي الصوفي، الذي ساهم في استثارة الانقلاب الكبير في الوعي النظري والعملي لعصره.

****

ا. د. ميثم الجنابي

.....................

[1] ابن الجوزي: المنتظم،ج9، ص20

[2] سبط ابن الجوزي:مرآة الزمان، ج8، ص38.

[3] ابن الجوزي: المنتظم، ج3، ص403

[4] ابن الجوزي: المنتظم، ج8، ص305

[5] ياقوت الحموي: معجم الأدباء. إرشاد الأريب الى معرفة الأديب ج4، ص38-40.

[6] الغزالي: ميزان العمل، ص150.

[7]  المصدر السابق.

[8] المصدر السابق.

[9] المصدر السابق، ص152.

[10] المصدر السابق.

[11] الغزالي: الإحياء، ج3، ص75.

[12]  الغزالي: ميزان العمل، ص152.

[13] الغزالي: الاحياء، ج1، ص15.

[14] الغزالي: فيصل التفرقة، ص88.

[15] المصدر السابق، ص93.

[16] الغزالي: معيار العلم، ص126.

[17] المصدر السابق، ص129.

[18] الغزالي: الإحياء، ج3، ص65.

[19] الغزالي: الإملاء، ص18. وهنا تجر الاشارة الى ان الغزالي كتب (الإملاء على إشكالات الإحياء) أو (الاجوبة المسكتة) ردا على الاتهامات التي جرى توجيهها اليه والاستهانة بعمله (الإحياء) والاستهزاء به في الاوساط الفقهية. وبالتالي هو شرح لما اشكل في بعض جوانبه من كتاب (الإحياء) بالنسبة للقارئ. وليس مصادفة ان يكتب في بداية (الإملاء) ما اسماه بالنصيحة. فقد تجاهل الغزالي وأهمل، كما هو جلي في اغلب كتبه، اسلوب ونمط الوعظ والنصائح. لكنه اضطر اليها هنا فيما يبدو للمرة الاولى بعد (الإحياء). من هنا دعوته للوقوف ضد الاستهزاء والازدراء والاستعلاء والازدواجية في المواقف من كتب الآخرين و"بدعهم"، أي بالضد ممن هاجم (الإحياء). اذ نعثر في (الإملاء) على اشارت تكشف عن كمية ونوعية الاستهزاء الكبير بين الفقهاء من كتابه، رغم حاجتهم الفعلية إليه. لقد أراد القول بأنهم وقفوا بكلامه عند حدود حروفه دون معانيه. دعك عما هو اعمق من ذلك، أي ما يحتوي عليه من روح كاتبه. ان هذه السيرة الشخصية المقلوبة في الفكر المجرد تظهر لنا جانب واحد من جوانب آراءه ومواقفه المستقلة، أي تنظير التجربة الفردية والشخصية ووعيها الذاتي، ومنطق تألفه النظري الذي هو نتاج للبحث عن حقاق المعاني.

[20] الغزالي: الإملاء، ص18.

[21] المصدر السابق.

[22] الغزالي: الإحياء، ج2، ص327.

[23] السبكي: طبقات الشافعية الكبرى، ج4، ص129.

[24] الغزالي: الإملاء، ص13.

[25] المصدر السابق، ص18.

 

في المثقف اليوم