دراسات وبحوث

اياد الزهيري: قرائن ومشاهدات لا تصح في نَسب القرآن (3)

استمراراً لسرد القرائن التي ساقها الباحثون الغربيون ومنهم على سبيل المثال لا الحصر لكسمبورغ وفيرنر داوم، وخاصة فيرنر لأنه، هو من أتجه بنسب القرآن نحو الجهة الجنوبية من الجزيرة العربية، متخذاً من النقوش اليمنية دليلاً لنظريته التي تجعل من القرآن أمتداد لها أو محل لتناص نصوصها القديمة، وهنا ننقل نصاً لفيرنر ذكره في مقالته (ديانة ماقبل الإسلام في حضرموت ومكة)، حيث يقول (فإن القرآن ليس نتاج العصور القديمة المتأخرة، ولا نتاج الأوساط المسيحية اليهودية في الشام، إخ، بل هو نتاج دين الجزيرة العربية بعدما استحال كتاباً)، ويقول في مقام آخر من المقالة (ويجب أن يكون المعنى والإطار الأسطوري خلف العمرة والحج واضحاً الآن- مكة وعرفة هما التعبيران المحليان عن ديانة العرب العامة التي استطعنا تشكيل ملامحها في حضرموت)، وحضرموت هو المكان الذي أتخذ منه فيرنر كمحل شاهد لقرائنه التي ساقها لأثبات مزاعمه هو وزملائه من أمثال فرانسوا دوبلوا وروبرت سيرجنت. في الحلقة الثالثة نستعرض لقرينتين أستند أليهما فيرنر في سياق بحثه، والتي يستشهد من خلالهما على أصل منابع ما جاء بالقرآن من نصوص . فيرنر يتناول قبر النبي هود ومراسيم زيارته كأحد هذه القرآئن التي كان لها وجود قبل الأسلام، ولكنها أستمرت وأندمجت ضمن سلسلة الطقوس الأسلامية، وأصبحت جزء منها ناسياً أو متغافلاً أن هود من الأنبياء الذين ينضمون الى سلسلة الرسل والأنبياء التي يقر بهم الأسلام كأنبياء مرسلين من الله أبتداءاً من آدم الى محمد ص خاتم الرسل والأنبياء، لذا لا يُعتبر ما جاء من ذكر لهود هو نوع من التناص لما سبقه، بل هو أقرار لأيمان فرضته السماء على الدين الجديد، كما أن وجود هود في جنوب الجزيرة، وبالخصوص بحضر موت، لا يمكن أن يكون دليل على إن منابع القرآن ومصادره الأساسية هو جنوب الجزيرة، والدليل في نفي هذا الأدعاء، هو أن القرآن ذكر أنبياء لهم مراقد في العراق أمثال العُزير والكفل، كما هناك من ولد وعاش بالعراق كالنبي أبراهيم، والعراق بلد خارج الجزيرة العربية، ويحدها من الشمال، بالأضافة على ذلك أن القرآن ذكر أنبياء كان لهم وجود على أرض فلسطين ومصر، كيعقوب وأسحاق،ويوسف وموسى وداود وسليمان وهي أرض خارج حدود الجزيرة العربية، بل وتقع في شمالها . أذن ذكر نبي في القرآن لا يعني أنه أستوحى من الرقعة الجغرافية التي عاش بها كمصدر أستوحى منه ما ترشح من طقوس ونصوص دينية .

هناك ملاحظة جداً مهمة ينبغي الألتفات أليها، هذه الملاحظة تتلخص بالممارسات التي يقوم الناس بممارستها بالعادة، وعندما تحصل أنتقالة دينية أو حضارية وأجتماعية، ترى الناس تستمر في ممارسة هذه العادة، ولم ينسلخوا عن ممارستها، وهنا نذكر مقولة لغوستاف لوبون بهذا الصدد يقول فيه (فأن تجديد روح الأمة يتطلب في الغالب قروناً طويلة)(الآراء والمعتقدات-ص133)، كما يقول في مكان آخر من كتابه (الآراء والمعتقدات ) في صفحة 264 .(ولكنه يعجز من سيطرة المعتقدات على الدوام)، فالأنسان يستلهم المعتقدات ببطء ولاشك يفقدها ببطء لأنها مغروسة في عمق مشاعرة، ومنزوية في لاشعوره، لذلك هي تنتقل معه أينما حل، وحتى أن أكتشف عدم جدواها، فهو لم يغادرها الا بالتدرج  وهناك الكثير من الأمثلة في أستصحاب الكثير من العادات والتقاليد التي أستمرت لآلاف من السنين، فمثلاً نحن العراقيون أستورثنا الكثير من الطقوس من زمن السومرين والبابلين، ومازال بعضها موجود ليومنا هذا، حتى في أوربا هناك عادات تمارس منذ العصور القديمة ولازالوا يُمارسوها، هذه الظاهرة موجودة في كل الشعوب، حتى تسمى احياناً بالدين الشعبي، أذن فالأمر لايتوقف على الشعوب الأسلامية. عندما يستورث بعض الممارسات والطقوس من أزمنة غابرة يحسبها بعض الباحثيين بأنه تناص بين القديم والجديد، وتُحسب وكان الدين الجديد هو من أستورثها من الديانة القديمة، ومثل ذلك هو طقوس الزيارة وما يُضحى لها عند قبر النبي هود، وخاصة في مسألة العقيرة (وهي طريقة ذبح الثور بطريقة التعقير) وهي لا علاقة لها بالأسلام بالبتة، والباحث أشار الى ان الأسلام حاربها، وقد أقر الباحث ذلك، ويقول (وتأثير الساده المتزايد، ورغبتهم في تطهير الأحتفال مما يعتبرونه (بحق) بقايا وثنية) (القرآن ونقوش اليمن 150)، وهناك حديث نُسب الى أبن عباس في خصوص تحريم العقيرة (وهو أن الرجل يقتل الحيوان عن طريق قطع عصب ساقه)، يقول أبن عباس في حديث نبوي (لاتأكلوا من تعاقر الأعراب فإني لا آمنُ أَن يكون مما أُهل به لغير الله) . أذن هود هو أساساً نبي الله، وأحد حلقات السلسلة النبوية التي تنتهي بمحمد ص، وأن الممارسات الوثنية لأهل اليمن مرفوضة في الأسلام، وقد حرمها وان أستمرت ممارستها من البعض، فهو ينفي أستيحاءها من النقوش اليمنية القديمة . هذا من جانب، ومن جانب أخر ما يحتج به الباحث الى العلاقة التناصية للقرآن من النقوش اليمنية هو موقع قبر النبي هود الذي يتوسط الوادي، ويكون في طريق مجرى السيول، وهذا ما يشبه موقع مكه، والأثنان في أودية من غير ذي زرع، هنا أرد على الباحث بالقول، أن مكة وقبر هود في مواقع جغرافية متماثلة من حيث طوبغرافية الأرض، فالأنسان يختار للأستقرار أو عند بناء معلم معين، يختار الأرض المنبسطة في أقامة ذلك المَعلم، وخاصة أذا خُصص لمحل أجتماع عدد كبير من الناس. كما أن الموقع المقدس في حضرموت هو قبر أما ما يقع في وادي مكة فهو بيت الله، مع الفرق الزمني بين هود والنبي أبراهيم، وأن محمد ص لادخل له في أختيار موقع مكة ولم يكن هو المؤسس لها، ولا أعرف ما هي العلاقة بين القرآن وقبر هود، مادام القرآن والأسلام غير مؤسس للكعبة حتى يلتقط موقعها الجغرافي من موقع النبي هود، وبهذا لا يعتبر موقع قبر النبي هود كدلالة على تناص بين الأثنين. كما من المهم الأشارة الى أن بئر الماء القريب من مكة (زمزم) والبئر القريب من قبر النبي هود هو تحصيل حاصل لتجمع السيول في المناطق المنخفضة والتي تكون مخازن مائية في جوف الأرض، ويشكلون ما يُسمى بالآبار الجوفية، وهذه حالة طبيعية، والأنسان عرف ذلك بحكم تجربته، لذلك يقع أختياره على أقامة معابده وسكناه في هكذا مواقع.

ولو أنتقلنا الى الأضحية التي تُقدم عند قبر هود عند أقوام اليمن القديمة فالهدف منها هو الأستسقاء عن طريق نزول المطر، وهي عملية أسترضاء للأله، وأن هدف الأضحية في الأسلام غير هدفها عند الأقوام اليمنية ما قبل الأسلام، حيث إن اليمنين القدماء يعتبرون صيد الوعل عبارة عن صيد طقسي، وهي كعادة لازالت تمارس كما يقول الباحث حتى اليوم، والتي يذكرها على حد قوله (من بقايا الدين السابق على الأسلام) (القرآن والنقوش اليمن - ص177) . تشير النقوش اليمنية الى ألهين هما عثتر وشمس تمارس طقوس صيد الوعل لغرض الأستمطار، ويذكر الباحث سيرجنت قصائد تؤكد ذلك (إن كان ماقنصنا: المطر ما يجينا) (القرآن ونقوش اليمن - ص178)، في حين أن الأستسقاء بالأسلام هو الصلاة، وهذا ما لا يتماثل مع الطقس اليمني القديم.

نستنتج من كل ما جاء أعلاه بأن موقع قبر هود في وسط الوادي، والأضاحي التي تقدم إليه لا علاقة لها بالبته في القرآن، ولم يكن هناك أي أثر لتناص بين القرآن والنقوش والآثار اليمنية بهذا الخصوص، وأن الصيد الطقسي، المراد منه الرغبة في أستمطار السماء، لا علاقة لها بصلاة الأستسقاء والتي كانت من السنة النبوية، حيث كان الرسول ص يصليها ركعتين طلباً للغيث، وهو مايلجأ أليه الأنسان الى الله كملاذ عندما تنسد كل السبل أمامه، ولم يكن لها من نص في القرآن الكريم .وهي لا تنحصر فقد قبل الأسلام عند اليمنيون القدامى، بل نجدها عند شعوب أخرى مثل الأمازيغ، حيث عندهم أسطورة آنزار)، ويذكر الدكتور فوزي رشيد ان المصارعة كانت جزء من طقوس أستنزال المطر (صلاة الأستسقاء) في شمال العراق (رشيد فوزي: من هم السومريون) (طقوس أستنزال المطر في العراق القديم- وليد يوسف عطو) . يتضح أن الأنسان بشكل عام عندما تضيق به السبل يتجه الى قوة عظيمة تمنحه مراده، ولكن الوسائل مختلفة، فنرى الأنسان القديم يتجه الى أسطورة أله المطر، وبطقوس معينة كما بطقوس الصيد اليمنية، وهناك من يأتي بالبنات الجميلات لتكون القوة الجاذبة لأله المطر كما في الأسطورة الأمازيغية، في حين في الأسلام تكون الوسيلة هي الصلاة والدعاء من الله بنزول الغيث بعد حلول الجدب على الأرض، وهذا فارق كبير في أجراء الطقوس، وأن كان الهدف واحد، ووحدة الهدف نتيجة لوحدة الحاجة الأنسانية، ولكن مايفرق الأسلام عن غيرة هو نوع وطريقة الوسيلة . وأن ما أراه ليس إلا عملية أراد بها فيرنر لوي عنق الحقيقة، في محاولة لا تخلوا من تدليس الحق بالباطل ....يتبع

***

أياد الزهيري

 

في المثقف اليوم